عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ٣١ تشرين الأول ٢٠٠٩

جامع بني أمية الكبير بدمشق.. رابع مسجد في الإسلام

متابعات

جامع بني أمية الكبير بدمشق.. رابع مسجد في الإسلام

بوشر ببنائه في الحادي عشر من ذي القعدة من العام (86) للهجرة

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    قبل الحديث عن عظمة هذا المسجد الكبير، وقبل الخوض في تاريخه، ومكانته بين المساجد في المدينة المنورة، وحلب، وبيت المقدس لا بد من الإشارة أولاً إلى أوصافه وأقسامه ومُتحفه الذي يضم لوحاتٍ خطيةً، ومصابيح إنارة، وقطعًا فسيفسائيةً، ونُقودًا إسلامية، وساعات، وصفحات من المصاحف المخطوطة، وكثيرًا من الأثريات التي تروي قصة هذا الجامع العريق، جامع بني أمية الكبير في عاصمة بني أمية، وعاصمة كل العرب، وكل المسلمين دمشق ظئر الإسلام، وتاج العروبة، وصانعة الأمجاد منذ فجر التاريخ.

    تبلغ مساحة هذا المسجد خمسةَ عشرَ ألفًا ومئتين وتسعةً وعشرين مترًا مربعًا (15.229) أما مساحة الحرم فتبلغ خمسة آلاف واثنين وثلاثين مترًا مربعًا (5032) وأما مساحة الصحن فهي ألف وثلاثمائة وخمسون مترًا مربعًا (1350). يتوسط المسجد مدينة دمشق القديمة، وله أربعة أبواب: باب البريد من الجهة الغربية، وباب جيرون من الشرق، وباب الكلاّسة من الشمال، وباب الزيادة من الجنوب، وينفتح هذا الباب من داخل الحرم. أما الصحن، فإنه محاط من جوانبه الثلاثة بأروقة وأعمدة شامخة يبلغ ارتفاعها خمسة عشر مترًا وخمسةً وثلاثين سنتيمترًا (15.35) ومن الجنوب تنفتح أبواب الحرم التي أصبحت مغلقةً بأبواب خشبية تعلوها قمريات زجاجية ملونة مع كتابات وزخارف كثيرة.. أما الأروقة، فتنهض على صف من القناطر المتراكبة: قنطرتان صغيرتان فوق كل قنطرة كبيرة، وتحملها سوارٍ مربعةٌ ضخمة وأعمدة: عمودان بين كل ساريتين في الجانبين، ويبلغ عددها مجتمعةً سبعةً وأربعين سارية وعمودًا، وهي تشكل واجهات الأروقة، وواجهة الحرم المؤلفة من جبهة ثلاثية ذات نافذة مفتوحة على طرفيها نافذتان دائريتان، وتحت الجبهة واجهة مربعة في وسطها قوس كبيرة ضمنها ثلاث نوافذ، وترتكز هذه الواجهة على ثلاث قناطر محمولة على عمودين في الوسط، وركنين في الجانبين، وتَدعم هذه الواجهة من الطرفين دعامتان مربعتان ضخمتان.. وعلى طرفي هذه الواجهة تمتد القناطر المتراكبة: تسع قناطر إلى اليمين، ومثلها إلى اليسار شرقًا.. ومن الرواق تنفتح على الصحن أربع وعشرون (24) قنطرة، ومن الرواقين الشرقي والجنوبي تسع قناطر.

    وحرم المسجد مؤلف من قناطر متشابهة عددها أربع وعشرون قنطرة تمتد عرضيًّا موازيةً للجدار القبلي، يقطعها في الوسط جناح متوسط يمتد من باب الجبهة الرئيس حتى المحراب، ويغطي هذا الجناح المتوسط سقف سنميٌّ تنهض في وسطه قبة النسر المؤلفة من قبة نصف كُروية من الخشب المصفّح، ومن قبة ثمانيّة تنفتح فيها ستَّ عشرةَ نافذة، وترتفع القبة عن أرض الجامع خمسةً وأربعين مترًا (45) وهي بقطر ستة عشر مترًا.

