عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الاثنين، ٢٧ تموز ٢٠٠٩

أما آن لملف الأسرى أن يُغلق؟؟

متابعات

على هامش افتتاح معرض شموع الحرية في نابلس

أما آن لملف الأسرى أن يُغلق؟؟

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    في مجمع بلدية نابلس وسط المدينة، وضمن فعاليات مهرجان نابلس للتسوق، والفعاليات الاحتفالية بالقدس عاصمةً للثقافة العربية، وتضامنًا مع "صمود" أسرانا وثباتهم نظّم مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس (ممثَّلاً بمديره الأسير المحرر فهد أبو الحاج) والهيئة العليا لمهرجان نابلس للتسوق (بمشاركة الأسير المحرر عميد الأسرى الفلسطينيين سعيد العتبة متطوعًا) معرض مهرجان "شموع الحرية" تحت شعار: الحرية لأسرى الحرية.

    يستمر المعرض ثلاثة أيام، ويشتمل على قوائم بأسماء شهداء الحركة الأسيرة، وأخرى بأسماء الأسيرات والأطفال، والأسرى ممن صدرت بحقهم أحكام عالية، كما يشتمل المعرض على تراجم لعدد من عمداء الأسرى، وعلى عدد كثير من الصور لأسرى يتعرضون للتعذيب الجسدي، إضافة لنماذج من عمل الأسرى وأشغالهم الفنية والفكرية واليدوية خلال فترة اعتقالهم واحتجازهم في سجون الاحتلال.. كما يتضمن المعرض شرحًا مفصَّلاً لمشكلات الأسرى واحتياجاتهم، مع التركيز على أسباب معاناتهم، والإجراءات التي تتخذها إدارة السجون والمعتقلات بحقهم.

    يُشار إلى أن عدد الأسرى في سجون الاحتلال يبلغ أحد عشر ألف أسير موزعين على ستة وثلاثين سجنًا ومركز توقيف واعتقال... ويمكن القول إن حصة نابلس من الأسرى قد بلغت (2500) أسير، وحصة القدس (1000) أسير، والخليل (2500) أسير، وغزة (1000) أسير، وأن أربعة آلاف أسير هي حصة باقي محافظات الوطن في جنين، وطولكرم، وقلقيلية، ورام الله والبيرة، وأريحا، وسلفيت، وطوباس، وبيت لحم، كما يُشار أيضًا إلى أن عدد أسرى الداخل الفلسطيني يبلغ مئة أسير، في حين يبلغ عدد الأسرى العرب خمسين أسيرًا.

    يقول فهد أبو الحاج مدير مركز أبو جهاد في جامعة القدس إن هذا المعرض يعتبر مرآة عاكسة لمعاناة الأسرى الفلسطينيين والعرب داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية.. مناشدًا القيادة الفلسطينية أن لا يتم إبرام أي اتفاق مع أي طرف كان إلا بإطلاق سراح هؤلاء الأسرى دون قيد أو شرط، وإغلاق هذا الملف. كما يهدي الأسير المحرر فهد أبو الحاج هذا المعرض إلى أصغر أسير فلسطيني (يوسف الزق) وإلى أقدم أسيرين فلسطينيين (نائل البرغوثي)

( وفخري البرغوثي) وإلى عميدة الأسيرات الفلسطينيات (آمنة منى) وإلى كل الأسرى الفلسطينيين والعرب.

    ويقول عميد الأسرى الفلسطينيين الأسير المحرر سعيد العتبة إن تحرير الأسرى يقف على رأس أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى رأس سلم أولويات المعركة السياسية والكفاحية التي يخوضها شعبنا العربي الفلسطيني.. إننا واثقون (يضيف العتبة) أن أي اتفاق مستقبلي سيكون مشروطًا بالإفراج عن كل أسرى الحرية، كما أننا واثقون أن الإفراج عن النساء والأطفال والمرضى والشيوخ سيتم في أقرب فرصة.. إن الضغوط التي من الممكن أن تمارسها جهات فلسطينية وعربية ودولية من الممكن أن تسرّع بالإفراج عن هؤلاء، وعن كل أسرى الحرية، وإغلاق هذا الملف الذي آن له أن يُغلق.

    إن هذا الشعب العربي الفلسطيني الذي قرر أن يسترد كافة حقوقه الوطنية المشروعة في العيش الكريم، والحرية، والتحرر، وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس العربية، قد قرر أيضًا ضرورة أن يُفرج المحتلون عن أسيراته وأسراه إذا أرادوا لهذه المسيرة السلمية أن تستمر، وإذا كانوا معنيين بالتوصل إلى السلام العادل مع الفلسطينيين.

    وإن هذا الشعب العربي الفلسطيني المتشبث بحقوقه الوطنية والتاريخية، والمتشبث بقرارات المجتمع الدولي بشأن قضيته سيظل يعمل دون توقف من أجل أن يسترد أسراه وأسيراته حقهم الطبيعي المشروع في الحياة والحرية.. إن هذه الشموع التي  احترقت لتضيء لغيرها ظلام الطريق هي شموع عزيزة غالية سيظل هذا الشعب العربي الفلسطيني يسير على دربها متلمّسًا خطاها في معارك التحرير والبناء والإعمار، وفي كافة مراحل حياته المستقبلية، وسيظل هذا الشعب العربي الفلسطيني يحتفظ بهذه الشموع في ذاكرته الوطنية لأجيال وأجيال على طول درب الحياة الطويل.

    فالحرية لأسرى الحرية.. والحياة الحياة لكل هذه الشموع التي أنارت لغيرها ظلام الليل... والإفراج السريع عن كل أسيرات هذا الوطن وأسراه، وأشباله وشيوخه ومرضاه.. وليُغلق هذا الملف، ليُغلق أيضًا ملف الاعتقال السياسي، وليغلق معه ملف كافة الأعمال العدوانية على الوطن والمواطن.. ولتُغلق كافة الأفواه التي تبث سمومها في الجسد الفلسطيني، وتشيع الفرقة والانقسام والفساد في صفوف الفلسطينيين.. وليُفتح باب العمل الجاد لتحرير الأرض والإنسان من كل عوادي الزمن، ومن كل عوامل التخلف والتبعية والاستعباد والاستبداد والاضطهاد..لقد آن لملف الأسرى والمعتقلين أن يُغلق.. ولشعبنا العربي الفلسطيني أن يعيش بأمن، وأمان، وسلام، وحرية، واحترام.

27/7/2009


الأربعاء، ٢٢ تموز ٢٠٠٩

في تناقض الثورات.. وتباين الانتفاضات والانقلابات

متابعات

في تناقض الثورات.. وتباين الانتفاضات والانقلابات

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    قبل الحديث عن عبد الناصر في هذا اليوم الثالث والعشرين من يوليو تموز، وقبل الحديث عن ثورة مصر، أو الانقلاب الأبيض الذي شهدته مصر في مثل هذا اليوم قبل سبعة وخمسين عامًا، وقبل إصدار الأحكام العامة القاسية عن بُعدٍ على مصر والمصريين منذ تلك الأيام، بل منذ ما سبق تلك الأيام من قرون، وما تبعها من عقود وصولاً إلى أيامنا هذه في أوطاننا هذه، وقبل إصدار الأحكام الجائرة على الشعوب وقياداتها في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي تلك الحقبة من التاريخ أو تلك، ينبغي أن نخوض قليلاً أو كثيرًا في هذه الثورات التي شهدها عصرنا الحديث، وفي أخطائها وتناقضاتها، وأن نخوض قليلاً أو كثيرًا في هذه الانتفاضات والانقلابات البيضاء والحمراء التي شهدها الناس، وبخاصة في بلاد العرب على امتداد القرن الماضي، وحتى أيامنا هذه.. لا بد من الخوض في هذا كله، وفي كثير أو قليل  غيره لأن الحاضر – كما يقولون- هو ابن الماضي، ووالد المستقبل، ولأن الأحكام الصائبة هي التي تصدر بعد دراسة، ونقد، وتمحيص، واطلاع واسع، يتناول هذه الفترة أو تلك من فترات التاريخ، ومن مقاطعه، وأجزائه، وجزيئاته، وسائر مكوناته، ولأن من حق الأجيال أن تفهم، ولأن من حق الشعوب أن تلم إلمامًا كافيًا بتاريخها، وسير الحوادث والأحداث على أرضها بشكل يسمح لها أن تختار، ويمكّنها من شق طريقها نحو المستقبل بثقة وعزيمة وإصرار واقتدار.. علّنا بعد هذا أو قبله نجد عذرًا لمقصر، أو مخطئ، أو لهذا الذي خذلته الحسابات، واستعصى عليه فهم هذه الاعتبارات، وربط النتائج بالأسباب والمسببات.

    في الغرب الرأسمالي دول استعمارية عانت شعوب كثيرة في هذا العالم من بطشها واستبدادها، ومن أبرز هذه الدول بريطانيا التي تمكنت من احتلال مصر قبل مئة وتسعة وعشرين عامًا (1880م) لأسباب معينة منها حماية مصالحها التجارية، وتأمين طرق مواصلاتها واتصالها بجنوب شرق آسيا، ولا سيما الهند، بعد اثنين وثمانين عامًا من غزو نابليون لمصر وفلسطين (1798م) أي قبل مئتين وأحد عشر عامًا، هذا الغزو الفرنسي لمصر والذي استمر ثلاث سنوات، قبل أن يغادر نابليون إلى فرنسا لأسباب داخلية، بعد انتحار جيوشه على أسوار عكا، وهزيمتها البرية تحت وابل من الحجارة، وقطع الصخور الكبيرة التي ألقاها المقاتلون من جبال عزون إلى الوادي، عندما حاولت هذه الجيوش اقتحام تلك الجبال في طريقها إلى نابلس.

