عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ٢٨ شباط ٢٠٠٩

متابعات

كنتُ في الحج.. مشاهد وذكريات

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لم تغب صورة الأستاذ طارق عبد الكريم محمود عني لحظة وأنا أقرأ كتابه " كنت في الحج" لسبب بسيط هو أن كتابة طارق نثرًا كانت أو شعرًا تصور شخصيته أصدق تصوير وأدقه، ولما كانت شخصية طارق قريبة من قلب من يعرفه، محببة إلى نفسه فقد جاء كتابه هذا كذلك حتى أنني قرأته دون توقف أو انقطاع أو إبطاء.. ففي جلسة واحدة كنت مع طارق في كل محاولاته للفوز بفرصة السفر إلى الديار الحجازية لتأدية فريضة الحج.. وكنت معه وقد تحققت أمنيته هذه .. وكنت معه وهو يستعد للسفر، ويكثر من جمع المعلومات عن الحج.. وكنت  معه وهو يكتب وصيته، ووصية زوجه أم طريف، ويسلمهما لولدهما طريف.. وكنت معه وهو يوصي ولده خيرًا بجدته طيلة فترة غيابه.. وكنت مع طارق في رحلة الذهاب، وهو يغادر"عنبتا" في الساعة الأولى من فجر يوم الإثنين الثالث من كانون الأول من العام السابع بعد الألفين، كما كنت معه في رحلة الإياب وهو يصل"عنبتا" في تمام الساعة التاسعة والنصف من صباح يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر نفسه.. اثنان وعشرون يومًا وثلث اليوم كان حصادها هذا الكتاب الذي يقع في مئة وإحدى وسبعين صفحة من القطع المتوسط ضمت ثمانية وثلاثين عنوانًا كان كل منها أشبه ما يكون بمقال جمع فيه طارق بين عبق التاريخ، وقداسة الجغرافية، وأركان فريضة الحج وشعائرها، إضافة إلى تلك الحالة الشعورية الإيمانية النفسية المتأججة التي صبغت تلك العناوين، وطبعت تلك المقالات بطابع إبداعي متألق على الرغم من أن موضوع الحج قديم يعود إلى ما قبل ظهور الإسلام بزمن طويل.. لقد كان طارق مبدعًا في تصوير مشاعره وأحاسيسه.. مبدعًا وهو يتحدث إلى رفاقه في الحافلة من حجاج بيت الله الحرام.. مبدعًا وهو يتحدث إلى سائقي هذه الحافلات.. مبدعًا وهو يتحدث إلى الناس الذين التقاهم هناك من مختلف الجنسيات.. مبدعًا وهو يحدثنا عن هذه الأماكن المقدسة التي اشتمل عليها كتابه، وعن تلك الأماكن التاريخية التي استعرضها أو أشار إليها في هذا الكتاب.. مبدعًا في الحديث عن جبل أُحد، وفي الوقوف على جبل عرفات.. مبدعًا في وصف الحرمين الشريفين في مكة والمدينة وربطهما بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.. مبدعًا وهو يتحدث عن مرضه هناك.. مبدعًا وهو يحدثنا عن مشاهداته وانطباعاته عن كل شأن من شؤون الحياة هناك.. كان أبو طريف مثقفًا وهو يشير إلى أشعار شوقي في الحج، ومثقفًا وهو يردد ما كتبه سعيد عقل، وغنته فيروز في مكة وأهلها  الصِّيد.. لقد كان طارق كل هذا، وكل ذاك.. كيف لا؟ وهو ناثر شاعر ملك ناصية البيان، واستقام له ميزان الشعر، وانقادت له القوافي، ولا عجب في ذلك، فحب العربية شعرها ونثرها يجري في عروقه مجرى الدماء، والتعلق بأهداب هذا الدين شغله الشاغل صبحًا ومساء... إن هذا الكتاب بعناوينه، ومقدمته،  وتصديره الذي جاد به قلم ابن عمه أديب جدير أن يُقرأ، وجدير أن يكون له شأنه بين كتب هذه الديار، ومؤلفاتها.. يجدر بكل من عقد العزم على أداء فريضة الحج أن يقرأ كتاب طارق، ولسوف يجد فيه عونًا كبيرًا على تحقيق هذا الهدف بسهولة ويسر؛ فالمؤلف يضع بين يديه، ويدي القراء جميعًا خلاصة تجربة حية واعية كل الوعي، وذوب فكر مشرق متألق كل التألق والإشراق.

    من المستحسن قبل أن انهي الحديث عن هذا الكتاب أن اذكر العناوين التي تضمنها وهي بعد الإهداء، والتصدير والمقدمة: التفكير بأداء فريضة الحج، تحقّق الأمل، التحضير للسفر،  يوم السفر، من غور نمرين إلى حالة عمار، من حالة عمار إلى المدينة المنورة، من فندق الحرم إلى المسجد النبوي الشريف، زيارة قبر الرسول، زيارة إلى مقبرة البقيع، جلسة استرجاع للتاريخ، إلى جبل أُحد، إلى مسجد رسول الله، إلى مسجد قباء، عودة إلى الفندق والمسجد النبوي، إلى الروضة الشريفة، زيارة لسطح المسجد، الليلة الأخيرة والنهار الأخير، السفر إلى آبار علي، إلى مكة المكرمة، أداء العمرة، قصة الصفا والمروة، قصة سيدنا إبراهيم، التضحية بإسماعيل، بناء الكعبة، أبونا آدم والكعبة، تعلقنا بالبيت الحرام، مع رفاقنا هنا وأحبتنا هناك، جولة مع رازي، مشاهد، رحلة إلى جدّة، معاناة، جلسة مع التاريخ، مفاجأة مؤلمة ومفاجأة سارّة، إلى جبل عرفات، إلى مزدلفة،  إلى مِنى، عودة إلى مكة المكرمة، إلى أرض الوطن.

      ومن الضروري أن أشير إلى أن طارق عبد الكريم قد كان حريصًا على تدوين كثير من مشاهداته هناك على دفتر يحتفظ به معه ... ولما عاد إلى أرض الوطن عكف على وضع هذا الكتاب معتمدًا على هذه الملاحظات والمشاهدات التي دوّنها، ومعتمدًا بالطبع على الذاكرة القوية التي تشكّل جانبًا –وأي جانب- من جوانب شخصيته القريبة من قلوب عارفيه.. يقول طارق في الصفحة الثامنة والعشرين من الكتاب:" كنتُ في الرحلة يقظًا، أراقب وأشاهد الأماكن التي نمر بها منذ خروجنا من مدينة الحجاج الأردنية إلى مرورنا من الشونة الجنوبية، حتى وصلنا إلى المشارف الجنوبية لعمان الكبرى كمرج الحمام، وطريق مطار الملكة علياء الدولي، إلى بداية طريق الجنوب، حتى وصلنا القطرانة. غادرنا القطرانة الساعة الثالثة إلا ربعًا، وسرنا في طريق صحراوي، لا نرى يمينًا ولا يسارًا إلا الرمال المترامية بلونها الذهبي".