    أما المحاريب في حرم هذا الجامع الكبير، فهي أربعة محاريب: المحراب الأصلي في منتصف الجدار القِِبلي، وهي مخصصة للمذاهب الأربعة. وفي أعلى جدار القِبلة تنفتح على امتداده نوافذ ذات زجاج ملون عددها أربعٌ وأربعون نافذة(44) مع ستة نوافذ في الوسط.. ويقوم إلى جانب المحراب الكبير منبر حجري رائع، وهناك قبة الخزنة، وهي غرفة مثمّنة تعلوها قبة محمولة على ثمانية أعمدة كانت تحفظ فيها أموال المسلمين، ثم أصبحت لحفظ المخطوطات الثمينة.. وثمة قبة أخرى هي قبة زين العابدين، أو الساعات مازالت قائمة، ولقد أعيد في العام خمسة وتسعين وتسعمائة وألف بناء قبة الوضوء العثمانية (1769) التي كانت في منتصف صحن الجامع تحمي بركة ماء الوضوء.. وفي ركن الزاوية الشمالية الغربية من الجامع أقيم مُتحف الجامع الأموي (1989) ويضم كيرًا من الآثار والنفائس والمخطوطات التي تؤرخ لهذا المسجد العظيم.

    أما أقسام المسجد فهي: باب جيرون والدهليز، ومشهد الحسين، وقاعة المئذنة الشمالية الشرقية، وقبر الملك الكامل، ومقر عمر بن عبد العزيز، وباب الكلاّسة أو العمارة، ومئذنة العروس، وقاعدة المئذنة الشمالية الغربية (زاوية الغزالي) ومشهد عثمان (قاعة الاستقبال اليوم) وباب البريد، ومشهد عروة (بيت الوضوء اليوم) وقاعدة المئذنة الجنوبية الغربية، ومحراب الحنابلة، ومحراب الحنفيّة، ومحراب الخطيب، ومحراب المالكية أو محراب الصحابة، وقاعدة المئذنة الجنوبية الشرقية وفوقها المئذنة البيضاء، ومشهد أبي بكر، ومقام النبي يحيى (يوحنا المعمدان) وفيه الساعات، وقبة البركة.

    في زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (86-96هـ/705-715م)، وفي الحادي عشر من ذي القعدة من العام السادس والثمانين للهجرة (تشرين الثاني 705م) بوشر ببناء المسجد الأموي الذي استغرق بناؤه عشر سنين، ويُعتبر رابع مسجد في الإسلام بعد مسجد الرسول الأعظم في المدينة، والمسجد الحرام في مكة، والمسجد الأقصى في القدس بفلسطين، ولقد كان في موضعه كنيسة تسمى كنيسة يوحنا (يحيى عليه السلام) وقد كانت بدورها معبدًا آراميًّا قديمًا تحوّل إلى معبد جوبيتر الدمشقي، وفي عهد ثيودور الأول أصبحت كنيسة يوحنا، ولما فتح العرب المسلمون دمشق جُعلت هذه الكنيسة مناصفة، حيث أخذ العرب المسلمون القسم الشرقي منها، وبقي القسم الغربي كنيسة، ولما عزم الوليد على أخذ بقية الكنيسة عوّض أصحابها عنها بكنيسة توما، وقيل بل وكنيسة مريم، ثم أضاف بقيتها إلى المسجد الذي أسسه الصحابة، وجعلها جميعًا مسجدًا كبيرًا، ليصبح المسجد الأموي بذلك واحدًا من أكبر المساجد في دولة الإسلام.. ولقد أرسل الوليد المعماريين إلى المدينة المنورة في أيام الوالي عمر بن عبد العزيز لإعادة بناء مسجد الرسول الكريم على طراز الجامع الأموي بدمشق.

    أقيم المسجد الجامع بدمشق (بعد فتح الشام) في الجهة الشرقية الجنوبية من أطلال المعبد الروماني جوبيتر، وأنشئ في جدار هذا المعبد أول محراب في الإسلام، وهو ما زال قائمًا حتى يومنا هذا، وقد صلى فيه الصحابة، وكبار علماء الإسلام مع خالد وأبي عبيدة، وقد أعطى خالد لسكان البلاد عهده بالحفاظ على ممتلكاتهم ومعابدهم ومساكنهم.

