عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الخميس، ٣٠ تشرين الأول ٢٠٠٨

متابعات

في ذكرى حرب السويس

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    في عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف تمكنت الحركة الصهيونية بمساعدة بريطانيا وغيرها من دول الغرب والشرق من إقامة الدولة اليهودية على قرابة ثمانين بالمئة من أرض فلسـطين ، وتشريد الغالبية العظمى من أهلها العرب.. لقد كان اليهود غاضبين لأن "بلفور" وعدهم "بوطن" في فلسطين، ولم يعدهم بفلسطين كلها كما جاء على لسان "بن غوريون" – أول رئيس وزراء في إسرائيل – حيث وجه نقدًا شديدًا لصيغة ذلك الوعد.. وعليه فقد ظل اليهود يعملون للاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين..

    وبعد أن بذلت المملكة المتحدة كل هذه الجهود لإقامة هذه "الدولة" كان من الطبيعي أن تعمل على حمايتها، وتزويدها بكل أسباب القوة والتفوق العسكري على العرب مجتمعين.. بل لقد ذهبت بريطانيا – صاحبة الأيادي البيضاء على العرب – إلى ما هو أبعد من ذلك حيث خاضت الحروب إلى جانبها ومن أجلها .. فقامت مع فرنسا آنذاك بضرب المد القومي العربي المتصاعد في تلك الفترة..لا لشيء إلا لقيام الثورة المصرية (ثورة 23 تموز 1952)، بتخليص مصر من الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدرها منذ عام 1882، وبعد معارك فدائية حقيقية في منطقة القناة تم توقيع اتفاقية الجلاء في تشرين الأول من عام 1954، ولقد خرج آخر جندي بريطاني من مصر طبقًا لهذه الاتفاقية في يوم 18/6/1956.. ومن (أسباب) ذلك أيضًا الدور الذي قامت به مصر في إنجاح كثير من المؤتمرات التي كان لها الأثر الكبير في محاربة الاستعمار مثل مؤتمر باندونغ عام 1955، ومؤتمر بريوني عام 1956، وكذلك كسر احتكار السلاح عام 1955، والاعتراف بالصين الشعبية في أيار 1956، ومساندة ثورة الجزائر (1954-1962) .. وفي 26/7/1956 أعلن جمال عبد الناصر القانون رقم (285) لسنة 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، الأمر الذي أزعج الغرب، وأفقده صوابه.. فراح يعد العدة للانتقام، وراح يعد العدة للعدوان بهدف احتلال قناة السويس من جديد، وضمان مرور السفن الإسرائيلية، بل وحماية إسرائيل نفسها من الخطر الذي بات يشكّله نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر عليها...

    فقد قامت بريطانيا وفرنسا إلى جانب ربيبتهما وحليفتهما إسرائيل "بشن العدوان الثلاثي على مصر في يوم الثلاثاء الموافق للتاسع والعشرين من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف (29/10/1956).. عندما قامت إسرائيل قبيل غروب شمس ذلك اليوم ببدء عملياتها الحربية ضد مصر، حيث أذاع راديو إسرائيل بلاغًا حربيًّا أعلن فيه أن القوات الإسرائيلية قامت باحتلال ثلاثة مواقع مصرية هي "الكونتلا" و"رأس النقب" و"نخل" وكان معنى ذلك أن إسرائيل (بقيادة عساف سمحوني) قد بدأت عدوانها من جنوب سيناء على أن تستمر في هجومها غربًا حتى تصل إلى السويس.. ومن جهة أخرى تعزل القوات المصرية في المنطقة الشمالية من سيناء قريبًا من قطاع غزة.. لقد قامت إسرائيل بعملية إنزال جوي في سدر الحيطان، واجتازت تلك القوة الكونتلا مسوّغة هجومها على تلك المنطقة بأنها كانت "وكراً" لنشاط الفدائيين المصريين، وبالإضافة إلى هذه القوة الاستكشافية كانت قوة إسرائيلية ثانية تحاول الاستيلاء على "القسيمة"، فأم قطف، فأبو عجيلة.. ثم تتقدم غربًا على طريق(أبو عجيلة – الإسماعيلية) للوصول إلى ضفة القناة عند الإسماعيلية بينما تتحرك قوة ثالثة على محور رفح– العريش – القنطـرة بهـدف احتـلال رفـح والعريـش، وبـعد احتلالهما تتحرك قوة رابعة للاستيلاء على قطاع غزة.. وتقوم قوة خامسة بالتحرك من بئر السبع إلى "إيلات" للاستيلاء على "رأس نصراني" وشرم الشيخ.

    وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك البرية والبحرية والجوية دائرة بين القوات المصرية والإسرائيلية المعتدية، وبعد مناورات سياسية غربية تمهد للتدخل العسكري، وفي 31/10 أعلنت وزارتا الدفاع في بريطانيا وفرنسا أن عملياتهما الحربية في منطقة قناة السويس قد بُدئت في ساعة متأخرة من ليلة أمس تحت قيادة بريطانية فرنسية مشتركة يتولاها الجنرال "كيتلي" القائد العام للقوات البريطانية في منطقة شرق البحر المتوسط بالاشتراك مع قائد فرنسي برتبة "أميرال"، كما أعلنت القيادة المشتركة لهذه القوات من مقرها في قبرص أن قاذفات القنابل بدأت منذ الساعة السادسة والنصف من مساء 31/10 بمهاجمة الأهداف العسكرية في مصر، وقالت وزارة الدفاع الفرنسية إن هذه الغارات الجوية هي بداية العمليات الحربية المشتركة في منطقة القناة.

    وأمر " أنتوني إيدن" رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، قواته بالنزول في مدن قناة السويس، وفي مدينة بور سعيد على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق من الإسكندرية.. وغير بعيد من العلمين.. بينما كانت القوات البرية البريطانية الفرنسية الإسرائيلية تتقدم في سيناء على الساحل الشرقي لخليج السويس.. لقد قررت القوات الغازية التي أرسلها البريطاني أنتوني إيدن، والفرنسي جي موليه لنصرة "بن غوريون" في تل أبيب إسقاط نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة الذي أصبح يقف على رأس نظام عربي قومي وحدوي تقدمي لا يهادن، ولا يساوم.. ويصرّ كل الإصرار على استعادة الحقوق كل الحقوق.. وتحرير الأوطان والإنسان.. وإقامة المشروع العربي الواحد الموحد على كل أرض العرب.

    ولا ينسى المواطنون في هذه الديار ما فعله الإسرائيليون في اليوم الأول للعدوان الثلاثي (29/10/1956) بأهالي بلدة كفر قاسم في المثلث الجنوبي، والمجزرة الرهيبة التي اقترفتها أيديهم هناك بهدف إرهاب الأهالي، وقمعهم لضمان عدم تحركهم في أثناء العدوان على مصر.

    ولا يمكن لمواطن في هذه الديار أيضًا أن ينسى ما قام به الإسرائيليون في قلقيلية قبل ذلك بأيام، وتحديدًا في ليل الخميس الموافق للعاشر من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف.. تلك الليلة التي دمر فيها الإسرائيليون مركز الشرطة ( حيث أقيمت على أرضه في وقت لاحق حديقة الحيوانات في المدينة ) وقتلوا من فيه، ومن كان حوله في الخنادق من أفراد "الحرس الوطني" آنذاك .. واجتاحوا البلدة.. وقتلوا كثيرًا من شبابها وشباب القرى المجاورة.. حيث بلغ عدد من قتلهم الإسرائيليون في تلك الليلة بقيادة "شارون" مئات الشهداء.. ولا يزال قبر الجندي المجهول الذي ضم كثيرًا من جثث الشهداء، وأشلائهم بعد معارك السلاح الأبيض في وادي عزّون، ماثلاً قائمًا أمام مصنع تشميع الحمضيات (المغلق) شرقي المدينة على جانب الشارع المؤدي إلى مدينة نابلس.. يضاف إلى هذا، وكثير غيره، ما فعله الإسرائيليون في تلك الفترة في قبية، وغرندل، وحوسان، ولاحقًا في السموع، وكثير غيرها منذ قيام "دولتهم".... وما يفعلونه اليوم من تمزيق وتقطيع لأوصال هذا الوطن بهدف السيطرة المطلقة عليه، وتشريد سكانه من جديد.. وما الأهداف "الحقيقية" من بناء جدار الفصل العازل بخافية على أحد: فمن ناحية ينهبون أكثر من نصف مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام سبعة وستين.. ومن ناحية ثانية يعزلون سائر المدن والقرى والمخيمات (أو ما يسميه المراقبون بالمعازل والكانتونات العربية ) عن بلاد العرب حيث يحيط هذا الجدار (وما يرافقه من مستوطنات يهودية داخلة فيه، وخارجة عنه في شتى الاتجاهات) بما تبقى للعرب الفلسطينيين – شكلاً – من هذه الديار.. ومن ناحية ثالثة سيُرغمون – بمرور الوقت – أكثر من سبعين ألفًا من الفلسطينيين (جعلهم الجدار في الجانب "الإسرائيلي ") على الهجرة من أراضيهم، وسيعزلون في الوقت نفسه نحو مئة ألف من العرب المقدسيين عن مدينتهم ممن جعلهم الجدار خارجها، وسوف يجرّدونهم لاحقًا من هوياتهم "الزرقاء" التي تثبت أنهم مقدسيون الأمر الذي سيلحق نكبة حقيقية بالقدس والمقدسيين في المستقبل القريب، وسيضع حدًّا لوهم الدولة الفلسطينية المنشودة التي تكون القدس عاصمة لها!!! ومن ناحية رابعة فقد ضمن الإسرائيليون تقطيع أوصال هذه المعازل والكانتونات الفلسطينية، وعدم وجود أي تواصل جغرافي بينها.. وهذا معناه القضاء المبرم على الحركة الزراعية، والصناعية، والتجارية، وهذا يعني باختصار إنهاء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمستقبلية لهذا الشعب تمهيدًا لتهجيره إلى أي خارج!! ومن ناحية خامسة يضمن هذا الجدار ضم غالبية المستوطنين (460.000) أربعمئة وستين ألف مستوطن إلى إسرائيل أو على الأصح توسيع حدود إسرائيل لتضم إليها هؤلاء المستوطنين، ومعهم بالطبع ما غنموه من أراضي العرب الفلسطينيين وممتلكاتهم!!

    بعد مرور إحدى وتسعين عامًا على وعد بلفور ،وأكثر من ستين عامًا على قيام ( إسرائيل) يجد نصف الفلسطينيين أنفسهم لاجئين بعيدين عن وطنهم، ويجد نصفهم الآخر نفسه غريبًا مضطهدًا جائعًا على أرض وطنه!! بينما تمتد أنظار الإسرائيليين بعيدًا في أعماق الأرض العربية لأنهم يرون أنهم السادة الجدد لهذا " الشرق الأوسط" الجديد!!

    إن الأمة العربية  الماجدة في كل ديار العروبة والإسلام، ومعها كل الشرفاء الأحرار في هذا العالم، قد قالت كلمتها في كل أعدائها الذين ظلموا البشرية، وظلموا أنفسهم بجشعهم وطمعهم وكذبهم وافترائهم وعدوانهم .. وسيندم هؤلاء، ولكن لات حين مندم، ولن يكون مصيرهما بأفضل من مصير إيدن، وحليفه الفرنسي موليه قبل اثنين وخمسين عامًا عندما هُزما شر هزيمة في حرب السويس التي فرضاها على شعب مصر لإذلاله، والعودة به إلى عصور الإقطاع والتبعيّة.

وإن الأمة العربية ، وهي تعيش ذكرى حرب السويس في هذه الأيام ، لَتؤكّد بما لا يدع مجالاً لأدنى شك أنها قد عرفت طريقها ، وأنها قد قررت حماية أوطانها ، وتوحيد بلدانها ، وإعلاء بنيانها ... وما ذلك على الله بعزيز.

29/10/2008

 


الاثنين، ٢٧ تشرين الأول ٢٠٠٨

في هذا الواقع المرّ!!

