من أحاديث جدّي
في حق العودة .. وعودة الحق!!
أ. عدنان السمان
طلب الفتى من جده أن يحدثه عن حق العودة، وعودة الحق ، وهل هنالك فرق بين المصطَلَحين، أم أن الأمر لا يعدو كونه تلاعبًا باللفظ؟ فقال الجد:
إذا استدان أحد منك مبلغًا زهيدًا، ثم جاء ليرده إليك، فإنك قد تأخذه ، وقد لا تأخذه.. إما لأنه مبلغ تافه لا يستحق الذكر، وقد تكون قد نسيته لهذا السبب أو ذاك .. وإما لأن المستدين فقير الحال، كثير العيال، حسن السيرة والسلوك، عفيف النفس، ولكن... وإذا كانت أحوالك جيدة ، وكنتَ ممن أنعم الله عليهم؛ فإنك قد تضع مثل هذا الرجل في اعتبارك وأنت تُخرج زكاة مالك، وتوزع صدقاتك.. فالناس للناس.. وقديمًا قال الشاعر:
مَن يفعل الخير لا يعدم جوازيَهُ لا يذهبُ العرفُ بين اللهِ والنّاسِ
وإذا شعرت بأن هنالك من يستغلّ طيبتك، وثبت لديك أنه لا يفعل ذلك عن حاجة، وإنما يحركه الطمع والجشع، فإنك لا تكون سعيدًا بمعرفته، وترى نفسك غنيًّا عن صحبته وعشرته.. حتى لو كان من أقرب أقربائك، وخاصّة أوليائك؛ فالعلاقة بين الناس أسمى من أن تحكمها روابط القربى، وأواصر العشيرة والنسب فحسب.. وقديمًا قالت العرب: "رُبَّ أخٍ لك لم تلده أمك".. والدنيا أخذٌ وعطاء.. والناس جميعًا تعاونيون بفطرتهم، مدنيون بطبعهم.. يخدم بعضهم بعضًا دون أدنى غضاضة أو حرج، وقد صدق من قال:
الناس للناس من بَدوٍ وحاضرةٍ بعضٌ لبعضٍ – وإن لم يشعروا – خَدَمُ
وإذا تبين لك أن جارًا، أو قريبًا، أو صديقًا قد ضم إلى أرضه، أو بنائه، شيئًا من أرضك؛ فإنك قد تسامحه إذا جاء ذلك دون قصد منه، وقد لا تسامحه إلا إذا أعاد إليك الحق كاملاً.. أما إذا كنت مقتنعًا بأنه فعل ذلك عن قصد وسبق إصرار وترصُّد!! فإنك تغضب لهذا العدوان " المبيَّت"، وتطالب بإنزال العقاب به حتى يعيد إليك الحقَّ عن يدٍ وهو صاغر.. وقد لا ترضى بأقل من هدم جزء من بنائه كي تعود إليك أرضك كما كانت !! ولا يخطر لي على بال أنك من الممكن أن تسامح مثل هذا المعتدي، وبخاصة إذا كان من المعروفين بسوء السيرة والسلوك، وإذا كان من ذوي السوابق المعروفين بالاعتداء على حقوق الناس وممتلكاتهم. ولكي تتمكن من الوقوف في وجه هذا المعتدي، فإنه يجدر بك – يا عزيزي- أن تكون قويًّا بما فيه الكفاية، أو أنك تعيش في بلاد يحكمها القانون والقضاء الحر النزيه المستقل!! ومن طريف ما يُروى في هذا السياق أن عمال أحد الخلفاء قد ضمّوا جزءًا من بستان أحد المواطنين إلى بستان الخليفة، ولكن المواطن تمكن من استعادة حقه في مجلس القاضي الذي أصرّ على حضور الخليفة بنفسه إلى مجلس القضاء كي يواجهه بالحكم الصادر بحقه، وكي يسمعه وهو يتعهد للمشتكي بإعادة الحق إليه.. وهكذا كان.. وهكذا عاد الحق إلى صاحبه!!
في شبه الجزيرة العربية كانت المعارك والحروب تنشب بين الناس بسبب واحة هنا، وأُخرى هناك.. وقد كانت الوديان والمراعي والأنعام أسبابًا كافية للقتال والاقتتال بين القبائل.. ومن يقرأ شيئًا من أيام العرب (وهي المعارك التي كانت تستغرق نهارًا واحدًا حتى إذا غابت شمس ذلك النهار توقفت تلك المعركة) يجد أن آلاف المعارك قد نشبت بينهم إضافة إلى تلك الحروب التي كانت تستمر عقودًا عدَّةً من الزمن.. وما خبر داحس والغبراء.. وخبر حرب البسوس عنا ببعيد.. وما قولهم: "قُتل كليبٌ في ناقة" أي بسبب ناقة بغائب عن أذهاننا رغم طول العهد بيننا وبين تلك الأيام.. تلك المعارك والحروب جزء من تاريخنا الماثل في الذاكرة.. لأننا نقرأ التاريخ.. ولأننا – من المفترض – أن نتعلم من تاريخنا، وتاريخ غيرنا من الشعوب أيضًا.