    وكان معاوية أول خلفاء بني أمية قد أنشأ لنفسه قصر الخضراء المتاخم لجدار (الجامع) الأثري، وقد أنشأ معاوية في (المسجد) كذلك مقصورة خاصة به هي أول مقصورة في تاريخ الإسلام.. وهكذا باشر الأمويون في إرساء دعائم هذا المسجد الكبير بدمشق، وقاموا بتوسعة باحاته، وتجميله بالنقوش، والفسيفساء، والزخارف، وتزيينه بأفخم الفوانيس وأجملها، وكذلك فعلوا في مدن أخرى كالمدينة المنوّرة، وحلب، والقدس، إذ قام عبد الملك بإنشاء مسجد قبة الصخرة في بيت المقدس قريبًا من المكان الذي صلى فيه عمر بن الخطاب.

    قرر الوليد بناء هذا الجامع الكبير بعد أن اتفق مع أصحاب الكنيسة على تقديم البديل، وهكذا استطاع البنّاءون الإفادة من كميات هائلة من حجارة المعبد المتراكمة، ومن أعمدته الرخامية، وتيجانه في إقامة هذا الجامع الكبير الذي اعتمد على التخطيط الذي وضعه الرسول الكريم عند بنائه مسجدَه في المدينة المنورة، وكان هذا التخطيط يقوم على تقسيم المسجد إلى بيت للصلاة، وفناء مفتوح.. لقد استبقى الوليد الجزء السفلي من جدار القِبلة، وأعاد الجدران الخارجية والأبواب، وأنشأ حرم المسجد مسقوفًا مع القبة، والقناطر، وصفوف الأعمدة، كما أنشأ أروقة تحيط بصحن الجامع، وأقام في أركان الجامع الأربعة صومعة ضخمة ومنارتين من الجهة الشمالية استعيض عنهما بمنارة في وسط الجدار الشمالي ( بعد أن أتى زلزال على المنارتين الشماليتين) وأصبح للمسجد بعد ذلك ثلاث منارات: اثنتان في طرفي الجدار الجنوبي، وواحدة في وسط الجدار الشمالي، وتسمى مئذنة العروس. إن هذه الصوامع المربعة هي أصل المآذن التي انتقلت من دمشق إلى شمالي إفريقيا والأندلس، حيث نرى تأثيرها واضحًا في مآذن القيروان، والكتبيّة، وحسان، وإشبيلية، وغيرها.

    يشار إلى أن المنارات والصوامع لم تكن موجودة في العصر الروماني.. يؤكد ذلك الشبه الكامل الذي نراه بين هذا المعبد، ومعبد زفس المسمّى حصن سليمان قرب الساحل السوري، وكذلك لم تكن قائمةً تلك الصالات الأربع الرحبة التي تسمى المشاهد، والتي أصبحت جزءًا من مقر الحكم الأموي مع أجزاء أخرى غربي الجامع وجنوبيه ما زالت قائمة، وكانت مخصصة للبريد، وبيت المال، والرسائل. وقد تحدث المؤرخون عن استقبال الخليفة لموسى بن نصير، وطارق بن زياد بعد أن عادا من الأندلس وخلفهما ملوك القوط وأمراؤهم.. هذا الاستقبال الذي تم في الحرم، وفي القاعة الغربية من الجامع، وفي منشآت كانت قائمة في الجهة الغربية التي تسمى اليوم المسكيّة. وقد أضاف الخليفة سليمان بن عبد الملك المقصورة الكائنة أمام المحراب في العام 715م.