    لقد مكّنت الثورة الصناعية (التي شهدها الغرب، وتفوَّق من خلالها على الدولة العثمانية آنذاك) دولاً غربية كثيرة من احتلال مساحات واسعة من أراضي هذه الدولة، وممتلكاتها في أقطار إفريقيا وآسيا وأوروبا، فبالإضافة إلى بريطانيا وفرنسا كانت هنالك إيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال.. حتى إذا ما كانت الحرب العالمية الأولى في العام الرابع عشر من القرن الماضي وضع الغربيون أيديهم على كافة ممتلكات ( الرجل المريض) وتمكنوا من القضاء عليه في نهاية تلك الحرب التي استمرت خمس سنوات (1914-1919) وبهذا تمكن الغرب الرأسمالي بقيادة بريطانيا من إسقاط دولة الخلافة العثمانية، واقتسام ما كان قد تبقّى من ممتلكاتها، ولا سيما في بلاد الشام والعراق، حيث سيطر الفرنسيون على سوريا ولبنان، ووضع الإنجليز أيديهم على فلسطين، وشرق الأردن، والعراق.. وبهذا تمت سيطرة الغرب ممثلاً في بريطانيا وفرنسا على ما كان قد تبقى من أرض العرب في ذلك العام.

    وفي الشرق شهد العام السابع عشر من القرن الماضي قيام الاتحاد السوفياتي الذي ضم إلى ذلك الاتحاد عددًا من الأقطار الإسلامية، وبهذا تمت سيطرة المعسكرين الرأسمالي في الغرب، والاتحاد السوفياتي (الذي كان) في الشرق على كافة الأقطار العربية، والإسلامية في آسيا وإفريقيا وأوروبا أيضًا.. أما تركيا نفسها، وفي إطار حدودها الحالية، فقد اكتفى الغرب بما أُعلن فيها لاحقًا (1924م) من إلغاءٍ للخلافة، وانتهاج نظام علماني مُوالٍ للغرب فيها.

    بغض النظر عن كثير من التفصيلات، وبصرف النظر عن كثير من التواريخ، والأسباب، والأهداف، والغايات، والتسلسلات الزمنية، فإن هذا – وباختصار شديد- هو ما حدث.. ولقد أمعن المعسكران كلاهما في نشر ثقافتهما وأفكارهما، وفي فرض نظرتهما إلى الإنسان والكون والحياة، وفي فرض نظرياتهما في السياسة والاقتصاد والاجتماع على شعوب هذه الأمة في كافة أقطارها التي باتت خاضعة لهما، ليس هذا فحسب، بل إنهما قد أخذا بالتصدي للثقافة العربية الإسلامية، وللعقيدة الإسلامية نفسها، وللتاريخ العربي الإسلامي، وكافة مقومات الشخصية العربية الإسلامية، وليس أدل على هذا كله مما فعلته فرنسا عندما ضمت إليها أرض الجزائر، معتبرةً إياها أرضًا فرنسية، شاطبةً بذلك تاريخ الجزائر، وعروبتها، وإسلامها.. ولما قال الجزائريون كلمتهم رافضين كل هذا العدوان، وكل هذا الطغيان، وكل هذا التزوير شن عليهم الفرنسيون ألوانًا من الحروب، كان آخرها تلك الحرب التي قدم الجزائريون خلالها مليون شهيد من أبنائهم خلال الثورة التي شنوها على فرنسا طيلة أعوام ثمانية (1954-1962) وانتهت باستقلال الجزائر بعد التوقيع على معاهدة (إميان) بعد احتلال دامَ مائة واثنين وثلاثين عامًا بالكمال والتمام.

    النظام السياسي والاقتصادي في الغرب الرأسمالي قائم على التناقض في الوقت الذي يُكثر مفكروه ومثقفوه وقياديوه من الحديث عن الحريات، وحقوق الإنسان، والأخلاق، ومبادئ العدل، والعدالة، والحرية، والإخاء، والمساواة.. وفي الوقت الذي لا يزال يتغنى فيه بمبادئ الثورة الفرنسية، وبتمثال الحرية، وبتاريخ مارتن لوثر كينغ، وبتعاليم السيد المسيح قبل ذلك كله.. لقد بنى هذا الغرب الرأسمالي نظامه السياسي والاقتصادي بازدواجية مرعبة: في الغرب بناءٌ، وتطوير، وتقدم، وحديث لا ينتهي عن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والنظام، والمدنية، وفي الشرق العربي الإسلامي ممارسات غربية تقوم على احتلال الأرض، والتنكيل البشع بالناس، وتخريب بلدانهم، وتدميرها، ونهب ثرواتهم، ونشر الفوضى، والفساد، والتخلف، والهمجية في بلادهم، وبين صفوفهم.. فأي ازدواجية هذه؟ وأي انفصام هذا الذي أصاب شخصية الغرب ومسلكياته في كل ديار العروبة والإسلام؟ وأي تناقض بين هذا الذي تبشر به ثوراتهم من عدل وعدالة وسلام وبناء هناك لأوطانهم ومواطنيهم، وما تنادي به، وتمارسه جهارًا نهارًا هنا بحق أوطاننا ومواطنينا؟؟

    والاتحاد السوفياتي الذي قام قبل اثنين وتسعين عامًا ليخلص الناس هناك من ظلم القياصرة، وليخلص البشرية من فساد الرأسمالية وعدوانها على الناس، وليحقق حلم الشعوب في السلام والعيش الكريم.. قام هو الآخر على التناقض، لقد انطوت الثورة البلشفية التي فجّرها الرفاق هناك على عدوان صارخ على كثير من الشعوب، وعلى مصادرةٍ لحقها في الحرية والاستقلال .. وعلى الرغم من كافة مواقف الاتحاد السوفياتي إلى جانب القضايا العربية فيما بعد، وعلى الرغم من تأييده لكثير من القادة العرب في تصديهم للامبريالية والاستعمار، وعلى الرغم من وقوفه إلى جانب عبد الناصر منذ قيام ثورة مصر في مثل هذا اليوم من عام اثنين وخمسين، وحتى رحيل عبد الناصر مسمومًا في الثامن والعشرين من أيلول من عام سبعين وتسعمائة وألف، وعلى الرغم من مواصلة الاتحاد السوفياتي بعد رحيل عبد الناصر تسليحه للجيش المصري والسوري والعراقي أيضًا، الأمر الذي مكّن المصريين بعد ذلك من عبور القناة في ظهيرة اليوم العاشر من رمضان من عام ثلاثة وسبعين، وعلى الرغم من مواصلة تأييد الاتحاد السوفياتي للقضايا العربية حتى اللحظة الأخيرة، بل وعلى الرغم من هذه العلاقة الخاصة التي تشد كثيرًا من الناس في كل ديار العروبة إلى ورثة ذلك الاتحاد في العاصمة الروسية موسكو، بسبب المواقف التاريخية المشار إليها، وبسبب وقوف هؤلاء من جديد إلى جانب كثير من العرب، وكثير من المسلمين ممن يرفضون التبعية للغرب.. إلا أن هذا كله لا يمنع من قول كلمة حق بشأن أمرين اثنين كانا قد حصلا ذات يوم وهما: أن الاتحاد السوفياتي قد ضم عددًا من الأقطار الإسلامية إليه دون وجه حق، وأن الاتحاد السوفياتي كان قد سبق غيره من دول الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن دول مجلس الأمن أيضًا إلى الاعتراف بالدولة العبرية التي أقيمت على أرض فلسطين في العام ثمانية وأربعين..  

    وإذا كان الاتحاد السوفياتي قد آل أمره إلى الزوال بعد حياة شابها كثير من التناقضات، وإذا كان ورثة ذلك الاتحاد في موسكو يحسنون صنعًا في مواقفهم تجاه قضايا العروبة والإسلام بشكل يسترعي الانتباه، ويستوجب الشكر، فإن ما يحدث في الصين ( على الرغم من كل إيجابيات بكّين) بشأن الإيغوريين من سكان تركستان الشرقية التي ضمتها الصين إليها عند قيام ثورتها في العام التاسع والأربعين من القرن الماضي لأمرٌ أكثر من مؤسف، وأكثر من مؤلم.. ألا يعيد هذا الأمر إلى الأذهان ما حدث في المجر، وما حدث في بكين نفسها ذات يوم؟ ألا يُعتبر كل هذا الذي حدث في منظومة الدول الاشتراكية مما يُقال، ومما لا يُقال دليلاً على تناقض الثورات، وازدواجية معاييرها ومقاييسها ومكاييلها؟؟

    ثم إن هذه الانتفاضات التي عشنا في هذه الديار واحدة من أشدها غرابة وشراسة، وشهدنا صورًا منها في هذا البلد أو ذاك.. هذه الانتفاضات يوحد بينها طابعها الاحتجاجي، وأسلوبها في العمل، وتشبثها بمواقفها، وجنوحها للعنف، وميلها إليه.. كما يوحّد بينها أيضًا فشلها - في معظم الأحوال- في تحقيق أهدافها، وربما عادت بالمنتفضين وطموحاتهم سنواتٍ طوالاً إلى الوراء، فباتوا نادمين على ما فعلوا، ولكن بعد فوات الأوان.. ليس هذا هو بيت القصيد هنا، وإنما المقصود أن هنالك تشابهًا بين انتفاضة وانتفاضة – كما سلف- في الوقت الذي نجد فيه تباينًا بين هذه وتلك.. وفي الوقت الذي نجد فيه اختلافًا في مواقف كثير من الناس من هذه الانتفاضات.