    ويقول في الصفحة التاسعة والسبعين وهو يودع مثوى رسول الله في المدينة المنورة للتوجه إلى مكة المكرمة: " ولكن قلبي حزين حزين، لأنني سأودع هذا المكان الطاهر بعد نصف ساعة، وكان آخر ما يجب أن أقوم به وداع الروضة الشريفة، ووداع مثوى رسول الله. فأسرعت للدخول من باب السلام، وسرت في الممر. ألقيت نظراتي على الروضة الشريفة بدموع منهمرة. لقد هزتني تلك المشاعر، وحلّقت روحي في سماء ذلك المكان. تقدمت إلى الأمام، ووصلت مثوى رسول الله ، فسلمت عليه، وودعته ببكاء غريب. كان كل من حولي يجهش بالبكاء. وودعت صاحبيه أبا بكر وعمر. وأنا أهتف من الأعماق: "عَودًا يارب. اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك. لقد سخّرتَ لي من خَِلقك ما جعلني أصل إلى رحاب هذا المسجد، وسيّرني إلى بلادك حتى بلغتني نعمتك، وأعنتني على أداء نُسكي، فإن كنتَ رضيتَ عني فازدد عني رضًى، واكتب لي مزيدًا من عُمرٍ حتى أعود لزيارة هذا المقام. هذا أوان انصرافي، أغادر هذا المسجد لا راغبًا عنك، ولا عن هذا المسجد الطاهر..اللهمّ امنحني الصحة في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وأرزقني طاعتك، واجمع لي بين خير الدنيا وخير الآخرة إنك على كل شيء قدير...خرجتُ من المسجد وأنا أردد باكيًا:

سلامٌ عليك أيتها الربوع الطاهرة        /سلام عليك يا مسجد رسول الله/سلامٌ عليك يا مثوى رسول الله/ســـلام عليك يا رسول الله/سلام عليك أيتها الروضة الشريفة/سلام عليك أيتها الرحاب العطرة.

    سلام عليكِ يوم فُرض الصيام في رمضان فيكِ، ويوم فُرضت الزكاة فيكِ، ويوم فرض الحج فيكِ، وأسأل الله أن يكون لي عَوْدٌ إليكِ.

    وقفتُ في الساحة الخارجية، وأدرت وجهي نحو المسجد لألقي النظرة الأخيرة، وبكيتُ بصمت، سرت نحو الفندق حاملاً طعام الغداء، تناولناه بسرعة، ثم بدأنا بحزم أمتعتنا استعدادًا لساعة الانطلاق إلى مكة المكرمة.

    هكذا كان طارق في كل كلمة من كلمات كتابه.. هكذا كان صادقًا في كل كلماته، وفي كل حركاته وسكناته، صادقًا في زهده وتعبّده وتقشّفه والإقبال على أداء كل شعيرة من شعائر الحج، صادقًا في أحاديثه، ومناجاته، وحواراته المستمرة مع نفسه المرهفة، وروحه الوقّادة، وعزيمته المتوثّبة، وطموحاته التي لا تكاد تقف عند حد... بارك الله فيك يا طارق، وأعانك على مزيد من الإصدارات الرائعة.. وبارك للقراء، وعشاق الكلمة الأمينة الصادقة، وهواة الإبداع هذا الكتاب.

26/2/2009


 

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

22.  تشـــــاؤم       

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

www.samman.co.nr

تشـــــاؤم

 

    قال: أسوأ ما فيه إفراطه في التشاؤم...

    قلت: عين " الكاميرا" تصور الواقع، ولا تصنعه.

    قال : تحسّ وأنت تقرأ "مراثيه" أن ساعة الزلزال الرهيب الذي يتحدثون عنه قد دقّت.

    قلت: إنه يتحدث عن آثار الزلازل التي ضربت المنطقة لا عن الزلزال القادم.

    قال: باختصار هو طويل اللسان، وقد بدأت أضيق به ذرعًا.

    قلت: إنه هكذا دائمًا، وقبل أن تولد أنت.

    قال: ولكن الدنيا تغيرتْ.

    قلت: لعلّ هذا التغيير يقلقه، ويقضّ مضجعه أيضًا.

    قال: بإمكانه أن يغمض عينيه، وينام

    قلت: وجهة نظر!

    قال : ليته يفعل، بل إن من الضروري أن يفعل

    قلت : لم؟

    قال : بتُّ أخاف عليه!

    قلت : ممّ؟

    قال : إنك تثيرني باصطناعك الغباء

    قلت : قمة المأساة في اصطناع الذكاء!

    قال : أليس بإمكانه أن يخرج من عزلته، ويبحث عن ذاته؟

    قلت: أين؟

    قال: في مدينة للملاهي، أو صالة للطرب، أو قاعة للقصف والغناء

    قلت: صعب

    قال: لم؟

    قلت: لقد بحث عن ذاته صبيًّا حتى وجدها.

    قال : أين؟

    قلت : تحت شجرة

    قال : جميل، لقد التقينا.. فَتَحْتَ الشجر يحلو العيش مع الحسان، ويطيب السهر.

    قلت : تحت شجرته كتب وجرائد وأطفال يتعلمون، وعمال يكدحون، ومرضى يستردون عافيتهم، وفلاّحون يصنعون الشاي على نار من حطب، ونساء يحصدن القمح ويغنين للقمر والحرية.. وشعراء وأدباء استعاذوا بالطبيعة وطهرها من شرور أنفسهم، وزيف المدنيّة، وتفاهة التغيير الذي تتحدث عنه.

    قال: وأين هي الطبيعة التي تتحدث عنها؟

    قلت: إنها موجودة، ولن يلغي وجودها فحيح الأفاعي، وحشرجات الميتين.

    قال: صاحبك هذا يتعب نفسه، ويتعبنا.

    قلت: بل يفتح عينيك على الحقيقة التي تعرفها جيِّدًا، ولكنك تحاول اليوم تجاهلها.. أرأيت كم كنتَ موغلاً في الظلم والتجنّي عندما ألصقت به تهمة التشاؤم؟

    قال: أخبره أن يرفق بنفسه، ويكون أكثر مقدرة على التكيّف!

    قلت: كل شيء يبدو غريبًا هذه الأيام! إنك اليوم داعيةٌ للتكيّف!

    قال: انصحه – على لساني – بضرورة التكيف السريع مع الواقع الجديد.

    قلت: لا أعد بذلك.. فهذا شأنك.

    قال: لم؟

    قلت: لأنه معلّم آمن بقضيته إيمانه بنفسه، وقرر منذ البداية أن يعمل بوحي من ضميره وقناعاته لا من "ضمائر" الآخرين وقناعاتهم.

 

1994


الثلاثاء، ٢٤ شباط ٢٠٠٩

زاويتي

نتانياهو.. هل يكتفي بغلاة المتشددين؟؟

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لم يكن فوز بنيامين نتانياهو في الانتخابات النيابية الإسرائيلية الأخيرة مفاجئًا لأحد، ولم يكن مفاجئًا أيضًا تكليفه بتشكيل الحكومة الإسرائيلية التي ستخلف حكومة إيهود أولمرت، فالناخبون الإسرائيليون أصبحوا أكثر ميلاً نحو اليمين، وهم قد اختاروا غالبية أعضاء الكنسيت من المتشددين اليمينيين المتحالفين بشكل تلقائي مع نتانياهو وحزب الليكود ذي الميول اليمينية.

    نتانياهو المتعطش للسلطة والحكم بعد سنوات عشر من هزيمته في العام تسعة وتسعين وتسعمائة وألف، والذي يحظى اليوم بتأييد خمسة وستين عضو كنيست من غلاة المتشددين يبدو مكتفيًا بهم، ويبدو أنه لن يجهد نفسه في السعي خلف ائتلاف موسع يضم غالبية كبيرة من أعضاء الكنيست، بمعنى انه لن يتوقف طويلاً أمام أعتاب كاديما، ولن  يطول توقفه كذلك أمام أبواب حزب العمل، وهذا يعني أن نتانياهو الذي يبدو دائمًا على عجلة من أمره لم يفكر في نتائج أي خلاف محتمل مع أقصى يمين حلفائه، وأنه سيشكل حكومته الجديدة خلال أيام؛ فأغلبية بسيطة يشعر معها نتانياهو بحرية الحركة والانسجام وسهولة اتخاذ القرارات خير من ائتلاف موسع يضم كثيرًا من الرؤوس والصقور ومراكز القوى التي ينطوي العمل معها على كثير من الصدامات والمناكفات، ووضع العصي في الدواليب كما يقولون!!

    صحيح أن نتانياهو يصرح جهارًا نهارًا أنه لا سلام مقابل الأرض، بل هنالك سلام مقابل السلام.. وأنه لا تفاوض حول القدس، ولا "تنازل" عن شبر منها لأحد.. وأنه لا عودة لفلسطيني واحد إلى "أرض إسرائيل".. وانه لا انسحاب من الجولان.. ولا انسحاب من "يهودا والسامرة"، ولا إخلاء لمستوطنة واحدة من مستوطناتها.. ولا دولة فلسطينية على أي جزء من " أرض إسرائيل"، ولن تقام دولة فلسطينية إلى جانب الدولة العبرية، بل حكم ذاتي محدود فقط لاغير للفلسطينيين المقيمين على " أرض إسرائيل".. وصحيح أيضًا أن لاءات نتانياهو لا تكاد تنتهي، ولا تكاد تقف عند حد مذ عرفت هذه الديار نتانياهو عسكريًّا ثم سياسيًّا... ولكن صحيح أيضًا أن ليفني وباراك ومن قبلهما شارون وكافة قادة الدولة العبرية مذ أُقيمت على أرض فلسطين وحتى يومنا هذا لم يختلفوا عن نتانياهو إلا إذا كان هذا الاختلاف في الشكل والأسلوب – أحيانًا- فالسلام مقابل الأرض مقولة فرّغها كل قادة إسرائيل من جوهرها ومضمونها، ولم تسفر – عمليًّا- عن "تنازل" الإسرائليين عن أي شبر من الأرض المحتلة، إلا إذا كان هذا " التنازل" شكليًّا ليس بذي معنًى على الإطلاق .. والتفاوض حول القدس وغير القدس لم يسفر هو الآخر عن شيء مذ كان هذا التفاوض، وأغلب الظن انه لن يسفر عن شيء أيضًا.. وما يقال في هذا وذاك يقال –بدون أدنى تحفظ- في مواقف هؤلاء جميعًا من أفكار نتانياهو، ومواقفه، وسائر لاءاته دون استثناء، وكل ما هنالك أن نتانياهو يبدو صريحًا واضحًا يسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة، أو مراوغة بخلاف ليفني وباراك وغيرهما من المماطلين المسوّفين الذين لا يسمون الأمور بأسمائها، بل يتشدقون بالسلام ويريدون من العرب الاستسلام والركوع والتنازل عن كل شيء.. هؤلاء الذين يتغنَّون بالسلام والأمن والأمان، ويشنون حربين مدمرتين على لبنان وغزة الأولى في أول عهدهم، والثانية في آخره!! بينما يضعون أيديهم على الجزء الأكبر من أرض الضفة الغربية، وعلى كل مياهها وثرواتها وفضائها ومعابرها وحدودها مع كل العرب !!

    بناءً على كل هذه الحقائق والمعطيات، وعلى غيرها من الحقائق التي تعكس كل هذه الصراعات والتناقضات على الساحة الحزبية الإسرائيلية، بل على الشارع الإسرائيلي، وتعكس بكل وضوح وجلاء مزاج الإسرائيليين المتقلب، وعمق أزماتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، ومدى شعورهم  باليأس والإحباط، وجنوحهم نتيجة هذا كله للتشدد والتطرف.. وبناءً على خطورة الأوضاع وتفجرها في قطاع غزة والضفة الغربية، وعمق الانقسامات والتصدعات الفلسطينية الفلسطينية، والعربية العربية.. وبناءً على الغضب الشعبي العربي المتفجر في الشارع العربي والمُؤيد لكل قوى الممانعة والإصرار على التحدي في كل بلاد العرب وفي كل ديار المسلمين.. وبناءً على كل رياح التغيّر والتغيير التي أخذت تهبُّ على كثير من أقطار هذا العالم ودوله، ولا سيما في القارتين الأمريكية والأوروبية.. بناءً على ذلك كله وكثير غيره فإن هذه المنطقة مرشحة لمزيد من الصدامات والنكبات والحروب التي يرى كثير من المراقبين أن حكومة نتانياهو لن تقوى على الوقوف في وجهها، وأن قليلاً من الضغوط الخارجية ذات المعنى، ولا سيما من إدارة أوباما، مضافًا إليها هذه الضغوط الداخلية المتوقعة، ومنها ضغط النواب العرب في الكنيست الإسرائيلي في الوقت المناسب، وبالشكل المناسب كفيل بتقويض هذه الحكومة، وبإسقاط نتانياهو الذي قد يُضطر إلى التنازل عن كثير من صلفه، فيسعى جاهدًا نحو حكومة موسعة يتلاشى معها كثير من تطرف أتباعه وعنجهيتهم، ويتخلص الإسرائليون معها من أخطائهم التي يمارسونها منذ إقامة دولتهم .. والذهاب إلى انتخابات جديدة –ربما- قبل نهاية هذا العام... وهكذا حتى يتخلى هؤلاء عن أطماعهم .. ويجنحوا للسلام العادل الدائم ويعترفوا بكافة الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في بلاده فلسطين.

 

24/2/2009

   


ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

21.  عائدة       

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

www.samman.co.nr

عائدة

 

    عرفتها عندما كانت في المرحلة الثانوية، فتاة صارخة الذكاء والجمال...تتفجر قوة ونشاطًا وحيوية...تشارك في مختلف أوجه النشاط المدرسي...ولا سيما النشاط الأدبي، حيث امتلكت مقدرة خارقة على حفظ الشعر، وإلقائه...حتى كان يُخيل إلي أنها كانت تحفظ معظم الأشعار التي قيلت في مأساة عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف...

    لا أذكر كيف انقطعت صلتها بالمدرسة فجأة...سألت عنها إحدى زميلاتها من "بنات المخيم" فقالت باسمة: لقد تزوجت...قلت: هكذا قبل أن تنهي دراستها الثانوية على الأقل؟ قالت: إنه النصيب يا أستاذ. ومنذ ذلك الحين انقطعت أخبارها تمامًا. على أنني أذكر أنني رأيتها عن بُعد – وهي ترتدي ثيابًا سوداء- في أعقاب حرب الخامس من حزيران سنة سبع وستين وتسعمائة وألف في أحد شوارع نابلس غير بعيد عن المخيم، ليلفّها النسيان بعد ذلك فيما لف من أشياء.

    منذ أيام، كنت أشق طريقي بصعوبة في قلب المدينة، وسط ضجيج السيارات والباعة الذين ضاقت بهم الأرصفة، وجوانب الشوارع، فلم يجدوا غضاضة في أن يحتلوا أجزاء واسعة من الشوارع التي ضاقت بمن فيها من سابلة، وبما فيها من مركبات سد بعضها ما تبقى من المسالك والشوارع، فتوقفت الحركة أو كادت.

    وسط هذا الركام، وفي جو هذا الزحام كنت أحاول الوصول إلى أقرب رصيف تحجب عنه بنايةٌ عاليةٌ أشعةَ الشمس الحارقة في ذلك الصباح الملتهب... وهناك على الرصيف وقع بصري على سيدة في "منتصف" العمر، ومن حولها وقف شاب وصبيتان لم تبلغ كبراهما عامها الثلاثين من عمرها، وعلى الرصيف إلى جانبهن بعض حقائب السفر...

    تقدمت المرأة قليلاً إلى الأمام، ومدت يدها لتصافحني، وهي تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئًا...إنها هي "عائدة" تلك الفتاة التي كانت بالأمس تتفجر قوة ونشاطًا وجمالاً وحيوية...مددت يدي مصافحًا...عرّفتني على ابنتيها "فلسطين" و"يافا"، وعلى ابنها "ناصر".

    قلت: لن نتمكن من الحديث في هذا المكان يا عائدة.

    قالت: كلنا في شوق لأحاديثك...ولكن يبدو أن لقاءنا قد جاء متأخرًا جدًّا.

    قلت: لا عليك، فما زلنا قادرين على التحكم النسبي بأمورنا الخاصة...ما زلنا موجودين يا عائدة... يجب أن تؤجلي هذا السفر أولاً.

    قالت: لا أستطيع.

    قلت: لماذا؟

    قالـت (وقـد ازداد وجهـها شـحوبـًا): يجب أن تلتحق هاتان الزوجتان بزوجيهما اللَّذََين سبقاهما

منذ مدة...علينا أن نكون جميعًا في المطار بعد ثلاث ساعات فقط.

    قلت: سندخل جميعًا هذا البيت القريب... إنه بيت صديق لي... وسيوصلكم إلى المطار بسيارته في أقل من ساعة.

    وهناك في بيت صديقي "أبو المنتصر" قلت لعائدة: أريد أن أسمع، قولي كل شيء...إني أريد سماع كل شيء...لقد عرفتك طالبة في السادسة عشرة من عمرها، وأنت الآن في السادسة والأربعين –إن لم أكن مُخطئًا- حدثيني عن تفصيلات هذه الرحلة الطويلة.

قالت: لستَ مُخطئًا، إنني فعلاً في السادسة والأربعين الآن، وسأحدثك عن تفصيلات هذه الرحلة...بل وعن كثير من التفصيلات التي سبقتها، فعمري –كما ترى- مرتبط بالنكبة، ولكنني بحاجة لأسئلتك، فاسأل كما تريد، وسأجيب عن أسئلتك جميعها.

    قلت: لن أتناول الأمور الخاصة في أسئلتي...كل ما يعنيني الآن سؤال واحد: لماذا تغادرين البلاد في الوقت الذي نرى فيه كثيرًا من أبنائها يعودون إليها...وفي الوقت الذي يستعد فيه الفلسطينيون لبناء أنفسهم ودولتهم على أرض وطنهم؟ أليست هذه هي الفرصة التي انتظرناها طوال سنين كثيرة؟

    قالت: يبدو أنك قد تغيرت كثيرًا...أما أنا فلم أتغير...سأسافر، سأرحل لأنني لم أعُد أُطيق البقاء...ولأن أخي الأمريكي "سعيد" قد تمكن من تقديم خدمة العمر لنا بدخول الولايات المتحدة، ولن نضيع هذه الفرصة أبدًا... وما دامت أمريكا هي التي تصنع مصائر البشر، وتتحكم في مقدّراتهم تحكُّمًا تامًّا، فلنصبح أمريكيين – إن استطعنا- إن وضعي سيختلف تمامًا عندما أكون أمريكية – ولو من أصل فلسطيني- لا شك في أن وضعي سيتحسن كثيرًا... ولن أعود تلك المرأة اللاجئة التي كُتب عليها أن تعيش في المخيم منذ ستة وأربعين عامًا...ولا تعرف يقينًا ما الذي ستأتي به الأيام من مفاجآت.

    قلت: والوطن يا عائدة؟

    قالت: العالم صغير اليوم، وبإمكان الإنسان أن يحيط به من أقصاه إلى أقصاه في ساعات.

    قلت: ومستقبل شعبنا؟

    قالت: اصنعوه كما تريدون...أو فليصنعوه كما يريدون...الغالبية العظمى من شعبنا تعيش في الشتات على أي حال، وليس لها خيار في كل ما حدث...وما دام الأمريكيون هم صانعو القرار في هذا العالم، فلأكُن أمريكية...فربما استطعت أن أفعل شيئًا.

    قلت: تستطيعين أن تفعلي أكثر وأنت هنا على أرض فلسطين.

    قالت: فعلاً، لقد عملت هنا كثيرًا في مطاعم الإسرائيليين، وفنادقهم لأقوم بتربية أولادي...ولأدفع الغرامات التي قصمت ظهري عن ولدي هذا الذي تراه أمامك...ولأنفق على علاجه من عرق جبيني...لقد عملت كثيرًا، ووصلت الليل بالنهار مُتعبة خائرة القوى، محطمة الأعصاب كي تواصل ابنتاي "فلسطين" و "يافا" دراستهما الجامعية... انني لم أُعلمهما كي يحصلا على عمل...بل علمتهما حُبًّا في العلم – كما تقولون أيها المعلمون- ولكن... أليس من حقهما أن يعملا؟ لا أعتقد أن من عملن أو عملوا أحق منهما بالعمل...وتقول لي إنني أستطيع أن أفعل أكثر وأنا هنا على أرض الوطن!!

    قلت: فهمت من حديثك أنهما متزوجتان.

    قالت: نعم... زوَّجتهما من قريبين لنا أمريكيين من أصل فلسطيني.

    قلت: بإمكانهما أن يسافرا...وبإمكانك أن تبقي هنا...إن "ناصر" في سن الزواج...زوجيه هنا، وأقيمي إلى جانبه.

    قالت: ناصر يُصر على السفر...وأنا كذلك.