    لقد ظل هذا المسجد الأموي الكبير على امتداد العصور الإسلامية موضع اهتمام جميع المسلمين في العالم الإسلامي: ففي عهد العباسيين بُنيت قبة المال الواقعة في الساحة التي كانت مخصصة لوضع أموال الولاية، وفي عام (1006) بنيت قبة النوفرة أمام الجناح المصلّب، وفي العهد السلجوقي أُجريت إصلاحات واسعة في قبة النسر، وكذلك في الدعائم الأربع، والأقواس التي تعلوها، وفي سقف المسجد، والمقصورة. وفي عام (1089) تم ترميم الجدار الشمالي من الناحية الشرقية للجامع، وفي عام (1109) رُمم الجدار الشمالي أيضًا من الناحية الغربية، وفي عام (1150) وُضعت ساعة كبيرة مميَّزة عند رواق الباب الشرقي للجامع، وفي عام (1179) أمر صلاح الدين بترميم دعامتين من دعائم القبة الكبرى المسماة قبة النسر، والمئذنة الشمالية أقدم المآذن في تاريخ الإسلام، ولقد أضيف إليها منارة في عهد صلاح الدين، وفي عهد الظاهر بيبرس نُظّفت أعمدة الحرم، ووشيت تيجانها بالذهب، وأُصلحت صفائحُ الرخام والفسيفساء، كما جرى تبليط الجدار الشمالي للحرم ليصبح الجامع غاية في الأبهة لا يوازيه جامع أو مسجد في العالم الإسلامي. وفي عهد الأيوبيين والعثمانيين وفوق الصوامع أنشئت المئذنة الغربية التي أنشأها السلطان قايتباي. وفي العام 1314 هـ (1896م) بدئت عمليات ترميم المسجد بأمر من الوالي ناظم باشا والي دمشق، وبإشراف لجنة مشكّلة لهذا الغرض برئاسة رئيس مجلس إدارة الولاية أحمد باشا الشمعة، وقد اشترك في عمليات الترميم والإعمار أكثر من خمسمائة فني وعامل يوميًّا، ودام العمل تسع سنوات، وقدّرت النفقات بسبعين ألف ليرة ذهبية.

    ولما كانت البيوت والأسواق الملتصقة بالمسجد سببًا في الحرائق التي تسربت إليه، ولما كانت أيضًا سببًا في حجب جماله وعظمته عن الأنظار من الخارج فقد تمت إزالتها، وبهذا تم الكشف عن جدران الجامع الأموي من الجهتين الجنوبية والغربية.

    ولعل من الضروري أن نذكر أنه في عام 1414هـ (1994م) أمر الرئيس السوري حافظ الأسد بحملة ترميم واسعة للمسجد وملحقاته وأعمدته وأبنيته مع الحفاظ على طرازه الأصيل، ولوحات الفسيفساء الرائعة، والنقوش، والزخارف، وتم الكشف من إحدى الجهات خارج جدران الجامع عن آثار رومانية غاية في الأهمية للمعابد قبل قيام الجامع، وتم ترميمها، والعناية بها، وقد أعاد الرئيس افتتاح المسجد بعد أن تم مسحٌ جديدٌ، وتسجيل لكافة الآثار الإسلامية والتاريخية.

    وبعد

    فهذا هو المسجد الأموي أو الجامع الأموي، أو جامع بني أمية الكبير.. رابع مسجد في الإسلام، ومأثرة من مآثر بني أمية عظيمة.. آية من آيات الفن المعماري الإسلامي.. وشاهد على عظمة هذه الأمة في ماضيها وحاضرها ومستقبلها الواعد بإذن الله.

31/10/2009


الخميس، ٢٩ تشرين الأول ٢٠٠٩

في الذكرى الثالثة والخمسين لحرب السويس!!

متابعات

في الذكرى الثالثة والخمسين لحرب السويس!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    بعد أن بذلت المملكة المتحدة كل جهدها لإقامة الدولة العبرية على أرض فلسطين، كان من الطبيعي أن تعمل على حمايتها، وتزويدها بكل أسباب القوة والتفوق العسكري على العرب مجتمعين.. بل لقد ذهبت بريطانيا – صاحبة الأيادي البيضاء على العرب – إلى ما هو أبعد من ذلك حيث خاضت الحروب إلى جانبها ومن أجلها .. فقامت مع فرنسا  بضرب المد القومي العربي المتصاعد في تلك الفترة..لا لشيء إلا لقيام الثورة المصرية (ثورة 23 تموز 1952)، بتخليص مصر من الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدرها منذ عام 1882، و بعد معارك فدائية حقيقية في منطقة القناة تم توقيع اتفاقية الجلاء في تشرين الأول من عام 1954، ولقد خرج آخر جندي بريطاني من مصر طبقًا لهذه الاتفاقية في يوم 18/6/1956.. ومن (أسباب) ذلك أيضًا الدور الذي قامت به مصر في إنجاح كثير من المؤتمرات التي كان لها الأثر الكبير في محاربة الاستعمار مثل مؤتمر باندونغ عام 1955، ومؤتمر بريوني عام 1956، وكذلك كسر احتكار السلاح عام 1955، والاعتراف بالصين الشعبية في أيار 1956، ومساندة ثورة الجزائر (1954-1962) .. وفي 26/7/1956 أعلن جمال عبد الناصر القانون رقم (285) لسنة 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، الأمر الذي أزعج الغرب، وأفقده صوابه.. فراح يعد العدة للانتقام، وراح يعد العدة للعدوان بهدف احتلال قناة السويس من جديد، وضمان مرور السفن الإسرائيلية، بل وحماية إسرائيل نفسها من الخطر الذي بات يشكّله نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر عليها...

    فقد قامت بريطانيا وفرنسا إلى جانب ربيبتهما وحليفتهما "إسرائيل" بشن العدوان الثلاثي على مصر في يوم الثلاثاء الموافق للتاسع والعشرين من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف (29/10/1956).. عندما قامت إسرائيل قبيل غروب شمس ذلك اليوم ببدء عملياتها الحربية ضد مصر، حيث أذاع راديو إسرائيل بلاغًا حربيًّا أعلن فيه أن القوات الإسرائيلية قامت باحتلال ثلاثة مواقع مصرية هي "الكونتلا" و"رأس النقب" و"نخل" وكان معنى ذلك أن إسرائيل (بقيادة عساف سمحوني) قد بدأت عدوانها من جنوب سيناء على أن تستمر في هجومها غربًا حتى تصل إلى السويس.. ومن جهة أخرى تعزل القوات المصرية في المنطقة الشمالية من سيناء قريبًا من قطاع غزة.. لقد قامت إسرائيل بعملية إنزال جوي في سدر الحيطان، واجتازت تلك القوة الكونتلا مسوّغة هجومها على تلك المنطقة بأنها كانت "وكرًا" لنشاط الفدائيين المصريين، وبالإضافة إلى هذه القوة الاستكشافية كانت قوة إسرائيلية ثانية تحاول الاستيلاء على "القسيمة"، فأم قطف، فأبو عجيلة.. ثم تتقدم غربًا على طريق(أبو عجيلة – الإسماعيلية) للوصول إلى ضفة القناة عند الإسماعيلية بينما تتحرك قوة ثالثة على محور رفح– العريش – القنطـرة بهـدف احتـلال رفـح والعريـش، وبـعد احتلالهما تتحرك قوة رابعة للاستيلاء على قطاع غزة.. وتقوم قوة خامسة بالتحرك من بئر السبع إلى "إيلات" للاستيلاء على "رأس نصراني" وشرم الشيخ.

    وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك البرية والبحرية والجوية دائرة بين القوات المصرية والإسرائيلية المعتدية، وبعد مناورات سياسية غربية تمهد للتدخل العسكري، وفي 31/10 أعلنت وزارتا الدفاع في بريطانيا وفرنسا أن عملياتهما الحربية في منطقة قناة السويس قد بُدئت في ساعة متأخرة من ليلة أمس تحت قيادة بريطانية فرنسية مشتركة يتولاها الجنرال "كيتلي" القائد العام للقوات البريطانية في منطقة شرق البحر المتوسط بالاشتراك مع قائد فرنسي برتبة "أميرال"، كما أعلنت القيادة المشتركة لهذه القوات من مقرها في قبرص أن قاذفات القنابل بدأت منذ الساعة السادسة والنصف من مساء 31/10 بمهاجمة الأهداف العسكرية في مصر، وقالت وزارة الدفاع الفرنسية إن هذه الغارات الجوية هي بداية العمليات الحربية المشتركة في منطقة القناة.

    وأمر " أنتوني إيدن" رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، قواته بالنزول في مدن قناة السويس، وفي مدينة بور سعيد على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق من الإسكندرية.. وغير بعيد من العلمين.. بينما كانت القوات البرية البريطانية الفرنسية الإسرائيلية تتقدم في سيناء على الساحل الشرقي لخليج السويس.. لقد قررت القوات الغازية التي أرسلها البريطاني أنتوني إيدن، والفرنسي جي موليه لنصرة "بن غوريون" في تل أبيب إسقاط نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة الذي أصبح يقف على رأس نظام عربي قومي وحدوي تقدمي لا يهادن، ولا يساوم.. ويصرّ كل الإصرار على استعادة الحقوق كل الحقوق.. وتحرير الأوطان والإنسان.. وإقامة المشروع العربي الواحد الموحد على كل أرض العرب.