متابعات

أ. عدنان السمان    
www.samman.co.nr
على الرغم من كثرة الموضوعات التي تفرض نفسها على الناس فرضًا في هذه الأيام، وعلى الرغم من الهزات السياسية، والمخاطر العسكرية التي تعصف بالناس في هذه الديار، وفي بلدان كثيرة في هذا الكون، وعلى الرغم من كل هذه الأرزاء التي تتهدد أمن الناس وأمانهم محليًّا وعربيًّا وإسلاميًّا ودَوليًّا ... على الرغم من كل هذا وذاك إلا أنني – وبدون أدنى تردد- قررتُ الخوض في هذا الواقع المر، والكتابة في هذا الموضوع الذي يتهدد الغالبية العظمى من أهل هذه الديار، والغالبية الصامتة المقهورة في ديار العروبة والإسلام، والغالبية الضائعة في معظم أقطار هذا الكون غربه وشرقه... هذه "الأغلبيات" التي تعاني من هذا الشكل أو ذاك من أشكال الفقر والحاجة.. ومن هذا الشكل أو ذاك من أشكال التشرد والجوع والبحث عما تسد به الرمق، وتقيم به الأود في حاويات القمامة تمامًا كالقطط المتشردة، والكلاب الضالة التي باتت تشكّل واحدًا من أبرز مظاهر الحياة العامة في مجتمعات كثيرة من مجتمعات هذا الكون الغارق في الآلام والأحزان والهوان حتى أذنيه... هذه "الأغلبيات" التي تعاني من هذا الشكل أو ذاك من أشكال الانحراف والمرض، ومن هذا الشكل أو ذاك من أشكال الإدمان والضَّياع والإذلال والاستعباد والرق،  في الوقت الذي ستُضاف فيه مئات الملايين من البشر إلى هذه "الأغلبيات" في شرق الدنيا وغربها... نعم، إن مئات الملايين ستلتحق بمواكب الجياع في هذا العالم خلال الأسابيع القلية القادمة، ولفترات زمنية قد تطول وتطول... ومن الغريب أن شيئًا من هذا وذاك لم يحدث بفعل عوامل الطبيعة من زلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير.. وأن شيئًا من هذا وذاك لم يحدث بفعل الأوبئة، والأمراض السارية.. وإنما حدث بسبب لؤم الإنسان واستبداده وظلمه وأنانيته، حدث هذا كله بسبب نظام اقتصادي عالمي قائم على الاحتيال، والسرقة، وأكل مال اليتيم، ونهب خيرات الشعوب... حدث هذا بسبب المضاربات والجشع والطمع والطبقية البغيضة المسرفة في تعذيب الفقراء وإذلالهم وتقتيلهم، والتخلص منهم حتى لا يكونوا عبئًا على تلك الزمر الباغية الطاغية المستحوذة على ما في هذا الكون من كنوز وخيرات لا تنضب، ولا يجف معينها...
لم تكن كل هذه العواصف والأعاصير لتعصف بالناس لو كان في قلوب أولئك الطغاة شيء من رحمة.. ولم يكن شيء من كل هذا وذاك ليحدث لو وُزّعت الثروات على الناس توزيعًا عادلاً.. ولم يكن شيء من هذا وذاك ليحدث لو كفّ الطغاة عن طغيانهم، ولو عرف العدل سبيله إلى قوانينهم التي ما أحلت حلالاً، ولا حرَّمت حرامًا، بل على العكس من ذلك تمامًا!! لو وُزعت كل هذه المليارات التي ضاعت هباءً، وتسبب ضياعها في كوارث ومصائب ونكبات ليس لها آخر.. لو وُزِّعت هذه المليارات توزيعًا عادلاً على الناس لما حصل ما حصل، ولو وُظّفت هذه المليارات واستُثمرت كما يجب لما حصل ما حصل، ولو تخلى أولئك الطغاة البغاة عن طغيانهم وبغيهم وعدوانهم على الناس في أرواحهم وأرزاقهم وممتلكاتهم لما حصل ما حصل، ولو تحلى أولئك المرابون الجشعون اللئام بشيء من خلق الفضيلة، واحترام حقوق الإنسان في الحياة والعيش الكريم لما حصل ما حصل... ولو لم يكن هذا النظام الذي استبد بالكون نظامًا ربويًّا استبداديًّا لما حصل ما حصل...  لقد حصل كل هذا وذاك لكل هذه الأسباب، ولأسباب أخرى نربأ بأنفسنا عن ذكرها، والتلفّظ بها... حصل كل هذا وذاك على مستوى الكون – مع الأسف – لأنها لا تعمى العيون، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور!!!.
واليوم، وبعد أن انخفض سعر برميل النفط كل هذا الانخفاض بعد أن وصل خلال شهر تموز الماضي إلى نحو مئة وخمسين دولارًا لا نرى هذه الأسعار التي ارتفعت بارتفاعه آنذاك تنخفض بانخفاضه اليوم!! من المؤلم جدًّا أن أسعار المحروقات لا تزال على حالها في هذه الديار المنكوبة، وأن أسعار المواد الاستهلاكية التي ارتفعت لا تزال هي الأخرى على حالها في الوقت الذي يواصل بعضها ارتفاعه رغم انخفاض سعر برميل النفط إلى ستين دولارًا ساعة كتابة هذا المقال... ومن المؤلم جدًّا أن أسعار الخضراوات والفواكه هي الأخرى تواصل ارتفاعها بشكل أصبحت معه محرّمةً على الغالبية العظمى من أهل هذه الديار!! ومن المؤلم جدًّا أن أسعار الخبز - رغم التخفيض الهزيل الذي طرأ عليها منذ أيام – لا زالت خيالية لشعب منكوب تعيش غالبيته العظمى تحت خط الفقر، ولا تجد هذه الغالبية من الجياع من يقدم لها لقمة الخبز أو حبة الدواء أو أجرة البيت أو ثمن الدفتر والقلم والكتاب بعد أن أصبح هذا من الكبائر التي يحاسب عليها مبدأ تجويع الناس وتركيعهم وإذلالهم وتيئيسهم!!!
إنه، وبناءً على هذا الانخفاض في سعر برميل النفط، فإن سعر اللتر من المحروقات يجب أن يصبح أقل من نصف سعره الآن، وإن سعر أسطوانة الغاز يجب أن يكون أقل من ثلاثين شاقلاً، لا أن يبقى أكثر من ستين شاقلاً!! وأن سعر الكيلوغرام من الخبز يجب أن لا يزيد عن شاقلين بدلاً من أربعة شواقل، وأن أجرة المواصلات يجب أن تخفَّض بالنسبة نفسها.. وكذلك أسعار المواد التموينية والاستهلاكية الأخرى التي نراها في بلادنا المنكوبة هذه أعلى منها في كثير من البلدان التي يزيد فيها دخل الفرد عن خمسة وعشرين ألف دولار في العام!! وإن هذا الشعب الذي تحولت غالبيته العظمى إلى مجموعات من المتسولين والمحرومين والفقراء بعد أن خسر أرضه، ومواقع عمله، ومصادر تجارته، ومقومات وجوده هذا الشعب يجب أن يوفر له من يعنيهم الأمر كافة احتياجاته من تعليم وعلاج ومسكن وطعام وشراب، وأن لا يحمِّلوه فوق ما يطيق.. فحسبه معاناةً، وحسبه آلامًا... لقد آن له أن يستريح قليلاً لالتقاط الأنفاس... أليس كذلك؟
25/10/2008

الاثنين، ٢٠ تشرين الأول ٢٠٠٨

... وكان زمن التِّيه

 


    في الحادي عشر من شهر كانون الأول سنة ثمانية وأربعين صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (الدورة الثالثة) القرار الذي يحمل الرقم (194) والذي نصّ البند الثاني منه على: وجوب السماح بالعودة وفي أقرب وقت ممكن للاّجئين الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين لا يرغبون في العودة منهم، وعن كل مفقود أو مصاب بضرر...عندها يكون من الواجب وفقًا لمبادئ القانون والإنصاف أن تعوّض الحكومات والسلطات المسئولة عن ذلك الفقدان أو الضرر.

    لقد أقام اليهود دولتهم في فلسطين عام ثمانية وأربعين...وكان من شروط قبولها في عضوية هيئة الأمم المتحدة تنفيذها للقرار (194) والقرار (181) الصادر في 29/11/1947م حيث جاء في القرار الذي يحمل الرقم (273) والصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/5/1949م: "آخذين بعين الاعتبار قبول إسرائيل بالالتزامات الناجمة عن ميثاق الأمم المتحدة، وبناءً على القرارين الصادرين في 29/11/1947م وفي 11/12/1948م، ونظرًا للبيانات والتفسيرات التي قدمها مندوب حكومة إسرائيل في اللجنة السياسية بشأن تنفيذ القرارين المذكورين فقد قررنا في الجمعية العامة قبول إسرائيل عضوًا في هيئة الأمم المتحدة"...ولكنّ إسرائيل لم تنفّذ شيئًا من هذا حتى اليوم.

    لقد رفض الإسرائيليون منذ تلك الأيام تنفيذ شيء مما نصت عليه القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية واللاجئين الفلسطينيين...بل إنَّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة قد حرصت على تصفية هذه القضية بشكل منهجي مدروس، وتحقيق المكاسب لإسرائيل في كل يوم...بل في كل ساعة محلِّيًّا وإقليميًّا وعربيًّا وإسلاميًّا وشرق أوسطيًّا ودَوْليًّا...وعلى كل الصعد والمستويات...وبمختلف الوسائل والأساليب.

    ولعل من الضروريّ والمفيد أيضًا أن يعلم الناس جميعًا في هذا العالم بعامة، وفي هذه المنطقة بخاصّة أن سائر القرارات التي اتخذها المجتمع الدولي بشأن فلسطين والفلسطينيين لم تُنكر حق هذا الشعب في وطنه، فقد أكدت تلك القرارات على الحق العربي البيِّن في فلسطين، وعلى حق العودة غير المنازَع للاّجئين والمهجّرين الفلسطينيين إلى ديارهم وبيوتهم التي أُجبروا على الخروج منها بقوة الحديد والنار ذات يوم!!

    ولا شــك في أن المجـال لا يتسع هنا للدخول في تفصيلات تلك القرارات...فهذا من شـأن الكتــب والمجلّدات ذات الاختصاص...ولكن لا بد من الإشارة السريعة العجلى إلى أقلّ القليل منها للذكرى، وللتاريخ، وللأجيال الحاضرة، والقادمة من رحم الغيب أيضًا...فالدورة الخامسة والعشرون للجمعية العامة مثلاً أقرّت بأن للشعب الفلسطيني كامل الحق في الحقوق المتساوية، وتقرير المصير...وأقرّت أيضًا بأن الاحترام التام لحقوق الشعب الفلسطيني الثابتة يشكّل عنصرًا ضروريًّا لإحلال السلام العادل في هذه المنطقة...وفي الفترة الزمنية الواقعة بين العامين 1948/ 1966 عُرضت قضية اللاجئين الفلسطينيين على جدول أعمال الأمم المتحدة ولجانها خمسًا وثلاثين مرة فقط!! وكانت الأمم المتحدة في كل مرة تؤكد على الحق المطلق لهؤلاء اللاجئين في العودة إلى ديارهم...كما كانت تؤكد باستمرار على أن السلام في الشرق الأوسط لن يتحقق بدون هذه العودة...نعم...هذا ما أكد عليه المجتمع الدولي منذ نشوء هذه القضية، فما الذي تغير؟ وما الذي يحدث؟ وما الذي يسمعه الناس بين الحين والآخر حول هذه القضية التي قال فيها المجتمع الدولي كلمته...وقالت فيها كل الشرائع والأعراف والقوانين كلمتها...وقال فيها أصحابها كلمتهم منذ أمد بعيد؟؟

   وبعيدًا عن التحامل...وبكل الموضوعية لا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يشير في هذا السياق إلى أنّ اليهود ومنذ نشوء القضية الفلسطينية هم الذين كانوا ولا يزالون يرفضون الاعتراف بأي حق مهما كان ضئيلاً للعرب في فلسطين...فهم الذين خطّطوا منذ مئة عام للسيطرة على هذه الديار...وهم الذين نفّذوا القرار رقم (181) ولكن بطريقتهم إذ حصلوا على أكثر بكثير مما أعطاهم، ومنعوا غيرهم من إقامة دولتهم على الجزء الذي حدّده ذلك القرار...ولقد سجّل التاريخ أن العرب هم الذين رفضوا قرار التقسيم...وأنهم الذين يرفضون حل هذه القضية منذ نشوئها وحتى يومنا هذا.

    وبعيدًا عن التحامل أيضًا فإنه لا يسع المراقب المحايد إلاّ أن يؤكد صراحة على أن اليهود هم الذين تنكّروا في حينه للقرار رقم (194) رافضين السماح لأي لاجئ أو مهجّر بالعودة...ولعلّ قضية مواطني إقرث وبرعم أكبر دليل على ذلك...حيث يرفض اليهود عودتهم إلى القريتين رغم أنهم يعيشون حولهما، ويدفنون موتاهم في مقبرتيهما...ورغم صدور قرار محكمة يهودية "هي محكمة العدل العليا" في العام ثلاثة وخمسين وتسعمئة وألف بعودة أولئك المهجَّرين إلى القريتين ...وعلى الرغم من أن بيوت القريتين ما زالت على حالها تنتظر عودة أصحابها الذين تراهم ويرونها رأي العين منذ أن أُخرجوا  منها بقوة السلاح وحتى هذه الأيام!! إن كل ما يفعله هؤلاء منذ نشأة القضية في عام ثمانية وأربعين، وبعد احتلالهم ما كان قد تبقّى من فلسطين عام سبعة وستين هو الحصول على مكاسب جديدة، وإلحاق مزيد من الدمار بالعرب الفلسطينيين...وتجريدهم من كافة حقوقهم في هذه الديار...وتضييق الخناق عليهم يوميًّا إلى الحد الذي أحالوا حياتهم فيه جحيمًا لا يُطاق...والبقية تأتي بلغة الصحافة والصِّحافيين...لقد تنكّروا للقرار (194)، واليوم يطالبون بإلغائه رسميًًّا بعد أن أوجدوا البدائل...وهيّأوا الوسائل...في إطار تسوية مرحلية جائرة لا يمكن أن تصنع سلامًا...وإنما تؤسّس لصراع جديد لا يعلم أحد مقدار ما سيلحقه بهذه المنطقة وبغيرها من أضرار وويلات.

    يقول "أمنون كابيليوك" في مجلة الدراسات الفلسطينية في هذا السياق: إنّ منظمة الأرغون بزعامة مناحيم بيغن ومنظمة شتيرن كانتا تثيران الحرب من أجل هزيمة الفلسطينيين وطردهم من وطنهم، وإنّ معظم الفلسطينيين لم يشاركوا في الحرب بحسب ما أوضحه ديفيد بن غوريون في كتاب موشيه شاريت رئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية والذي ينصّ على أنّ وصيّة بن غوريون لجيشه كانت: "عليكم أن تضربوا بقوّة، وبهدف تحطيم المدن العربية، وطرد سكانها منها حتى يتمكن شعبنا القادم أن يحل محلهم "وما أشبه الليلة بالبارحة مع فارق بسيط هو أنّ شعبنا الذي يتعرّض في هذه الأيام لحرب حقيقية، هو المتهم تارةً بالعنف، وطورًا بالإرهاب في حين يحظى المعتدون بالمؤازرة والتأييد، وربما بالتعاطف من هذا النفر أو تلك الفئة!!" ولا بد لاستكمال معالم صورة هذه الأحداث التاريخية من الإشارة السريعة إلى تلك الزيارات التي قام بها " همرشولد " إلى المنطقة في العام 1959 لمتابعة إيجاد حلّ لمشكلة اللاجئين حيث تبين له أنّ إسرائيل ترفض تطبيق قرار التقسيم رقم 181 والقرار 194 الخاص بعودة اللاجئين؛ فاقترح "همرشولد" أن يتم توسيع برنامج التأهيل للاجئين من خلال وكالة الغوث، والعمل على توطين اللاجئين في العالم العربي!! وأخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى قضية اللاجئين بعد مؤتمر مدريد، حيث أقرّ مؤتمر موسكو المنعقد في العام 1991 بعد هذا المؤتمر تشكيل خمس لجان في إطار المفاوضات متعددة الأطراف، ومن ضمنها لجنة شؤون اللاجئين حيث اجتمعت هذه اللجنة مرتين في أوتاوا عام 1992، ومرّة في أوسلو عام 1993، ورابعة في تونس عام 1993، وكانت الخامسة في تركيا عام 1994.