    الانتفاضة – بمعناها الدقيق- أن يتحرك الناس في هذه المنطقة أو تلك، أو في مناطق البلاد كلها للتعبير عن احتجاجهم، وغضبهم، أو للمجاهرة بمطالبهم السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية... والانتفاضة – في إطارها هذا – تحرُّكٌ يريد الناس من خلاله توجيه رسالة أو رسائل لقادتهم، وزعمائهم، وحكامهم، وليس إلى غزاة، أو محتلين.. الجنرال ديغول ومن معه من الفرنسيين لم "ينتفضوا" على الغزاة النازيين بعد أن احتلوا فرنسا.. ما فعله الجنرال لم يكن انتفاضة، بل مقاومة، وثورة مسلحة استهدفت إخراج النازي المحتل من البلد، وهكذا كان.. ثم إن مواقف كثير من الأفراد والدول تختلف من هذه الانتفاضات.. ففي الوقت الذي أيد فيه كثير من الأفراد، وأيدت فيه دول كثيرة كل مظاهر الاحتجاج في إيران على نتائج الانتخابات الأخيرة التي قال الخاسرون فيها إنها مزورة، لم نجد هناك من يبدي تعاطفًا مع الجياع، والمقموعين، أو مع سجناء الرأي، والمعتقد السياسي، أو الديني في كثير من بلدان هذا العالم.. بل لعل الأهواء، والمصالح الشخصية، والتبعية لكثير من الدول الغربية التي تحرك الأحداث في هذا العالم هي التي تحرك هؤلاء لتأييد تحرُّكٍ مشبوه في هذا البلد، وتجاهل تحرك آخر في ذاك.. على الرغم من أن تحرك الأول باطل، وينطوي على التدخل بأمن البلد، وأمان مواطنيه، والعبث بالسلم الأهلي والاجتماعي.. وعلى الرغم أيضًا من أن تحرك الثاني حقٌّ، وينطوي على رفع ضيم وظلم، وتوفير لقمة عيش، وحبة دواء، وإفراج عن سجناء رأي، ومعتقلين سياسيين.

    وما يقال في الانتفاضات والمنتفضين يقال أيضًا في الانقلابات والانقلابيين.. فليس كل انقلاب مصيبًا، وليس كل انقلاب خاطئًا..  الانقلاب الذي تقوم به مجموعة من الضباط، أو ينفذه حزب سياسي، أو ديني، أو حركة قومية، أو اجتماعية بهدف إنقاذ البلاد والعباد من خطر محدق، وشر مستطير له من يسمعه، ويتعاطف معه في هذا العالم.. والانقلاب الذي جاء على خلفية ضبط الأحوال، وإعادة النظام العام إلى البلد بعد أن عبثت به مجموعات من العابثين الضالين المضلين له مؤيدوه بين الناس، وله قاعدته الشعبية التي يرتكز إليها، ويستند عليها..

    في الثالث والعشرين من يوليو تموز شهدت القاهرة ثورة أو انقلابًا أبيض قاده جمال عبد الناصر الضابط الذي حارب في المنشية بفلسطين، وحوصر في الفالوجة.. غضب عبد الناصر لضياع فلسطين، وغضب للتمزق العربي، والضعف العربي، والعجز العربي، والتواطؤ العربي؛ فقرر الانتقام لفلسطين من كل أسباب الضعف والانقسام والتشرذم والهزيمة.. فكان ميلاد الجمهورية في مصر مؤذنًا ببداية عهد جديد يضع النقاط فوق الحروف، ويعيد ترتيب الأوراق بعد أن اختلطت، وبعد أن ضاع كثير منها، ويعود بالعرب إلى سابق مجدهم في عصور عزتهم وقوتهم وعنفوانهم... شحن عبد الناصر شعب مصر العربي، وشحن الشعب العربي في كافة أقطاره وأمصاره، وعلى كل أرض العرب، وقاد حركة إصلاحية ثورية عربية واسعة في مصر، وخاض معارك داخلية رهيبة ضد الإقطاع، والتبعية وسيطرة رأس المال، والتخلف والفساد.. كما خاض معارك ضارية ضد الثورة المضادة، وضد رموزها وعناصرها.. وحارب على كافة الجبهات العربية والإسلامية والعالمية لوضع مصر، ومعها كل العرب على خارطة العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وتصدّى للعدوان الثلاثي في التاسع والعشرين من أكتوبر تشرين الأول سنة ست وخمسين، وخرج منتصرًا على ذلك العدوان، وقام بسلسلة من الإصلاحات الداخلية معلنًا قناة السويس شركة عامة مصرية، كما كان قد قام بطرد القوات البريطانية التي احتلت قناة السويس لأكثر من سبعين عامًا، وكان قوامها ثمانين ألف جندي بريطاني.. وقد كان عبد الناصر من مؤسسي دول عدم الانحياز جنبًا إلى جنب مع تيتو ونهرو.. لقد بنى لمصر ولكل العرب قوة يُحسب لها ألف حساب... وتابع جمال عبد الناصر سيره على طريق النصر والتحرير وبناء الدولة الحديثة، وإقامة دولة الوحدة العربية الكبرى على كل أرض العرب حتى كان إعداد الغرب لحرب سبعة وستين بعد أن أقدم عبد الناصر على التخلص من أمر كان يزعجه منذ عام ستة وخمسين، وهو وجود قوات الأمم المتحدة في مضائق تيران... نعم لقد طرد عبد الناصر تلك القوات، فكانت فرصة الغرب التي استغلها أبشع استغلال ضد هذا القائد العربي الذي أبى إلاّ أن يقضي وهو يقارع أعداء العرب ببسالة وبرجولة لا تلين...

    كان من الطبيعي أن يتحالف الغرب ضد عبد الناصر، وكان من الطبيعي أن تتضافر جهود الغرب للتخلص من رجل بات يهدد الغرب ومصالحه في هذه الديار..فكان ما كان لأن عبد الناصر كان رجل الساعة، ولأن الغرب كل الغرب لا يريد أن يرى رجلاً قويًّا، أو دولة قوية على أرض العرب، فكيف إذا كان عبد الناصر يعمل جاهدًا من أجل إقامة المشروع العربي على كل أرض العرب، وكيف إذا كان عبد الناصر يتحرك بسرعة ونشاط في الدائرة الإسلامية التي تعتبر العالم الإسلامي كله وحدة سياسية واقتصادية، وجغرافيّة واحدة؟ وكيف إذا كان عبد الناصر يحلم في بناء عالم عربي إسلامي واحد موحّد تبلغ مساحته أكثر من ثلاثة وعشرين مليونًا من الكيلومترات المربعة، وهي مساحة تزيد قليلاً على مساحة الاتحاد السوفياتي الذي كان، وتبلغ نحو ثلاثة أضعاف مساحة الصين الشعبية، وثلاثة أضعاف مساحة الولايات المتحدة نفسها.

 

    كان ما كان.. وكانت هزيمة العام سبعة وستين... وكان الموقف الشعبي المصري والعربي في التاسع والعاشر ( الجمعة والسبت) من حزيران...وكانت عودة الفارس بقرار من أمة العرب كلها، وكان قرار إعادة بناء الجيش المصري، وقرار إسناد رئاسة الأركان إلى عبد المنعم رياض لإعادة بناء الجيش، والشروع في حرب الاستنزاف بعد ذلك.. لقد أسس عبد الناصر لانتصار الجيش المصري في حرب العاشر من رمضان عام ثلاثة وسبعين، قبل أن تغتاله الأيدي الآثمة؛ فيقضي بالسمّ في الثامن والعشرين من أيلول من العام سبعين وتسعمائة وألف.

    وهكذا قضى عبد الناصر بعد حياة حافلة بالمجد، والعمل من أجل فلسطين، ومن أجل مصر، ومن أجل الأمة العربية الواحدة الموحدة من محيطها إلى خليجها.. قضى عبد الناصر، وهو يحمل الراية العربية، وعزاء هذه الأمة أن الراية لم تسقط، وأن العرب بخير، وأن دولة الوحدة العربية الكبرى التي حلم بها عبد الناصر، ونادى بها طوال فترة حكمه هي حقيقة قائمة على كل أرض العرب من المحيط إلى الخليج.. إنها حلم كل عربي مخلص لوطنه، مخلص لعروبته، مخلص لإسلامه، مخلص لثقافته العربية الإسلامية،  ولفلسطين أرضًا وشعبًا وقضيّة.