قد يهجَّر قومٌ من ديارهم، ويشرَّدون ظلمًا وعدوانًا بقوة النار والحديد.. وقد تستنكر الدنيا هذا العدوان، وتقرر أن من حق هؤلاء المهجّرين أن يعودوا إلى ديارهم.. بمعنى أن من حق هؤلاء أن يعودوا، ومن حقهم أن لا يعودوا، وأن عودتهم لا تعني زوال الأجنبي الذي هجّرهم، بل أن يكونوا تحت حكمه.. ستكون هذه العودة إلى بلاد جديدة، وواقع جديد، وأسماء ومسمَّيات جديدة.. حق العودة هنا يعني عودة إلى هذا الواقع الجديد الذي يجد فيه هؤلاء "العائدون" أنفسهم غرباء في بلادهم.. غرباء في بيوتهم.. محاصَرين.. مراقَبين.. ملاحَقين.. لا يشعرون لحظةً بأمن، أو أمان، أو هدوء، أو استقرار.. حق عودة إلى كيان آخر.. ووجوه غير الوجوه.. ولسان غير اللسان.. وقيم غير القيم.. ومع كل هذا ، فإن الوضع يختلف عندما يرضى هؤلاء المهجَّرون بعودة كهذه!! عندما يرضَوْن بهذا.. بل ويطالبون به يرفض الطرف الآخر هذا العرض.. بل ويطالب بإجلاء من بقي تحت حكمه من بني جلدة أولئك المهجّرين بدعوى أن هؤلاء السّادة لا يريدون هؤلاء " الأغيار" بينهم، وبدعوى هذا الوهم الذي يسمونه حل الدولتين.. فإذا سألت أين ستقام هذه الدولة التي يتحدثون عنها لهؤلاء المهجَّرين، ولمن سيهجَّرون لاحقًا لم تسمع إجابة !! وإذا قلت : إن السادة الجدد الذين يريدون دولةً نقيةً خاصة بهم ينتشرون في سائر أنحاء هذه البلاد، ويضعون أيديهم على كل شيء في هذه البلاد، ويكثّفون من وجودهم يوميًّا في كل هذا الوطن.. فلماذا يحدث هذا كله؟ وما الذي يعنيه هذا كله؟ راحوا يتحدثون عن المليارات التي سيبنون بها هذه المدينة أو تلك لخدمة أهل هذه الديار، وتوفير فرص العمل لكثير من شبابهم العاطلين عن العمل!! فإذا قلت: وما الذي يضمن عدم سيطرة الطرف الآخر على مثل هذه المشاريع التي يتحدثون عنها كما سيطر من قبل على كل شيء ولا يزال؟ وإذا قلت : إنه لا ضمانة على الإطلاق لوجود قرية واحدة في هذا الوطن بدون أن يفرض الطرف الآخر عليها وجوده، وبدون أن يتحكم بها عن بعد وعن قرب أيضًا قال قائل منهم: هذا هو التشاؤم.. وهذه هي السوداوية .. وهذا هو وضع العصيّ في الدواليب.. وهذا هو العداء المكشوف للسلام، وللحلول العملية التي أجمع عليها المشاركون في "انابوليس" !!! حق العودة – إذن – أصبح يعني عزل هؤلاء المهجَّرين ، ومن سيهجَّرون ، وكل أهل هذه الديار في باستيلات محصَّنة عليها رقابة مشددة تمهيدًا للتوصّل إلى حل لا تقوم بعده لعرب هذه الديار قائمة!! أما متى ، وكيف .. فالإجابة في عقول المخططين الذين يرسمون مستقبل هذه البلاد، ويتحكمون بمصائر أهلها منذ مئة عام.
أما عودة الحق – يا عزيزي – فتعني عودة الحقوق إلى أصحابها.. هذه الحقوق التي تضمن عيشًا آمنًا حرًّا عزيزًا كريمًا في وطن حرٍّ عزيز سيد مستقل لا تشوب حياة الناس فيه شائبة، ولا يتدخل بأمورهم أحد من هؤلاء وأولئك.. وطن حر يفرض أهله سيادتهم الكاملة على البر والبحر والجو.. هي عودة الحق.. بمعنى أن يكون الحق سيد الموقف. وبمعنى أن يُزهق الباطل.. " إن الباطل كان زهوقًا". عودة عبّر عنها الشاعر بقوله:
عَوْدةٌ ما بعدها من عَودةٍ عودةُ الحقِّ إلى أصحابِهِ!!
في مناطق كثيرة من هذا العالم عادت الحقوق إلى أصحابها.. ترى ذلك في كثير من بلدان أوروبا، وإفريقية، وآسيا.. وفي مناطق أخرى من هذا العالم لم تعد الحقوق إلى أصحابها حتى اليوم... كثيرة هي الشعوب التي ما زالت تكافح من أجل استعادة حقوقها.. وهي – على الأرجح- ستنتصر.
قال الفتى: ما بك يا جدي ؟ فأجاب: لا شيء.. هذا البرد القارس كالجهد الزائد كلاهما يستنفد قوة الإنسان وطاقته.. ليالي الشتاء الباردة تتطلب دفئًا وطعامًا .. وإذا كان الحصول على إحدى "الحسنيين" أمرًا صعبًا في هذه الأيام، فكيف يمكن الحصول عليهما معًا؟ لقد تعبتُ – يا عزيزي- وعليكم – أيها الأحبة – أن تتابعوا العمل من أجل عودة الحق إلى نصابه، فإن لم يكن إلى ذلك من سبيل، فلا أقل من العمل على إفشال هذه الخطط والمخططات التي يريدون أن يضعوا معها النهاية لقضيتنا العادلة.. ومن ثم تستأنف الأجيال القادمة عملها من جديد من أجل عودة الحق إلى نصابه.
8/1/2008
The i'm Talkathon starts 6/24/08. For now, give amongst yourselves. Learn More
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق