عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الخميس، ٣٠ نيسان ٢٠٠٩

المحكمة الدولية.. والإفراج عن الضباط الأربعة!!

متابعات

المحكمة الدولية.. والإفراج عن الضباط الأربعة!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لبنان الجميل بلد عربي صغير لا تتجاوز مساحته عشرة آلاف من الكيلومترات المربعة، يمتد على الساحل السوري من طرابلس شمالاً إلى رأس الناقورة جنوبًا مع التوجه إلى أحضان الوطن الأم شرقًا عبر جبال لبنان الغربية التي تزينها الأشجار الحرجية، ولا سيما شجر الأرز الجميل، وسهل البقاع، والجنوب اللبناني، وصولاً إلى ذلك الجزء الغربي المحدود من جبال لبنان الشرقية...يتمتع لبنان بأرض خصبة، وتغطي الأحراش، ولا سيما شجر الأرز جباله التي تنتشر فيها المصائف، والمتنزهات، والمناطق السياحية، والمناظر الطبيعة الخلابة.. ويعيش في لبنان الجميل نحو خمسة ملايين عربي لبناني بينهم نحو مليون عربي سوري، ونحو ثلاثمائة ألف عربي فلسطيني هُجّر آباؤهم وأجدادهم في العام ثمانية وأربعين من فلسطين، بينما يعيش أكثر من عشرين مليون لبناني في الأمريكتين، ودول أوروبا، وبلاد العرب، وغيرها من أقطار هذا الكون، ومنهم من فقد صلته وتواصله بلبنان جسديًّا، وإن ظل محتفظًا بحبه وحنينه إلى هذا الوطن الصغير الجميل، ومنهم من بقي على اتصال وتواصل بلبنان يزوره بين الحين والآخر، ومنهم من يعود إليه في أرذل العمر، كي يعيش فيه ما تبقى له من أيام، وكي يُوارى الثرى في أرضه الطيبة عندما تحين النهاية ويُحمّ القضاء.

    تشعر وأنت تحتك بكافة فئات المجتمع اللبناني، وبمختلف تياراته الفكرية، وتوجهاته السياسية، وانتماءاته المذهبية والعرقية والطائفية، ومستوياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبكل مكونات هذا المجتمع أنك أمام أناس طيبين يحترمون أنفسهم، ويحترمون غيرهم من الناس.. يجمع بينهم أنهم لبنانيون يحبون لبنان، ويوحد بينهم أنهم عرب مخلصون لِلُبنان العربي، ومؤيدون لكل قضايا العروبة، واهتمامات العرب من محيطهم إلى خليجهم، عاطفيون وحدويون متسامحون محبون للعدل والحق والحرية والحياة.

    عرفوا كيف يخرجون من أزماتهم دائمًا أشد قوة، وأكثر تماسكًا، وعرفوا كيف يحوّلون أسباب ضعفهم إلى مصادر قوة.. عرفوا كيف يتعاملون مع الأسطول السادس الأمريكي في العام ثمانية وخمسين من القرن الماضي، وعرفوا قبل ذلك وبعده كيف يقيمون أوثق العلاقات، وأقوى الصلات بالوطن الأم، وعرفوا كيف يخرجون من الحرب الأهلية التي فُرضت عليهم في العام خمسة وسبعين، واستمرت سبعة عشر عامًا، وعرفوا كيف يحررون ما احتُلّ من أرضهم بعد ذلك... وإذا كانت أوروبا قد خاضت حربين عالميتين تكبدت خلالهما عشرات الملايين من القتلى خلال ثلاثين عامًا في النصف الأول من القرن الماضي قبل أن تستخلص العبر والدروس المستفادة، وقبل أن تصبح على ما هي عليه الآن في علاقاتها البينيّة، وفي علاقاتها مع غيرها من الدول في هذا العالم فإن العالم العربي، ومنه لبنان الجميل الصغير قد توصل إلى ذلك بدون كل هذه الخسائر التي يشك المراقبون والمحللون السياسيون والعسكريون في إمكانية حدوثها في بلاد العرب رغم حرص كل الحريصين على ذلك من كل قوى الفتنة والفساد والتربص، ومن كل القوى المضادة لحركة التقدم، ومسيرة البناء والاستقرار في لبنان، وعلى كل أرض العرب.

    وفي اليوم التاسع والعشرين من نيسان طلب مدعي عام المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الإفراج عن الضباط الأربعة من رؤساء الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية، وبالفعل يتم الإفراج عنهم لعدم ثبوت أدنى صلة لهؤلاء الضباط (الأكفياء المشهود لهم بحسن السيرة والسلوك، وبالكفاءة العالية) باغتيال الرئيس الحريري... ولئن كان هذا الأمر ينطوي على تبرئة ساحة جهة عربية بعينها كانت بعض الأطراف حريصة على إلصاق هذه التهمة وغيرها من التهم بها.. فإن هذا الأمر يعني في الوقت نفسه أن تستمر الجهود والمساعي لمعرفة الجهة أو الجهات التي تقف خلف اغتيال الحريري، ومعرفة الجهة والجهات التي تقف وراء اغتيال كثير من الشهداء ممن اغتيلوا بالطريقة إياها، وبالأسلوب نفسه.. وإن هذا الأمر يعني أيضًا معرفة الدوافع التي حَدَتْ بفئة متسرعة إلى اتهام جهة عربية معينة بهذه الجريمة.. ويعني أن تثوب هذه الفئة إلى رشدها، وأن تعود إلى صوابها كي تعود لهذه الأمة في هذا الجزء من ديار العروبة وحدتها، وكي يزول سبب من أسباب الفرقة والقطيعة والتنابذ والخصام في هذه الديار.

    إن ما حدث في التاسع والعشرين من نيسان لأمرٌ حاسم سيكون له ما بعده على سير الأمور في هذه الديار.. ولئن كان اغتيال الرئيس الحريري وراء نجاح تيار بعينه في الانتخابات اللبنانية الماضية، وتمتّع هذا التيار بالأغلبية في مجلس النواب، فإن هذا الذي حدث قد يكون وراء الفشل الذي ينتظر هذا التيار في الانتخابات التي ستُجرى في المستقبل القريب.

    ولئن أخفقت هذه المحكمة في إثبات أدنى صلة لهؤلاء الضباط الأربعة باغتيال الرئيس الشهيد فعلى من يعنيهم الأمر أن يستمروا في البحث والتنقيب والتحقيق إلى أن يتم كشف الحقيقة للناس... ولئن برّأت هذه المحكمة ساحة هؤلاء الضباط الذين أمضَوْا في السجن نحو أربع سنوات من أعمارهم دون وجه حق؛ فإن كثيرًا من المسجونين والموقوفين والمحكومين أيضًا في هذا العالم ينتظرون اليوم الذي تُبرّأ فيه ساحتهم، ويُفرج فيه عنهم، ليخرجوا إلى عالم الضياء والنور والحرية.

30/4/2009

   


الأربعاء، ٢٩ نيسان ٢٠٠٩

إنفلونزا الخنازير...

متابعات

إنفلونزا الخنازير...

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

     في الوقت الذي لا زالت فيه إنفلونزا الطيور تودي بحياة إنسان هنا، وآخر هناك في أقطار هذا الكون.. وفي الوقت الذي لازالت فيه الحمَّيات، ومجموعة أمراض القلب، والسرطان، وغيرها من الأمراض تفتك بالناس فتكًا في هذا العالم.. وفي الوقت الذي تحصد فيه الحروب، وأعمال العنف والعنف المضاد، وإرهاب الدولة وغير الدولة، وثورات الطبيعة وفيضاناتها وزلازلها وحرائقها، وحوادث الطرق، وعصابات السلب والنهب والعالم السفلي، وغيرها وغيرها أرواح كثير من عباد الله في هذه الدنيا.. وفي الوقت الذي يئن فيه كثير من الفقراء والجياع والمنكوبين والمرضى والمستضعفين تحت وطأة الجوع والخوف والمرض والاضطهاد في مناطق شاسعة من أقطار هذه الأرض وأمصارها... في الوقت الذي يحدث فيه كل هذا وذاك تفيد الأخبار القادمة من المكسيك، وما جاورها من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن عدد من الأقطار في هذا العالم أن الناس هناك يعيشون أحوالاً من الرعب والفزع بسبب هذه الإصابات بإنفلونزا الخنازير، والتي أودت بحياة عشرات من الناس هناك، ودخول مئات منهم إلى المشافي للعلاج، في الوقت الذي تتوقع فيه المصادر الصحية أن تأخذ هذه الإنفلونزا شكل الوباء لأنها تنتقل أيضًا من الإنسان إلى الإنسان بخلاف إنفلونزا الطيور التي لا تنتقل إلى الإنسان إلا من هذه الطيور المصابة، وعليه فإن الإصابات تبقى محدودة، وإن كانت موجودة.. أما إنفلونزا الخنازير التي تنتقل من الخنزير إلى الإنسان عن طريق الجهاز التنفسي، فتنتقل أيضًا من الإنسان المصاب إلى الإنسان السليم.. ولعل من أسباب خطورة هذه الإنفلونزا أيضًا أن كثيرًا من المشافي، وكثيرًا من الطواقم الطبية العاملة فيها ليست مؤهلة لمواجهة هذا النوع من الإنفلونزا التي هي مزيج من إنفلونزا الإنسان، وإنفلونزا الطيور، وإنفلونزا الخنازير التي ليست هي في حد ذاتها أمرًا جديدًا، وإنما يعود تاريخ ظهورها إلى العقد الرابع من القرن الماضي، إنما الجديد هنا هذا التحالف الثلاثي كما يقول ذوو الاختصاص من الأطباء البيطريين.

    ولئن كانت الإنفلونزا الموسمية التي تصيب الناس في العادة ذات تأثير سيء على كبار السن، وعلى المصابين بالأمراض المزمنة بحيث أخذ كثير منهم يتناولون لقاحًا ضدها عند مطلع فصل الشتاء من كل عام يجنّبهم الإصابة بها- على الأغلب- طوال فصل الشتاء؛ فإن إنفلونزا الخنازير هذه التي يرتفع عدد ضحاياها في بعض الأقطار منذ منتصف الشهر الماضي، والتي تحذّر منظمة الصحة العالمية من احتمال انتشارها في هذا العالم بشكل وبائي.. هذه الإنفلونزا تصيب الناس جميعًا بسهولة متناهية، ولا تستثني أبدًا فئة الشباب، ولا يقف في وجهها جهاز مناعة مهما كان قويًّا، وليس بالإمكان تناول أي لقاح يحول دون الإصابة بها، أو يخفف من وقع الإصابة إذا حدثت، ومن هنا تأتي خطورة هذا النوع من الفيروس المسبب لهذه الإنفلونزا الحادة الفتاكة.

    ولئن كانت إنفلونزا الطيور التي أصابت كثيرًا من الناس في كثير من أقطار هذا الكون سببًا في وفاة بعض من أصيبوا بها؛ فإن ضحايا إنفلونزا الخنازير هم أكثر بكثير من ضحايا إنفلونزا الطيور حيث يؤكد الخبراء والمختصون من أطباء الحمّيات والأمراض السارية أن ضحاياها في حال انتشارها ستكون من5-6% من عدد السكان، وهي نسبة عالية جدًّا إذا ما قيست بضحايا غيرها من الحمّيات والأمراض السارية في عصرنا هذا.

    إن الوقاية من هذه الإنفلونزا تقتضي إجراءات صارمة في المطارات والموانئ البحرية والبرية في أقطار هذا العالم، وتقتضي رقابة مشددة على  البيئات والبلدان التي تظهر فيها الإصابات، وتقتضي تعاونًا دوليًّا في التوعية والعلاج والمكافحة والإجراءات الوقائية.. كما يترتب على الإنسان في غرب الدنيا وشرقها أن يكون حذرًا يقظًا لا يقترب من الأماكن الموبوءة، ويتجنب كل أسباب العدوى كالاحتكاك بالناس في الأماكن المزدحمة، ويؤجل المصافحة والعناق، ويبتعد عنهما حتى إشعار آخر، ولا سيما في ديار العروبة والإسلام، إذ على الرغم من خلو هذه الديار من مثل هذه الإنفلونزا لخلوّها-افتراضًا- من الخنازير إلا أن الاحتياط واجب… أما إذا تفشّى هذا المرض وانتشر بشكل وبائي فلا بد من إحراق مصدره، ولا بد من تخليص البشرية من هذا الخطر المحدق بها .. هذا ما يجمع عليه الأطباء، ويؤكده خبراء منظمة الصحة العالمية.

29/4/2009

   


الاثنين، ٢٧ نيسان ٢٠٠٩

نهاد أبو غربية.. الفارس الذي ترجّل

متابعات

نهاد أبو غربية.. الفارس الذي ترجّل

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    في الوقت الذي تمر فيه القدس بفترة عصيبة من أدق فترات تاريخها وأشدها خطورة، وفي الوقت الذي تحدق فيه الأخطار بفلسطين من كل جانب، تشاء إرادة  الله أن يختار إلى جواره بين الحين والآخر علمًا أو أعلامًا من أبرز أعلام القدس وفلسطين.. هذه هي إرادة الله، وهذا هو قضاؤه، وتلك هي سنّته في خلقه، ولن تجد لسنّة الله تبديلاً.

    لقد فُجعت القدس في الآونة الأخيرة، كما فُجعت فلسطين بعدد من خيرة أبنائها، وكان الراحل الكبير نهاد أبو غربية واحدًا من هؤلاء الأبناء البررة الذين حملوا جراح القدس وفلسطين في قلوبهم، وحملوا صليب القدس وفلسطين على صدورهم.. لقد عرف فيه كل من عرفه رجلاً عربيًّا فلسطينيًّا شريفًا مخلصًا لعروبته ووطنه فلسطين، ورجلاً شريفًا مخلصًا لكل أوطان العروبة، ولكل قضاياها، وحركاتها الوطنية، والقومية، والتقدمية، والتحررية من المحيط إلى الخليج.

    وفي الوقت الذي كانت فيه القدس رائدة النضال، وقائدة الكفاح على أرض فلسطين منذ مطلع القرن الماضي، فقد كان الراحل الكبير واحدًا من أبرز العاملين من أجل القدس وفلسطين.. لقد كان مع عدد كبير من إخوانه ورفاقه أبناءً بررة للقدس وفلسطين حافظوا على عروبتها، وصانوا ثراها الطيب الطهور، وافتدوه بالغالي والنفيس، وضحَّوا في سبيله بالأموال والمهج والأرواح.

    ولما كان الراحل الكبير يدرك مدى حاجة الأمة للعلم والوعي في بناء ذاتها، وحمل مسئوليتها، والنهوض بأعبائها وتبعاتها، والقيام بواجباتها.. فقد بنى في القدس صرحًا شامخًا للعلم والمعرفة في مرحلة مبكرة من أيام شبابه.. وكانت الكلية الإبراهيمية واحدة من أبرز قلاع القدس التعليمية التربوية المعرفية.. وكانت واحدة من مراكز الإشعاع الفكري الثقافي الوطني المعرفي.. وكانت واحدة من منارات الضياء والنور والهدى على أرض فلسطين.

    لقد كانت الكلية الإبراهيمية آنذاك كنزًا من كنوز القدس، وجوهرة من جواهرها المتلألئة، ومنارة ازدان بها شارع صلاح الدين، وقلعة ضمت أعدادًا من خيرة معلمي البلاد وأساتذتها يعدّ منهم المرء، ولا يعددهم، أو يحصيهم عددًا.. ومن أولئك المعلمين والأساتذة: الشيخ فارس إدريس أستاذ الثقافة الإسلامية، والشيخ الخطاط النحْوي اللُّغوي أستاذ الفلسفة والمنطق وعلم الاجتماع يوسف النجار، والخطيب الأديب الشاعر القاصّ الكاتب أستاذ اللغة العربية والثقافة العربية محمد أبو شلباية، والأستاذ أكرم سعيد العلمي، والأستاذ الشاعر الناثر واصف الصليبي، والأستاذ فاروق يونس، والأستاذ وصفي الكفري، والأستاذ عزة عمرو وغيرهم وغيرهم وغيرهم من أعلام الثقافة والفكر والأدب والصحافة في فلسطين... وكان منهم من يعمل متفرغًا في الكلية، ومنهم من يأتي زائرًا من المدرسة الرشيدية، والمدرسة المأمونية وغيرهما من المدارس... أما العاملون فكان منهم: أبو اسحق، وأبو محمد، وشفيق، وأبو حامد الذي أطلق عليه الطلبة لقب"العميد" بسبب حزمه! وكان منهم أيضًا شاب واعد من بني نعيم يسمى محمدًا... كان طلبة الكلية يأتونها من القدس نفسها، ومن جبل القدس، ومن مناطق الخليل، وأريحا، وبيت لحم، ورام الله، ونابلس، وجنين، وطولكرم، وقلقيلية، ومن كثير من قرى البلاد ومخيماتها... ولا يمكن للمرء أن ينسى الطلاب الجزائريين الذين استضافتهم الكلية، ووفرت لهم فرص التعليم، وهيأت لهم المسكن والمأكل.. وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر فإن كلية النجاح

 ( قبل أن تصبح جامعة النجاح) قد استضافت هي الأخرى في تلك الفترة أعدادًا من طلاب الجزائر في أثناء الثورة الجزائرية (1954-1962) .

    وعملاً بمبدأ التطور والتطوير، فقد أبت همة الراحل الكبير إلا أن تحول هذا الصرح العلمي التاريخي الرائد إلى صرح عصري يضم عددًا من الكليات الجامعية، كما يضم مؤسسة وحيده المرحوم"وجدي" الذي أبت إرادة الله إلا أن تنتشله من أحضان والديه شابًّا يافعًا رحمه الله وأكرم مثواه .

    ولئن ترجّل فارسنا اليوم كما ترجّل سابقوه من فرسان هذا الوطن، وكما سيترجل لاحقوه أيضًا، فإن أملنا كبير دائمًا في أن يجود رحم أرضنا الطيبة المعطاء بالفرسان الأوفياء الذين يمنحون الوطن حبهم وجهدهم وذوب فكرهم ووفائهم وإخلاصهم على مدى الدهور والعصور.