    ولا ينسى المواطنون في هذه الديار ما فعله الإسرائيليون في اليوم الأول للعدوان الثلاثي (29/10/1956) بأهالي بلدة كفر قاسم في المثلث الجنوبي، والمجزرة الرهيبة التي اقترفتها أيديهم هناك بهدف إرهاب الأهالي، وقمعهم لضمان عدم تحركهم في أثناء العدوان على مصر.

    ولا يمكن لمواطن في هذه الديار أيضًا أن ينسى ما قام به الإسرائيليون في قلقيلية قبل ذلك بأيام، وتحديدًا في ليل الخميس الموافق للعاشر من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف.. تلك الليلة التي دمر فيها الإسرائيليون مركز الشرطة ( حيث أقيمت على أرضه في وقت لاحق حديقة الحيوانات في المدينة ) وقتلوا من فيه، ومن كان حوله في الخنادق من أفراد "الحرس الوطني" آنذاك .. واجتاحوا البلدة.. وقتلوا كثيرًا من شبابها وشباب القرى المجاورة.. حيث بلغ عدد من قتلهم الإسرائيليون في تلك الليلة بقيادة "شارون" مئات الشهداء.. ولا يزال قبر الجندي المجهول الذي ضم كثيرًا من جثث الشهداء، وأشلائهم بعد معارك السلاح الأبيض في وادي عزّون، ماثلاً قائمًا أمام مصنع تشميع الحمضيات (المغلق) شرقي المدينة على جانب الشارع المؤدي إلى مدينة نابلس.. يضاف إلى هذا، وكثير غيره، ما فعله الإسرائيليون في تلك الفترة في قبية، وغرندل، وحوسان، ولاحقًا في السموع، وكثير غيرها منذ قيام "دولتهم".... وما يفعلونه اليوم من تمزيق وتقطيع لأوصال هذا الوطن بهدف السيطرة المطلقة عليه، وتشريد سكانه من جديد.. وما الأهداف "الحقيقية" من بناء جدار الفصل العازل بخافية على أحد: فمن ناحية ينهبون أكثر من نصف مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام سبعة وستين.. ومن ناحية ثانية يعزلون سائر المدن والقرى والمخيمات (أو ما يسميه المراقبون بالمعازل والكانتونات العربية ) عن بلاد العرب حيث يحيط هذا الجدار (وما يرافقه من مستوطنات يهودية داخلة فيه، وخارجة عنه في شتى الاتجاهات) بما تبقى للعرب الفلسطينيين – شكلاً – من هذه الديار.. ومن ناحية ثالثة سيُرغمون – بمرور الوقت – أكثر من سبعين ألفًا من الفلسطينيين (جعلهم الجدار في الجانب "الإسرائيلي ") على الهجرة من أراضيهم، وسيعزلون في الوقت نفسه نحو مئة ألف من العرب المقدسيين عن مدينتهم ممن جعلهم الجدار خارجها، وسوف يجرّدونهم لاحقًا من هوياتهم "الزرقاء" التي تثبت أنهم مقدسيون الأمر الذي سيلحق نكبة حقيقية بالقدس والمقدسيين في المستقبل القريب، وسيضع حدًّا لوهم الدولة الفلسطينية المنشودة التي تكون القدس عاصمة لها!!! ومن ناحية رابعة فقد ضمن الإسرائيليون تقطيع أوصال هذه المعازل والكانتونات الفلسطينية، وعدم وجود أي تواصل جغرافي بينها.. وهذا معناه القضاء المبرم على الحركة الزراعية، والصناعية، والتجارية، وهذا يعني باختصار إنهاء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمستقبلية لهذا الشعب تمهيدًا لتهجيره إلى أي خارج!! ومن ناحية خامسة يضمن هذا الجدار ضم غالبية المستوطنين (460.000) أربعمئة وستين ألف مستوطن إلى إسرائيل أو على الأصح توسيع حدود إسرائيل لتضم إليها هؤلاء المستوطنين، ومعهم بالطبع ما غنموه من أراضي العرب الفلسطينيين وممتلكاتهم!!

    إن الأمة العربية ، وهي تعيش في هذه الأيام ذكرى انتصارات حرب السويس، لَتؤكّد بما لا يدع مجالاً لأدنى شك أنها قد عرفت طريقها ، وأنها قد قررت حماية أوطانها ، وتوحيد بلدانها ، وإعلاء بنيانها، وإقامة مشروعها العربي الواحد الموحد على كل أرض العرب.