    لقد أكّد مندوب المجموعة الأوروبية في أوتاوا على ضرورة عدم نسيان الأهداف السياسية التي يجب تحقيقها، حيث أنّ مشكلة اللاجئين هي سياسية في جوهرها، ويجب أن لا يتم بحثها في فراغ سياسي لكي نتمكّن من تحقيق سلام عالمي، وذلك بالاحترام الكامل للقوانين الدولية التي تضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما طالب ممثّل الوفد الفلسطيني في اجتماعات أوتاوا بتطبيق القرار 194، وفي اجتماعات أوسلو طالب بتطبيق القرارين 194 و 181 بمعنى أن ممثّل الوفد الفلسطيني طالب بعودة اللاجئين وقيام الدولة العربية في فلسطين بموجب قرار التقسيم الصادر في 29/11/1947 بحسب تقرير وزارة الإعلام الفلسطينية / المكتب "الصحفي" المنشور بتاريخ 25/3/1996. ولعل من الضروري هنا أن يشار إلى ما تراه الغالبية الساحقة من الناس في هذه الديار، وهو أنّ قضية اللاجئين الفلسطينيين هي قضية الأرض والإنسان الفلسطيني، لأنها باختصار تعني ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني، وأربعة أخماس الأرض الفلسطينية، وهي تخص الشعب الفلسطيني لأنها أساس صراعه مع الاحتلال الإسرائيلي، وبدون إيجاد حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين لن يكون هناك أمن أو سلام أو مصالحة تاريخية في هذه المنطقة، لأنّ أي تجمع فلسطيني من تجمعات اللاجئين الفلسطينيين سوف يعمد إلى تشكيل حزب سياسي وطني يتبنى الكفاح المسلح، ويستمر في النضال من أجل حق عودة الفلسطيني إلى أرضه ووطنه.

    ومن هنا فإن كل هذه الدعوات الفلسطينية التي تصدر من هنا وهناك لا تعبّر عن طموح الشعب من جهة، ولا تعبر عن واقعية الصراع من جهة أخرى، وعليه فإن على حكومات إسرائيل، وصنّاع قرارها السياسي أن يدركوا حقيقة أن لا أمن ولا سلام في هذه المنطقة على حساب قضية اللاجئين، وأنّ المشكلة هي في عقيدة إسرائيل، وليست في الشعب الفلسطيني الذي قبل بقرار 194 كأساس للحد الأدنى لحقوقه السياسية، والتي تعني هنا عودةً من دون إزالة دولة إسرائيل، بل عودة الفلسطينيين الفردية والجماعية إلى دولة إسرائيل التي أقيمت على أرض فلسطين، وهذا الأمر ممكن إذا نحن عرفنا أن 80% من الإسرائيليين يسكنون في أقل من 30% من أرض فلسطين، أي أن في البلاد متسعًا لاستيعاب المهجَّرين بموجب القرار 194... إن المواطن العادي في هذه الدّيار قد كره هذا النهج القائم على تقديم تنازلات جديدة في كل يوم، وهو يريد حقه كاملاً غير منقوص في وطنه، ويريد عودة كريمة إلى أرضه، وهو يؤمن بالسلام العادل المقنع المشرّف الذي لا يؤسس لصراع جديد لا يعلم أحد مدى آثاره المدمّرة، إنه يريد السلام الذي يصنع الحياة والمحبة والتقدم، ويبني جسور الثقة بين كل الناس في هذه المنطقة من العالم.. فهل هذا كثير؟؟.

    وبعد،

    فإن السلام العادل الدائم الشامل المقنع هو هدف شعوب هذه المنطقة.. وإن الطريق إلى هذا السلام يكون فقط بإعادة الحقوق إلى أصحابها.. وعلى رأس هذه الحقوق جميعًا حق العودة الذي نص عليه القرار (194) دون أدنى تحريف أو تغيير أو اجتهاد...لأنه "لا اجتهاد في مَوْرِدِ النَّصّ".. ولأنه لا يمكن لأي حل أن يعيش طويلاً إلا إذا كان عادلاً ومُقْنعًا.. ولأن تنفيذ القرار (194) بشأن اللاجئين الفلسطينيين هو الذي يؤسّس لسلام عادل في هذه المنطقة من العالم.. وتنفيذه فقط هو الذي ينهي دور وكالة الغوث الدولية في هذه المنطقة.. وبدون تنفيذ هذا القرار وعودة اللاجئين إلى ديارهم لا يمكن إنهاء عمل هذه الوكالة في هذه الديار، لأن المجتمع الدولي هو الذي كلف هذه الوكالة بالإشراف على أمور اللاجئين الفلسطينيين، وتوفير كافة ضروريات الحياة لهم إلى أن تحل قضيتهم ويعودوا إلى ديارهم... فهل حُلّت هذه القضية، وهل عاد اللاجئون والمهجَّرون إلى ديارهم كي نسمع بعض الأصوات التي تنادي اليوم بإنهاء عمل وكالة الغوث؟... لا... لم يعد أحد من هؤلاء إلى بيته.. بل إن الأحوال المزرية التي يعيشها الفلسطينيون في كل مكان، وبخاصة في هذه الديار تقضي بوقف هذا التقليص الزاحف على الخدمات التي تقدمها الوكالة لهؤلاء اللاجئين، والعودة بها إلى ما كانت عليه عندما كانت النكبة في ذروتها..فأحوال الغالبية الساحقة منهم بلغت حدًّا غير مسبوق من المعاناة والسوء.

    واليوم يعترف اليهود لأول مرة منذ قيام كيانهم على أرض فلسطين بالنكبة.. وهم يعتزمون تدريسها في سائر المدارس العربية واليهودية في كيانهم.. لقد اعترفوا لأول مرة بأن قيام كيانهم في فلسطين عام ثمانية وأربعين كان نكبةً لعرب فلسطين، بل للعرب والمسلمين كافة؛ فهل يكون هذا الاعتراف بداية صحوة شاملة تسفر عن إعادة الحقوق إلى أصحابها؟ وهل يكون هذا الاعتراف، وتدريس هذا الكتاب الذي يتحدثون عنه اليوم حولها في مدارسهم بدايةً لتصحيح شامل يضع النقاط جميعها على كل الحروف، ويسمح للفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم وممتلكاتهم بتطبيق القرار 194؟                    

 

 

 

الاقتلاع والتهجير..

 

 

    لقد بذلت الولايات المتحدة الأمريكية قصارى جهدها لإقرار مشروع تقسيم فلسطين إلى دولتين .. وعلى الرغم من أن هذا القرار الذي حظي بأغلبية ثلاثة وثلاثين صوتًا ضد ثلاثة عشر، وامتناع عشر دول عن التصويت، هو قرار صادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة لاعن مجلس الأمن الدولي، إلا أن اليهود والصهيونية العالمية والولايات المتحدة قد اعتمدته أساسًا لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين على مساحة تبلغ ( 56.5% ) تقريبا من مساحة البلاد في الوقت الذي كانت فيه الجالية اليهودية آنذاك تمتلك نحو سبعة بالمئة من المساحة الإجمالية البالغة أكثر من سبعة وعشرين ألف كيلو متر مربع .. وفي الوقت الذي كان فيه عدد السكان اليهود ( 560.000 ) خمسمئة وستين ألفًا مـن مجمـوع سـكان البلاد البالغ آنذاك (1.690.000 ) مليونًا وستمئة وتسعين ألف ساكن، وفي هذا السياق يشار إلى أن دافيد بن غوريون، كان يعتمد على عامل الزمن من أجل وضع اليد على ما تبقى من فلسطين، وعلى ما يمكن الوصول إليه من أرض العرب... وهذا ما حدث قبيل إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، وبعد خروجها منها عندما احتل اليهود بقوة السلاح مناطق واسعة من فلسطين كانت مخصصة للدولة العربية بموجب قرار التقسيم.. وأصبحوا يسيطرون على قرابة ثمانين بالمئة من أراضي البلاد يوم الخامس عشر من أيار عام ثمانية وأربعين، إضافة إلى افتعال عدد من المجازر بهدف تهجير الغالبية العظمى من العرب الفلسطينيين من ديارهم، والاستيلاء على ممتلكاتهم، وهذا ما حصل فعلاً بعد تهجير قرابة ثمانمئة ألف فلسطيني بقوة السلاح من مدنهم وقراهم.. ويشكل هذا العدد أكثر من سبعين بالمئة من عرب فلسطين آنذاك.. ويبلغ تعداد اللاجئين الفلسطينيين اليوم أكثر من أربعة ملايين لاجئ.

    وعلى الرغم من أن الصهيونية العالمية كانت المستفيد الأول من قرار التقسيم.. وعلى الرغم من مؤازرة الولايات المتحدة لهذا القرار قبل التصويت عليه وبعد التصويت، إلا أن الولايات المتحدة قد اقترحت في آذار من عام ثمانية وأربعين وضع فلسطين تحت وصاية دولية بدلاً من تنفيذ قرار التقسيم.. وذلك بسبب رفض المسلمين والعرب وكثير من الفلسطينيين لهذا القرار، والمقاومة الشرسة التي خاضوها منذ صدوره ضد القوات البريطانية المنتدبة على فلسطين، والقوات اليهودية التي تنسّق مع بريطانيا لتنفيذ هذا القرار.. وبسبب خوف الولايات المتحدة من تعرض مصالحها في المنطقة للخطر.. ولكن الحركة الصهيونية ظلت تضغط حتى تراجعت أمريكا عن هذا الاقتراح.. وعادت لتؤيد من جديد قرار التقسيم.

    إن هذه الدولة التي أقامها اليهود عام ثمانية وأربعين قد توسعت عام سبعة وستين لتشمل فلسطين كلها، ومناطق واسعة من أرض العرب.. وهكذا وقعت فلسطين كلها لأول مرة في تاريخها تحت احتلال يهودي استيطاني يطلق على المدن والقرى والجبال والأنهار والسهول والوديان والمواقع الأثرية والدينية والتاريخية أسماء قديمة يقول هو إنها عبرية، ويقول الفلسطينيون إنها كنعانية أو يبوسيّة (عربية قديمة).. ويذهب معهم هذا المذهب كثير من المؤرخين وعلماء الآثار المحايدين المنصفين.. وكانت حكايتنا مع ضم القدس الشرقية عام سبعة وستين إلى الشطر المحتل عام ثمانية وأربعين.. وحكايتنا مع: الاستيطان.. ومصادرة الأراضي.. وهدم البيوت.. واقتلاع الأشجار.. وتلويث البيئة.. ونهب المياه.. وغلاء الأسعار.. وغسل أدمغة الناس ولا سيما الشباب.. والسجون.. والتعذيب.. والاعتقال الإداري.. واعتقال الأطفال والنساء.. والأحكام العسكرية.. وقوانين الطوارئ .. ونشر الفساد.. وقلب الحقائق.. والتلاعب بالتاريخ والجغرافيا... لقد بات واضحًا أن الهدف هو تهويد الأرض المحتلة عام سبعة وستين، والقضاء على الإنسان العربي الفلسطيني، وتصفيته نفسيًّا وجسديًّا وفكريًّا، وشلّ طاقاته وقدراته، وقهره، وحصر همه في الحصول على لقمة العيش في أحسن الأحوال .

    لقد سجل التاريخ أن الفلسطينيين رفضوا قرار التقسيم عام سبعة وأربعين، كما رفضوا قيام "إسرائيل" على الجزء الأكبر من فلسطين عام ثمانية وأربعين.. وعبّروا عن رفضهم هذا بالمقاومة المسلحة الشرسة التي خاضوها ضد القوات البريطانية واليهودية على أرض فلسطين.. كما رفضت ذلك شعوب العالمين العربي والإسلامي.. وكثير من الأنظمة التي كانت قائمة آنذاك.. وقد ظلت المنطقة كلها مسرحًا للحروب والمعارك والأحداث الدامية منذ تلك الأيام وحتى أيامنا هذه..

    ومع أن كل أطراف الصراع كانت ولا تزال تعلم جيِِِّدًا أن شعب فلسطين كان ضحية مؤامرة رهيبة منذ صدور وعد بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام سبعة عشر وتسعمئة وألف.. وأنه استُهدف للاقتلاع والتهجير من أرض آبائه وأجداده.. وأُجبر على النزوح عن وطنه، والعيش في التيه والشتات والمنافي وديار الغربة منذ النكبة... أقول على الرغم من معرفة الدنيا كلها بما جرى لشعب فلسطين إلا أن المجتمع الدولي لم يفعل شيئًا حتى الآن من أجل إعادة الأمور إلى نصابها والحق إلى أصحابه.. وعلى الرغم مما يفعله هؤلاء المحتلون بمن بقي من الفلسطينيين على أرض الوطن من تقتيل وتعذيب وتجويع وعزل وإهانة واعتقال واعتداء وإذلال وحصار.. وما ينتج عن ذلك كله وكثير غيره مما لا يُرى ولا يُقال من تدمير كامل للاقتصاد، وتشويه للأوضاع الصحية والتعليمية والاجتماعية.. وتعهير لكل المبادئ والقيم والمثل العليا.. وتحطيم للأطفال الذين أصبح زادهم اليومي آباء يُضربون ويُهانون ويُجرّدون من ملابسهم عند الحواجز (وما أكثر هذه الحواجز!) ثم يؤمرون بالانصراف هكذا، وربما مقيدي الأيدي أو الأرجل.. وأحيانًا يُقتلون أمام أطفالهم بدم بارد.. وأمهات يتعرضن لكل ألوان الإهانة والعري والجوع والموت عند الحواجز وغير الحواجز.. وزملاء وأقران تتناثر أشلاؤهم لتملأ الدنيا دمًا وهلعًا وفزعًا وخوفًا ورعبًا وحقدًا أسود تكفي شحنةٌ منه لتعكير صفو الحياة على هذا الكوكب.. نقول: على الرغم من هذا كله إلا أن المجتمع الدولي لم يتقدم حتى الآن لإنقاذ هذا الشعب: شبابه، وشيبه، ونسائه، وأطفاله، ومصالحه، وحرياته، وكل أوجه حياته اليومية من الانهيار والتلاشي والزوال، وردود الفعل اليائسة كلما كان ذلك ممكنًا !!!

    إننا بحاجة ماسّة - يقول الفلسطينيون - لاستخلاص الدروس والعبر من هذا الذي حدث ويحدث في

هذه الديار منذ النكبة وبدء زمن التيه وحتى يومنا هذا.. ما أحوجنا لوقفة طويلة لا على طلل نبكيه أو رسم نسائله.. وإنما وقفة طويلة هادئة نستعرض فيها ما جرى منذ مطلع القرن الماضي من عوامل وأسباب كانت المقدمات التي أدت إلى النكبة.. مرورًا بذلك العام الرهيب، وبما انطوى عليه من تقتيل واقتلاع وتهجير، وبما شهده من الأحداث الجسام التي ما زلنا نعيش نتائجها وآثارها وأصداءها وتفاعلاتها المدمرة على كل المستويات منذ ذلك العام.

    ما أحوجنا اليوم لاستخلاص كل الدروس، ومن ثم الالتزام بالمواقف والإجراءات التي من شأنها أن تمنع تجدد النكبة وتكرارها في أي مكان من ديار العروبة والإسلام، بل وفي أي مكان في هذا العالم من جهة .. ولكي نعمل جميعًا وبدون استثناء من جهة ثانية لمعالجة آثار هذه النكبة، ووضع حد لمضاعفاتها وتفاعلاتها ونتائجها على كل الصعد والمستويات، ومن ثم العمل الواعي المبصر المدروس من أجل استعادة حقوقنا المشروعة كاملة غير منقوصة في بلادنا السليبة فلسطين .

    وإذا كان استعراض الأوضاع والأسباب التي أدت إلى النكبة شرطًا لمنع تجددها وتكرارها بسبب انتفاء تلك الأوضاع والأسباب افتراضًا فإن استعادة الحقوق تأتي نتيجة تحديد هذه الحقوق، والإيمان بها قولاً وممارسة، لأنها حقوق أولاً.. ولأنها واقعية ومعقولة وقابلة للتطبيق من جهة ثانية، إذ ليس هنالك ما يمنع من إعادة النظر في القرار (181)، وليس هنالك ما يمنع تنفيذ القرار (194)، وليس هنالك ما يمنع إحياء فكرة الدولة العلمانية... بل ربما كان هذا الطرح الآن مقنعًا أكثر منه في أي وقت مضى.

    لا شك في أن هناك فوارق وخلافات في وجهات النظر بين أطراف الصراع في هذه المنطقة.. ولا شك في أن هذه الخلافات التي تبدو كبيرة في معظم الأحيان من الممكن تقليصها إلى الحد الأدنى إذا تخلت الدول الاستعمارية عن أطماعها في بلاد العرب، أو أُرغمت على التخلي عن هذه الأطماع... إن قرارًا سياسيًّا عربيًّا جريئًا موحَّدًا مصرًّا على الندِّيَّة والاحترام، والكف عن العدوان والغزو والتدخل في الشأن العربي كفيل بتحقيق هذا الهدف.. وكفيل أن يساهم مساهمة فعّالة في تحرير سائر الأراضي العربية التي ترزح تحت نير الاحتلال والعدوان... فلا شيء يرضي الشعوب كالتحرر، والسيادة ، والمعاملة باحترام، وعلى قدم المساواة .     

    إن شعبنا العربي الفلسطيني مطالَب بالتصدي لكل هذه الضغوط التي يمارسها الغزاة الطامعون ضده لكسر إرادته، ودفعه إلى هاوية اليأس والاستسلام للشروط المذلّة المهينة التي يحاول هؤلاء أن يفرضوها عليه.. شعبنا مطالب بالوقوف صفًّا واحدًا موحَّدًا ضد كل المحاولات التي تستهدف تجويعه، وتركيعه، وفرض الحلول الاستسلامية عليه من جانب واحد .. وتصفية قضيته، وعزله في هذه الجيوب محطَّمًا بائسًا يائسًا جائعًا لا يلوي على شيء .

    أمة العرب هي الأخرى مطالبة (يقول الفلسطينيون) بالوقوف إلى جانب شعبنا .. والمجتمع الدولي هو أيضًا مطالب بالوقوف إلى جانبنا ... إن أبسط حقوقنا المشروعة تقضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم بموجب القرار (194) ، وإن أبسط حقوقنا المشروعة في هذه الديار تقضي بأن نحيا سادةً كرامًا على أرضنا في دولة عربية  فلسطينية مستقلة في حدود 67 .. وإذا رفض هؤلاء المحتلون ذلك ففي حدود سبعة وأربعين .. وإذا رفضوا ففي دولة علمانية في كل أرض فلسطين .. وإذا رفضوا فعلى الباغي تدور الدوائر ..

    وبعد هذا كله، أو قبل هذا كله يتساءل الفلسطينيون في هذه الديار وفي الشتات:

    إلى متى سيظل هذا الشعب هائمًا في التيه يرسف في أغلال العبودية والذل والهوان والجوع والفقر والمرض؟؟ وإلى متى سيبقى هكذا بنصفيه: المقيم هنا على جمر الوطن، والمحترق هناك بنيران اللجوء والاغتراب ؟؟ ألا يرى المجتمع الدولي كل هذا ؟ ألا يسمع ؟ أما آن لهذا الشعب أن يعيش في وطنه مثل شعوب هذا العالم ؟ لقد جُنّت أمريكا وطار صوابها، ولم يعد إليها العقل حتى الآن نتيجة بضع ضربات هدمت عددًا من المباني، وأودت بحياة بضعة آلاف من الناس.. فماذا يقول شعبنا الذي يتعرض للتهجير والاقتلاع والإبادة منذ عقود طويلة ؟ ماذا يقول هذا الشعب الذي خسر كل شيء، ولم يعد خائفًا على أي شيء، بعد أن كان حتى عام ثمانية وأربعين شعبًا مثل شعوب هذه الدنيا يعيش على أرض وطنه فلسطين ؟ ومع ذلك فإن هنالك من يتهمه بالإرهاب، وممارسة العدوان على الآخرين!!

    مخطئٌ من يعتقد أنّ في الدنيا فلسطينيًّا يهوى القتل، ويعشق إراقة الدماء، ويفضّل الموت على الحياة. ومخطئٌ أيضًا من يعتقد أن الفلسطيني ميّال للعنف بطبعه، محبّ للدمار والخراب بفطرته، وبحكم تربيته ونشأته وفكره وثقافته!! بل إن نقيض هذا هو الصواب: فالفلسطيني طيّب بطبعه، مسالم بحكم تربيته ونشأته، محبّ للخير والإحسان، عطوف على الضعفاء، يغيث المستغيث، ويجير المستجير، ويكرم الضيف، ويقف إلى جانب المضطهدين والمنكوبين والمستضعفين في الأرض.

    لا أقول هذا افتراءً، أو تعصّبًا، أو ادّعاءً باطلاً لقلب الحقائق، وتزوير التاريخ، أو تنزيهًا لشعبي الذي أنتمي إليه من النقائص والعيوب، بل أقوله وأنا مؤمن به كل الإيمان، وبعد قراءات مستفيضة لتاريخ هذا الشعب، ودراسات موسّعة لمسيرته عبر التاريخ، ومعايشة يومية واعية حيّة لكل الحوادث والأحداث التي عصفت بهذا الشعب منذ  النكبة ولا تزال.

    وليس أدل على صدق هذا القول وصحّته من ترحيب هذا الشعب خلال العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي - وخلال فترة الحرب العالمية الثانية - بكل الغرباء والهاربين من جحيم تلك الحرب، حيث تحولت فلسطين في تلك الفترة - وبخاصة سهلها الساحلي ومنطقة الوسط فيها - إلى منتجعات لكل من ينشد الأمن والأمان والهدوء في هذه الديار من يهود أوروبا وغير أوروبا، وذلك على الرغم من مرور سنين طويلة على وعد بلفور!! وعلى الرغم من وضوح الأطماع التي كان يبديها كثير من الهاربين إلى هذه الديار الفلسطينية التي رحّب بهم شعبها الطيب الذي لم يخطر بباله إطلاقًا أن يحدث كل هذا الذي حدث!!

    نقول هذا، ونقول غيره أيضًا، بعد أن أقام أبناء "العمومة" من بولنديين وإنجليز وأمريكان وهولنديين وغيرهم وغيرهم من كل أسود وأبيض وأشقر وبرتقالي وأزهر دولة لهم بقوة السلاح سندها "القانوني" وعد منحه وزير خارجية بريطانيا اليهودي "بلفور" عام سبعة عشر وتسعمئة وألف، وبذلك تم تشريد أكثر من ثمانمئة ألف مواطن عربي فلسطيني - هم غالبية سكان هذه البلاد - ليصبحوا اليوم وبعد تسعة وخمسين عامًا من نكبة عام ثمانية وأربعين أكثر من أربعة ملايين يعيشون في شتى أرجاء الدنيا حياة الهجرة والتشرد واللجوء والحرقة في الوقت الذي يعيش فيه مثل هذا العدد على أرض الوطن حياة المهانة والفقر والمرض والموت بكل أشكاله، وأبشع صوره..!!

    هكذا كان جزاء من أحسن وأشفق، ومد يد العون والمساعدة لكل الوافدين والهاربين والمستجيرين بنا من أبناء "العمومة".. هكذا كان الجزاء: تقتيلاً، وتنكيلاً، وتهجيرًا للسكان الشرعيين الأصليين، وإقامة كيان عنصري لكل الغرباء على أرض فلسطين، كيان طامع في كل أرض العرب، قائم على التزوير، والخداع، وقلب الحقائق، وتقتيل النساء والأطفال وإرهابهم، وزرع الخوف والرعب في قلوب الأطفال الذين لم يولدوا بعد من أبناء هذا الشعب الذي كان طيّبًا مضيافًا مسالمًا ذا نخوة، فَجَنَتْ عليه كل هذه المثاليات!!

    وفي زمن التِّيه، وقبل الغوص في التفصيلات والتحليلات وكل أوجاع القلب التي عاشها هذا الشعب ولا يزال، يؤكّد الفلسطينيّون جميعًا على أن السلام العادل الدائم الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها كاملة غير منقوصة هو الضمانة الوحيدة لحياة آمنة مستقرة بل ومزدهرة في هذه المنطقة المتفجّرة من العالم!! ويؤكد هذا الشعب على أن السلام العادل الدائم هو السلام الذي تقتنع به الشعوب، وتتبنّاه، وتدافع عنه في وجه الجشع والطمع والعدوان والطغيان، لأنه يضمن لها حقها في العيش الكريم، والحرية، والأمن، والأمان، والازدهار... السلام قناعة، وهو محبة وتسامح وفهم عميق للحياة.. وهذه الأمور لا يمكن أن يفرضها أحد على أحد بالقوة والإكراه والظلم والعدوان.. ولم يسبق في تاريخ البشرية أن قام سلام على حراب الغزاة، وجرّافات المستوطنين وبغيهم وعربدتهم وإرهابهم، فالفرق كبير بين السلام العادل، والاستسلام الذي لا يمكن أن يقبل به أحد.

    يجدر بمن يبحثون عن حلول للقضية الفلسطينية في هذه الأيام أن يستفيدوا من تجارب من سبقوهم في هذا المجال على امتداد العقود الماضية.. ويجدر بهم أن يضعوا في اعتبارهم عددًا من الحقائق التي لا بد منها من أجل التوصل إلى الحلول العملية العادلة التي تصلح أن تكون أساسًا لسلام مقنع دائم متوازن

يعيد الحقوق إلى أصحابها، ويضمن حياة هادئة آمنة مستقرة لكل شعوب هذه المنطقة المتفجّرة من العالم.

    ولعل على رأس هذه الحقائق أنه لابد أولاً من إجراء مسح شامل سريع للاجئين والمهجّرين الفلسطينيين في الشتات وعلى أرض الوطن بهدف الوقوف على حقيقة أحوالهم، ومعرفة أعدادهم في سائر الأماكن والأقطار التي يقيمون فيها تمهيدًا لتنفيذ قرار المجتمع الدولي رقم (194) الذي يقضي بإعادة كافة المهجّرين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أُجبروا على مغادرتها عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف... وهذا يعني أن يتناول البحث هؤلاء اللاجئين الذين يقيمون في الأراضي المحتلة منذ عام سبعة وستين (الضفة الغربية وقطاع غزة) بهدف إعادتهم إلى مدنهم وقراهم وممتلكاتهم... وكذلك فإن من الضروري أن تتناول هذه العملية المسحية الإحصائية الشاملة كافة المهجّرين العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في وطنهم ولكن في مدن وقرى غير مدنهم وقراهم التي تم تدميرها وتسويتها بالأرض بعد قيام الدولة العبرية عام ثمانية وأربعين... ومن الضروري بطبيعة الحال أن تتولى لجنة مختصة عملية مسح دقيق لكافة القرى العربية، ولكافة مضارب الخيام التي كانت قائمة في فلسطين قبل عام النكبة، وقبل قيام الإسرائيليين بتدميرها.. بهدف معرفة العدد الحقيقي الصحيح لهذه القرى التي قيل إن عددها يبلغ خمسمئة وخمسين قرية، وقيل إنه أكثر من ثمانمئة قرية.. ولمعرفة عدد المهجرين من أبناء هذه القرى... ثلاث فئات من اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين إذن لا بد من أخذ قضيتهم بعين الاعتبار، ولا بد من إجراء عملية مسح وإحصاء شاملة تتناول أوضاعهم المختلفة بهدف حل قضيتهم، وإعادتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي أجبروا على التخلي عنها عام ثمانية وأربعين في أعقاب قيام الدولة العبرية على الجزء الأكبر من أرض فلسطين آنذاك.

    فإذا قال قائل إن هذا الأمر صعب، وهو خيالي، وغير قابل للتنفيذ قال كثير من المعنيين بالحل العادل إنه سهل، وإنه واقعي وقابل للتنفيذ... فالناس هم الناس.. والأرض هي الأرض والحق هو الحق.. والقرار هو القرار... والرغبة في إحلال السلام الحقيقي العادل الدائم المشرّف الذي لا غالب فيه ولا مغلوب هي الضمانة العملية الذاتية لإحلال هذا السلام.

    ولعل من الحقائق التي يجدر بالباحثين عن الحلول لقضايا هذه المنطقة وضعها في اعتبارهم أن ينسحب الإسرائيليون من كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام سبعة وستين دون أي استثناء أو تأخير أو تسويف بما في ذلك القدس الشرقية التي ينبغي أن تعود إلى وضعها الذي كانت عليه في الرابع من حزيران من عام سبعة وستين... وأن ينسحبوا أيضًا من كافة الأراضي العربية المحتلة وتحديدًا مما يحتلونه من أرض لبنان والجولان... وأن يكف المعتدون عن عدوانهم وأوهامهم وأحلامهم في تدمير هذه البلاد، وفرض سيطرتهم عليها... ليعيش الناس جميعًا في هذا العالم بأمن وأمان واستقرار وسلام بعيدًا عن الاقتلاع والتهجير والعدوان.. وبعيدًا عن أحلام السيطرة، وأوهام الفوضى الخلاّقة، وبدعة الشرق الأوسط الجديد.

 

 

هذه الحاضنة

 

    لقد شهد الوطن العربي في أعقاب نكبة عام 1948 سقوط أنظمة، وقيام أخرى على أنقاضها... كما اجتاحه وابل من الشعارات الثورية، والحماسة القومية، والخطب النارية التي تنادي بحشد كل الطاقات والإمكانات العربية لمعركة العرب الأولى... وشهد هذا الوطن العربي فيما شهد من أحداث تلك الانقسامات، والصراعات الحادة بين الثورية، والرجعية العربية... كما شهد أيضًا عددًا لا بأس به من الهزائم العسكرية التي كانت في حقيقتها وجوهرها هزائم حضارية بقدر ما كانت أيضًا هزائم اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وفكرية.

    في عام النكبة كان للعرب سبع دول... وبعد النكبة أخذ عدد هذه الدول في الارتفاع حتى جاوز العشرين... وكأن معركة العرب الأولى تتطلب مزيدًا من التشرذم، والانقسام، والتفكك، والخلافات الفكرية، و"العقائدية"، والإيديولوجية، والاستراتيجية، والتكتيكية المغلفة بشعار وحدة الصف، والهدف، والمصير... واجتاحت الوطن العربي حمى اللقاءات، والمؤتمرات، والاجتماعات، والمشاورات، والمحادثات، والمحاور... وكانت محاولات التنسيق، والتفكير، والتدبير، والتضامن... حتى إذا أزفت الآزفة، وكانت "المواجهة" لم يسفر ذلك كله إلا عن خسائر جديدة، وهزائم جديدة، ونكبات فاقت في بشاعتها، ومرارتها، وآثارها المدمرة نكبة عام 1948.

    وبالرغم من تلك الهزائم المتلاحقة فقد كان ولاة الأمر في كل مرة، وفي أعقاب كل هزيمة يصرون على المضي قُدُمًا في طريق الهزائم!.. ويصرون على التمادي في نهجهم لأنهم وحدهم الذين يعرفون الحقيقة!.. ولأنهم وحدهم الأوصياء على شعوب الأمة العربية! ولأنهم وحدهم الذين يحسنون التخطيط لمستقبل هذا الوطن!.. ولأنهم وحدهم القادرون على رسم خطط التحرير، ووضعها موضع التنفيذ!.. ولأنهم وحدهم المستهدفون في كل الحروب التي شهدتها المنطقة!.. وما داموا بخير فنحن المنتصرون على الرغم من تلك الهزائم الكثيرة المتلاحقة التي منيت بها أمتنا منذ النكبة!!

    لقد رفض كل الأوصياء على أمتنا كافة الحلول التي عُرضت على هذا الشعب قبل نكبة عام 1948، وبعد تلك النكبة أيضًا... وكان طبيعيًّا أن يشنوا حربًا شرسة على كل من حاول الارتقاء بتفكيره، وأسلوب عمله ليرتفع إلى مستوى الحدث... وكان طبيعيًّا طوال تلك السنين أن توجه ألعن التهم إلى كل مــن حــاول محــاربة الخصوم والأعداء بسلاحهم داحضًا الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان إلى جانب الوسائل المشروعة الأخرى في الرد والمواجهة والتصدي.

    ونتيجـة لـذلك كـله تعطلت عقـول الناس، واضمحلت الأفكار، وفقد الإنسان معناه في بلاد العرب، وأصيب باليأس، والقنوط، والإحباط... وبات مقموعًا مضطهدًا عليه أن يجتر أفكار غيره من دهاقنة السياسة، وجهابذة الفكر، وأساطين البيان، أو أن يسكت.. وإلا فإن الجحيم في انتظار كل مارق فاجر خـارج علـى القـانون عابــث بأمـن المجتمــع، ومبادئــه، وعقائده، وثوابته، وأخلاقياته، وقناعاته، ونضالاته... متنكر لدماء شهدائه، وأبطاله!!.

    فإن قال قائل: لماذا نجحت الثورة في تحويل الصين إلى واحدة من الدول الكبرى خلال عشر سنوات فقط من قيامها؟ ولماذا نجح الفيتناميون في قهر آلة الحرب الأمريكية، وإرغام الولايات المتحدة على الخروج من بلادهم مهزومة خاسرة صاغرة؟ قالوا: زنديق كافر يروج للمبادئ الهدامة!! فإن قال: إن حل مشكلاتنا رهن بقيام دولة الخلافة الإسلامية التي من شأنها أن تجمع شتات المسلمين والعرب في دولة كبرى قالوا: أصولي إسلامي إرهابي متطرف!! وإن قال: لا بد من قيام دولة الوحدة العربية بأي ثمن لحل سائر مشكلات الأمة العربية قالوا: متخلف من بقايا العهد الناصري الذي أساء إلى كل العرب، وأضر بكل قضاياهم! وإن قال: لا بد من سيادة القانون والنظام، ولا بد من احترام إنسانية الإنسان، وضمان حقه المقدس في التفكير، والتعبير، والعيش باحترام في أرض العرب. قالوا: متطاول مغرور يحشر نفسه فيما لا يعنيه!! وإن سأل سائل: لماذا كثرت هزائمنا، وتوالت نكباتنا ومآسينا؟ ولماذا انتصر الآخرون؟ قالوا: حاقد كاذب مزور منحاز! فنحن لم نُهزم ، والآخرون لم ينتصروا!!

    لقد تمكنت تلك الأنظمة من تحقيق انتصاراتها المؤزرة على الإنسان العربي، وعلى الشارع العربي، وعلى التاريخ العربي، والجغرافيا العربية، وعلى القيم، والتراث، والحضارة العربية.. وباتت - في أحسن الأحوال - تتحكم بمصائر الناس ومقدّراتهم.. وتستخف بالإنسان، وتتاجر به، وبكرامته، وإنسانيته تجارة دونها تجارة الرقيق...

    يقول كثير من المثقفين العرب: لقد آن لنا أن نفهم أننا لن نكون شيئًا مذكورًا في هذه الدنيا إلا بالوحدة الشاملة التي تضع حدًّا لمهازل الضعف، والانقسام، والتشرذم، والعجز، والفشل، والهوان، والفقر، والمرض، والطبقية، والنفاق ، والتناحر، والكذب، والغباء، والتدليس، والخنوع... إن الوحدة الشاملة وحدها هي العلاج لكل علل العرب، وأمراضهم، ومذلتهم، وهوانهم على الناس... والوحدة آتية لا ريب فيها.. وهي حتمية تاريخية، وضرورة اقتصادية، وحاجة اجتماعية، وحالة شعورية وجدانية نفسية قومية.. وهي البناء السياسي العسكري الحضاري الذي يمكن أن يعيش فيه كل العرب حياة عزيزة كريمة مثل غيرهم من الشعوب المحترمة في هذا العالم... أما متى سيقوم هذا البناء، وكيف؟ فالمسألة مسألة وقت لا أكثر... أما وسائل إقامة هذا البناء فرهن بمزيد من التجارب، والتفاعلات، والوعي على الألم والمخاطر التي تهدد الإنسان العربي، والوجود العربي الحر الفاعل في صنع التاريخ.. وهي رهن أيضًا بالقدرة على الفهم، والاستنتاج، وامتلاك روح المبادرة، والإصرار على مواجهة كافة أشكال التحدي التي تعترض إقامة هذا المشروع الكبير.

 

من بلفور ووعده..

مرورًا بـ"إيدن" وحرب السويس

    في محاولة منه للتقليل من دور بريطانيا في تمكين اليهود من فلسطين، وإقامة وطن قومي لهم فيها، وتحميل أهلها مسئولية ما يحدث، فقد قام المندوب "السامي" البريطاني في فلسطين بدعوة عدد من "وجهاء" البلاد إلى مقر إقامته في القدس.. ولما تأخر "صموئيل" عن موعده مع المدعوين، ولما كان المكان المخصص لاستقبالهم لا يتسع إلا لعدد محدود منهم؛ فقد أخذوا يتهيأون للانصراف.. وهنا ظهر المندوب "السامي" حيث قال لهم: لقد بدأتم بالانصراف بعد أن تعبتم من الوقوف بعض الوقت بسبب تأخري.. ولو لم يجد اليهود أماكن لاستيعابهم في بلادكم لما استقروا فيها.. ولو لم يجدوا ما يحتاجون إليه من أرض يقيمون عليها مدنهم وقراهم هنا لما أنشأوا كل هذه المستوطنات الخاصة بهم، والتي هي في ازدياد كل يوم...

    وتلعنون "بلفور" الذي أعطاهم وعدًا بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين! وما وعد "بلفور" أكثر من وعد، أو جملة، أو عبارة من الوعود والجمل والعبارات الكثيرة التي وردت في التاريخ.. ولكنكم أنتم الذين تضعون هذا الوعد موضع التنفيذ ببيعكم كل شيء لليهود.. والآن يمكنكم أن تنصرفوا..!! فمن هو بلفور؟ وما الذي يمكن أن يصدر عن ذاكرة عربي فلسطيني في مناسبة كهذه؟

    في الثاني من تشرين الثاني من عام سبعة عشر وتسعمئة وألف منح اليهودي والسياسي البريطاني الذي شغل منصب رئيس الوزراء في بريطانيا، ثم وزير الخارجية فيها - آرثر جيمس بلفور – وعدًا لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، وهو الوعد الشهير بوعد بلفور،  رغبة منه في تقديم "خدمة" للحركة الصهيونية الراغبة في إقامة "دولة" لليهود.. ومن الثابت تاريخيًّا أن الحركة الصهيونية التي عقدت أول مؤتمر لها في بازل بسويسرا عام 1897، سبعة وتسعين وثمانمئة وألف. لم تفكر بإقامة هذه الدولة في فلسطين، إلا أن رأيها قد استقر على ذلك بعد موت ثيودور هرتزل.

    وكان من الطبيعي أن يبدأ كثير من يهود العالم - منذ ذلك الحين- بالتوجه نحو فلسطين .. كما كان من الطبيعي أيضًا أن تبدأ بريطانيا "العظمى" بإعداد العدة لمساعدة الصهيونية في تحقيق هذا الهدف بعد أن فرضت انتدابها على فلسطين في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وخروج الدولة العثمانية مهزومة من تلك الحرب.

    وفي عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف تمكنت الحركة الصهيونية بمساعدة بريطانيا وغيرها من دول الغرب والشرق من إقامة الدولة اليهودية على قرابة ثمانين بالمئة من أرض فلسـطين البـالغة مسـاحتـها أكثر من سبعة وعشرين ألف كيلو متر مربع، وتشريد الغالبية العظمى من عرب فلسطين.. لقد كان اليهود غاضبين لأن "بلفور" وعدهم "بوطن" في فلسطين، ولم يعدهم بفلسطين كلها كما جاء على لسان "بن غوريون" – أول رئيس وزراء في إسرائيل – حيث وجه نقدًا شديدًا لصيغة ذلك الوعد.. وعليه فقد ظل اليهود يعملون للاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين..

    وبعد أن بذلت المملكة المتحدة كل هذه الجهود لإقامة هذه "الدولة" كان من الطبيعي أن تعمل على حمايتها، وتزويدها بكل أسباب القوة والتفوق العسكري على العرب مجتمعين.. بل لقد ذهبت بريطانيا – صاحبة الأيادي البيضاء على العرب – إلى ما هو أبعد من ذلك حيث خاضت الحروب إلى جانبها ومن أجلها .. فقامت مع فرنسا آنذاك بضرب المد القومي العربي المتصاعد في تلك الفترة..لا لشيء إلا لقيام الثورة المصرية (ثورة 23 تموز 1952)، بتخليص مصر من الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدرها منذ عام 1882، وبعد معارك فدائية حقيقية في منطقة القناة تم توقيع اتفاقية الجلاء في تشرين الأول من عام 1954، ولقد خرج آخر جندي بريطاني من مصر طبقًا لهذه الاتفاقية في يوم 18/6/1956.. ومن (أسباب) ذلك أيضًا الدور الذي قامت به مصر في إنجاح كثير من المؤتمرات التي كان لها الأثر الكبير في محاربة الاستعمار مثل مؤتمر باندونغ عام 1955، ومؤتمر بريوني عام 1956، وكذلك كسر احتكار السلاح عام 1955، والاعتراف بالصين الشعبية في أيار 1956، ومساندة ثورة الجزائر (1954-1962) .. وفي 26/7/1956 أعلن جمال عبد الناصر القانون رقم (285) لسنة 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، الأمر الذي أزعج الغرب، وأفقده صوابه.. فراح يعد العدة للانتقام، وراح يعد العدة للعدوان بهدف احتلال قناة السويس من جديد، وضمان مرور السفن الإسرائيلية، بل وحماية إسرائيل نفسها من الخطر الذي بات يشكّله نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر عليها...