    رحم الله نهاد أبو غربية، ورحم كافة الأوفياء الغيورين على هذه المدينة المقدسة، وعلى كافة هذه الديار الفلسطينية، وعلى كل قضايا هذا الوطن، وقضايا هذه الأمة.. وعوّضنا بفقدهم خير العوض.. إنه سميع قدير وبالإجابة جدير.

27/4/2009

   

 

السبت، ٢٥ نيسان ٢٠٠٩

هكذا ضاعت بلادي!!

متابعات

هكذا ضاعت بلادي!!

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

    الإجراءات الإسرائيلية الجديدة التي جاءت " القدس" بتفصيلاتها على صدر صفحتها الأولى، في عددها الصادر يوم الجمعة الماضي تنطوي على عدد من الحقائق المؤلمة، ومن أبرز هذه  الحقائق، وأشدها خطورة:

1- أنها جاءت بعد بضع سنوات من بدء العمل بجدار الفصل، وقبل الانتهاء من رسم مساره، ووضع مخططه –كاملاً- موضع التنفيذ، وهذا يعني أن الإسرائيليين ماضون في إجراءاتهم المرحلية، وفي تنفيذ خططهم ومخططاتهم في الضفة الغربية، إذ لو كان الهدف من بناء هذا الجدار حماية مواطنيهم- كما يقولون- لعادت الأمور الآن إلى سابق عهدها، ولَرُفعت كل هذه القيود، وأزيلت كل هذه الجدران والسدود بعد أن زالت حاجتهم إليها، وبعد أن عادت الأحوال إلى ما كانت عليه قبل إقامتها... ولكنه الإصرار من جانبهم على الاستمرار فيها، والذهاب في الشوط إلى منتهاه، عملاً بسياسة المراحل المؤدية إلى وضع اليد على كل شيء في هذه الديار، وإمعانًا في التنكر لحقوق الفلسطينيين كل الفلسطينيين في فلسطين كل فلسطين، وفي خارج فلسطين أيضًا.

2- أن هذه الإجراءات الجديدة- التي ستدخل حيز التنفيذ إبتداءً من مطلع أيار- قد جاءت لتضفي الشرعية على هذا الجدار، وعلى هذه المعابر التي أصبحت (نقاطًا حدوديّةً) يتم تسجيل الداخلين إليها، والخارجين منها عن طريق الحاسوب الآلي في هذه المعابر، بما في ذلك المعابر الزراعية على امتداد جدار الفصل.

3- وأن هذه الإجراءات قد جاءت أيضًا لتضم كل ما عزلته من أرض الضفة الغربية إلى إسرائيل بعد أن تُخرج أهلها منها لتضعهم خلف الجدار!! وهذا معناه أن الإسرائيليين يضعون اليوم أيديهم على مزيد من أرض الضفة، ويشرّدون مزيدًا من سكانها ليصبحوا لاجئين ومهجَّرين على أرض وطنهم تمامًا كما حصل في العام ثمانية وأربعين .

4- وأنها قد جاءت لتنفيذ مخططات الإسرائيليين، ووضع أطماعهم في أرض الضفة الغربية موضع التنفيذ مستغلةً في ذلك حاجة كثير من الفلسطينيين  إلى التصاريح التي أُرغموا على حملها لدخول هذا الجزء أو ذاك من بلادهم، ومن ديارهم وأوطانهم، حيث تنص هذه الإجراءات الإسرائيلية الجديدة على أن مخالفة تعليمات تصريح الدخول ستؤدي إلى:" إعادة المواطن إلى الضفة، وتجميد تصريحه لمدة تتراوح بين ثلاثة أيام وشهر كامل" !! وهذه هي المدة الزمنية التي تنص عليها هذه التصاريح... وما الذي يستطيع الناس فعله وقد سُدَّت في وجوههم آفاق العمل والأمل، وغابت الخيارات سوى تنفيذ كل ما جاء في تصاريح العلاج، والزيارة، والعمل، والإقامة، والمرور، والبيع، والشراء هذه؟؟ وما الذي يستطيع الناس فعله في زمن العجائب والغرائب والتناقضات والمذلة والهوان والاستسلام وضغط الحاجة للدواء والغذاء والكساء سوى تنفيذ كل ما جاء في هذه التصاريح؟؟ وماذا يستطيع أن يفعل المواطن المغلوب على أمره إذا كان هذا هو ثمن بقائه على أرض وطنه؟؟

5- وأنها جاءت بعد أيام من الحديث عن ضم المناطق المصنّفة(ج) من أراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل.. وإذا كان هذا صحيحًا ( بدليل التصرف الإسرائيلي المطلق بهذه المناطق، وبدليل تحريم ملكيتها على أصحابها وساكنيها من العرب الفلسطينيين) وإذا كان هذا صحيحًا ( بدليل ما يجري في الأغوار أيضًا) إذا كان كل هذا صحيحًا، وإذا كانت مساحة هذه المناطق موضوع الحديث قرابة سبعين بالمئة من مساحة الضفة(69%) فإن هذه الإجراءات التي ينفذونها اليوم من خلال بضعة عشر معبرًا أقاموها منذ سنوات بدءًا بشمال الضفة، ومرورًا بوسطها، وانتهاءً بجنوبها.. هذه الإجراءات التي فصلت القدس عن الضفة، وعزلتها عنها رغم أنها جزء لا يتجزأ منها.. وهذه الممارسات التي ينفذونها في القدس تحت سمع الدنيا وبصرها.. وهذه المصادرات والمصادمات والمضايقات والتضييقات والمداهمات والاعتقالات والاستفزازات التي يمارسونها بحق المواطنين العرب الفلسطينيين في كل يوم.. إن كل هذه وتلك مؤشرات واضحة كل الوضوح على صورة الوضع الذي آلت إليه أحوالنا في هذه الديار.. وهي مؤشرات واضحة كل الوضوح على حقيقة ما يُراد بنا، وعلى ما وضعه المخططون وصناع القرار منهم بشأن وجودنا على أرضنا.. هذا هو الواقع العمليّ الذي نراه ونحسه ونعيشه ونعايشه، وهو ليس خيالاً، وليس من صنع الوهم، ونسيج السوداوية والتشاؤم.. هذا هو الواقع العمليّ .. أما المستقبل فهو بيد الله الواحد الأحد، الفرد الصمد.. ولن أزيد حتى لا أستفز كثيرًا من هؤلاء المندسين المتربصين ممن استباحوا مقدّرات هذا الشعب، وناصبوه العداء.

    إنني أعتقد جازمًا أن الإسرائيليين لم يتوقعوا يومًا أن يجود عليهم الزمان بمثل هذه الفرصة التي يحققون فيها أهدافهم، ويهوّدون فيها هذه الأرض المقدسة كما يحلو لهم.. حتى ولا في أحلامهم!!!

    ورحم الله محمد أبو شلباية عندما نشر مسلسله "هكذا ضاعت بلادي" في مطلع ستينيّات القرن الماضي، وبعد أربعة عشر عامًا من نكبة ثمانية وأربعين، و رحم الله أبا مؤنس عندما نشر مادة هذا المسلسل في كتاب حمل هذا العنوان.

 

25/4/2009

 


الخميس، ٢٣ نيسان ٢٠٠٩

من هدي الإسلام وأخلاقه...

من هدي الإسلام وأخلاقه...

أ‌.      عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    كثير من الغربيين يبدون إعجابهم بتعاليم الإسلام، وكثير منهم يعتنقون هذا الدين في كل يوم، وكثير منهم يبدون تعاطفًا شديدًا مع قضايا المسلمين في مختلف ديارهم؛ فما هو السر في ذلك؟ وما هو الفرق بين هؤلاء وبين كثير من أبناء الإسلام في هذا العالم الإسلامي؟ وما هو أثر الأخلاق والثقافة الإسلامية في بناء الشخصية المتوازنة العاملة من أجل خير البشرية، وأمنها، وأمانها، وسلامها؟

    هؤلاء الغربيون الذين يعتنقون الإسلام في كل يوم إنما يفعلون هذا بعد اطلاع واسع على مفاهيم الإسلام، وثقافته، ومواقفه من قضايا الأفراد والشعوب قديمًا وحديثًا.. وهم إنما يفعلون ذلك بفعل تأثرهم بعدله، وعدالته، وحُسن تفهمه لمشكلات الفرد والجماعة، وحرصه على حل هذه المشكلات حلاًّ عمليًّا مقنعًا، وحرصه بالتالي على سعادة الفرد والجماعة في إطار حرص شديد على سعادة البشرية لأن رسول الهدى لم يُرسَل إلى هذه الأمة وحدها، وإنما أُرسل رحمةً للعالمين، ولم يُرسَل إلى العرب وحدهم، وإنما أُرسِل إلى الناس كافة.

    شيء آخر يؤدي بهؤلاء إلى اعتناق الإسلام هو اختلاطهم ببعض المتنورين المثقفين من ذوي الاختصاص من أبنائه، وتأثرهم بهذه النخب من المفكرين الإسلاميين الذين أخذوا طريقهم إلى بلاد الغرب لهذا السبب أو ذاك، وما زالوا يفعلون... هذه العلاقات، والصداقات، والنشاطات، والكتابات، والمحاضرات، والمراكز الثقافية التي أقاموها في كثير من حواضر الغرب ومدنه كان لها أثر كبير في تبادل الثقافات، وكانت سببًا- بالتالي- في دخول كثير من أولئك الغربيين في الإسلام.

    إضافة إلى هذين العاملين وجدنا قسمًا من أولئك الغربيين قد توصلوا بجهودهم الذاتية، وبتجاربهم، وتأملاتهم، أو في مختبراتهم، ومراكز أبحاثهم إلى بداية الطريق، ومن ثم واصلوا السير، وتابعوا البحث عن الحقيقة حتى وجدوها؛ فكان لهم في النهاية ما أدخل الطمأنينة إلى قلوبهم التي عمرها اليقين.

    على أن كثيرًا من أولئك إنما فعلوا ذلك رغبةً في التغيير، ومن باب الاستطلاع في بادئ الأمر، ثم استحسنوا ما فعلوا، وازداد تمسكهم به بعد مزيد من الاطلاع والفهم... ولا ريب في أن هنالك أسبابًا لا نعلمها.. هم يعلمونها.. فالأسباب كثيرة، والنتيجة واحدة.. أما السر في ذلك فهو إعمال العقل، والسعي وراء الحقيقة، والإيمان  بها عند حدوث القناعة، وتوافر الاقتناع الذي أدى إليه العقل دون أدنى شعور بالحرج أو التردد.

    والفرق كبير بين هؤلاء الغربيين الذين أنارت قلوبهم وبصائرهم شمسُ الحقيقة، فحددوا مواقفهم، وصدعوا بأفكارهم، وجاهروا بها غير هيّابين أو وجلين، وبين كثير من أبناء الإسلام في هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف ممن تنكّروا لمبادئهم ومعتقداتهم وثقافتهم وتاريخهم، وراحوا يرددون كلماتٍ وشعاراتٍ بعيدةً عن هذه المبادئ والمعتقدات.. بعيدة عن المعاني السامية مما تشتمل عليه ثقافتهم، وينطق به تاريخهم... الفرق كبير بين هؤلاء الغربيين الذين دفعهم هذا الاستقلال في شخصياتهم، إلى الجري وراء الحقيقة المجردة، والسعي خلف نور اليقين الساطع، وهؤلاء الشرقيين الذين صرفتهم التبعية للآخرين، والانقياد لرغباتهم عن هذه الحقيقة، وأعمت أبصارهم وبصائرهم عن نورها الساطع... نحن-يقينًا- لا نقول إن كل الغربيين كتلك النخب المختارة ممن شرح الله صدورهم للإيمان، وأنار قلوبهم بشمس اليقين.. ولا نقول أيضًا إن كل الشرقيين كتلك الشراذم التي عميت منها القلوب، فضلّت سواء السبيل.

    إن أثر الأخلاق في بناء الشخصية المتوازنة العاملة من أجل خدمة قضاياها، ومن أجل عزة  أمتها، ومن أجل انتصار مبادئ الحق والعدل والمساواة، ومن أجل خير البشرية، وأمنها، وأمانها وسلامها.. وإن أثر الثقافة المتوازنة الأصيلة في صنع النماذج البشرية السوية العاملة من أجل ذلك كله، وكثير غيره هي آثار لا يمكن تجاهل دورها الفعال في بناء المواطنين والأوطان في كافة بقاع الأرض بناءً سليمًا متوازنًا قائمًا على الحق والعدل والمحبة والتعاون والسلام.. بعيدًا عن الاستعباد والاستبداد والاستعلاء والاستكبار والظلم والعدوان .

    وإن أثرَ الأخلاق في بناء الشخصية السوية المؤمنة بمبادئ الحق والخير والجمال هو أثر كبير لا يمكن أن يرقى إليه أدنى شك.. فليس من المعقول أن تقدم مثل هذه الشخصية على الكذب.. وليس من المعقول أن تقدم على الافتراءات الباطلة، وإلصاق التهم بالآخرين، والاعتداء عليهم، والإساءة إليهم بدافع الكراهية، والحسد، والغيرة المدمرة العمياء.. وليس من المعقول أن تقدم مثل هذه الشخصية على الإساءة للوطن أو المواطن.. ولا يمكن أن تستسيغ مثل هذه الشخصية أي لون من ألوان الفساد، والإفساد، والعدوان على الناس، والتمييز بينهم، وإلحاق الأذى والضرر بهم، ونشر الشائعة بين صفوفهم بهدف إرباكهم، وصرفهم عن أهدافهم في العمل والتطور والبناء والاستقرار.

    وفقنا الله، وصرف عنا كل سوء، وجنّبنا مواطن الزلل، ووقانا شرور أنفسنا، وشرور ما فعل السفهاء منا، وثبتنا على قول كلمة الحق، وتوّج أعمالنا بالقبول، إنه أكرم مسئول.

23/4/2009

   

   

 


الاثنين، ٢٠ نيسان ٢٠٠٩

نتانياهو.. وحلّ الدولتين

نتانياهو.. وحلّ الدولتين

أ.عدنان السمان

www.asamman.co.nr

    لعل من أبسط ثوابت منظمة التحرير الفلسطينية قبل تعديل ميثاقها، وبعد التعديل أيضًا أن الأرض العربية المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة هي أراض فلسطينية احتُلت في العام سبعة وستين، وأن الحديث عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إنما يجري عن إقامة هذه الدولة في هذه الأراضي كاملة غير منقوصة أي في حدود الرابع من حزيران من ذلك العام.

    ولعل من أبسط ثوابت الشعب العربي الفلسطيني هنا على أرض الوطن، وهناك في مواطن اللجوء والتشرد والاغتراب أن حق العودة وفق القرار(194) أمر لا بدّ منه لحل القضية الفلسطينية، كما أن عودة القدس حرةً عربيةً كما كانت يوم الرابع من حزيران أمر لا بد منه أيضًا عند الحديث عن أي حل لهذه القضية التي آن لها أن تُحل حلاًّ عادلاً يحقق الحد الأدنى من طموحات الفلسطينيين وأهدافهم.

    هذه هي ثوابت الشعب العربي الفلسطيني، وثوابت منظمة التحرير الفلسطينية إذن .. دولة فلسطينية مستقلة في حدود الرابع من حزيران، وعودة المهجّرين اللاجئين الفلسطينيين الذين أُخرجوا من ديارهم في العام ثمانية وأربعين إلى هذه الديار.

    وعندما يوافق الفلسطينيون على حل كهذا، فإنهم إنما يوافقون على دولة عربية لا تتجاوز مساحتها (6257) كيلومترًا مربعًا من أصل (27009) هي مساحة فلسطين التاريخية في الوقت الذي ضمن لهم قرار التقسيم الذي يحمل الرقم(181) والصادر في 29/11/1947دولة مساحتها (11884) كيلو مترًا مربعًا، والفرق كبير بين الرقمين، ومع ذلك فإن الغالبية الساحقة من الفلسطينيين توافق على هذا الحل الذي توافق عليه منظمة التحرير، وفصائلها، وتوافق عليه أيضًا كافة فصائل الشعب الفلسطيني إن لم أكن مخطئًا.

    الغالبية الساحقة من الفلسطينيين إذن توافق على دولة عربية فلسطينية في حدود الرابع من حزيران فقط، على أن يعود اللاجئون والمهجرون الفلسطينيون إلى ديارهم، وعلى أن تعود القدس حرةً عربيةً كما كانت قبل الخامس من حزيران.. والغالبية الساحقة من الفلسطينيين مستعدة للبدء فورًا في وضع ترتيبات هذا الحل وإجراءاته موضع التنفيذ، والتوصل إلى حل نهائي لأكثر قضايا العصر تعقيدًا خلال فترة زمنية قصيرة.

    كل من يعنيهم أمر الحق والعدل والحرية والسلام في هذا العالم مدعوون للتحقق من صدق هذه الأقوال: الرباعية الدولية، والولايات المتحدة الأمريكية بإدارتها الجديدة إدارة الرئيس برّاك أوباما، والدول الصناعية، وروسيا، ومجلس الأمن الدولي، وتركيا، ومنظمة المؤتمر الإسلامي.. كل هؤلاء مدعوون لإجراء مايرونه من استفتاءات يقفون من خلالها على ما يريده أبناء شعب فلسطين العربي داخل فلسطين وخارجها.. وكل هؤلاء مدعوون للتحقق من صحة ماأقول: إن الفلسطينيين يريدون دولة مستقلة ذات سيادة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام سبعة وستين تكون القدس العربية بكاملها عاصمة لها على أن يعود اللاجئون والمهجَّرون الفلسطينيون إلى ديارهم التي أخرجوا منها في العام ثمانية وأربعين.

    هكذا يفهم الفلسطينيون حل الدولتين بعيدًا عن المزايدات، وبعيدًا عن الغلوّ والإسفاف.. لا يريدون أكثر من ذلك ولا أقل.. فكيف يفهم نتانياهو حل الدولتين؟ وما الذي يريده من الفلسطينيين وهو يطلب منهم الاعتراف بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي؟ وهل اختلف نتانياهو في ذلك كثيرًا أو قليلاً عن سابقيه؟

    بعد أن وضع الرئيس الأمريكي أوباما في اعتباره حل الدولتين، وبعد أن راح مبعوثه جورج ميتشيل يذرع المنطقة بحثًا عن فرص نجاح الحل راح نتانياهو (يوم أمس) يطلب من الفلسطينيين الاعتراف ب"إسرائيل" دولةً لليهود، كي يتكرم بدراسة مطلبهم بإقامة دولة لهم إلى جانب إسرائيل!! بمعنى أن نتانياهو بعد أن ضمن اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل بعد توقيع اتفاقات أوسلو آنذاك بمشاركة سابقيه من حكام إسرائيل راح اليوم يدخل المرحلة التالية، وهي الاعتراف بإسرائيل دولةً لليهود... بن غوريون الذي أعلن قيام إسرائيل في الخامس عشر من أيار عام 48 قال ( وهو يوجه انتقاداته لبلفور الذي لم يَعِد اليهود بكل أرض إسرائيل) إن مسئولية ذلك تقع على عاتق الأجيال مستقبلاً، وإلى أن يتم ذلك فلنبحث عن حل اقتصادي تاركين تحقيق الهدف للظروف!!

    بعد الاعتراف بإسرائيل، يريد نتانياهو اليوم من الفلسطينيين أن يعترفوا بها صراحةً ( لا ضمنًا كما كانت الحال في أيام سابقيه) دولةً لليهود فقط ليتمكن من إخراج الأقلية العربية منها والبالغ تعدادها مليونًا ونصف المليون من الفلسطينيين العرب يريد نتانياهو أن يقذف بهم إلى كانتونات الضفة الغربية التي يحكمها المستوطنون ضمن هذا الحل الذي يراه، بل الذي يرونه: دولة يهودية نقية هي إسرائيل، ودولة للمستوطنين في يهودا والسامرة يحشرون في كانتوناتها المحاصرة المغلقة سكانها مضافًا إليهم هذه الأقلية العربية التي يزعجهم وجودها في "إسرائيل" ضمن حل اقتصادي يروّجون من خلاله لهذه الخطوة الرهيبة التي يخطونها على طريق إبعاد الفلسطينيين جميعًا عن كل فلسطين على مراحل.

    إن نتانياهو، وسائر غلاة اليمين المتشدد في "إسرائيل" لا يختلفون عن سابقيهم منذ قيام الدولة العبرية، وإن هذه الخلافات الشكلية التي تظهر بين الحين والآخر، ومن حزبٍ إلى حزب إن هي إلا أمور تكتيكية تقتضيها طبيعة المراحل، وظروف العمل، وإدارة الصراع.

    إن الأهداف الحقيقية للحركة الصهيونية واضحة كل الوضوح في فلسطين، وفي كل أرض العرب، وبلاد المسلمين... مخطئٌ من يعتقد أن نتانياهو أسوأ من سابقيه، ومخطئ من يعتقد أيضًا أنه أفضل من سواه!! ومخطئ من يعتقد أن العيب في نتانياهو أو في غيره من قادة إسرائيل لأن الراعي إذا كان عدوًّا للغنم فإن الذئاب لا تُلام.. ومخطئ من يعتقد أيضًا أن الحل العادل الدائم المشرّف المقنع، أو حلّ الدولتين المتكافئتين المتجاورتين، او حل الدولة الديمقراطية التي يعيش فيها كل سكانها من العرب واليهود بأمن وسلام ووئام من الممكن أن يتحقق على يدي نتانياهو أو سواه بعيدًا عن طبيعة الطرف الآخر، أو الأطراف الأخرى لأن الشاعر كان في حالة كهذه عندما أطلق حكمته: يا طالبَ النصرِ مِن أعداكَ مت كمدًا//كطالب الشهد من أنياب ثعبانِ.

    مخطئ من يعتقد أن العرب الفلسطينيين من الممكن أن يخرجوا تحت أي ظرف من الظروف مما تبقى لهم من مدن وقرى وأراضٍ في بلادهم.. ومخطئ من يعتقد أن المستوطنين من الممكن أن يخرجوا من مستوطناتهم في الضفة الغربية.. ومخطئ من يعتقد أنهم من الممكن أن يتعايشوا مع سكانها العرب الفلسطينيين لأسباب راسخة في عقولهم وقلوبهم ونفوسهم.. ومخطئ أيضًا من يعتقد  أن من الممكن دوام الحال على ما هي عليه لأن هذا مخالف لطبيعة الأمور والأشياء.. ولأن دوام الحال من المحال.. فأين هو الحل؟ وأين هو حل الدولتين؟

    أغلب الظن أن الحل ممكن إذا فهمت الدنيا هذه الحقائق، فراحت تقف إلى جانب الحق، وراحت تأخذ على يد الظالم المتعنت المستكبر، ولكن قبل ذلك إذا تنبّه الغافل من غفلته، وأفاق النائم من نومته التي طالت حتى حسبها الناس موتًا لأنه: من يهن يسهل الهوان عليه// ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ!!

ولأنه: أعدى عدوِّكَ أدنى مَن وثقتَ به// فصاحب الناس واصحبهم على دَخَلِ!!

18/4/2009

 

   

 


(بهذا نكون قد وضعنا بين أيدي القّراء الكرام كتاب زمن التيه بقسميه الأول والثاني)

وإلى الملتقى في كتاب آخر.


(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

40. آمال

 

                                              بقلم :عدنان السمان

آمــــال

 

    استبدت به الرغبة الجامحة، واضطرمت في صدره نيران الرغبة المستعرة، فهب من مكانه وهو ممتلىء تصميمًا وعزمًا على تحطيم جدار الصمت الذي يكاد يسحق روحه سحقًا، ويمزق كيانه تمزيقًا.. وسار في الطريق وهو يبذل مجهودًا عنيفًا للسيطرة على أعصابه.. بينما أخذت صور الماضي وأطياف الذكريات تتدافع في رأسه مهوشة دونما ترتيب أو انتظام، وأحس بالاختناق، وشعر كأن يدًا قوية تطبق على عنقه، فراحت يده تبحث في جيبه عن منديله، وارتفعت تجفف ما يتصبب على كل وجهه من عرق، ولم يطل به السير حتى وصل البيت الذي يعرفه جيِّدًا، وراح بصره يبحث عن "آمال".. ولما لم يجد لها أثرًا ارتفع صوته يناديها، فجاءه صوتها من الحمام خفيفًا كنجوى حبيب.. رقيقًا كنسمة صيف.. فجلس ينتظر مقدمها بعد انتهائها من الحمام، واسترخى على كرسيه المريح، وأغمض عينيه، وأطلق لتصوراته العنان.

    "كل شيء يتغير" بل يبدو أن التغيير هو طبيعة الأشياء كل الأشياء.. حتى آمال تغيرت هي الأخرى، وأصبحت تعاملني بعير قليل من التحفظ واصطناع الحياء.. إنها الآن تستحمم، وعليّ أن أنتظر، ويطول أو يقصر الانتظار تبعًا لرغبتها بطبيعة الحال!! إن الأمر يبدو طبيعيًّا جدًّا مع أي إنسان غير آمال، ولكن الأمر معها بالذات يختلف تمامًا، وهو يدعو إلى السخرية والاستغراب.

    إنني أدرك تمامًا أنها تصطنع الحواجز اصطناعًا، ولكن مثلي لن ينطلي عليه شيء، فكل أساليبها مكشوفة، وهي لن تستطيع الثبات طويلاً أمام إصراري على المعرفة والوصول إلى اليقين... إنها تتجاهل كل شيء.. تتجاهل طفولتنا.. وتتناسى أننا نشأنا معًا لا يفرق بيننا شيء.. غريب أمر هذه الفتاة المكابرة! إنها تحيرني، وإنني أخشى أن تكون هذه الحسناء قد أحبت أحد الشباب.. لا، إنني لا أستطيع رؤية "آمال" وهي تلتقي شابًّا آخر في هذا البيت لتمارس معه الحب منطلقًا من كل  قيد بعيدًا عن كل عين!! لا بد أن أمنع ذلك مهما كلفني الأمر.. يجب أن تفهم أنها لي، وأن أحدًا لن يشاركني حبها، ولن يقاسمني ودها.. سأفعل كل شيء من أجل امتلاكها، وإذا سمحتُ لها أن تنطلق مع شبابها ورغباتها فلن أحظى بها.. وسوف تفلت مني إلى الأبد.. لقد عشنا معًا نأكل ونلهو ونلعب وننام... ونقضي أجمل الأوقات في المياه الباردة خلال فصول الصيف الحارة.. حقًّا إن كل شيء يتغير.. فأنا قد كبرت وأنهيت دراستي.. ولم أعد طفلاً بريئًا كما يقولون.. وها هي "آمال" الأمس تصبح هذه الأيام فتاة ممتلئة الجسم والصدر طويلة الساقين جميلة!! فلن تكون لغيري، لن تكون.

    خرجت آمال من الحمام مشرقة متألقة كأجمل ما تكون الكواعب الحسان.. وما إن وقع عليه بصرها حتى اضطربت، وازداد وجهها حمرةً، وفجأة شحب وجهها، وبدا خاليًا من التعبير، واقتربت منه في ثقة،وحيته بأدب بالغ، وجلست إلى جانبه مطمئنة كأهدأ ما يكون حمل وديع، وبدت بسكون نفسها وهدوئها سيدة الموقف.. فازداد اضطراب سمير، وبدا شديد القلق والارتباك، ولكن الصمت لم يطل، إذ لملم سمير أطراف شجاعته، وحاول أن يظهر أكثر هدوءًا وتركيزًا، ورفع عينيه إلى آمال التي أدركت تمامًا ما يعني.