    قلت: ما مصدر هذا الإصرار؟

    قالت: من حقنا بعد رحلة العذاب الطويلة هذه أن نعيش باستقرار وهدوء...من حقي شخصيًّا أن أهدأ، وأستقر إلى جانب أبنائي وشقيقي...ومن حق ولدي هذا أن يبني نفسه ومستقبله بعيدًا عن كل أشكال المنغصات والمهالك التي تتهددنا في كل ساعة...ثم إن أخي الآخر يعيش في كندا بعد أن غادر مخيم "عين الحلوة" منذ سنوات طويلة، وهو اليوم كندي، ومتزوج من كندية...أما شقيقتي الأردنية فتعيش في "مخيم الوحدات" منذ تأسيسه، ولم أرها طوال هذا العمر إلا في بعض المناسبات...فما الذي يربطني بهذا المكان؟ هل تربطني فيه ذكرى شقيقتي "رائدة" التي قضت في ليلة من ليالي الشتاء الباردة الماطرة عند أول عهدنا بالمخيم؟ أم ذكرى شقيقي "عائد" الذي سقط في بئر قريبة من المخيم، ومات؟ أم ذكرى والدي ووالدتي اللّذَين قضيا حسرة وألماً لرحيلهما، وفراق فردوسهما السليب؟ أم في ذكرى زوجي الذي اختفت آثاره، ولم أعُد أسمع عنه شيئًا منذ الخامس الأسود من حزيران عام سبعة وستين وتسعمائة وألف؟ أم ذكرى المداهمات والاعتداءات والانتهاكات التي تعرضنا لها جميعًا...ولا نزال نعاني من آثارها ونتائجها، وسنبقى كذلك لسنوات طويلة قادمة؟ أهذا هو المكان الذي تريدني أن أقضي فيه ما تبقى لي من أيام، أهذه هي الذكريات التي تريدني أن "أعيش عليها" أيام ضعفي القادمة؟

    قلت: أمواتك الذين تحدثتِ عنهم لهم قبور في هذه المساحة الضيقة من أرض الوطن...عليك أن تزوريها.

    قالت: لقد زرتها كثيرًا حتى دَرَسَت وبَلِيَتْ...ثم إن العالم كله هو مقبرة جماعية للفلسطينيين أجسادًا وطموحات!! وكل قبر من تلك القبور الكثيرة هو قبر أب أو أم، أو عزيز...وعندما أحن إلى لطم الخدود، وشق الجيوب فإن بإمكاني التوجه إلى أقرب قبر من قبور الفلسطينيين الكثيرة... وبإمكاني أيضًا أن أفعل ذلك دون التوجه إلى القبور فهي ماثلة في الذاكرة لن تُمحى ما دام في جسدي عرق ينبض بالحياة.

    قلت: يا عائدة...دعي التشاؤم...وتفاءلي...فإن مع العسر يُسرًا.

    قالت: لست متشائمة... أنا مقتنعة بأنني قمت بواجبي...واليوم أنا حرة في تقرير مصيري.

    قلت: ستندمين كثيرًا عندما تجدين نفسك في العالم الجديد.

    قالت: إذا حصل هذا فإنني سأعود.

    قلت: سيحصل هذا... فمثلك لن تطيب لها إقامة خارج حدود الوطن.

    قالت: أعود إذن؟

    قلت: فلماذا السفر؟

    قالت: دعني أُجرّب.

    قلت: تجربة محكوم عليها بالفشل.

    قالت: لن تكون أسوأ من تجارب الذين هربوا منذ الأيام الأولى لحرب سبعة وستين وتسعمائة وألف... بدون سبب. ثم عادوا اليوم - والعود أحمد - بعد أن دخل شعبنا مرحلة جديدة من نضالـه السـياسـي - كما تقول- .

    قلت: هل أنت من المعارضين يا عائدة؟

    قالت: "على بال مين" معارضتي أو عدمها؟

    قلت: المسألة في غاية الخطورة...ويجب أن يكون لك رأي واضح محدد في هذه المسألة.

    قالت: "افرض" أن لي رأيًا.

    قلت: رأيك هذا هو الذي يقرر نوعية السلوك، وطبيعة المواقف من كل ما يحدث.

    قالت: "إفرض" أنني أعارض كل ما جرى... فماذا بإمكاني أن أفعل؟

    قلت: بإمكانك أن تنضمي إلى صفوف المعارضة...وأن تعملي من داخلها... وأن تكون معارضتك بنّاءة صادقة مهذبة "منطقية".

    قالت: وإن لم يكن لي رأي في كل ما حدث؟

    قلت: كوني مواطنة عادية، ومارسي حياتك - بقدْر المستطاع- وتابعي الأحداث...وحاولي دائمًا دفع الأمور في الاتجاه الصحيح.

    قالت: هل أنت من المؤيدين؟

    قلت: إن ما يحدث في غزة اليوم، رغم الضيق والفقر والبطالة والقيود، ورغم بعض الأمور المؤسفة إلا أنه يختلف كثيرًا عن الأيام السابقة التي كان الاسرائيليون يقصفون فيها البيوت بالصواريخ، ونيران الدبابات... وهو قطعًا يختلف عما كان الاسرائيليون يبيتونه لقطاع غزة... ربما كانوا يبيتون التهجير... أو التخلي عن القطاع من جانب واحد مع الاحتفاظ بحصاره.. وضربه يوميًّا، وكلما دعت الضرورة!! وعلى أي حال فهذا ما حدث، وعلينا أن نبذل كل الجهود للارتقاء به، كي نحقق الحد الأدنى من طموحاتنا على الأقل، وهذا ممكن إذا تضافرت الجهود، وحصل إجماع وطني على النهوض بالبلد، وضرورة بنائه، وتطويره، ليأخذ تدريجيًّا شكل الدولة.

    قالت: ربما كان الإسرائيليون يبيّتون لغزة وغيرها أكثر مما قلت...ولكن لماذا قدَّمنا لهم خشبة النجاة؟ لماذا تحملنا مسئولية ما كانوا سيتحملونه أمام الرأي العام العالمي، والضمير العالمي؟ ثم ما الذي يضمن أن لا يقصف الإسرائيليون غزة أو غيرها بالصواريخ ونيران الدبابات والطائرات غدًا أو بعد غد؟ وما الذي يضمن قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف؟ ثم أين تقع قضية اللاجئين الفلسطينيين -  أصل القضية وجوهرها - من كافة الاتفاقات التي أبرمت؟ وقضية القدس ماذا تقول الاتفاقات بشأنها؟ وماذا تعني الممارسات والإجراءات الإسرائيلية المطبقة عمليًّا على الأرض بحقها؟ والخليل، والحرم الإبراهيمي ما وضعهما النهائي؟ والمستوطنات؟ ما هو مصيرها؟ وتحركات المواطنين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من هم الذين يتحكمون فيها؟ وبنازير بوتو هل استطاعت الوصول إلى غزة؟ وماذا قال رابين بحقها؟ وهل استطاع تلقينها درسًا في الأخلاق -  كما قال- ؟

    قلت: ما الذي تريدين قوله بعد أن تجاهلت كل الإيجابيات، وبالغت أيما مبالغة في تضخيم الأخطاء والسلبيات، وحكمت على الأمور قبل أن تصل غايتها؟

    قالت: أُريد أن أرتحل إلى العالم الجديد...وعندما يصبح بإمكاني أن أعود إلى بلدي فإنني سأفعل.

    قلت: نحن الطرف الضعيف يا عائدة، وعليك أن لا تنسي ذلك...وليس أمامنا إلا العمل كي نحوّل الضعف قوة، والتخلف تقدمًا، والهزيمة نصرًا.