    واستخلاصًا للعبر والدروس المستفادة من هذه التجربة الفريدة في تاريخنا الحديث أقول إنه لا شيء يضيع القدرات، ويقضي على الكفاءات والإمكانات كالحماسة الزائدة والاندفاعات، ولا شيء ينمّيها، ويدفع بها إلى الأمام بخطًى ثابتة مدروسة راسخة، كالوعي، والتبصر، والاستفادة من دروس التاريخ، واستغلالها في استنهاض الواقع، على هدًى، وبينة، وبصيرة، وإصرار على مواصلة التقدم والبناء لتحقيق الهدف المنشود.. ولا شيء يقضي على العزائم كاليأس والقنوط والإحباط، ومن هنا كان من الضروري، بل من الواجب أن يبتعد القادة بشعوبهم عن عوامل هذه الآفات، وعن أسبابها ومسبباتها بقدْر المستطاع.. أما إذا كانت مفروضة فرْضًا من قوًى ودول ليس بالإمكان مواجهتها، أو مهادنتها ومسالمتها لأنها مصرّة على المواجهة، والتخلص من هذا الوليد قبل أن يبلغ أشده، ولأنها لا تريد أن ترى في هذه الديار جيلاً قويًّا، ونظامًا كفيًّا، وقوة فاعلة في التاريخ، وصنع الأحداث؛ فليس أقل من المصارحة، والمكاشفة، وأخذ رأي الناس في كل ما حدث، وفي كل ما سيحدث.. وليكن بعد ذلك ما يكون!!

    واستخلاصًا للعبر والدروس من تجاربنا الحزبية، ومنطلقاتنا الفكرية، ومن كل الانقلابات والثورات التي شهدتها أرض العرب في تاريخنا المعاصر، ومن كل ما رافقها وصاحبها من انتصارات وهزائم، وتفاؤل وتشاؤم، ومغانم ومغارم أقول مختتمًا هذا المقال:

    لقد شهد القرن الماضي انهيار دولة الخلافة العثمانية، كما شهد تمزق كل أرض العرب والمسلمين، وقيام دول عربية ومسلمة كثيرة قد يصل عددها اليوم إلى ستين دولة. ولا يزال العدد مرشحًا للزيادة بفعل هذا التوجه الذي يستهدف تجزئة الصحيح، وتفتيت المجزَّأ.. ومن يدري فقد يصبح للعرب والمسلمين ذات يوم مئة دولة، وقد يصبح لهم أكثر من ذلك، ومع هذا فهم غثاء كغثاء السيل، لا يملكون من أمر أنفسهم وأوطانهم شيئا... لقد شاركت القوى العربية، والأحزاب العربية، ولا سيما بعد نكبة عام ثمانية وأربعين في هذه التجارب السياسية، وخاضت تجارب الانقلابات والثورات في كثير من ديار العروبة والإسلام.. ولا بد من الإشارة في هذا السياق إلى أن الحزب الوحيد (من هذه الأحزاب التي عرفتُها، وعرفها الناس قبل ستة عقود، أو يزيد) الذي لم يشارك حتى اليوم في شيء من هذا هو حزب التحرير على الرغم من أن المجال كان ولا يزال متاحًا أمامه للخوص – كغيره- في هذه التجارب، وعلى الرغم من أن الشيوعيين، والقوميين، والبعثيين، وبعض الإسلاميين وغيرهم ممن لم يحالفهم الحظ في الظهور قد خاضوا غمراتها.

    هذا الحزب قد يكون الحزب الوحيد الذي امتنع عن دخول تجربة غير مضمونة، لأنه لا يؤمن بالانقلابات العسكرية، ولأنه يريد بناء دولة تقوم على اختيار الناس، واقتناعهم بها، والاستعداد للتضحية في سبيل بنائها وبقائها، ودخول معارك التحدي بكل أشكالها وصورها بوعي وبصيرة وتبصّر وإدراك.. فهل يتاح لهذا الحزب أن يحقق هدفًا يراوده منذ ستة وخمسين عامًا؟ وهل يُتاح لهذه الأمة أن تبلور فكرًا سياسيًّا تحرريًّا لا تبعيَّة فيه لمشرق أو مغرب؟ وهل تتمكن هذه الأمة ذات يوم من تكريس وجودها، وصنع القوة الناعمة أو غير الناعمة التي تضمن لها وجودًا لائقًا بها تحت الشمس، ودورًا فاعلاً في التاريخ، بعيدًا عن الأخطاء والخطايا، وكل أسباب اليأس والتخبط والقنوط والإحباط؟

 23/7/2009 

     


الأحد، ١٩ تموز ٢٠٠٩

لغة الأديب...

 

متابعات

لغة الأديب...

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    الأدب بشقيه الواسعين شعرٌ ونثر.. والأديب هو صانع الأدب شعرًا كان أو نثرًا؛ فهو شاعر أو ناثر، وقد يجمع بينهما، فتعدّه الأوساط الأدبية شاعرًا وناثرًا، وقد يكون ناثرًا أكثر منه شاعرًا، أو شاعرًا أكثر منه ناثرًا، تحدد ذلك ميوله، وتضعه في هذا الموقع الأدبي أو ذاك أعماله الأدبية شعرها ونثرها، وقد يسلك طريق الشعر وحده، أو طريق النثر وحده، فيُعَدّ في أوساط الأدب والأدباء شاعرًا مثاليًّا، أو تقليديًّا، أو مجدِّدًا، أو محافظًا، أو ثائرًا، أو حالمًا، أو واقعيًّا، أو مبدعًا، أو مقلِّدًا، أو متفائلاً، أو متشائمًا، أو متمردًا.. وقد يُعدّ شاعرًا غنائيًّا، أو مسرحيًّا، أو روائيًّا.. وقد يُعتبر من شعراء الغزل، أو الرثاء، أو الفخر، أو الهجاء، أو الوصف... وقد تحكم هذه الأوساط على شعره بالقوة، والجزالة، والجرْس الموسيقي، والتدفق العاطفي، وسمو الخيال، وتألق الصور، وقد تحكم هذه الأوساط أيضًا بغير ذلك.. كيف لا؟ وللأدباء لغتهم الغنية بمفرداتها، وللنقاد أيضًا لغتهم الحافلة بمصطلحاتها وأحكامها واعتباراتها!!

    وأما من سلك طريق النثر، فإنه قد يُصنَّف كاتب مقال أدبي، أو نقدي، أو سياسي، أو ديني، أو تعليمي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو تثقيفي.. وقد يُعرف في أوساط ذوي الاختصاص بمقالاته المطولة، أو المختصرة، وبأسلوبه الهادئ، أو الصاخب، وبميوله اليمينية، أو اليسارية... وقد يُصنف قاصًّا، أو روائيًّا، أو مسرحيًّا، أو باحثًا، أو مؤرخًا، أو كاتب سيرة، أو خاطرة.. وقد يُعرف خطيبًا، أو واعظًا، أو مناظرًا، أو محاضرًا... والكاتب – كالشاعر- أيًّا كان لونه وحجمه، فإن ما يكتبه، وما ينطق به أيضًا يعكس بالضرورة والحتمية ثقافته، وتوجهاته، ووجهات نظره، ومدى تمكّنه من موضوعه، كما يعكس معالم شخصيته، ومدى اطلاعه، ومستوياته، وخبراته، ومنابع ثقافته، ومصادر معرفته، وطبيعة مزاجه، ونفسيته، وأخلاقياته، ومعتقداته.. وإن ما يكتبه، وما يرتجله أيضًا يعكس بأصدق لسان، وأنصع عبارة قاموسه الُّلغوي بكل ما فيه، كما يعكس أيضًا كل معالم شخصيته، وكل مكونات ثقافته، وطبيعة توجهاته.. وبالتالي مكانته الحقيقية بين الأدباء المحليين، ومكانته – بالتالي- في الآداب العالمية.

    ومهما يكن من أمر، فإن ما يعنيني هنا هو لغة الأديب، ومفرداته، وقاموسه اللغوي من خلال كتاباته ومؤلفاته، ومن خلال محاضراته، ومناظراته، ومساجلاته، ومراسلاته، وخطاباته، وكلماته في هذه الندوة، وتلك المناسبة.

    ولئن كانت آثار الأديب، وأعماله المكتوبة هي الأساس الذي يقوم عليه بناؤه الأدبي الذي يحدد مكانته وقيمته الحقيقية في عالم الأدب والفكر والفن، فإن الفنون اللسانية تقف هي الأخرى شاهدًا على ما لهذا الأديب أو ذاك من مكانة في هذه الفنون، كما تقف شاهدًا على مدى تمكّنه من لغته عندما يفرض الموقف نفسه، وعندما يجد الأديب نفسه مضطرًّا لمواجهة جمهور في ندوة أو مناظرة أو احتفال... إن الحكم الحقيقي على هذا الأديب أو ذاك يكون من خلال كلمات يلقيها، وجمل يتفوه بها في هذه المناسبة أو تلك، أو من خلال إجابته عن سؤال يتوجه به إليه صحافي يعرف كيف يدير الحوار، ويوجه الأسئلة.

    ومع ذلك، فإن أحدًا لا يمكنه شطب أعمال هذا الأديب، وإطلاق الأحكام القاسية عليه من خلال كلمات مغلوطة نطق بها في موقف ما، ذلك أن الناس في مثل هذه المواقف ليسوا سواء، فمنهم المتمرس بمثل هذه المواقف، ومنهم ذو الشخصية القادرة على المواجهة، وعلى الكلام بطلاقة في موقف يفرض نفسه.. ومنهم من لا يقوى على المواجهة، لأسباب خاصة بنشأته، ومكونات شخصيته، ومزاجه العام.. إن كثيرًا من الأدباء الكبار في عصرنا هذا كانوا يكلّفون غيرهم بإلقاء ما يكتبونه، لعجزهم عن مواجهة الناس، أو لحرجهم الشديد عندما يضطرون للمواجهة أو الظهور على الملأ، الأمر الذي يذهب بكثير من جمالية النص، بينما يضفي عليه الإلقاء الجيد جمالاً إضافيًّا نابعًا من الإلقاء، غير موجود في النص.