    ولئن تمكن الغرب من ذلك، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية من إلحاق الهزيمة بمصر عام سبعة وستين؛ فإن إصرار المصريين والعرب على رفض تنحّي عبد الناصر عن الحكم، وإصرارهم على ضرورة أن يتولى عبد الناصر قيادة هذه الأمة من جديد، وكذلك فإن الاستقبال الجماهيري الأسطوري الذي شهده العالم كله لجمال عبد الناصر في الخرطوم، يضاف إليه لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاث.. كل ذلك كان دليلاً قاطعًا على أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها قد رفضت تلك الهزيمة، ورفضت التبعية للغرب، ورفضت الاستسلام والتنازل عن الحقوق العربية الثابتة في فلسطين، وكان كل ذلك دليلاً على إصرار الشارع العربي والقيادات التاريخية العربية على المضي قدمًا في مواجهة التحديات التي تعترض قيام المشروع العربي، وقيام القوة العربية الفاعلة في التاريخ على هذه الأرض العربية، وعلى إصرار أمة العرب على نشر السلام العادل الدائم المقنع المشرّف في هذه المنطقة من العالم.

 

29/10/2009

 

 


الأربعاء، ٢٨ تشرين الأول ٢٠٠٩

هل ما يجري في القدس يخدم عملية السلام أيضًا؟؟

متابعات

هل ما يجري في القدس يخدم عملية السلام أيضًا؟؟

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    منذ أن وضعوا أيديهم على ما كان قد تبقّى من فلسطين منذ أكثر من اثنين وأربعين عامًا قالوا إنهم يريدون السلام، وإنهم إنما فعلوا ذلك رغبةً منهم في وضع حد للحروب وسفك الدماء، ورغبةً منهم في رفع راية السلام في هذه المنطقة من العالم.. وبعد أيام فقط من سيطرتهم على الجزء المتبقّي من فلسطين أعلنوا ضم القدس الشرقية إلى الشطر الغربي الذي كان قد احتل منذ تسعة عشر عامًا، لتصبح القدس الموحدة (أورشليم) عاصمة دولتهم التي لا يمكن أن "يتنازلوا" عنها مهما كانت الأسباب، ومهما كانت النتائج.

    بعد ذلك (وتحت مظلة السلام، وشعاراته التي قرعوا بها رؤوسنا، ورؤوس الناس جميعًا في هذا العالم) أخذوا يتدخلون في كل صغيرة وكبيرة من أمور الناس وشؤونهم في القدس الشرقية، وأخذوا يخططون للسيطرة المطلقة على هذه المدينة مستفيدين من تجاربهم السابقة في يافا واللد والرملة وحيفا وغيرها من المحتل منذ ثمانية وأربعين، فراحوا يسنّون من التشريعات والقوانين والأنظمة البلدية وغير البلدية ما يكفُل لهم ذلك، بعزل القدس الشرقية عن محيطها العربي، وتجريدها من قراها وبلداتها التابعة لها في جبل القدس، وبتجريد المقدسيين من ممتلكاتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وبوضع اليد على أكبر قدْر ممكن من أراضي المقدسيين بمختلف الوسائل لإقامة المحميات الطبيعية، والمناطق الخضراء، والمرافق الحيوية، والأحياء السكنية (للمواطنين اليهود) والمؤسسات والمدارس الدينية وغير الدينية في هذه المدينة العربية المحتلة منذ سبعة وستين..