    قالت: قل لي لماذا قبلتم اليوم بهذه الحلول التي لا تحقق الحد الأدنى من طموحاتنا أولاً، ولا سند لها إلا حسن النوايا الإسرائيلية، ولا ضمان لها إلا ما يراه الإسرائيليون أولاً وأخيرًا، في الوقت الذي كلتم فيه التهم والشتائم لكل الفلسطينيين الذين تحدثوا بشيء من المرونة منذ الساعات الأولى لصدور قرار التقسيم سنة 1947م؟ ولا أرى ضرورة لتقديم الأمثلة المؤسفة التي حدثت آنذاك...وماذا فعلنا بالحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية عندما زار هذه البلاد سنة 1964م عارضًا علينا قبول قرار التقسيم؟ ثم ماذا قالوا في كثير من الكتّاب والصحافيين الذين أظهروا شيئًا من المرونة في أعقاب هزيمة حزيران 1967م، وطالبوا بإحياء قرار التقسيم رقم 181، ووضعه موضع التنفيذ؟ لا أنسى أنني قرأت لك عددًا من المقالات قبل سبعة وعشرين عامًا كانت تدور حول إحياء قرار التقسيم...فماذا قالوا عنك؟ وكيف عاملوك؟ ومع أي فئة صنفوك، ولا يزالون؟ على الرغم من قناعتي الكاملة بأن ما كتبتَه، وكتبه غيرك آنذاك كان من باب التكتيك، والمناورة لا أكثر، فلا أنتم بالقادرين على إحياء ذلك القرار... ولا الإسرائيليون على استعداد لسماعكم...وإنما هي محاولة لإظهار الإنسان الفلسطيني في صورة مغايرة لتلك الصورة التي رسمتها له الدعاية الإسرائيلية الصهيونية في الغرب وغير الغرب... ماذا كانت نتيجة ذلك؟ ثم ماذا حصل بعد ذلك؟ وما هذا الذي يوافق عليه اليوم من كانوا يُعارضون حلاًّ يضمن لهم دولة مستقلة في نصف مساحة فلسطين خالية من التدخل الخارجي والمستوطنات، وتعقيدات القدس، ومشكلات الخليل، ومسألة اللاجئين، والتحكم الإسرائيلي في كل أمر من الأمور الأمنية وغير الأمنية، ومسئولية الإسرائيليين عن كافة القضايا الخارجية؟؟ ومع كل هذا هل فكر أحد منهم في إعادة النظر في "المواقف والاعتبارات التي مورست بحق كثير من المثقفين والكُتّاب والصحافيين المشار إليهم؟ وهل فكر أحد في إنصاف هؤلاء، ورد الاعتبار إليهم بعد أن أثبتت الأيام بعد نظرهم، وفهمهم المبكر للأمور؟

    قلت: لقد كان الرافضون آنذاك على حق، كما كان المطالبون على حق...أما الرافضون آنذاك –وكثير  منهم من أركان الحل الجديد- فقد كانوا يراهنون على الاتحاد السوفياتي، ودول المنظومة الاشتراكية، ومجموعة الدول العربية والإسلامية، وفجأة تغير كل شيء...فماذا يفعلون؟ لقد قبلوا مُكرهين بهذا بعد كل هذه المتغيرات...أما المواقف والاعتبارات التي أشرتِ إليها فلم أسمع بهذا من قبل، ولم أشعر به، بل إنني أعتقد تماماً أن العلاقات بين القيادة ومثقفيها وكتّابها وصحافييها كانت، ولا تزال، علاقات حميمة مميزة.. وإن حصل غير ذلك أحيانًا فإنه لم يخرج يومًا عن دائرة الاجتهاد بالرأي، والعلاقات العادية المألوفة في حدود الأُسرة الواحدة.

    قالت: هذا حسن، ولكن بخصوص المتغيرات التي تتحدث عنها، والتي أدت إلى هذا الوضع الجديد أقول: أين كانت الدول العربية والإسلامية، والاتحاد السوفياتي، ودول المنظومة الاشتراكية عندما قامت إسرائيل عام 1948؟ وأين هي الدولة التي عارضت قيام إسرائيل عمليًّا آنذاك؟ ألم يكن الاتحاد السوفياتي الدولة الثانية التي اعترفت بإسرائيل بعد الولايات المتحدة الأمريكية؟ فما الذي تقوله؟ هل أنت مقتنع بما تقول؟ ثم ما الذي كان "ممكنًا" في ظل تلك المراهنات؟ هل كان الاتحاد السوفياتي نفسه يُطالب بأكثر من حدود الرابع من حزيران 1967 في أحسن الظروف؟!

    قلت: ماذا تريدين يا عائدة؟

    قالت: لا شيء.

    قلت: فالزمي بيتك...وحاولي إصلاحه من الداخل.

    قالت: قلت لك إن دوري هنا قد انتهى... سأسافر علّني أستطيع فعل شيء هناك في البلاد التي تحترم حياة المواطن وحريته، وفكره، وعقله، ورأيه وحقه في العمل، والعيش بكرامة... لماذا لا أُصبح في يوم من الأيام عضوًا في الكونغرس الأمريكي، أو عضوًا في مجلس الأمن القومي الأمريكي؟ لماذا لا أكون موجهة للرأي العام هناك، فأدفع به في الاتجاه الصحيح؟ لماذا لا أخدم قضيتي على كافة المستويات هناك؟ لماذا لا أنجح مع غيري من أبناء هذا الشعب فيما فشلت فيه الديبلوماسية العربية؟ دعني أُجرّب... ولن نخسر شيئًا... إنني لاجئة سواء كنت في مخيمات نابلس أو الخليل أو غزة... ولاجئة في الولايات المتحدة الأمريكية... ولكنني سأبقى محتفظة بولائي وانتمائي لقضيتي ووطني بالطريقة التي أفهمها، وسأكون عونًا مباشرًا، أو غير مباشر لكل فلسطيني هنا على أرض فلسطين، أو خارجها... فنحن جميعًا فلسطينيون في النهاية...وأعتقد أن هدفنا واحد هو إعادة الحقوق إلى أصحابها، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وضمان حق العودة للفلسطينيين.

    قلت: قولي ما تريدين، ولكنني لن أتنازل عن رأيي في أن هذا الذي تفعلينه، ويفعله غيرك – مع الأسف – تفريغ للوطن من مواطنيه...وهو هجرة لا نقرها، وندينها مهما كانت أسبابها وحوافزها...لقد أدان العقلاء الهجرة في أسوأ الظروف، فكيف يبيحونها اليوم، والناس يعودون إلى أرض الوطن؟ هذا الوطن الذي لن تبنيه سوى سواعد أبنائه وفتياته مهما كانت الأخطاء.

    قالت: إني راحلة.

    قلت (مخاطبًا أبناءها): وأنتم؟

    قالوا: لقد قالت أُمنُّا: إنها راحلة! ولقد تعلمنا أن لا نخالف لها قولاً.

    قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله...أيها القابضون على الجمر، أيها النازفون في ليل الهزيمة والانحسار، أيها الصارخون في وجه الجريمة والظلم، أيها المناضلون من أجل مستقبل الأجيال على أرض فلسطين...يا أحباب فلسطين...يا أبناءها وقادتها الذين تتدفق في عروقكم دماء الحب الفلسطيني، والعشق الفلسطيني، والرقص الفلسطيني على الشفرات والآسال ورؤوس الحراب والخناجر أفيقوا...أدركونا...اتقوا الله في أوطانكم وأديانكم وإنسانكم...فحكاية "عائدة" قد تتكرر كل يوم.