    هنالك أدباء يجيدون الكتابة، ولا يجيدون الإلقاء، أو الارتجال، وهناك أدباء يجيدون الإلقاء والارتجال أكثر من إجادة الكتابة.. كل هذا لأسباب يعلمها جيدًا فرسان الأدب، وصنّاع البيان، وأرباب الكلمة المكتوبة أو المرتجلة أو كليهما معًا.. وهنالك أدباء يجيدون الكتابة، ويجيدون الإلقاء، ويجيدون الارتجال أيضًا، ويبرعون في ذلك كله براعتهم في مواجهة الجمهور، وتحريك مشاعره، في إطار من اللفظ السليم، والفكر المتسلسل القويم، والمقدرة الخارقة على ممارسة سحر البيان.. وهؤلاء هم أدباء الفئة الأولى الذين يشار إليهم بالبنان، وهم النخبة المختارة من الأدباء الذين لا يُشَقُّ لهم غبار.

    يحسن بالأديب – كي يكون أديبًا- أن يجيد اللغة التي يكتب بها، أو يحاضر بها، أو يتحدث بها إلى أقرانه وتلامذته ومريديه، ومحبي أدبه وفنه وفكره.. يحسن به أن يتقن هذه اللغة، وأن يعرف معرفة تامة صرفها ونحوها وإعرابها، وأن يكون على علم تام بالإعراب كي يستقيم له زمام اللغة، وكي يتجنب اللحن في كتاباته، وفي محاضراته، وفي مناظراته، وفي مساجلاته، وفي مواعظه، وفي مناجاته، وفي تسبيحاته، وفي تحميداته.. يحسن به أن يقرأ، وأن يكتب، وأن يعيش ساعات من يومه بين أمهات الكتب، وأن يقضي مثلها أيضًا مع الأقران.. يحسن به أن يضاعف من اهتمامه بلغته لغة الأدب شعره ونثره، وأن يضاعف من اهتمامه بمفرداته، وقاموسه اللغوي، وأن يضاعف من اهتمامه بما يكتب، وبما يقول، وبما يضع من نماذج أدبية جميلة تستحق الخلود.

    وأخيرًا، فإن بإمكانك أن تكون باحثًا، أو مؤرخًا، أو مؤلفًا، أو مثقَّفًا، أو كاتب عمود، أو زاوية في هذه المطبوعة أو تلك، وقد تكون هذا كله.. ولكنّك لن تكون أديبًا إلا إذا أضفت إلى كل هذا اهتمامًا خاصًّا بلغتك العربية تضبط معه قلمك ولسانك، وتربأ معه بنفسك عن اللحن، وتضاعف معه مفرداتك، وتثري بذلك كله قاموسك اللغوي الذي كلما أثريته وسموت به اقتربت أكثر من مراتب الكمال الأدبي.

19/7/2009

 


الخميس، ١٦ تموز ٢٠٠٩

ما وراءَ هذه التسميات..مِن أهدافٍ ودلالات...

متابعات

ما وراءَ هذه التسميات..مِن أهدافٍ ودلالات...

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    وراء قرار وزير المواصلات الإسرائيلي شطب أسماء المدن والبلدات العربية، واستبدالها بأسماء ومسميات عبرية من نسج الخيال.. وإبرازها على فوهات الدروب، و الشوارع الرئيسة، وعلى مفترقات الطرق، هناك في الجليل، والمثلث، والنقب، والسهل الساحلي، وفي القدس أيضًا دلالاتٌ وأهداف كثيرة..

    ومن هذه الدلالات، أن أولئك الذين يريدون أن تكون هذه البلاد دولةً خالصة لهم من دون الناس، ماضون في تنفيذ هذه المخططات، بشتى الوسائل، وعلى كل الصعد والمستويات، دون أدنى اكتراث بمشاعر أهل هذه البلاد، وسكانها الأصليين، ودون أدنى التفات للرأي العام العربي، والإسلامي، والعالمي، ودون أدنى اعتبار لطبيعة المشاعر العربية، والأحاسيس العربية، والثقافة العربية الإسلامية، ودون أدنى اعتبار أيضًا لمتطلبات السلام ومستلزماته، ولدواعي الأمن وضروراته، ودون أدنى تبصّر بعواقب ما قد تنطوي عليه كل هذه الإجراءات، وكل هذه الاستفزازات، وكل هذا التجاهل لحقوق الآخرين، وكل هذا الاستخفاف بمشاعرهم، والتنكر لأبسط مبادئ حقوق الإنسان، في عصر الحريات، وزمن الدموقراطيات، وعهود الاستقلال، والسيادة، وتقرير المصير التي يتشدق بها المتشدقون، ويتغنى بها المنظّرون والمهربون والمهرجون والمزورون والمحتالون ممن وضعوا أيديهم على مقدّرات كثير من الشعوب، واستباحوا أوطانها، وأذلّوا إنسانها، ودمروا بنيانها، ونهبوا خيراتها، وصادروا حرياتها، وفعلوا بها الأفاعيل، وقلبوا حياة إنسانها جحيمًا لا يُطاق!!

    ومن هذه الدلالات أن تحولاً مرعبًا نحو التطرف والتعصب والتصلّب في النظرية والموقف والتطبيق قد طرأ على "المجتمع" هناك، وقد بدأ المراقبون والمحللون يشاهدون البدايات الأولى لهذا التحول في أعقاب توقيع اتفاقات كامب ديفيد، ليزداد هذا التحول حدَّةً بعد أوسلو، ووادي عربة، وليبلغ ذروته بحصار الرئيس الراحل ياسر عرفات.. ثم لينتهي بعد ذلك كل شيء، وتصبح لهجة التطرف والتعصب وتجريد الفلسطينيين من أبسط حقوقهم في الدولة والعودة والقدس هي اللهجة السائدة، والصوت الوحيد الذي لا يكاد يُسمع غيره هناك… ورب قائل يقول إن الذي أبرم اتفاقات كامب ديفيد هو اليمين، وهذا القول صحيح، وصحيح أن المعسكرين الكبيرين هناك قد اشتركا في عقد تلك الاتفاقات، وإبرام تلك المعاهدات، وصنع ذلك "السلام" ولكن صحيحٌ أيضًا أن الأمور تبقى في أغلب الأحوال نسبيّة، فاليمين الذي كان يتلهف على توقيع معاهدة مع مصر بأي ثمن، ليس هو اليمين الذي يتهرب من صنع السلام مع الفلسطينيين بأي ثمن، وليس هو اليمين الذي يعلن صراحةً شروطه لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وعلى رأس هذه الشروط تنازل الفلسطينيين عن حقهم في القدس، وعن حقهم في العودة، وعن حقهم في الدولة، وعن حقهم في العيش بكرامة، بل إن على رأس تلك الشروط أيضًا أن يعترف الجانب الفلسطيني بيهودية تلك الدولة التي أُقيمت هناك قبل أكثر من ستة عقود!!

    ومن تلك الدلالات أيضًا إصرار أولئك على أن تكون تلك الدولة خالية من "الشوائب"، ليحشروا في الضفة الغربية (يهودا والسامرة) كل ما يستطيعون من فلسطينيي الجليل والمثلث والنقب، إلى جانب أهل هذه المناطق، وإلى جانب المستوطنين أيضًا، وربما أحضروا بضعة آلاف من مهجَّري الشتات لإسقاط حق العودة نهائيًّا بدعوى أنهم قد نَفَّذوه! وهكذا لتصبح فلسطين التاريخية كلها بعد بضعة أعوام دولتهم اليهودية التي حلم بها هرتزل، وأقامها بن غوريون، وأعاد تشكيلها نتانياهو، وحلم بتوسعتها ليبرمن لتجاور موطنه الأصلي، ولتبتلع لاحقًا كل جمهوريات الاتحاد السوفياتي الذي كان!!

    ولعل من تلك الدلالات استهانة أولئك بكل أعداء الأمس بعد أن دخلت غالبيتهم في العهد الجديد الذي يحرم الحروب وسفك الدماء، هذه الاستهانة التي جاءت بعد أن خبروا (هؤلاء الخصوم)، ووقفوا على حقيقة أمرهم، فاستخفوا بهم كل هذا الاستخفاف الذي يصل حد نكران وجودهم، والتنكر لأبسط حقوقهم في العيش الكريم، وعليه فإن أولئك قد باتوا يعتقدون أنهم بقليل من الإصرار والعناد والمراوغة يستطيعون  تحقيق كل ما يريدون دون أن يقدموا شيئًا ذا بال لألئك الذين هانت عليهم أنفسهم، فهانوا على الناس.

    وما من شك في أن الغرور يفعل فعله في كثير من الأحيان، ويزين لصاحبه سوء تصرفه.. ذلك أن المغرور لا يكاد يرى إلا نفسه، ولا يكاد يسمع غير صوته.. وأن الغرور يمنعه من رؤية الحقائق، ويصرفه عن التفكير السليم بالعواقب، ويوقعه ذات يوم في شرور نفسه، وسيّئات أعماله… ولا ننسى أيضًا أن الطمع والجشع والوهم والخرافة التي تتمكن من هذا أو ذاك تأتي على بصره، وعلى بصيرته، وعلى حُسن تقدير الأمور لديه، فيضل لهذه الأسباب وتلك ضلالاً بعيدًا، وتكون النتيجة أنه في يوم ما، وساعة ما يخسر كل شيء، ويمضي غير مأسوف عليه؛ فقد أراح واستراح.