    لقد قرأتْ على وجهه كل ما يريد قوله، فأيقنت أنه لن يكف عن ملاحقتها، لا لأنه يحبها فحسب، ولكن لأنه يعشقها ويشتهيها، وأن عشقه العنيف هذا هو الذي أتى به إلى بيتها رغم جفائها الواضح، وتحفظها الظاهر إزاء ملاحقته المستمرة، والتقت عيونهما لحظات همَّ سمير خلالها بالكلام، ولكن "آمال" سبقته إليه: "اسمع يا سمير، إني لست غبية، ولقد علمتني الحياة خلال أعوام قليلة دروسًا كبيرة، وإنني عليمة تمامًا بحقيقة شعورك نحوي، وإنني أؤكد لك أنني أحترمك، كما أحترم والدتك.. فأنتم الذين أحسنتم إليّ، وفتحتم في وجهي بيتكم، وإنني أدرك تمامًا أن طفولتنا المشتركة، وعيشنا معًا قد ترك في نفس كل منا أثرًا أو  آثارًا من الصعب التخلص منها، وهذا ما سيجعلني اليوم صريحةً معك إلى أبعد الحدود.. إن المرأة لا يمكن أن يخفى عليها أمر رجل يحبها، وأعتقد أن الأمر كذلك بالنسبة للرجل أيضًا، وعليه فإني مؤمنة بأنك تحبني، ولكن ثق يا سمير أن هناك كثيرًا من العقبات والصعاب تعترض هذا الحب. لقد تهربت منك كثيرًا، وحاولت أن أكون جافة معك، لأصدك عني، ولأبعدك عن طريقي، أتدري لماذا حدث كل ذلك؟ لأنني لا أريد لك أن تتألم.. لا أريد لك أن تتحطم، إنك تفكر في الزواج مني.. وبصراحة فإن هيامك بي لم يتح لك أن تعرف الحقيقة التي أخفتها عنك أمك، لعطفها علي وثقتها بي، ولكن يبدو أنها كانت مخطئة، كان يجب أن تعلم بنفسك، ولكنك لم تفعل... أقول لك يا سمير إن الناس في مجتمعنا يحاسبون الفتاة، ويحكمون عليها في كثير من الحالات من خلال أمها، وأين هي أمي؟ لماذا أقضي معظم  وقتي في بيتكم بجوار أمك الطيبة؟ إنك لا تعلم كم كنت تسبب لي من ألم وإحراج بسبب ملاحقتك لي، ولا سيما في بيتكم الذي ما استطعت يومًا أن أستغني عنه، ولا تعلم كم ذرفت من دموع نتيجة لذلك، فإنني لا أستطيع العيش وحيدة في بيتنا هذا، فأمي لا تمر به إلا لمامًا، لقد تركتني – كما  تعلم- منذ زمن طويل، أعاني مشقة الحياة وحدي لتمارس حريتها المفتوحة معه، مع الإنسان الذي ضحّت بزوجها، ثم بابنتها من أجله، مع عشيقها… إنها أنانية وقاسية، رغم محاولتها الظهور على خلاف ذلك، إنها مخادعة لبقة تستطيع فرض احترامها على محدثها.. هل فهمت الحقيقة الآن يا سمير؟ فهي ليست متزوجة في إحدى المدن كما كنت تعتقد، إنني لا أكرهك، فأنا لا أقوى على ذلك، ولكني أحرص عليك، وأخشى على قلبك الطيب من الصدمات.

    انتهت آمال من حديثها، وساد المكان صمت مطبق، بينما ترقرق الدمع في العيون الشابة الحزينة، لقد أحبها سمير حبًّا ملك عليه عقله، وأحبته آمال حبًّا عنيفًا مغلَّفًا بجدار سميك من الصمت، ووسط جو دامع مؤثر نظر سمير إلى آمال وقال: أنا لا يهمني شيء سوى أنني أحبك.. أحببتك طفلة ثم فتاة صغيرة.. وعندما اضطررت للابتعاد عنك من أجل إتمام دراستي، كرهت الحياة وضقت ذرعًا بها، ولما عدت أذهلني ما أنت عليه من نضج واكتمال، فلم أملك سوى أن أفتتن بك، وإن كنت قد سببت لك بعض المضايقات كما تقولين، فثقي أنني لم أقصد يومًا مضايقتك، وإن ما حدث كان خارجًا عن إرادتي.. هل في حياتك أي رجل يا آمال؟

    - لا

    - هل يؤلمك ذلك؟

    - لا أدري، غير أن تجربة أمي هي التي تؤلمني.

    - من أية ناحية تؤلمك على وجه التحديد؟

    - لأنها تخلت عني، عندما كنت محتاجة إليها.

    - هل أنت حاقدة عليها؟

    - إنني مستاءة، وأشعر بالضيق في كثير من الأحيان، وأعتقد تمامًا أن أمك الطيبة تخفف عني كثيرًا من الآلام.

    - هل تكرهين الرجال؟

    - لا أدري، غير أني أشعر بأنهم أقوياء.

    وهنا اقترب منها سمير، أو اقتربت آمال منه، فتلاصق جانبا الجسدين، وقال سمير وهو يطوق كتفيها بذراعه.. لقد التقينا لنعيش معًا، إن في الوجود قيمة مطلقة هي الحب، لا نستطيع الخروج عليها، لأنها تشدنا إليها باستمرار، لن نفترق يا آمال.. ما رأيك في سمير؟

    كان طفلاً يكبرني ببضعة أعوام التجأت إليه، واحتميت به في طفولتي، ثم أصبح يعذبني في شبابي.

    - يبدو أن الأرواح المعذبة يلذ لها أن تعذب الآخرين.

    - ولكنه عذاب لذيذ.

    ووسط جو مفعم بالألم، تحوم في سمائه أطياف الذكريات، وبعد أن التقت روحان، امتدت يد، والتقى جسدان، وانهار جدار الصمت السميك، وعاد سمير إلى بيته وبين جنبيه قلب يخفق بالحياة الباسمة، عاد وأمام عينيه صورة جديدة لحياة قادمة سعيدة، حياة حلوة يحقق فيها ذاته، ويبني كيانه، ويحيا مع فتاة الأمس واليوم وكل يوم، ووصل البيت، ورأى أمه على مألوف عادتها، غارقة في الصمت وراء آلة الخياطة، واقترب منها يهمس في أذنها كلامًا.. رفعت الأم رأسها بجدية ظاهرة وقالت: ولكن لا تنس يا عزيزي أن ذلك مستحيل، فابحث عن غيرها، إنها لا تصلح لك أبدًا، ثم إنني أقول لك بأن "آمال" هي أختك في الرضاع، نعم إنني أرضعتها مذ كانت طفلة عندما كانت أمها تضطر للسفر في بعض مصالحها... وسرت في جسد سمير رعدة عنيفة، وقال هامسًا وهو يضع رأسه بين راحتيه: ولكنني أحببتها، أحببتها، لقد جاء قولك هذا متأخرًا.

(1966)

 


(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

39. السقوط

 

                                              بقلم :عدنان السمان
 

الســـــقوط

 

    أفاقت سلمى في صبيحة ذلك اليوم، على أصوات جلبة وضوضاء تصعد السلم إلى الشقة المجاورة لشقتها، ونظرت من النافذة المطلة على الشارع، فرأت سيارة كبيرة تقف وقد أجهد عمال ثلاثة أنفسهم بنقل ما فيها من أثاث منزلي إلى الشقة المجاورة لشقتها.. عندها أيقنت أنها تستقبل جيرانها الجدد.. وأدركت فجأة أن الدنيا تستقبل أول المحرم، وهذا يعني مرور عام على أقسى مأساة في حياتها.. ولبثت سلمى صامتة مطرقة في غرفتها تفكر تارةً في خيوط مأساتها، وتارةً أخرى تتناول مجلة نسائية، وتقرأ موضوعًا بعينه باهتمام كبير.. وألقت سلمى بالمجلة جانبًا ولبثت على سريرها، وكأنها فريسة حطت عليها كل هموم الأرض، وضربت رأسها كل مآسي السماء، وتمتمت سلمى بذهول، وكأنها تناجي إنسانًا بعيدًا خلف المجهول: يا أمس.. أين غاب ضياؤك، وكيف مات بهاؤك واستحال إلى ظلام؟ أين فجرك الباسم؟ أين إشراقتك العذبة؟ كنت سعيدة بك يا أمس.. كنت هادئة النفس قريرة العين تشع الفرحة في قلبي لتنير كل زواياه، ولتملأ جنباته بهجة وإشراقًا.. لقد ذهبت يا أمس.. وخلّفت لي قلبًا داميًا، وجناحًا مهيضًا.. تركتني وأسلمتني لهذا الواقع المرير تخيفني ظلمته، وترهبني دُجُنَّتُه – يا حاضري الأسود! كان وجه سلمى يتلون بهذه الكلمات، وكانت مأساتها بادية بوضوح على ذلك الوجه الجميل.. وقامت؛ فارتدت ملابسها، ومن ثم خرجت لتقضي بعض الوقت متمشية في شوارع المدينة قبل الذهاب إلى عملها في واحد من أكبر دور الأزياء. عادت سلمى في التاسعة من مساء ذلك اليوم إلى البيت، ورأت نفسها أمام باب المصعد الكهربائي للعمارة تقف إلى جانب شاب لم يتجاوز العشرين من عمره.. وعاملها الشاب بمنتهى الذوق عندما فتح باب المصعد وأشار إليها بأدب: تفضلي.