 

(1994)


الاثنين، ٢٣ شباط ٢٠٠٩

متابعات

ليفني.. والتخلي عن نصف " أرض إسرائيل" !!!

أ/ عدنان السمان

www.samman.co.nr

    دعت تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الإسرائيلية زعيمة حزب كاديما الإسرائيلي إلى التخلي عن نصف " أرض إسرائيل" مقابل السلام، وحفاظًا على يهودية الدولة.. قالت ليفني ذلك لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية في السادس عشر من شباط فبراير الجاري.. ومن الجدير بالذكر أن " أرض إسرائيل" مصطلح توراتي يُقصد به إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة.. وقالت إن الانسحاب سيكون لمصلحة إسرائيل، والحفاظ عليها دولة يهودية.. مضيفة أن على إسرائيل أن تأخذ زمام المبادرة، وتتقدم بخطة سلام خاصة بها، لتجنب المبادرات الدولية، فإن أية مبادرة قد توضع على الطاولة لن تكون في مصلحة إسرائيل كما قالت ليفني.. جاء هذا في عدد (القدس)  الصادر يوم الثلاثاء الماضي .

    وإذا صحت هذه الرواية المنسوبة لتسيبي ليفني فإن الحديث هنا يجري عن نصف مساحة فلسطين الانتدابية" أو التاريخية والبالغة (27009) سبعة وعشرين ألفاً وتسعة  من الكيلومترات المربعة، وإذا صحت هذه الرواية أيضًا فإن ليفني تدعو الإسرائيليين إلى التخلي للفلسطينيين عن أكثر من (13500) ثلاثة عشر ألفًا وخمسمائة من الكيلومترات المربعة، أي بزيادة مقدارها (1716) كيلومترًا مربعًا عما ضمنه لهم قرار التقسيم الصادر في (29) من تشرين الثاني من العام (1947) والذي يحمل الرقم (181).. وإذا كنا نعلم أن مساحة الضفة الغربية وقطاع غزة هي (5879+ 378) = (6257) من الكيلومترات المربعة فإننا نرى كم كانت ليفني كريمة مع الفلسطينيين متسامحة معهم عندما دعت الإسرائيليين إلى التخلي عن نصف " أرض إسرائيل" للفلسطينيين كي يقيموا دولتهم عليها!!

    أما إذا كانت ليفني تقصد بكلامها هنا التخلي عن نصف "  الضفة الغربية" لا عن نصف " أرض إسرائيل" مقابل السلام، وحفاظًا على يهودية الدولة فإن الأمر هنا شيء مختلف تمامًا.. ومعنى ذلك أن وزيرة الخارجية الإسرائيلية تدعو إلى السيطرة على نصف الضفة الغربية، أي على ما مساحته ثلاثة آلاف كيلو متر مربع، بحيث يُحشر في المساحة المتبقية من أرض هذه الضفة عرب الجليل والمثلث والنقب والسهل الساحلي البالغ تعدادهم مليونًا ونصف المليون من العرب الفلسطينيين، يُضاف إليهم ما قد تسمح وزيرة الخارجية بدخوله من لاجئي لبنان أو غير لبنان إضافة إلى عرب الضفة الغربية البالغ تعدادهم قرابة ثلاثة ملايين من المواطنين.. هكذا ليصبح تعداد سكان هذه الكانتونات العربية في الضفة الغربية أكثر من خمسة ملايين يحكمهم ويتحكم فيهم أكثر من نصف مليون مستوطن يسيطرون على كافة الأوضاع في الضفة الغربية.. في الوقت الذي لا تملك فيه هذه الملايين من العرب الفلسطينيين من أمر نفسها شيئًا: فالفلاحون قد شُطبوا منذ أمد بعيد بسيطرة الآخرين على أرضهم الزراعية وغير الزراعية، والعمال هم أيضًا قد شُطبوا منذ بدء الانتفاضة الثانية، ولا يزالون مشطوبين حتى يومنا هذا، والتجار هم أيضًا مشطوبون، وكذلك الصنّاع، والزرّاع.. والطلبة في وضع من السوء لا يُحسدون عليه.. لقد أختُزل هذا الشعب بين عشية وضحاها في فئة من الموظفين بمواصفات متباينة، ومقاسات مختلفة، وتناقضات ليس عليها من مزيد.. وفئة من المستفيدين، وثالثة من المقامرين والمقاولين والمتاجرين بنكبات هذا الشعب منذ نشأة القضية، وحتى هذه الساعة ... فإذا ما نفّذت ليفني ومن لفّ ودار في فلكها هذه الأفكار السياسية التي يقرعون رؤوسنا بها منذ مدة، وإذا ما شرعوا في وضع هذه الحلول المدمرة موضع التنفيذ، وإذا ما تمكنوا من حشر أكثر من خمسة ملايين عربي فلسطيني في كانتونات الضفة الغربية إضافة إلى المليون ونصف المليون من الفلسطينيين المحاصَرين في قطاع غزة، وإذا ما أعلنوا على الملأ هذه الدولة اليهودية النقية على أكثر من تسعين بالمائة من أرض إسرائيل التوراتية، أو الانتدابية، أو التاريخية.. وإلى جانبها تلك الفلسطينية حبيسة تلك الكانتونات والمعازل، رهينة الخوف والجوع والحصار، ورهينة المحبسين أيضًا؛ فإنهم يكونون قد وضعوا أقدامهم على بداية الطريق المؤدي إلى هجرة العرب الفلسطينيين، ونزوحهم (طوعًا) عن ديارهم في فلسطين تحت ضغط الجوع والخوف والحصار، وتحت ضغط الجريمة التي يمارسها بحقهم الممارسون بهدف تهجيرهم من وطنهم سعيًا وراء لقمة العيش، وسعيًا وراء فرصة العمل، وسعيًا وراء شيء من أمن أو أمان أو استقرار!!.

    ثم إن ليفني تطالب إسرائيل بأخذ زمام المبادرة، والتقدم بخطة سلام خاصة بها لتجنب المبادرات الدولية التي لن تكون في مصلحة إسرائيل، وفي هذا إصرار واضح من جانب ليفني على ضرورة حل هذه القضية الفلسطينية بعيدًا عن المبادرات الدولية التي قد تقر شيئًا من حق لعرب فلسطين، وفيه إصرار واضح من جانبها على ضرورة أن يتفرّد الإسرائيليون بوضع الحلول النهائية لهذه القضية التي تعتبرها ليفني، ويعتبرها نتانياهو، كما اعتبرها أولمرت وكافة القادة في إسرائيل من قبل شأنًا إسرائيليًّا داخليًّا لا يسمحون حتى لأقرب المقربين بأدنى تدخل فيه، ولا يسمحون لأقرب المقربين بأدنى وساطة معه حتى لو كانت هذه الوساطة مما تقتضيه مصالحهم، أو مما تتطلبه ضرورات الأعراف، وأصول المجاملة والصداقة والوساطة والعلاقة الطيبة والجوار!! إنه العناد، وإنه الاستعلاء والاستكبار في زمن المبادرات والاعتدال وتقبيل الأيدي وغير الأيدي والأعتاب.