    فقد قامت بريطانيا وفرنسا إلى جانب ربيبتهما وحليفتهما إسرائيل "بشن العدوان الثلاثي على مصر في يوم الثلاثاء الموافق للتاسع والعشرين من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف (29/10/1956).. عندما قامت إسرائيل قبيل غروب شمس ذلك اليوم ببدء عملياتها الحربية ضد مصر، حيث أذاع راديو إسرائيل بلاغًا حربيًّا أعلن فيه أن القوات الإسرائيلية قامت باحتلال ثلاثة مواقع مصرية هي "الكونتلا" و"رأس النقب" و"نخل" وكان معنى ذلك أن إسرائيل (بقيادة عساف سمحوني) قد بدأت عدوانها من جنوب سيناء على أن تستمر في هجومها غربًا حتى تصل إلى السويس.. ومن جهة أخرى تعزل القوات المصرية في المنطقة الشمالية من سيناء قريبًا من قطاع غزة.. لقد قامت إسرائيل بعملية إنزال جوي في سدر الحيطان، واجتازت تلك القوة الكونتلا مسوّغة هجومها على تلك المنطقة بأنها كانت "وكراً" لنشاط الفدائيين المصريين، وبالإضافة إلى هذه القوة الاستكشافية كانت قوة إسرائيلية ثانية تحاول الاستيلاء على "القسيمة"، فأم قطف، فأبو عجيلة.. ثم تتقدم غربًا على طريق(أبو عجيلة – الإسماعيلية) للوصول إلى ضفة القناة عند الإسماعيلية بينما تتحرك قوة ثالثة على محور رفح– العريش – القنطـرة بهـدف احتـلال رفـح والعريـش، وبـعد احتلالهما تتحرك قوة رابعة للاستيلاء على قطاع غزة.. وتقوم قوة خامسة بالتحرك من بئر السبع إلى "إيلات" للاستيلاء على "رأس نصراني" وشرم الشيخ.

    وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك البرية والبحرية والجوية دائرة بين القوات المصرية والإسرائيلية المعتدية، وبعد مناورات سياسية غربية تمهد للتدخل العسكري، وفي 31/10 أعلنت وزارتا الدفاع في بريطانيا وفرنسا أن عملياتهما الحربية في منطقة قناة السويس قد بُدئت في ساعة متأخرة من ليلة أمس تحت قيادة بريطانية فرنسية مشتركة يتولاها الجنرال "كيتلي" القائد العام للقوات البريطانية في منطقة شرق البحر المتوسط بالاشتراك مع قائد فرنسي برتبة "أميرال"، كما أعلنت القيادة المشتركة لهذه القوات من مقرها في قبرص أن قاذفات القنابل بدأت منذ الساعة السادسة والنصف من مساء 31/10 بمهاجمة الأهداف العسكرية في مصر، وقالت وزارة الدفاع الفرنسية إن هذه الغارات الجوية هي بداية العمليات الحربية المشتركة في منطقة القناة.

    وأمر " أنتوني إيدن" رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، قواته بالنزول في مدن قناة السويس، وفي مدينة بور سعيد على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق من الإسكندرية.. وغير بعيد من العلمين.. بينما كانت القوات البرية البريطانية الفرنسية الإسرائيلية تتقدم في سيناء على الساحل الشرقي لخليج السويس.. لقد قررت القوات الغازية التي أرسلها البريطاني أنتوني إيدن، والفرنسي جي موليه لنصرة "بن غوريون" في تل أبيب إسقاط نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة الذي أصبح يقف على رأس نظام عربي قومي وحدوي تقدمي لا يهادن، ولا يساوم.. ويصرّ كل الإصرار على استعادة الحقوق كل الحقوق.. وتحرير الأوطان والإنسان.. وإقامة المشروع العربي الواحد الموحد على كل أرض العرب.

    ولا ينسى المواطنون في هذه الديار ما فعله الإسرائيليون في اليوم الأول للعدوان الثلاثي (29/10/1956) بأهالي بلدة كفر قاسم في المثلث الجنوبي، والمجزرة الرهيبة التي اقترفتها أيديهم هناك بهدف إرهاب الأهالي، وقمعهم لضمان عدم تحركهم في أثناء العدوان على مصر.

    ولا يمكن لمواطن في هذه الديار أيضًا أن ينسى ما قام به الإسرائيليون في قلقيلية قبل ذلك بأيام، وتحديدًا في ليل الخميس الموافق للعاشر من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف.. تلك الليلة التي دمر فيها الإسرائيليون مركز الشرطة ( حيث أقيمت على أرضه في وقت لاحق حديقة الحيوانات في المدينة ) وقتلوا من فيه، ومن كان حوله في الخنادق من أفراد "الحرس الوطني" آنذاك .. واجتاحوا البلدة.. وقتلوا كثيرًا من شبابها وشباب القرى المجاورة.. حيث بلغ عدد من قتلهم الإسرائيليون في تلك الليلة بقيادة "شارون" مئات الشهداء.. ولا يزال قبر الجندي المجهول الذي ضم كثيرًا من جثث الشهداء، وأشلائهم بعد معارك السلاح الأبيض في وادي عزّون، ماثلاً قائمًا أمام مصنع تشميع الحمضيات (المغلق) شرقي المدينة على جانب الشارع المؤدي إلى مدينة نابلس.. يضاف إلى هذا، وكثير غيره، ما فعله الإسرائيليون في تلك الفترة في قبية، وغرندل، وحوسان، ولاحقًا في السموع، وكثير غيرها منذ قيام "دولتهم".... وما يفعلونه اليوم من تمزيق وتقطيع لأوصال هذا الوطن بهدف السيطرة المطلقة عليه، وتشريد سكانه من جديد.. وما الأهداف "الحقيقية" من بناء جدار الفصل العازل بخافية على أحد: فمن ناحية ينهبون أكثر من نصف مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام سبعة وستين.. ومن ناحية ثانية يعزلون سائر المدن والقرى والمخيمات (أو ما يسميه المراقبون بالمعازل والكانتونات العربية ) عن بلاد العرب حيث يحيط هذا الجدار (وما يرافقه من مستوطنات يهودية داخلة فيه، وخارجة عنه في شتى الاتجاهات) بما تبقى للعرب الفلسطينيين – شكلاً – من هذه الديار.. ومن ناحية ثالثة سيُرغمون – بمرور الوقت – أكثر من سبعين ألفًا من الفلسطينيين (جعلهم الجدار في الجانب "الإسرائيلي ") على الهجرة من أراضيهم، وسيعزلون في الوقت نفسه نحو مئة ألف من العرب المقدسيين عن مدينتهم ممن جعلهم الجدار خارجها، وسوف يجرّدونهم لاحقًا من هوياتهم "الزرقاء" التي تثبت أنهم مقدسيون الأمر الذي سيلحق نكبة حقيقية بالقدس والمقدسيين في المستقبل القريب، وسيضع حدًّا لوهم الدولة الفلسطينية المنشودة التي تكون القدس عاصمة لها!!! ومن ناحية رابعة فقد ضمن الإسرائيليون تقطيع أوصال هذه المعازل والكانتونات الفلسطينية، وعدم وجود أي تواصل جغرافي بينها.. وهذا معناه القضاء المبرم على الحركة الزراعية، والصناعية، والتجارية، وهذا يعني باختصار إنهاء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمستقبلية لهذا الشعب تمهيدًا لتهجيره إلى أي خارج!! ومن ناحية خامسة يضمن هذا الجدار ضم غالبية المستوطنين (460.000) أربعمئة وستين ألف مستوطن إلى إسرائيل أو على الأصح توسيع حدود إسرائيل لتضم إليها هؤلاء المستوطنين، ومعهم بالطبع ما غنموه من أراضي العرب الفلسطينيين وممتلكاتهم، فما الذي سيبقيه هؤلاء للمفاوضات والمفاوضين؟ وما هي هذه المرحلة النهائية التي يتحدثون عنها إن لم تكن نهاية فلسطين والفلسطينيين؟؟

    بعد مرور تسعين عامًا على وعد بلفور يجد نصف الفلسطينيين أنفسهم لاجئين بعيدين عن وطنهم، ويجد نصفهم الآخر نفسه غريبًا مضطهدًا جائعًا على أرض وطنه!! بينما تمتد أنظار الإسرائيليين بعيدًا في أعماق الأرض العربية لأنهم يرون أنهم السادة الجدد لهذا " الشرق الأوسط" الجديد!! وفي الوقت نفسه نرى رئيس الوزراء البريطاني توني بلير يرهق نفسه ويهلكها لاهثًا خلف السراب الخادع .. ممنِّيًا النفس بإعادة " أمجاد" بريطانيا العظمى عن طريق هذا التحالف الذي أبرمه مع شريكه "بوش"!!

    هذان الطامعان في أرض العروبة والإسلام، ومن معهما من عبيد ومرتزقة وطامعين وأغبياء وحاقدين، ستصدمهم جميعًا الحقيقة المرة.. حقيقة هذه الأمة العربية الإسلامية الواحدة في فلسطين، وأفغانستان والعراق، والسودان، ولبنان، وسورية، وفي كل أرض العروبة والإسلام، وفي سائر الأقطار التي يحاول هؤلاء الغزاة الطغاة إرهابها، ونهب ثرواتها، وتركيع إنسانها..

    هذه الأمة الماجدة في كل ديار العروبة والإسلام، ومعها كل الشرفاء الأحرار في هذا العالم، قد قالت كلمتها في كل أعدائها الذين ظلموا البشرية، وظلموا أنفسهم بجشعهم وطمعهم وكذبهم وافترائهم.. وسيندم هؤلاء، ولكن لات حين مندم، ولن يكون مصيرهما بأفضل من مصير إيدن، وحليفه الفرنسي موليه قبل نيّف وخمسين عامًا عندما هُزما شر هزيمة في حرب السويس التي فرضاها على شعب مصر لإذلاله، والعودة به إلى عصور الإقطاع والتبعيّة.

 

 

 

هزيمتنا في حزيران

 

    لم تكن هزيمة العرب في حزيران الهزيمة الأولى التي تصيبهم في تاريخهم الحديث.. ولم يكن ما حلّ بهم في الخامس من حزيران من العام سبعة وستين وتسعمئة وألف هو نهاية المطاف، وآخر الهزائم.. لقد تجرع العرب مرارة هزائم كثيرة قبل هذه الهزيمة التي لم تكن الأولى في تاريخهم الحديث... فلقد هُزم العرب يوم أن أُسقطت الخلافة الإسلامية، وانتهى حكم العثمانيين في تركيا، وفي غيرها من ديار العروبة والإسلام.. وهزم العرب عندما دخلت جيوش الغرب بلادهم في أعقاب الحرب العالمية الأولى حيث تقاسمت دول الغرب بلاد العرب.. وهُزم العرب عندما مزّق الغربيون بلادهم إلى دول، وأقاموا الحدود بين تلك الدول؛ فأساءوا إلى التاريخ العربي، وأساءوا إلى العروبة، وأساءوا إلى الإسلام، وأساءوا إلى العلاقات العربية العربية، وإلى العلاقات العربية الإسلامية، كما أساءوا إلى الجغرافيا المقدسة التي فُرضت عليها هذه التجزئة، وهذه الكيانات، وتلك الحدود... ثم الاقتتال الدموي بين الأشقاء حفاظًا على تلك الحدود التي اختطتها دول الغرب بحرابها التي غزت بها كل ديار العروبة، ومزقت بها كل ديار الإسلام.

    لقد هُزم العرب عندما وجد وعد بلفور الصادر في الثاني من تشرين الثاني من عام سبعة عشر وتسعمئة وألف ترجمةً له على الجزء الأكبر من أرض فلسطين.. وهزموا عندما تم تهجير غالبية الفلسطينيين من ديارهم تلك.. في أكبر هجرة جماعية في تاريخ العرب الحديث.. وهزموا عندما أقيمت مخيمات اللجوء والاغتراب لهؤلاء اللاجئين والمهجَّرين في سائر الأقطار العربية المجاورة لفلسطين.. وهزموا عندما امتلكت الدولة العبرية أسلحة وقنابل ذرية في العام ستة وخمسين وتسعمئة وألف.. ثم هُزموا في العام سبعة وستين وتسعمئة وألف.. وهُزموا عندما أقيمت مخيمات النزوح في الضفة الشرقية للنهر الذي وحّد العرب ذات يوم! كما تجرّعوا كثيرًا من الهزائم في الأعوام التي تلت ذلك العام، تلك الهزائم التي لم تكن عسكرية فحسب، بل كانت هزائم اجتماعية، وهزائم اقتصادية، وهزائم نفسية، وأخرى أخلاقية... لقد هُزم العرب يوم أن قُمع الإنسان العربي، وفقد ثقته بنفسه، واهتزت شخصيته، وفقد حقه في القول والتفكير والتعبير، وأصبح مجرد صدًى لأصوات الآخرين من أساطين الكذب والدجل والنفاق، وأعلام الفساد والإفساد والتخلف والجمود... وهُزم العرب أيضًا عندما انهار الاتحاد السوفياتي.. وعندما ضُرب العراق العربي، وحوصر في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي... وهزم العرب كذلك عندما دخل الغزاة أرض العراق العربي في السنة الثالثة من هذه الألفية الثالثة... وهُزم العرب، ويُهزمون في كل يوم يُقتل فيه عراقي، ويجوع فيه فلسطيني، ويبكي فيه لبناني، وينزف فيه سوداني، ويقتتل فيه فلسطينيان!!

    إن هزائم العرب منذ مطلع القرن الماضي كثيرة.. ولو كانت تلك الهزائم عسكرية فقط لهان الأمر.. فقد رأينا بأم أعيننا كثيرًا من الأمم التي منيت بالهزائم العسكرية المدمرة وهي تعيد بناء نفسها من جديد، وتنتصب شامخة عملاقة خلال بضع سنين، لتهزم الهزائم، وتسير في دروب البناء والإعمار والنهضة والتقدم... ولكن هزائمنا نحن العرب شيء مختلف.. فهي هزائم عسكرية حضارية أخلاقية... إنها هزائم التجزئة، والقطيعة، والتبعية للغزاة الأجانب أعداء العروبة والإسلام.. هزائم الضعف العربي، والهوان العربي، والتناحر العربي، والاحتراب العربي، والتخلف العربي، والولاء العربي لكل أعداء العرب!!