    ولما كانت الدلالاتُ مؤشراتٍ على الأهداف والغايات؛ فإن هذه الدلالات كلها، وكثير غيرها، مما نعرف، ومما لا نعرف، تشير إلى أهداف أولئك وغاياتهم في فرض السيطرة المطلقة على كل "أرضهم" التي منحهم إياها الرب يوم أن خلق هذا الوجود، ولما كانت هذه الأرض غير واضحة، وغير محددة المعالم، وإنما تختلف من منظّر إلى منظّر، ومن عصر إلى عصر، وحال إلى حال، ومن كتاب إلى كتاب؛ فإن أسلوب المراحل يبقى سيد الموقف، ويبقى المجال مفتوحًا أمام الأجيال كي يفعل كل جيل ما بوسعه أن يفعل، إلى أن يبلغ مشروعهم ( الذي بدأوه قبل ستة عقود) أشده، ويكتمل بذلك الحلم الجميل في السيطرة على هذا الكون بأسره، ومَن أحق منهم بذلك وهم خيرة الناس، وأحب خلق الله إليه، وأقواهم على طاعته. وإنجاز أوامره، وتنفيذ رغبته في حكم هذا الكون بدون أدنى منافس؟!!

    وبعد،

    فهل يعتقد أولئك أن بإمكانهم أن يحققوا كل ذلك؟ وهل فكروا بعواقب كل هذه الأفكار، وكل هذه الممارسات والتفوهات التي يقرعون بها رؤوسنا صباح مساء؟ وهل يعتقد وزير المواصلات هناك أن ما يقرره ويفعله هو الصواب؟ وهل هو مقتنع بصحة ما يفعل؟ وهل وزير السياحة هناك مقتنع أيضًا بصحة هذه الإجراءات؟ وهل نسي هذا و ذاك وغيرهما من رموز التطرف والتعصب والتعنصر أن اللغة العربية هي لغة رسمية في تلك الديار التي يحكمونها؟ وهل انتهى الزمن الذي كانوا فيه بحاجة إلى تشريع أو قانون لتنفيذ هذه الرغبة أو تلك؟ وهل جاء الزمن الذي يعتبرون فيه أي إجراء ضد كل ما هو عربي صحيحًا بدون أدنى سند من قانون أو تشريع؟ أليس بإمكان المراقبين والمحللين أن يعتبروا مثل هذا الإجراء إمعانًا في الاجتثاث الُّلغوي، وإمعانًا في التطهير الثقافي والحضاري في هذه البلاد؟ وهل يأتي اليوم الذي يستفيق فيه أولئك من أحلامهم وأوهامهم.. أم أنهم سيظلون سادرين فيها، متشبثين بها إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا؟ ألم يقل الحكماء قديمًا: إن السعيد من اتعظ بغيره، وإن الشقي من اتعظ بنفسه.. فهل يتّعظون؟؟

14/7/2009


الأحد، ١٢ تموز ٢٠٠٩

في قوة الضعيف.. وضعف القوي!!

متابعات

في قوة الضعيف.. وضعف القوي!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    القوة والضعف أمران نسبيّان، يختلفان من عصر إلى عصر، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن إنسان إلى إنسان، ومن موقف إلى موقف.. فإذا كان من أسمى مراتب القوة أن تصفع من صفعك، وأن تلطم من لطمك، وأن تكيل الصاع صاعين لمن اعتدى عليك، وأن تجتثَّ من الجذور مَن حاول اجتثاثك وإقصاءك..فإن مِن أبهى مظاهر القوة، وأعلى منازلها أن تعفوَ بعد قدرة، وأن تسامح بعد اقتدار، وأن تصفح عن مسيء جاء يعتذر، وعن جاهل ندم على جهله أو جهالته، أو كليهما.. وإن من أقصى درجات القوة، وأسمى مراتبها أن ترحم الطفولة والأطفال، وأن تعطف على الكبار والمرضى والصغار، بل أن تَضعُفَ أمام أصحاب الحاجات من الناس؛ لأنهم الأقوياء، وأنتَ الضعيف.

    القوة أن تملك من أمر نفسك ما يصدّها عن جموحها، وينأى بها عن أهوائها، ويكبح رغبتها في الظلم والعدوان، ويطهرها مما قد علق بها، أو خالطها من شرور، أو آثام، أو أحقاد، أو طغيان.. والقوة أيضًا أن تأبى الضيم، وترفض المذلة، وتأبى الهوان، وأن لا تفعل إلا ما تعتقد أنه الصواب، وأن لا تقول إلا ما تراه حقًّا وصدقًا، وأن لا تفعل في السر ما لا تفعله في العلن.. والقوة بعد ذلك كله، أو قبل ذلك كله فكر، ومعتقد، ومحبة، وإيمان، وتضحية، وصبر، واحتساب، وتشبث بالحقوق، وقيام بالواجبات، وسعي لتحقيق الأهداف والغايات، وإعراض عن السفهاء واللئام من المخدوعين اللاهثين خلف السراب يحسبونه ماءً، وما هو بماء!

    ونقيض القوة الضعف، وهو منازل، ومراتب، ودرجات، وله صورٌ، وأسماء، ومسميات.. وليس الضعف دائمًا عيبًا من العيوب، أو نقيصة من النقائص؛ فهذا الطفل ضعيف، وليس في ضعفه ما يعيب! وهو في كل الشرائع والأعراف والقوانين موضع الرعاية، والعناية، والاهتمام إلى أن يبلغ أشده.. وهذا الفارس الذي سقط سيفه من يده في أثناء المبارزة يُعاد سيفه إليه في موروثاتنا وقيمنا، ولا يجوز لأحد أن يعتدي عليه مستغلاًّ سقوط سيفه! وذاك الأسير الذي ألفى نفسه مقيَّدًا على كرسي التحقيق أمام من يحاولون انتزاع الاعترافات منه ضعيف، وعلى آسريه أن يُحسنوا معاملته، وإلا فإنهم يخالفون كل الشرائع والقوانين والأعراف التي نصّت صراحةً على الإحسان إليه، وردّه إلى أهله وذويه سالمًا معافًى دون أدنى إساءة، ودون أدنى اعتداء!

    والضعف قد ينقلب إلى قوة دونها كثير من القوى، عندما يصرّ هذا الأسير على التحدي، وعندما يقرر تعذيب هؤلاء الذين يعذبونه بالتزامه الصمت وسيلةً لاستنهاض الصمت، والوصول به إلى أعلى مراتب القوة.. وكلما أمعن هؤلاء في تعذيب هذا الأسير أمعن هو في تعذيبهم أيضًا، بالتزامه الصمت المطبق؛ فإن صعّدوا من إجراءاتهم ضده صعّد بدوره، فامتنع عن تناول الطعام؛ فإن لجأوا إلى الإغراء والترغيب بهدف إخراجه من حالة الموت التي "يحياها"، وبهدف استقطابه، والزج به في حظيرة من يستقطبون راح يتكلم من جديد، وراح يطالب همسًا بحقه في الماء الذي لم يره منذ مدة طويلة عندما يتحدثون في كبار الحوادث والأحداث التي تؤرقهم، وتقض مضاجعهم!!

    ومن باب الضعف الذي قد ينقلب إلى قوة دونها كثير من القوى إصرار كثير من الشعوب قديمًا وحديثًا على تحدي الغزاة، وتحقيق النصر دون قتال بعد أن هُزمت في ساحات المعارك والحروب، وبعد وقوع بلادها في قبضة المنتصرين.. المقاومة السلبية التي انتهجها نهرو في الهند ضد الاحتلال البريطاني حققت النصر للهند تمامًا كالمقاومة المسلحة التي خاضها ديغول في فرنسا ضد المحتل النازي.. المقاومة السلبية على مستوى الشعوب كالمقاومة السلبية على مستوى أسير يلوذ بالصمت ردًّا على الاستفزاز، ويلوّح بالتصعيد إن صعّدوا.. وكلا هذين الأمرين صورةٌ من صور الإصرار على استنهاض الضعف، والارتقاء به إلى أعلى مراتب القوة.. وهكذا فإن قراءتنا لتاريخ كثير من الشعوب والأفراد تؤكد بما لا يدع أدنى مجال للشك على أن قوة تلك الشعوب تكمن في ضعفها، كما أن قوة أؤلئك الأفراد الأفذاذ قد انبثقت في يوم ما، وفي وضع ما من ضعفهم، ومن إصرارهم على انتزاع النصر بالمقاومة السلبية، والثبات على المبدأ.

    أما القوة التي تنقلب إلى ضعف قاتل يودي في النهاية بحياة أصحابها: أفرادًا، وشعوبًا، وقبائل، ومجموعات، وجماعات، وعصابات، فإن أمثلتها في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث أيضًا كثيرة، بل هي أكثر من أن تُحصى عددًا.. لقد قرر التاريخ منذ البدء أن كل طاغية إلى زوال، وأن الظلم مرتعه وخيم، وأن من حفر حفيرًا لأخيه كان حتفه فيه، ولقد قرر التاريخ أيضًا أن لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل عالم هفوة.. وأن الحق أبلج، والباطل لجلج، ولا بد للباطل أن يزول.

     فهل نتشاءم بعد ذلك فنقول ما قاله سعد: "ما فيش فايده، غطيني يا صفيه" أم نتفاءل فنقول: "لا حياة مع اليأس، ولا يأس مع الحياة" أم نستذكر في معرض هذا المقال ما يقوله المصريون أيضًا: "يضع سره، في أضعف خلقه" لا لأن الناس موضوع الحديث هنا هم أضعف خلق الله، ولكن لكي يكون "أضعف خلقه" عبرة للمتشائمين من خيرة خلقه وأرقاهم وأقواهم.