    - إلى أي دور ستصعد أنت؟

    - إلى الدور الخامس..

    - وأنا كذلك صاعدة إلى الدور الخامس، فلنصعد معًا، وصعد الاثنان.. كانت سلمى تتأمل ذلك الشاب الواقف بصمت قبالتها إلى أن قطعت حبل الصمت بقولها:

    - قل لي يا.. فقال بسرعةِ: سامح

    قالت: تشرفنا.. وأنا سلمى ويبدو أننا جيران... في هذه اللحظات كان المصعد يقف على أبواب الدور الخامس، ولم يطل سامح الوقوف.. بل اندفع نحو بيته بعد أن قال لسلمى بلسان متلعثم: ستكون أمي سعيدة برؤيتك يا آنسة سلمى.. كانت كلمات سامح خنجرًا مسمومًا أصاب قلب سلمى، وصخرة كبيرة هوت على رأسها، وبدون أن تجيب دخلت بيتها، وأوت إلى غرفتها، وقد تفجرت في صدرها ثورة من الحقد الأسود.. ورجعت بذاكرتها إلى ذلك اليوم منذ عام مضى، حين باعها أبوها لرجل يكبرها بأكثر من ثلاثين سنة، لا لشيء إلا لأنه غني "ووجيه" بين الناس.. وشعرت سلمى بالدوار وهي تعيد إلى ذاكرتها أحداث تلك الأيام السوداء.. حين كانت ترفض بإصرار، ولكن كانت إرادة الأب فوق كل إرادة.. وتذكرت أيضًا كيف لجأ أبوها إلى الحيلة عندما حضر – المأذون – ليكتب الكتاب، فلقد خاف ذلك الأب أن يكتشف المأذون معارضة ابنته في الأمر، فطلب من صديقه – الشيخ حسن – أن يبعث بابنته البلهاء لتجيب عن أسئلة – المأذون – متقمصة بذلك شخصية سلمى، يعينها على تنفيذ ذلك بعض النسوة الماكرات.. وبالتهديد تارة وباللّين أخرى تم كل شيء، وزُفَّت سلمى إلى ذلك الرجل العجوز.. وأنكى من ذلك وأدهى أنها اكتشفت فيه عيوبًا لا يمكن لفتاة أن تسكت عنها، فهو مدمن للشراب والقمار، وثبت لها أن كل همه من ذلك الزواج كان إشباع غروره من ذلك الجسم الغض الجميل ليلة واحدة، ولو كلفه ذلك ما ينفقه في شهر كامل على القمار والخليلات والشراب معًا!! ولقد دفعها ذلك دفعًا إلى احتقاره، وتنغيص عيشه ما وسعتها الحلية وأسعفتها الوسيلة، حتى بات يخافها ويخشى مَكرَها به، ومن هنا كان تغيبه المستمر عن البيت، وربما انقضى أسبوع قبل أن تضمه جدران غرفته بعضًا من ليلة أو سويعات من نهار.. ومع كل سيئات هذا الزوج إلا أنه كان يوفر لزوجته مسكنًا محترمًا، وكان يعرض عليها ما يلزمها من مال، ولكن عزة نفسها، وكرهها له، ومحاولتها التخلص من جو هذا البيت دفعها إلى العمل في هذه الدار التي تعمل فيها...

    أفاقت سلمى من ذهولها، وتناولت المجلة تقرأ فيها المقال الذي قرأته قبل ذلك مرات، لقد كان مقالاً عن المرأة وحقوقها، وقد ضمنه كاتبه فقرات مما كتبه – عباس محمود العقاد – منذ عشرات السنين تحت عنوان – عريس لا زعيم – وأخذت تتأمل كيف أن هذا الإنسان قد انسحب من – حزب الوفد – وكتب هذا المقال عندما أقدم رئيس هذا الحزب وهو في الستين من عمره على الزواج من فتاة في العشرين.. وطفقت سلمى تقول ما أشرف هذا الرجل! لقد انسحب من حزب سياسي كبير لأن زعيمه شيخ متصابئ، ليتني أستطيع الانسحاب أنا أيضًا، ولكن من "شراكة" هذا الثمل.. ولكن أنَّى لي ذلك وقد أبلغني ألف مرة أنه لن يتخلى عني، ولن يطلق سراحي، ولن يفك وثاقي؟ وهذا الشاب الوسيم يدعوني آنسة! وهو لا يعرف أنني أم، وأن ابنتي عند المرضع، يا لَلْقدر الظالم الذي حرمني من كل سعادة في الحياة، وحطم كل آمال شبابي تلك التي رافقتني طيلة سني الدراسة، وأطاح بكل أحلامي!! ولكن ماذا لو استملت هذا الشاب إليّ؟! أليس من حقي أن أعيش بعض الوقت في أحضان الشباب؟ أجل إن من حقي أن أفعل ذلك.. ولسوف أفعل ذلك.. فلا يفصلني عنه إلا برزخ من الوهم!! سأحظى به، ولسوف أقيم معه علاقة حب ومودة!! وهي لن تكون أشد إثمًا من هذا الرباط الظالم الذي يربطني بهذا الزوج الغريب!! إنني أحس أن شابًّا مثل سامح لا يكبرني بأكثر من عامين هو أقرب إلي من هذا الذي يسمونه زوجًا لأن رباطًا مقدَّسًا – كما يقولون – يربطني بحذائه!!! وأخذت سلمى منذ ذلك اليوم تسعى جاهدة للوصول إلى جنة الشباب وأحلامه السعيدة..

    زارت سلمى أسرة الشاب مرحبة بها كما تقضي بذلك أصول المجاملة، وردت أسرة الشاب الزيارة.. واطمأنت أم سامح إلى هذه الجارة الحلوة ذات الجمال المذهل، وعلمت منها أنها متزوجة، وأن زوجها من الأغنياء، وأنها قانعة بحياتها معه.. سعيدة بعيشها في حماه!! أما سامح فلقد كان لها معه شأن آخر.. فمنذ أن تبادلت الزيارة مع أهله أصبح الاحتكاك بينهما سهلاً ميسورًا.. فدأبت على إثارته، والتبسط معه في الحديث بلباقة وتكتم شديدين مستعملة في ذلك كل خداع النساء ومقدرتهن.. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى كان اللقاء بينهما في بيتها.. شاب بريء قوي كزهرة متفتحة للحياة، وسيّدة صغيرة جميلة أنضجتها الأيام قبل الأوان.. وسخّرت سلمى كل مواهبها النسائية، واستنفرت كل فاتن في جسدها البض الناعم، وتنبهت فيها كل صور الأنوثة الساحرة والفتنة الطاغية.... فأصيب سامح بالدوار، وأحس أن كابوسًا قاتلاً يجثم على صدره، فشحب وجهه، وتمنَّعَ محاولاً الخروج من البيت المغلق دون جدوى، فهرب إلى غرفة الاستقبال، وهناك على أريكةٍ طويلةٍ فخمة تمدد وهو لا يدري أفي حلمٍ هو أم أمام واقع حقيقي.. وتركته سلمى بعض الوقت لتقف من جديد أمام مرآتها، ولتضع كل ذوقها في اختيار ملابسها الداخلية، ولتضمخ جو المكان بعطر صاخب مثير.

    دخلت سلمى وهي مستعدة لجولة أخرى مع هذا الشاب، فشخص بصره إليها، ووثب قلبه وشحب لونه.... وأخذت تقترب منه بتؤدةٍ ودلال.... وابتسامة آسرة تأخذ مكانها على شفتيها القرمزيتين...... فزال شحوب سامح فجأة، واصطبغ وجهه بكل دماء الرغبة، وأدركت سلمى ذلك، واستغلت لحظة ضعفه أبشع استغلال.... وما لم تحققه لها غرفة نومٍ حققته لها أريكة استقبال..

(1966)

 

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

38التافهون

 

                                              بقلم :عدنان السمان

التافهــــون

 

    يستوقفك، ويلقاك بالتهليل والتبجيل، ويقسم لك أبلغ الأيمان أنه مشتاق إليك، يذوب وجدًا وحنينًا.. واشتياقه هذا لا يخلو من بعض العتب الرقيق لأنك تبخل عليه بزيارة ولو كل سنة، فإذا قلت له بأنك ماضٍ لبعض شأنك، وأنك تستأذن بالانصراف، أقسم أن لا انصراف إلا بعد أن تشرب القهوة بسرعة وعلى الرصيف! حتى لتحس بأن سهلا حول ولا قوة الا باللهام النقد تنصب على كل موضع في جسمك من كافة الأعين الفضولية حولك. وما إن تنصرف، وتمضي في سبيلك حتى ينقلب ذلك اللسان نفسه – وبقدرة قادر – وبدون مقدماتٍ إلى آلة عجيبةٍ تمعن فيك تهديمًا، وتود لو تسحقك وتحيلك إلى عدم، رغم أنك كائن بشري لا يزال على قيد الحياة... ورغم أنك كنت قبل دقائق معدودة بشرًا سويًّا متكاملاً يعجز ذلك اللسان نفسه عن إيفائك بعض حقك.. وبالرغم من كل عبارات الإطراء والإعجاب التي كالها بدون حساب.