    في الذكرى الأربعين لهزيمة العرب في حزيران نجدد الدعوة للعرب جميعًا أن يتوحدوا.. فإن لم يكن إلى الوحدة الشاملة من سبيل، فلا أقل من وحدة الأهداف، والتنسيق الجاد المسئول من أجل تحقيق هذه الأهداف بكل الوسائل والسبل... وفي الذكرى الأربعين لهزيمة العرب في حزيران نجدد الدعوة للعرب أن يعملوا من أجل أوطانهم وشعوبهم، وأن يتحرروا من مخاوفهم التي تشدّهم شدًّا إلى معسكرات أعدائهم الطامعين في خيرات بلادهم، واستعباد شعوبهم، وتجريدها من كافة مظاهر السيادة والاستقلال في مختلف أقطارها وأمصارها... وفي هذه الذكرى الأليمة نناشد الفلسطينيين أن يتقوا الله في أنفسهم، وفي دمائهم وأرحامهم، وفي قضايا شعبهم العربي الفلسطيني العادلة، وأن يتقوا الله في ثوابتهم، وحقوقهم الوطنية، وعلى رأسها حق العودة، والخلاص من الاحتلال.. وتحقيق الاستقلال، وتقرير المصير بعيدًا عن التبعية.. وبعيدًا عن التفريط، والمساومات، والتنازلات.. وبعيدًا عن سياسة دفن الرؤوس في الرمال... نناشدهم أن يكفوا عن الاقتتال والاحتراب.. وأن لا يقدموا على أمر من أمور القضية والوطن والشعب مهما كان ضئيلاً إلا بعد أخذ موافقة الناس عليه في استفتاء حر يشمل شعبنا العربي الفلسطيني كله.. فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في كل أمر من أمور حياته، وفي كل شأن من شؤون قضيته التي لا يملك أحد أن يتصرف بها خلافًا لرغبة أصحابها.. وخلافًا لحقوقهم التاريخية والوطنية.. وخلافًا لقرارات المجتمع الدولي منذ النكبة، مرورًا " بالنكسة"، وحتى يومنا هذا.

    وفي ذكرى هذه المأساة الرهيبة نذكّر الفلسطينيين، والعرب، والمسلمين، وكل الأحرار والشرفاء في هذا العالم بالحق العربي الصّراح في فلسطين..نذكّرهم بكل قرارات المجتمع الدولي، وبكل قرارات القمم العربية.. وعلى رأسها لاءات الخرطوم الثلاث.. وبقرارات قمة بيروت.. وقرارات المؤتمرات الإسلامية.. ولجان القدس.. وقرارات المجالس.. والهيئات.. والمؤتمرات.. واللجان.. والأحزاب.. والتنظيمات.. والحركات.. والشخصيات في فلسطين كل فلسطين منذ البدايات الأولى لنشأة القضية الفلسطينية، وحتى يومنا هذا... نذكّرهم بكل تضحيات هذا الشعب، وبكل رسائل الشهداء إلى أمهاتهم، وإلى أمة العروبة والإسلام... وبأدبيات هذا الشعب منذ نشأة القضية الفلسطينية، وأدبيات هذه الأمة التي خلّدتْ فيها فلسطين، ومجّدت القدس تاج فلسطين، ورمز عروبتها وإسلامها... لا نقول هذا مطالبين العرب والفلسطينيين والأشقاء المسلمين في هذا العالم بشنّ هجومهم الكاسح – لا سمح الله – لتحرير فلسطين، وإنقاذ الأقصى والحرم الإبراهيمي من عار الأسر وذله وهوانه... ولا نقوله من باب التحريض – لا قدّر الله – على استئصال هذا الكيان وإزالته من دنيا العروبة والإسلام... بل ربما كان نقيض هذا هو الصحيح؛ فكافة العرب والمسلمين (الذين يبلغ تعدادهم اليوم ربع تعداد الناس في هذا الكون) مدعوون – ربما - للتعلّم من هذا الكيان الذي تمكن خلال فترة زمنية قصيرة من تحقيق إنجازات مذهلة على كل الصعد العسكرية والاقتصادية والعلمية... وها هو رئيس دولتهم يعلن رسميًّا أن هذا الزمان هو زمانهم، وأن هذا الكون قد أصبح ملك يمينهم، وأنهم الذين سيتولُّون التخطيط لهذه البشرية خلال عقود طويلة قادمة!! رئيس دولتهم الذي جاء إلى بلادنا شابًّا مهاجرًا مؤمنًا بفكرة معينة تقوم بموجبها دولة معينة على هذه الأرض يصبح رئيسًا لهذه الدولة بعد حياة جادة مضنية استمرت موصولةً بدون أدنى توقف أو كلل أكثر من ستين عامًا... لقد كان من المؤسسين.. وها هو اليوم يرئس هذه الدولة وهو في الرابعة والثمانين من عمره.. وها هو يتكلم بوضوح عن رغبته في قيادة البشرية، وحل مشكلاتها بالطريقة التي نعرفها – بالطبع – جيِّدًا نحن الفلسطينيين!!

    وإذا لم يكن الهدف من حديث الأسى واللوعة والذكريات والمواجع والأدبيّات هو الدعوة لتحرير فلسطين، أو التحريض لاجتثاث هذا الكيان واستئصاله وإزالته من دنيا العروبة والإسلام فما هو الهدف؟ يصعب على الإنسان أن يقرّ ويعترف بحدوث كل هذا الذي يحدث في فلسطين ولبنان وفي كثير من ديار العروبة والإسلام.. ويصعب على الإنسان أن يصدّق هذا الذي يحدث في العراق وهو يراه رأي العين... إنه لهوله وبشاعته من الأمور التي يصعب تصديقها على الرغم من حدوثها... وعليه فإن الهدف هو معرفة الأسباب التي أدت لحدوث ما يحدث، مع توقع مزيد من حدوث هذه العجائب والغرائب التي تدور أحداثها على مسرح اللامعقول منذ مدة ليست قصيرة، ولكن شراستها وحدّتها تتسارع اليوم بشكل مذهل مربك... وكيف تكون معرفة الأسباب هدفًا؟ وللإجابة عن هذا السؤال يمكن القول لأنه إذا عُرف السبب بطل العجب... فإذا عرفت الأمة يقينًا أسباب هذه الغرائب والعجائب التي تجري وتدور هنا وهناك زالت حَيْرتها، واستعادت ثقتها بنفسها، وعاد إليها وعيها، وأصبحت قادرة على حسم أمرها، وإيجاد الحلول لقضاياها المختلفة، فتخرج بذلك من واقعها المرير، وأزماتها المتلاحقة، وهزائمها المنكرة وتيهها، وضياعها لتثبت وجودها، وتحقق ذاتها بين أمم العالم أجمع.

    الهدف إذن محاولة لإنقاذ هذا الشعب، وهذه الأمة من هذا الواقع المؤلم المربك الذي يستبد بها، ويلقي بها فريسة سهلة لليأس، والقنوط، والإحباط، وبالتالي الاستسلام لمخططات أعدائها ومراميهم وأهدافهم القريبة والبعيدة.. بالوقوف على هذه الأسباب، لاستعادة الثقة بالنفس، والتعامل مع كافة الأمم والقوى والأطراف في هذا العالم من باب الندّيّة والاحترام ومراعاة المصالح، وعلى قدم المساواة.. لا من باب التبعيّة، والاستعباد، والحسم العسكري وسيلةً لبسط السيطرة، وممارسة التحكم، وتحقيق المطامع والمكاسب، ووضع الأهداف في السيطرة على الأرض، وتدمير الإنسان، ومحاصرته، وإفقاره، وإذلاله، وتجهيله، وتركيعه موضع التنفيذ.

    في أواسط القرن الماضي كان كثير من الناس في هذه الديار يعتقدون أن المملكة المتحدة هي عدوة الشعوب، وهي الدولة الاستعمارية التي أذلت الناس في هذا الكون، وسامتهم سوء العذاب.. وهذا الاعتقاد صحيح بدون أدنى تحفظ، وبدون أي اعتراض... ولكن الذي لم يكن صحيحًا في اعتقاد الناس آنذاك هو الشق الثاني القائل إن الولايات المتحدة ليست عدوة للشعوب، بل صديقة لها.. تقدم لها المساعدات المختلفة، وتأخذ بيدها نحو شاطيء النجاة والسلام والحرية... الولايات المتحدة كانت آنذاك في نظر كثير من الناس صديقة للشعوب لا عدوة لها.. وإذا استثنينا الحزب الشيوعي، وحزب التحرير، وبعض الأصوات الأخرى المحدودة في تلك الفترة فإن البقية الباقية من الناس كانت – على الأغلب – بين مؤيد للسياسة الأمريكية، ومتعاطف معها، ومقلل من خطورتها على شعوب هذه المنطقة من العالم.. بل إن كثيرًا من الناس راحوا - في تلك الفترة – يغضّون الطّرْف عما فعلته الولايات المتحدة في هيروشيما وناغازاكي عام خمسة وأربعين وتسعمئة وألف، بل إن بعضهم قد قال يومها إنها الحرب! ومن حق أمريكا أن تفعل ما فعلته دفاعًا عن النفس، وحسمًا لحرب تراها عادلة.. ولولا تلك الرؤية لما خاضتها!!

    ولما بدأت الولايات المتحدة بعد ذلك – وبعد أن صادقت على قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين– بتدمير المواقع الإنجليزية، وتفجير قلاع بريطانيا العظمى، وإنهاء وجودها في هذه المنطقة من العالم لتحل هي محلها بطبيعة الحال راح كثير من الناس يصفقون لهزائم بريطانيا دون أن يفكروا لحظة في خطورة الموقف القائم على حلول الولايات المتحدة محل الحكم البريطاني القائم على الاحتلال العسكري الذي كرهه الناس في هذه الديار، وفي غير هذه الديار من أقطار هذا العالم.

    لقد حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا في حكم كثير من البلدان، ولكن بطريقة تختلف بعيدًا عن الاحتلال العسكري، وبعيدًا عن التعرض للناس، وبعيدًا عن إيذاء مشاعرهم، واستفزازهم.. بل إن الولايات المتحدة قد قدمت كثيرًا من المساعدات المالية والغذائية لكثير من الشعوب في تلك الفترة من بداية سيطرتها على هذه المنطقة.. مكتفية بنفوذٍ ثقافي فكري وحركة إعلامية نشطة تستهدف بريطانيا عدوة الشعوب، ولا تروّج لأمريكا، بل تقف منها موقفًا محايدًا أحيانًا، ومهادنًا أحيانًا، وناقدًا برفق في بعض الأحيان... وذهبت تحذيرات الشيوعيين والتحريريين وجهودهم في تلك المرحلة أدراج الرياح.

    وبعد أن سقطت الأقنعة، وظهرت النوايا، ولم يبق من مؤيد للسياسة الأمريكية في هذه المنطقة من العالم، أو متعاطف معها، أو مقلل من خطرها، وأضرارها البالغة بالشعوب إلا من كان مرتبطًا بهذه السياسة.. ملتزمًا بها.. متحالفًا معها.. وبعد أن أقدمت الولايات المتحدة على كل ما أقدمت عليه من غزو واحتلال وتدمير في كثير من أقطار هذه المنطقة العربية الإسلامية يفوق كثيرًا في بشاعته ما أقدمت عليه في اليابان  عندما ضربت قنبلتها الذرية الأولى في هيروشيما، والثانية في ناغازاكي في يومي السادس والتاسع من آب من عام خمسة وأربعين من القرن الماضي أصبح الأمر واضحًا، وليس بحاجة إلى أدنى دليل أو برهان.. لقد تمكنت الولايات المتحدة من إسقاط النظام السوفياتي.. كما تمكنت  من التسلل إلى كل زاوية من زوايا هذه الديار، وسائر ديار العروبة والإسلام.. لقد جنّدت الولايات المتحدة كثيرًا من الأتباع من مختلف الدرجات والمستويات، وزرعتهم في كافة الدوائر والمراكز والوزارات... وبهذا أصبحت قادرة على العبث بالبلاد وكافة أمور العباد.. أصبحت قادرة على تهديد من لا يستجيب لطلباتها وشروطها وإملاءاتها بإثارة المتاعب في طريقه.. وإثارة الفتن والفوضى في وجهه.. بل أصبحت تهدد من لا يستجيب لإملاءاتها بأسلحة كثيرة تمتلكها، وبنادق كثيرة تحاصره بها، ومتفجرات تضعها من بين يديه ومن خلفه... وكل هذه المتفجرات قابلة للتفجير في الوقت المناسب... هذه إذن حكايتنا مع الاستعمار القديم، ومع هذا الاستعمار الحديث الذي فاق سابقه شراسة وهمجية وإزهاقًا لأرواح الأبرياء من الناس في كل مكان ومكان من ديار العروبة والإسلام.. بل إن هذين اللونين من الاستعمار قد توحّدا في استعمار واحد وجد له تعبيرًا في العدوان على العراق، ونهب خيراته، وتدمير حضارته، وتقتيل العراقيين وتشريدهم من ديارهم كلما كان ذلك ممكنًا!!!

    الاستعمار الغربي إذن يلتقي من جديد.. يتوحّد.. يتحالف عضويًّا ومصيريًّا مع أدواته وأعوانه وحلفائه في ذلك الكيان الذي أقيم في يوم ما في هذه الديار.. ومع أدواته وأعوانه وحلفائه في كثير من بلدان هذه المنطقة من العالم... هذا الاستعمار الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة، يسعى للسيطرة على هذه المنطقة من العالم سيطرة مطلقة ينهب ثرواتها النفطية، والمائية، والحيوانية... ويسيطر على بحارها، وجبالها، وفضائها، وسهولها... ويقضي على كل إمكانية، وكل أمل لها في التقدم والتطور والنهضة.. مبقيًا على الجهل والتخلف والخرافة بكل وسيلة ممكنة... يريد لهذه المنطقة من العالم أن تكون أسواقًا لبضاعته، وأن يكون الناس فيها مجرد مستهلكين لا يمارسون أي لون من ألوان الإنتاج إلاّ ما كان منه مرتبطًا كل الارتباط بالمناطق الصناعية التي يقيمها هؤلاء هنا وهناك في بعض بلاد العرب لأسباب سياسية تطبيعية سيكون لها ما بعدها في المستقبل المنظور وغير المنظور على طريق السيطرة على كل هذه الديار... الاستعمار الغربي المتحالف أبدًا مع هذا الكيان الغريب الذي أقيم في هذه الديار سيظل يثير الفساد، والإفساد في هذه الديار.. وسيبقى - على نهجه القديم الجديد – يفجّر الخلافات العرقية، والطائفية، والمذهبية.. وسيظل  يعزف على أوتار النزاعات والخصومات والعداوات القبليّة.. وسيضاعف من حرصه في كل يوم على تجزئة المجزَّأ، وتفتيت المفتَّت، وتقسيم هذه الكيانات (التي كانت في يوم من الأيام كيانًا واحدًا، ودولة واحدة هي دولة الخلافة الإسلامية التي بسطت سلطانها، ورفعت راية عدلها على كل أرجاء العالم المعروفة في يوم من الأيام ) إلى كيانات كثيرة متخاصمة متباغضة متقاتلة.. كيانات كثيرة قائمة على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية أو حزبية أو فئوية أو قبلية لا إجماع فيها على شيء.. وكلها – بدون استثناء – تابعة لهذا الكيان الذي يحلم اليوم بالسيطرة على كل ديار العروبة والإسلام وصولاً للتحكم بمطلع الشمس بعد أن تم له التحكم بمغربها منذ زمن بعيد.