    وبعد،

    فهذه هي قوة الضعيف، تنقلب قوة مزلزلة، دونها قوة السلاح النووي، إن هو أحسن استعمالها.. وذاك هو ضعف القوي الذي غالبًا ما يكون سببًا كافيًا لوقوعه في شرور أفعاله، وسيئات أعماله.. فهل يعتبر الضعيف، ويعرف قدر نفسه، ويتمترس خلف ضعفه، متشبثًا بحقوقه، متسلّحًا بكل العناد والإصرار على تحقيق الغايات والأهداف؟ وهل يعتبر القوي، ويُشفق على نفسه، ويثوب إلى عقله ورشده، فيكفّ عن شروره، واستكباره، وحماقاته؟؟

 

12/7/2009


الأربعاء، ٨ تموز ٢٠٠٩

وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم.. أمام مسئولياتها التاريخية!!

متابعات

وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم.. أمام مسئولياتها التاريخية!!

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    أصبحت هذه الوكالة الدَّولية المنبثقة عن هيئة الأمم المتحدة مسئولة بشكل رسمي عن إغاثة لاجئي فلسطين ومهجَّريها في العام التالي للنكبة، أي في العام التاسع والأربعين من القرن الماضي (1949) بموجب القرار الذي يحمل الرقم ثلاثمئة واثنين (302)، وبهذا أصبح المجتمع الدَّولي ممثَّلاً بهذه الوكالة مسئولاً مسئولية مباشَرة عن تأمين المأكل والمشرب والمسكن لهؤلاء اللاجئين، إضافة إلى توفير الخدمات الصحية والتعليمية، وخدمات الرعاية الاجتماعية، وتوفير فرص العمل لمن يطلبونه منهم، ولا سيما الخريجين، يضاف إلى هذا ضرورة الارتقاء بحياة هؤلاء اللاجئين وصولاً إلى المستوى المعيشي اللائق، إلى أن تُحل قضيتهم، ويتمكنوا من العودة إلى ديارهم ( التي أُخرجوا منها دون سبب) بموجب القرار (194) الذي صدر في ذلك العام.

    ومن أجل هذه الغاية افتتحت هذه الوكالة مكاتب رئيسةً لها في قطاع غزة، والضفة الغربية، والأردن، وسوريا، ولبنان.. وقد انبثق عن هذه المكاتب الإقليمية مكاتبُ فرعية افتتحتها الوكالة في المناطق التي يكثر فيها هؤلاء اللاجئون، وتكثر فيها مخيماتهم، بهدف الإشراف عليهم، ومتابعة أحوالهم عن كثب.

    في أعقاب النكبة التي حلت بفلسطين والفلسطينيين عاشت الغالبية العظمى من اللاجئين الفلسطينيين في خيام كثيرًا ما قلبتها الرياح، واقتلعتها العواصف، كما عاش بعضهم في الكهوف والمغاور، وبعضهم الآخر في المدارس، والمساجد، وتحت الأشجار، بعد أن ضاقت بهم بيوت كثير من أهالي المدن، والقرى التي توجهوا إليها عند اللجوء والاغتراب.. فكان طبيعيًّا أن تقوم الوكالة باستبدال هذه الخيام ببيوت صغيرة متواضعة من الطوب أقامتها على مساحات محدودة من الأرض بجوار بعض المدن، وأطلقت عليها أسماء هذه المدن، أو أسماء القرى والمواقع الملاصقة لها.. وكان طبيعيًّا أن تبني الوكالة مدارس متواضعة لأطفال اللاجئين، وبعض العيادات البدائية، إضافة إلى تبني بعض المواقع التي كانت مستشفيات ميدانية خلال مواجهات العام (1948) ورفع علم الأمم المتحدة عليها، وإعادة تأهيلها، وإدخال التحسينات اللازمة عليها، وتحويلها بعد ذلك إلى مشافٍ مثل كثيرٍ من مشافي العالم الثالث، إلا أنها ساهمت في التخفيف من عذابات اللاجئين، ومع ذلك فقد أخذت تنحو منحًى تجاريًّا منذ زمن، بحيث أصبح يترتب على المريض أن يدفع نسبة معينة من تكاليف العلاج، وإجراء العمليات الجراحية في هذه المشافي.

    أما المدارس، فقد شهدت هي الأخرى شيئًا من التحسينات، وعمليات التطوير، بل لقد قامت الوكالة ببناء بعض المدارس الحديثة، لتحل محل تلك المدارس البدائية، بعد أن أصبحت آيلة للسقوط، وإن حدث هذا في كثير من الأحيان بعد موجات الاحتجاج التي قام بها سكان تلك المخيمات مطالبين لأطفالهم بمدارس لائقة، ولعل من الضروري أن يُشار إلى أن كثيرًا من هذه المدارس التي أُنشئت، والعيادات التي أُقيمت، والإضافات التي شهدتها هذه المشافي المحدودة التي تشرف عليها الوكالة، إنما أُقيمت على نفقة ذلك المحسن، أو تلك الدولة، وليس بموجب موازنات خاصة ترصدها الوكالة للنهوض بهذه الأعباء والمسئوليات.

    وعلى الرغم من أن أعداد اللاجئين لم تتوقف يومًا عن الزيادة في هذه المخيمات، إلاّ أن مساحاتها لم تزدد شبرًا واحدًا، الأمر الذي دفع بكثير من سكانها إلى هجرها ومغادرتها إلى أي خارج، بحيث أصبحت الغالبية العظمى من هؤلاء اللاجئين تعيش خارج هذه المخيمات.. إن في الضفة الغربية مثلاً تسعة عشر مخيمًا، وفيها من اللاجئين ثمانمائة وخمسة وسبعين ألفًا (875000) نسبة من يعيش منهم في هذه المخيمات لا تبلغ خمس عشرة بالمئة لأسباب كثيرة منها، بل على رأسها بقاء هذه المخيمات على حالها منذ إنشائها على الرغم من أن أعداد اللاجئين تبلغ اليوم أكثر من خمسة أمثالهم في تلك الأعوام!!

    في العام التاسع والخمسين من القرن الماضي حضر إلى هذه البلاد داغ همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة، وأجرى اتصالاته بكثير ممن يعنيهم الأمر، وزار بعض مخيمات اللاجئين، وبحث إمكانية عودتهم إلى ديارهم بموجب القرار (194)، ولما رأى ما رأى في هذه المخيمات، وسمع ما سمع من مسئولي الدولة العبرية اقترح أن يُصار إلى تحسين أحوال هؤلاء اللاجئين، وأن يُصار أيضًا إلى استيعابهم في أوطانهم الجديدة إلى أن يتم حل مشكلتهم في إطار الحل الاقتصادي الذي اقترحه بن غوريون… هذا الحل الذي نراه بأم أعيننا بعد كل هذه العقود من التشرد والدمار والضياع والمهانة والموت!!!

    واليوم، وبعد تسعٍ عجاف ذاقت فيها طبقة العمال في هذه الديار ما ذاقت من ألوان الفقر، والحرمان، والجوع، والبطالة، بعد أن أُغلقت في وجهها كل أبواب الرزق، وكل أبواب العمل.. وبعد أن فتكت البطالة بمئات الألوف من العمال الذين كانوا يوفرون لقمة العيش، وحبة الدواء لأكثر من خمسة وسبعين بالمئة من الناس في هذه الديار..واليوم، وبعد عقود من شطب طبقة الفلاحين، ووضع اليد على مزارعها، وأرضها، واقتلاع زيتونها، وبناء الجدران، وإقامة البوابات، وفرض الحصار، والزج بكثير من الناس في غياهب السجون والمعتقلات… واليوم، وبعد أن بلغ السيل الزبى، ووصلت القلوب الحناجر، وبلغ الناس في هذه الديار حافة الهاوية، وحافة اليأس.. اليوم نرى هذه الوكالة الدولية، وهي تواصل سيرها في الطريق الذي تنتهجه منذ عشرات السنين.. نراها وهي تواصل خطتها في تقليص الخدمات التي كانت تقدمها لعشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين.. نراها وهي تفصل كثيرًا منهم من أعمالهم.. نراها وهي تواصل مسيرتها، وتمارس دورها المرسوم في تصفية القضية الفلسطينية عن طريق التنكر لهؤلاء اللاجئين، وتقليص الخدمات المقدمة لهم، وسحب البساط من تحت أرجلهم، والتخلي عنهم في وقت من أسوأ الأوقات التي عاشوها، وعاشتها قضيتهم مذ كانت، وفي وقت يكاد يكون أسوأ من تلك الأيام التي أعقبت نكبة ثمانية وأربعين!!!

    على وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم أن تعلم أنها مطالبة اليوم بالقيام بمسئولياتها كاملة تجاه أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني ينتظرون العودة إلى ديارهم بموجب القرار (194) منهم مليونا لاجئ يعيشون في قطاع غزة، والضفة الغربية، ومنهم أكثر من ثلاثة ملايين يعيشون في لبنان وسوريا والأردن … وكالة غوث اللاجئين تعلم أنها ملزمة بالقيام بواجباتها تجاههم إلى أن تحل قضيتهم حلاًّ عادلاً يعودون معه إلى ديارهم وممتلكاتهم.. فهل تقف هذه الوكالة كما يجب أمام مسئولياتها التاريخية والأخلاقية، أم تواصل السير في طريق التنكر للفلسطينيين، والتآمر على قضيتهم، وحقهم المشروع في العيش الآمن الكريم الذي يوفر لهم المجتمع الدولي فيه، أبسط حقوقهم في الغذاء والدواء إلى أن يعودوا إلى ديارهم؟؟

8/7/2009


الخميس، ٢ تموز ٢٠٠٩

رحم الله ضفتكم.. وأدام فرقتكم!!!