    هذه نماذج غريبة شاذة كل الشذوذ، تشاهد في مجتمعاتنا بوضوح وجلاء، نماذج شبت على الضعف والخور، ورضعت لبان الدجل والمراوغة والالتواء، فنشأت مهزوزة الشخصية، بل ومزدوجتها، فترى التكلف والتصنع يلونان كل كلمة ينطق بها مثل هؤلاء، وتشم رائحة النفاق العفِن منبعثة من أفواههم، لم يحاول أحدهم أن يكون صادقًا مع نفسه ولو مرة في حياته، لم يجرب أحدهم أن ينظر إلى ذاته نظرة نقدية عله يخجل، فيقبل على بناء نفسه من جديدٍ بناء سليمًا قائمًا أولاً وقبل كل شيء على الصدق... لو عرف مثل هؤلاء معنى الصدق لكفوا عن المداهنة والدجل والنفاق، ولاستيقظ في نفوسهم معنى الرجولة، وعرفوا كيف يبرون إنسانيتهم ويرعونها ويحدبون عليها، ولاكتفى كل منهم بوجهٍ واحدٍ يقابل به العدو والصديق على السواء.. لو عرف مثل هؤلاء معنى الصدق لاكتفى كل منهم بلسانٍ واحدٍ يحركه خلق كريم يحفظ حرمة الكلمة، ويصون للحرف حقه.. لو عرف مثل هؤلاء معنى الصدق لأصبحوا أقوياء، ولتخلصوا من تلك الذبذبات والاهتزازات التي تمسخ شخصياتهم، وتأتي على كل أثر للرجولة فيها، ذلك أن الصدق الذاتي يكسب صاحبه ثقة عظيمة بالنفس، يتلاشى أمامها كل ضعفٍ واهتزازٍ.

(1968)


 

السبت، ١٨ نيسان ٢٠٠٩

في يوم الأسير الفلسطيني

في يوم الأسير الفلسطيني

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لا أُريد في هذا اليوم أن أشير إلى أعداد الأسرى الفلسطينيين الذين يوحدون شعب فلسطين العربي رغم كل خلافاته وانقساماته، ورغم كل صراعاته وتناقضاته .. ويوحدون أيضًا سائر أنحاء هذه الديار، وكل تقسيماتها، وتصنيفاتها، وأسمائها، ومسمياتها، وتواريخ وقوعها في الأسر.. هؤلاء الأسرى الذين تضيق بهم السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف والاعتقال من أقصى الوطن إلى أقصاه، حتى أن أولئك الذين احترفوا هذه المهنة يقيمون في كل عام مزيدًا من هذه السجون والمعتقلات، ويحولون كثيرًا من المباني والشقق الصغيرة والكبيرة لهذا الغرض، أو لغايات الحجز المؤقت الذي قد ينتهي بانتهاء الغاية، وقد لا ينتهي.. وإذا كانت الحكومات والدول في هذا العالم تقيم المدارس والعيادات والمشافي التي من شأنها أن توفر احتياجات المجتمعات من هذه المشافي والمدارس، فإن هؤلاء يحرصون على إقامة السجون لشعبنا عملاً بالقاعدة الذهبية التي تقول: أغلق مدرسة تفتحْ سجنًا، وليس العكس، وعملاً بالقاعدة الماسيّة التي تفجرت شعرًا على أسَلة شوقي: عجيبٌ يا طبيبُ أرى قتيلاً// ولكنْ لا أرى أثرَ الجراحِ!!

    ولا أُريد في يوم الأسير أن ألطم الخدود، وأشق الجيوب حزنًا وألمًا لوقوع كل هذه الأعداد من الأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، وكل هذه الأعداد من الشباب أيضًا في الأسر.. ليقيني أن البكاء والنواح والعويل لا يمكن أن يحرر أسيرًا، ولا يمكن أن يعيد حرّةً إلى بيتها، أو طفلاً إلى أحضان أسرته.. وليقيني أن الصراخ لا يمكن أن يضع حدًّا لمعاناة آلاف الأمهات والآباء والأخوات والإخوة الذين يقبع أحبابهم وأعزاؤهم في السجون والمعتقلات.. وليقيني أن لطم الخدود لا يمكن أن يعالج هذه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي تعصف بأسر الأسيرات والأسرى.. وليقيني أن شق الجيوب أيضًا لا يمكن أن يغلق هذا الملف الذي آن له أن يُغلق، ولا يمكن أن يحرر هؤلاء الأسرى الذين آن لهم أن يتحرروا.

    كنا في الماضي بسطاء محدودي التجارب، لا نجد( في هذا الجزء من الوطن) ما نشغل به أنفسنا – على الأغلب- سوى أحاديث هذه الأحزاب التي تروّج لأفكارها السياسية، وترسم للناس أفضل السبل لتحرير ما احتُل من فلسطين عام ثمانية وأربعين... كان الناس يتحدثون عن أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، وعن كثير من البيوت التي نسفها الإنجليز، وعن الثوار الذين كانوا يقاتلون هؤلاء الغزاة وعن الشهداء الثلاثة: عطاء الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي..وعن "الثلاثاءالحمراء" قصيدة إبراهيم طوقان في الشهداء الثلاثة.. وكان الناس يتحدثون عن أهداف الانتداب البريطاني على فلسطين، وعن الخامس عشر من أيار، وهجرة كثير من الفلسطينيين قسرًا من ديارهم وأراضيهم، وعن هذه المخيمات التي أخذت تغص بمن فيها من اللاجئين والمهجَّرين الفلسطينيين بعد أن غصت بهم المدارس والمساجد والبيوت في كثير من مدن هذا الجزء من الوطن وقراه ... ولكنّ قليلاً من هؤلاء الناس مَن كان يتحدث عن تجارب نضالية غنية تشدّ الانتباه، وتأسر القلوب، وتملأ العيون والأسماع.

     ونحن اليوم، وبعد نحو اثنين وأربعين عامًا من حرب حزيران، ووقوع هذا الجزء من الوطن في قبضة الاحتلال منذ الخامس من ذلك الشهر.. نحن شيء مختلف تمامًا.. أطفال هذا الشعب دون سن الثامنة عشرة أصبحوا فلاسفةً، وخبراء يتحدثون عن أحوال النفس الإنسانية، والسلوك الإنساني في السجون والمعتقلات، ويتحدثون عن طبيعة السجن والسجان، وعن الأمل والعمل والثبات، وعن اليأس والإحباط والألم والاعتراف، وعن مدة المحكومية، وعن التوقيف الإداري، وعن الآثار الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للتجربة الاعتقالية على الأسيرات والأسرى بخاصة، وعلى المجتمع بعامة، بما في ذلك الأسر الصغيرة والكبيرة لكل هؤلاء الأسرى والأسيرات، وآثار ذلك أيضًا على طلبة المدارس والجامعات، وعلى الشباب والشابات في سائر أنحاء هذا الوطن.

    بعد اثنين وأربعين عامًا من هزيمة حزيران تتحدث مصادر نادي الأسير عن نحو مليون فلسطيني مروا بتجارب التوقيف والاعتقال والتحقيق والحجز، وبتجارب السجن لمدد طويلة أو قصيرة... نعم، إن نسبة عالية من شعبنا العربي الفلسطيني قد مرت بهذه التجارب، وإن أعدادًا هائلة من أبناء شعبنا تقبع الآن في السجون والمعتقلات، وهذه الأعداد في ازدياد، فمتى نضع حدًّا لمعاناة أسيراتنا وأسرانا؟ متى يتحرر هؤلاء الأسرى؟ متى نغلق هذا الملف المحزن الذي أتى على استقرار هذا المجتمع؟

    لقد آن لهذا الوطن أن يتحرر، ولهذه القضية الفلسطينية أن تُحل حلاًّ عادلاً مقنعًا، ولهؤلاء اللاجئين والمهجَّرين أن يعودوا إلى ديارهم، ولهؤلاء الأسرى أن يتحرروا.. لقد آن لهذا الشعب أن يعيش في وطنه بأمان واستقرار وهدوء مثل كل شعوب الأرض.. لقد آن لهذا الشعب أن يعيش على أرضه، وأرض الآباء والأجداد حياة البناء والإعمار والاستقرار ... هذا الشعب ليس إرهابيًّا، ولم يكن في يوم من الأيام كذلك، بل إنه ضحية للإرهاب، ضحية للعدوان، ضحية للتشريد والتنكيل، ضحية لسيطرة هؤلاء وأولئك على أرضه، وعلى كل مقومات حياته ووجوده وأمنه وأمانه واستقراره.. لقد آن لهؤلاء الأسرى أن يتحرروا.

    وفي يوم الأسير الفلسطيني أقول لأسيراتنا وأسرانا، ولكل أُسرهم وأحبائهم ورفاقهم وإخوانهم، ولكل أحرار هذا الشعب وحرائره، ولكل شبابه وشوابّه: مزيدًا من الصبر والثبات والإيمان.. إن مع العسر يسرًا.. إن مع العسر يسرًا.

17/4/2009