    هذه هي الأهداف إذن: سيطرة تامة على سائر الأقطار ذات المعنى في كل ديار العروبة والإسلام، ولاسيما تلك الأقطار التي تجاور ذلك الكيان الغريب الذي أقيم ذات يوم في هذه الديار.. وبذل كل الجهود لإخضاع أي بلد لم يخضع بعد بكل الوسائل والسبل حتى لو أدى ذلك لخوض مزيد من المعارك والحروب من أجل تحقيق هذا الهدف.. ثم الإمعان في النهب والسلب والتدمير والتفجير والتخريب والتجزئة وبث الأحقاد والعداوات والمنازعات والاقتتال بين هذه الكيانات الكثيرة التي يكون أبرزها وأقواها على الإطلاق هذا الكيان الذي يتحكم بها جميعًا، ويعبث بكـل أمـر مــن أمــورهــا الداخليــة

والخارجية والأمنية والمعيشية دون استثناء.

    وإذا كان الأمر كذلك - وهو كذلك - بدليل تدمير حياة الناس العامة والخاصة في هذه الديار بشكل غير مسبوق.. وبدليل القضاء على العلم والتعليم والمتعلمين والمعلمين ومحبي العلم وأنصاره في هذه الديار!!! وبدليل القضاء على الصحة العامة والخاصة، والمشافي، والعيادات، والمراكز الصحية، وعلى كل ما يمت إلى الصحة الجسدية، والنفسية، والعلاج بأدنى صلة... وبدليل القضاء على القانون والمحاكم والقضاة.. وتعطيل سير العدالة.. وإلغاء العدل والعدالة والقضاء في هذه الديار التي أصبحت لا تعرف إلا شريعة الغاب.. ولا تنام إلا على الأسى والألم ولطم الخدود وشق الجيوب.. ولا تستفيق إلا على العويل والبكاء والدماء والتفجير والاجتياح والهدم وترويع الأطفال وبكائهم الذي يمزق القلوب، ويحرق ما تبقّى في شرايين الناس وعروقهم من دماء... وبدليل هذه الانهيارات  التي تعصف بهذا المجتمع، وتأتي على كل ما فيه من مثل، وقيم، وأخلاق، وفضائل، وإيجابيات لتحل محلها الفوضى، والعربدة، والاقتتال، والاحتراب، وترويع الناس، واستهدافهم في أنفسهم، وأمنهم، وأمانهم، واستقرارهم، ولقمة عيشهم... فأصبحوا مدمرين بائسين يائسين محبطين مشلولي الإرادة مرتبكين لا يقوون على مواجهة ما يتهددهم من أخطار.. ولا يستطيعون التصدي لما يستهدفهم من مخططات رهيبة... أما أحرارهم وذوو الرأي والفكر والإرادة والبصر والبصيرة.. أما نخبهم السياسية والاجتماعية والثقافية الملتزمة بالوطن وإنسان هذا الوطن ذات الهمم العالية، والنفوس الأبية، والشعور العميق بالمسئولية فقد اقتيدت إلى السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف والاعتقال لا لشيء إلا لأن هؤلاء قد أخلصوا لوطنهم ولقضيتهم ولأبناء شعبهم وأمتهم؛ فرفضوا التفريط بالحقوق، ورفضوا التسليم بهذا الأمر الواقع، ورفضوا الانصياع للأوامر الجائرة بالتخلي عن المسئولية ومواقع العمل العام، ورفضوا التخلي عن الثوابت والمبادئ والمقدسات... ورفضوا التآمر على من وضع فيهم ثقته من الناس.. ورفضوا أن يخونوا أنفسهم وأماناتهم..

    إن عدد الأسرى والمعتقلين الذين تعج بهم السجون والمعتقلات في هذه الديار قد يبلغ ثلاثة عشر ألف أسير ومعتقل في هذه الأيام.. بعد أن كان عددهم قبل "أوسلو" بضع مئات من أبناء هذه الديار... وإن عدد المستوطنين قد ارتفع اليوم ليصل أربعمئة وخمسين ألف مستوطن بعد أن أوشك المستوطنون على مغادرة هذه الديار خلال الانتفاضة الأولى، ولم يبق منهم سوى أعداد قليلة في هذه المستوطنات التي كانت غالبيتها العظمى خالية من المستوطنين.. وإن الأراضي التي صودرت بعد "أوسلو" في هذه الديار هي أضعاف ما صودر قبل ذلك... وإن هذه التصنيفات التي لم نسمع بها من قبل لم تُبق في أيدينا أكثر من ثمانية بالمئة من مساحة هذا الجزء من الوطن.. ثم عاد الأسياد وتراجعوا عن هذا عندما دأبوا على اجتياح هذا الجزء الذي صنّفوه "أ" كل يوم؛ فعاد الاحتلال بأبشع صوره وأشكاله... واليوم يتحدثون عن إعادة انتشار جديد يضعون فيه بعض أراضي هذه الديار مجدَّدًا في أيدي الفلسطينيين بعد أن أغلقوا الأغوار، وفرضوا عليها سيطرتهم، وبعد أن أوشكوا اليوم على الانتهاء من بناء هذا الجدار الرهيب، وبعد أن وسّعوا مستوطناتهم التي تضمن تقسيم هذا الجزء من الوطن إلى ثلاثة أقسام هي الشمال والوسط والجنوب بحيث لا يتمكن أهل هذا القسم من وصول ذاك.. وكأنها كيانات مستقلة منفصلة بعضها عن بعض جغرافيًّا وبشريًّا لأن المستوطنات والحواجز والبوابات تفصل بينها.. ثم إن كل قسم من تلك الأقسام تمزّقه الحواجز والمستوطنات والمستوطنون إلى عشرات الأقسام، وربما لم يتمكّن سكان قرية من وصول القرية المجاورة، أو وصول المدينة التي لا يستطيعون الاستغناء عنها للحصول على الدواء أو الغذاء أو لأسباب أخرى كثيرة.

    إن حل الدولتين الذي تفتّقت عنه مواهب سيد البيت الأبيض هو حل وهمي غير قابل للتطبيق على الأرض.. فهناك بموجب هذا الحل – دولة قائمة.. ودولة لن تقوم لها قائمة، لأن هؤلاء لم يَدَعوا لها مكانًا تقوم فيه.. ولم يتركوا لها موطئ قدم تثبّت فيه قدميها في يوم من الأيام.

    معنى هذا أن يعتمد الفلسطينيون والعرب والمسلمون على أنفسهم.. معناه أن يتوحدوا.. أن يُجمعوا على الحد الأدنى من الثوابت، والمبادئ، ووجهات النظر بحيث يتسنى لهم أن يحققوا شيئًا من أهدافهم على الأرض.. معناه أن يبحثوا فيما بينهم عن أسباب القوة والمنعة التي تمنحهم شيئًا من التأثير في معتركات الحياة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية.. وأن يبحثوا عن أسباب أخرى للقوة في تحالفات وتفاهمات ومعاهدات وصداقات مع أطراف كثيرة في هذا العالم من شأنها أن تعود عليهم بغير قليل من النفع والفائدة والقوة، ولاسيما أقطار نصف الكرة الشرقي وحكوماتها وشعوبها.

    العرب والمسلمون جميعًا مدعوون اليوم وقبل فوات الأوان للرد السريع الحاسم على كل هذه الحروب الظالمة التي يشنّها عليهم هؤلاء الغزاة الطامعون في كل ديار العروبة والإسلام.. إنهم مدعوون للاتفاق على الحد الأدنى من الوسائل والتفاهمات التي من شأنها أن توقف كل هؤلاء عند حدهم حفاظًا على كل أرض العرب، وحفاظًا على كل أرض المسلمين، وحفاظًا على حرية كل العرب، وكرامة كل المسلمين، وسلامة أبدانهم وأديانهم، ومستقبل أجيالهم وذراريهم في كل ديار العروبة والإسلام.

    ومما لا شك فيه أن العرب والمسلمين يملكون من وسائل القوة والتأثير في السياسة العالمية ما يملكون... إن هذه المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية، والمراعي، والغابات.. وإن هذه الثروات المائية، والحيوانية، والنفطية، والمعدنية التي يمتلكها العرب والمسلمون كفيلة بتحقيق الاكتفاء الذاتي، والبناء الاقتصادي الهائل القادر على الثبات، والتحدي، والمنافسة، وتوفير الحياة الكريمة لمئات الملايين من العمال والفلاحين والطلبة.. ولسائر الشرائح والفئات من الناس في كافة المجتمعات العربية والإسلامية الممتدة من أقصى المغرب العربي إلى أقاصي المشرق الإسلامي.. من نواكشوط إلى طشقند.. إلى سائر اقطار العرب والمسلمين وأمصارهم في آسيا وأوروبة وإفريقيا.. إلى كل العرب والمسلمين في كل أقطار هذا العالم دون استثناء.. إلى كل الناس الطيبين المسالمين أيضًا من سائر الأديان والألوان والألسن في هذا العالم، لا يُستثنى أحد منهم.

    ومما لا شك فيه أيضًا أن العرب والمسلمين إن هم اتفقوا فيما بينهم على أبسط أشكال الوحدة والتفاهم والتنسيق.. وإن هم انطلقوا من مفهوم الهدف والمصير الواحد فإنهم قادرون - دون شك - على تحقيق قوة ردع فاعلة في هذا الكون من شأنها أن تعيد العقل إلى رؤوس المعتدين، والتوازن إلى تفكير السياسيين والعسكريين المتطرفين العنصريين في هذا العالم؛ فتحميهم بذلك من أنفسهم.. وتحمي البشرية كلّها من شرورهم وغرورهم وعدوانهم.

    شيء آخر لا بد من تذكير حكام المسلمين والعرب وشعوبهم به هو أنه من العار أن يفعل الغزاة كل ما يفعلون ببلاد العرب والمسلمين دون ردة فعل توقظهم من غفلتهم.. ومن العار أن نرى كل هذا التخلف والفقر والجهل والمرض والبطالة والذل والمهانة والاستبداد والطبقية والإقطاع وغيرها من العلل والآفات التي تفتك بهذه الأمة دون أن يتنادى العرب والمسلمون لصحوة كبرى تنقذهم مما هم فيه من مذلة وبؤس وهوان.. وتحمي بلادهم وأوطانهم من كل صنوف الغزو والنهب والسلب والعدوان.

    ولما كان التعليم هو أساس انطلاقة الشعوب نحو التقدم والتطور والنهوض.. ولما كان ذلك مستحيلاً بدون الصحة الجسدية والصحة النفسية أيضًا لأن العقل السليم في الجسم السليم.. ولما كان من الصعب تحقيق شيء من نهضةٍ أو تحررٍ أو استقلال بينما ترزح معظم قيادات هذا الشعب في السجون والمعتقلات.. ولما كان من حقنا الطبيعي المشروع أن نتحرر فقد بات لزامًا علينا أن نحرر أسرانا الذين يمثلون إرادتنا وقيادتنا.. وأن نحرر العملية التربوية التي هي أساس بناء المجتمع السليم.. وأن ننقذ إنسان هذا الوطن من الأمراض والعلل، وأن نوفر حياة صحية اجتماعية ثقافية اقتصادية فكرية محترمةً للمواطنين.. حياة قائمة على سماع الآخر ومحاورته.. وعلى الحرية، وسعة الأفق، والمحبة منطَلَقًا للبناء، والإعمار، والإبداع.

    لقد فشل الاحتلال في ضرب العملية التربوية التي حمتها سواعد المعلمين والمعلمات والطلبة.. وبقيت المناهج التي تدرّس في هذه الديار على حالها في أغلب الأحوال... ولم يتمكن المحتلون على امتداد عشرات السنين من العبث بهذه المناهج إلا قليلاً حيث تم حذف بعض العبارات أو الفقرات أو الدروس من بعض المواد.. وكان المعلمون حريصين على أخذ ذلك كله في حسابهم خلال عملية التدريس. كما فشل الاحتلال في النيل من همم المواطنين في هذه الديار، أو النفاذ إلى إرادتهم وإصرارهم على بذل كل الجهود من أجل التطور والتقدم والنهوض: ففشل في ضرب المستوى الصحي بعد أن فشل في ضرب المستوى التعليمي، كما فشل في ضرب التقدم العمراني، والتماسك الأسري، والتكافل الاجتماعي.. وفشل في التأثير على انتماء الناس لوطنهم، وإخلاصهم لقضيتهم العادلة: قضية الأرض والإنسان.. فما الذي حدث بعد ذلك؟ وما الذي قلب حياة الناس، وأحالها إلى جحيم لم يشهد له الناس مثيلاً منذ نشأة القضية الفلسطينية في مطلع القرن الماضي مرورًا بكل الثورات التي شهدتها فلسطين، ولاسيما ثورة عام ستة وثلاثين، ولا أقول انتهاءً بما نحن عليه في هذه الأيام المرعبة من حياة هذا التيه والذي جاوز في بشاعته كل حد؟؟؟

 

(تيه1)

من كتاب زمن التيه

تاليف:عدنان السمان

يطلب من الناشر : مكتبة النصر التجارية

هاتف: 1700112112(ابو حسام)

نابلس

 


__________________________________________________
Do You Yahoo!?
Tired of spam? Yahoo! Mail has the best spam protection around
http://mail.yahoo.com