 

متابعات

رحم الله ضفتكم.. وأدام فرقتكم!!!

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

      من حق المستوطنين أن يتكاثروا في مستوطناتهم التي أقاموها على الأرض الفلسطينية المحتلة منذ حرب سبعة وستين، ومن حقهم أن يوسّعوا مستوطناتهم، وأن يقوموا بأعمال البناء كي يستوعبوا مزيدًا من المستوطنين في هذه المستوطنات، ولكي يواجهوا الزيادة الطبيعية الناجمة عن تكاثرهم فيها.. ومن حقهم أن يصادروا مزيدًا من الأرض في كل يوم لإقامة مزيد من المزارع، ومزيد من المصانع، ولشق مزيد من الطرق والشوارع، وبناء مزيد من الجدران، والأسوار، والبوابات.. ومن حقهم أن يغيّروا معالم هذه الأرض، وأن يطلقوا عليها ما يشاءون من أسماء، فهم الأصل، وغيرهم الاستثناء..

    من حقهم أن يُمعنوا في عزل غيرهم من الناس، والتضييق عليهم، ومصادرة حقهم الطبيعي في الحركة، والتنقل، والعمل، والخروج من تجمعاتهم والدخول إليها.. ومن حقهم أن يعملوا بشتى الوسائل على إذلالهم، وتجويعهم، وتجهيلهم، وتدميرهم، وتهجيرهم... ومن حقهم أن يحاصروهم في معازلهم، وأحيائهم، وأن يمنعوهم من البناء في هذه المعازل والأحياء تارة بحجب تراخيص البناء عنهم في المناطق التي ضموها إلى دولتهم، أو فرضوا عليها وصايتهم وولايتهم، وطورًا بعدم السماح لهم بتوسيع حدود هذه المعازل، والتجمعات السكنية التي يعيشون فيها منذ عشرات السنين، دون أن تزداد مساحتها مترًا واحدًا.

    من حقهم أن يفعلوا ما يشاءون، وأن يتصرفوا كما يريدون، تصرف المالك في ملكه، لأن هذه الأرض كلها لهم، وهبهم إياها الرب منذ أن خلق هذه الدنيا، وهم لا يطيقون رؤية غيرهم عليها..إنهم يخططون، ويناورون، ويراوغون لكسب مزيد من الوقت وفرض وقائع جديدة على الأرض، ولإشعال مزيد من الحرائق هنا وهناك وهنالك لصرف الأنظار عما يفعلون، وحشد الطاقات والإمكانات لمواجهة أزمات يفتعلونها، والتصدي لمخاطر من نسج الخيال يصنعونها، ويوهمون غيرهم بوجودها، وبضرورة مواجهتها، ومجابهتها، لأنها الخطر الحقيقي الدّاهم الذي يتهدد بجحيمه وعدوانيته كل الأحبة في واحات السلام التي زرعوها بالورود، وزينوها بالشموع، وروَّوا تربتها بالعرق، وبالدم والدموع!!

    تلك التي أقاموها قبل أكثر من ستة عقود يريدونها اليوم دولة نقية خالصة لهم من دون الناس.. وهذه التي احتلوها قبل أكثر من أربعة عقود يريدون اليوم أن يحشروا فيها كل هذه الملايين من أبنائها، ومن غير أبنائها، دون أدنى التفاتة إلى المجتمع الدولي، وإلى قراراته، وإلى مواثيقه، ومبادئه، وأخلاقياته التي تحرم الاحتلال، وتحرم السيطرة على أراضي الآخرين، ووضع اليد عليها.. لقد وضعوا يدهم على كل أرض فلسطين التاريخية البالغة مساحتها أكثر من سبعة وعشرين ألفًا من الكيلومترات المربعة(27009) ووضعوا أيديهم أيضًا على مساحات شاسعة من الأرض العربية المجاورة لفلسطين، وعلى مساحات شاسعة من العمق العربي الذي كان مساندًا ومؤازرًا لفلسطين والفلسطينيين، وعلى مساحات شاسعة من الأعماق الإسلامية التي كانت ذات يوم جزءًا من الاتحاد السوفياتي، كما كانت قبل ذلك جزءًا لا يتجزأ من خلافة إسلامية راشدة رشيدة أنارت الدروب للبشرية في تلك الأيام.

    في مساحة من الأرض لا تبلغ الآلاف الستة من الكيلومترات المربعة (5879 ) يريدون أن يحشروا كل هذه الملايين من أهلها، ومن أهل الجليل والمثلث والنقب، إلى جانب هؤلاء المستوطنين الذين وضعوا أيديهم على كل شيء، وسيطروا على الأرض بمختلف الوسائل، وشتى الأساليب.. وفي هذه المساحة المحدودة من الأرض يريدون أن يحشروا كل هذه الملايين في معازل لا تزيد مساحتها عن ثمانية بالمئة من مساحة ضفتنا التي تترنح اليوم تحت ضربات الاستيطان، وتتهاوى تحت ضربات المستوطنين.. وهذه المعازل التي يريدون أن يحشروا فيها هذه الملايين الأربعة من أهلها وأهل الجليل لا تزيد مساحتها عن أربعمائة وسبعين من الكيلومترات المربعة، ولا تحظى بأدنى تواصل فيما بينها، إلا بالقدْر الذي يسمح به هؤلاء، لغايات في نفوسهم تنسجم مع ما يرسمون لهذه الديار من خطط ومخططات، تأتي على من تبقّى من أهلها، بعد أن يتم تهجيرهم منها بالحسنى، أو بغير الحسنى.. سيان عندهم!!

    وفي مساحة من الأرض لا تبلغ المئات الأربع من الكيلومترات المربعة( 378 ) يفرضون حصارًا بحريًّا وبريًّا وجويًّا على أكثر من مليون ونصف المليون من الناس الذين يعيشون بدون دخل أو عمل، وبدون ماء أو هواء أو سماء أو فضاء إلا ما يسمح به أولئك وهؤلاء!!

    في السادس والعشرين من الشهر الماضي ( حزيران) من هذا العام التاسع بعد الألفين أعلنوا وضع يدهم على أراضي اثني عشر حوضًا من أراضي البحر الميت، تبلغ مساحتها مئة وثمانية وثلاثين ألفًا وخمسمئة وسبعة وتسعين دونمًا، وخمسمئة واثنين وأربعين مترًا مربعًا (138.597.5) (بدعوى أنها أراضٍ حكومية، وكأنهم الورثة الشرعيون للأردن في هذه الديار) وبهذا يضمنون السيطرة المطلقة على البحر الميت وشواطئه، وعلى ما كان جفّ منه بمرور الزمن، ويضمنون وضعًا أفضل في مشروع قناة البحرين التي وافق البنك الدَّولي مؤخرًا على تمويلها.. وبهذا أيضًا يمعنون في تجريد كثير من الفلسطينيين في النبي موسى، وعرب الرشايدة، وعرب التعامرة، وعرب ابن عبيد من أراضيهم، ومن مقومات حياتهم ووجودهم .. وبهذا أيضًا يفصلون شمال الضفة فصلاً كاملاً عن جنوبها، ويضمنون لأنفسهم تواصلاً مطلقًا على حدود فلسطين التاريخية الشرقية، ويضمنون عدم قيام أي كيان للفلسطينيين مهما كان هزيلاً، ويضمنون بقاء الفلسطينيين ( في هذه المرحلة) في معازلهم التي تزداد الحياة فيها سوءًا يومًا بعد يوم في انتظار حلول المرحلة القادمة التي ينتظرون حلولها بفارغ الصبر!!

    ويواصلون بعد هذا كله حديثهم عن دولة الوهم التي يقولون إنهم سيقيمونها للفلسطينيين!! ومن عجب أنهم ينسَوْن في المساء ما يقولونه في الصباح، ومن عجب أيضًا أن تكثر التصريحات، والتلميحات، والتوضيحات، والتلويحات أيضًا، وأن يكثر المحللون، والمهللون، والمنظّرون، والمطبّلون، والمزمرون، والمروّجون للأوهام والتناقضات التي يزرعونها في صحراء تيهنا وضَياعنا ومهانتنا وهواننا على الناس!!

    لسنا ندري أين ستقام هذه الدولة التي يتحدثون عنها، ولسنا ندري متى ستقام، وكيف ستقام... ولسنا ندري يقينًا ما تخبئ لنا الأيام.. وإن كنا ندري أنهم على قاب قوسين أو أدنى من فرض سيطرتهم المطلقة على هذه الضفة، وإلحاق مساحات شاسعة منها بدولتهم التي أقاموها عام ثمانية وأربعين، وتخصيص الجزء الباقي منها للمستوطنات والمستوطنين الذين يعيدون إلى الأذهان اليوم ما فعله أجدادهم عندما أقاموا دولتهم في ذلك العام!!

    رحم الله ضفتكم يا قوم.. وأدام عليكم فرقتكم وتناحركم وتخاصمكم واحترابكم، ولا أحسن الله عزاءكم في أوطانكم وأديانكم ومستقبل إنسانكم.

 

1/7/2009