    أغلب الظن أن ليفني لا تريد التخلي عن شيء من " أرض إسرائيل" لأحد.. وأغلب الظن أنها كغيرها من معاصريها، وكغيرها ممن سبقها من القادة الإسرائيليين تتبع أسلوب المراحل، وتعتمد على الزمن، وعلى فرض الأمر الواقع، وتغيير الحقائق على الأرض وسيلةً للسيطرة، وتحقيق الإنجازات والتوسع كلما كان ذلك ممكنًا، وترك الحسم في هذا الأمر الصعب أو ذاك للزمن، ولتعاقب الأجيال حيث تعتقد ليفني كما يعتقد غيرها من قادة إسرائيل أن هذا الزمن لا زال يعمل لصالحهم، وأن هذا الزمن سيحقق أهدافهم في القوة والسيطرة والتوسع في كافة الاتجاهات والمجالات.. وأغلب الظن أيضًا أن بإمكان ليفني وغيرها من الإسرائيليين أن يعيشوا مثل كل الناس في هذا العالم إذا هم تخلوا عن كثير من أهدافهم وتطلعاتهم وأطماعهم، وإذا هم اعترفوا بحقوق العرب الفلسطينيين الثابتة المشروعة في ديارهم فلسطين، وإذا هم آمنوا بالسلام العادل الدائم الشامل المقنع غايةً وهدفًا لشعوب هذه المنطقة من العالم.

 

22/2/2009

 


ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

20.  حوار        

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

www.samman.co.nr

حـــوار

 

    قال: ما الذي صرفك عنا يا أيوب؟

    قلت: مشاغل الدنيا يا ولدي.

    قال: وهل اشتغلت أخيرًا يا أيوب؟

    قلت: لا.

    قال: فما هي المشاغل التي تتحدث عنها؟

    قلت: مشاغل كثيرة في زمانكم النكد هذا.

    قال: عجبًا! هل تعمل بالسياسة دون أن ندري؟

    قلت: لا يا عم.. لم تربطني أدني صلة في يوم من الأيام بالنحاس باشا، ولا حتى بالنقراشي.

    قال:أأنت مشغول بأمور اتحاد الكتاب؟

    قلت: أقسم أنك إنسان غريب، تفتري علي وفي حضوري؟

    قال: فلا أقل من رابطة الصحافيين.

    قلت: يا عم حرام عليك... ومن أنا حتى تكون لي علاقة بكل من ذكرت؟

    قال: حيرت قلبي "معاك" يا أيوب! فما هي المشاغل إذن؟ هل تعمل في لجان الصلح.. وإصلاح ذات البين؟

    قلت: روح "الله يهدك" يا بعيد!

    قال: هل تجمع من حولك الأنصار استعدادًا للمرحلة القادمة؟

    قلت: لا شك في أنك معتوه.. "روح" من وجهي...

    قال: هل تخلع هذا القناع لأتعرف عليك يا أيوب؟

    قلت: إنك تعرفني جيِّدًا يا ولدي.

    قال: اخلع القناع إذن.

    قلت: زمانكم هذا يحتم علي وضع القناع.

    قال: هل لتختفي وراءه؟

    قلت: لست لصًّا يا ولد... تأدب!

    قال: لم أقصد.

    قلت: في زمانكم النكد هذا قلب كل شيء رأسًا على عقب، لقد فقدتم الحياء... وتهاوت في داخلكم الأخلاق.

    قال: لقد عرفت الآن... إنك تعمل في البنية التحتية يا أيوب، وإني أقسم على ذلك.

    قلت: إني أقسم أن عقلك ناقص... وأقسم أيضًا أنك من لصوص المياه الذين ينهبون البلدية، ويحرمون جيرانهم شربة الماء.

    قال: وما شأنك أنت يا أيوب.؟ اشرب خروب.. اشرب تمر هندي.. اشرب سوس يا عطشان...!

    قلت: هل سيواصلون سرقاتهم في رمضان؟ مصيبة فعلاً.. ماذا سنفعل غدًا عندما نريد أن نزين مائدة الإفطار بكأس من الماء القراح فلا نستطيع؟

    قال: زينها بالأموناضة!

    قلت: ماذا تقول يا فاجر؟

    قال: أموناضة.. ماء وليمون وسكر، وفي لغة أخرى ليمونادا، أو ليمونيد يا أيوب.

    قلت: لقد أسرفت في تعذيبي، وبالغت في استفزازي أكثر من ذلك المراوغ الذي يرفض دفع قيمة الفاتورة منذ شهرين.

    قال: قد عرفت الآن... إنك قارئ عدادات المياه في البلدية... وهذا الشخص يرفض دفع قيمة فاتورة المياه...

    قلت: شهران يا ولدي وأنا أحاول الحصول على قيمة الفاتورة دون جدوى.

    قال: والسبب؟

    قلت: ألم أقل لك إنكم في هذا الزمان تجردتم من الخلق والحياء... وإن كل شيء في زمانكم النكد هذا انقلب رأسًا على عقب، أو عقبًا على رأس؟

    قال: إنني أتوجه بالشكر إلى صاحب تلك الفاتورة لأنه السبب في إجراء هذا الحوار معك يا أيوب.. أقسم أنني عرفته.. أتأذن لي بالتوسط بينكما لإنهاء الخلاف؟

    قلت: لا، فأنا لا أريد شيئًا.

    قال: والحوار؟ لا بد له من حافز.. أتريد أن تحرمني حوارياتك؟

    قلت: الحافز؟ وهل تعتقد أن ذلك "الشيء" هو الحافز؟

    قال: ما الحافز إذن؟

    قلت: شريحة من المارتديلا، وكوب من الشاي، وقطعة من خبزكم العجيب هذا.

    قال: لا أفهم ما تقول يا أيوب.

    قلت: هذه الأكلة الشهية هي التي حفزتني لتذكر ذلك الولد الغريب.. يا له من ولد كاذب مراوغ!... قاتلكم الله يا أهل هذا الزمان... عشت حتى الآن آلاف السنين.. واختلطتُ بأناس لا يُحصَوْن عددًا... وأقسم أنني لم أجد طيلة حياتي أحدًا يماثلكم في الخسة والكذب والأذى والسرقة ولؤم الطباع.

    قال: وما علاقة الشاي والمرتديلا والخبز بالأمر؟

    قلت: بل قل الدماء والموتى وجلود الخنازير.

    قال: إنك تحيرني يا أيوب... ورغم تكدر مزاجك هذا اليوم إلا أنني أطلب منك نصيحة!

    قلت: لن أفعل.

    قال: ولماذا يا أيوب؟

    قلت: لأنك لن تعمل بها... فأنت كاذب مخادع كأبناء هذا الزمان.

    قال: أتقصد أنني كصاحبك العجيب ذاك؟

    قلت: بل أقصد الشاي والمرتديلا وجلود الخنازير.

    قال: اخلع قناعك.

    قلت: "الله يخلع رقبتك".

    قال: إخلع قناعك يا أيوب.

    قلت: سيحصل ذلك في الوقت المناسب..

    قال: ومتى سيأتي هذا الوقت المناسب؟

    قلت: أليس الصبح بقريب؟

 

(1995)