    وراحوا بعد ذلك، وقبله، وبالتزامن معه يشددون من قبضتهم على كثير من الأحياء في البلدة القديمة، وراحوا يهدمون بعض هذه الأحياء ويزيلونها من الوجود، ليفتحوا المجال واسعًا أمام المتدينين اليهود للتصرف بهذه البلدة التاريخية الأثرية تصرف المالك في ملكه، وللسيطرة على حاراتها، وأحيائها، وبيوتها كلما كان ذلك ممكنًا.. كما راحوا بعد ذلك، أو قبله ينشئون أحياءهم الاستيطانية في الأجزاء الشمالية والشرقية والجنوبية من المدينة بسرعة قياسية مستفيدين في ذلك من حالة الذهول التي أصابت أهل هذه الديار في أعقاب ما جرى يوم الخامس من حزيران، وفي الأيام الستة التي أعقبته.. من الإثنين إلى الإثنين.. أسبوع واحد تحدثوا فيه كثيرًا عن السلام، بل لم يتحدثوا فيه إلا عن السلام!! كما تحدثوا فيه بكثرة ووفرة عن ألوان من الاعتداءات التي كان العرب يمارسونها ضدهم انطلاقًا من ذلك السور الهلامي الذي كان يفصل شرق المدينة عن غربها، وانطلاقًا من تلك الحدود المفتوحة السائبة في قلقيلية، وغرب رام الله، وكثير من القرى والبلدات في منطقة بيت لحم، وفي جبل الخليل... بل إنهم راحوا يتحدثون بشكل غير مسبوق عن هتلر، وعما ألحقه بهم من صنوف الإبادة.. مؤكدين أنهم لن يسمحوا ثانية بتعرض مدنهم وقراهم من جديد انطلاقًا من القدس، وقلقيلية، والخليل، وبيت لحم، وقطاع غزة، والجولان!!

    كانوا –إعلاميًّا- لا يتحدثون إلا عن السلام.. في الوقت الذي كانوا فيه يخططون للسيطرة على القدس، وعلى سائر الأرض المحتلة منذ سبعة وستين.. وفي الوقت الذي كانوا يزرعون فيه مستوطناتهم ومستوطنيهم في طول القدس وعرضها وفي شمالها و جنوبها..

وفي الوقت الذي كانوا يحكمون فيه قبضتهم على كافة مناطق الضفة الغربية، أو يهودا والسامرة كما يسمونها، وفي الوقت الذي كان كانوا يبيتون فيه لقطاع غزة ما ينسجم مع ما تمناه أحدهم لاحقًا لو أن البحر يبتلع غزة ليرتاح هو من هذه المشكلة التي تؤرقه ليل نهار!! وفي الوقت الذي أعلنوا فيه بعد ذلك ضم الجولان العربي السوري إلى دولتهم، وأعلنوا وما زالوا يعلنون رفضهم التخلي عنه، ورفضهم إعادته إلى أصحابه، وفي الوقت الذي وقّعوا فيه بعد ذلك أول معاهدة سلام فتحت أمامهم ذلك البلد على مصراعيه، في الوقت الذي لم تُعد ما كان محتلاًّ منه إليه!! وعليه، فقد كانوا سعداء بتلك المعاهدة، لأنها جاءت ترجمةً لذلك السلام الذي يفضلونه مع الفلسطينيين، ومع كل العرب، ومع كل المسلمين أيضًا.

    واليوم، وبعد نحو اثنين وستين عامًا مما حدث عام ثمانية وأربعين، وأكثر من اثنين وأربعين عامًا مما جرى في العام سبعة وستين، وبعد ستة عشر عامًا من توقيع اتفاقات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقيام سلام الشجعان بين إسرائيل وهذه المنظمة، وبعد خمسة عشر عامًا بالكمال والتمام من توقيع اتفاق وادي عربة مع الأردن في مثل هذا اليوم السادس والعشرين من تشرين الأول، وبعد أكثر من ثلاثة عقود من قيام السلام بين إسرائيل وكبرى دول العرب، وبعد أن زالت كافة المخاطر التي كانت محدقة بإسرائيل والإسرائيليين، وبعد أن نبذ الفلسطينيون "الإرهاب"، واعتقلوا، وقتلوا "الإرهابيين"، وبعد أن أصبح السلام خيارًا استراتيجيًّا لدول العرب لماذا يفعل الإسرائيليون ما يفعلونه بالقدس، وبالمسجد الأقصى في هذه الأيام؟؟ هل هي الرغبة في إحلال السلام أيضًا؟ وهل أصبح السلام الإسرائيلي المعلن يعني الاقتلاع والتهجير، والإقصاء والإحلال؟؟ وهل أصبح السلام الإسرائيلي المعلن أنهم يريدون الأرض كل الأرض خاليةً من سكانها، وخالية من مساجدها وكنائسها وتراثها وحضارتها وثقافتها ومعالمها التاريخية والأثرية؟؟ وهل يريدونها مزرعةً لمستوطنيهم، ولما يدفنونه في جوف الأرض اليوم، ليخرجوه غدًا على أنه آثار تشهد بوجود صلة ما بينهم وبين هذه الأرض في زمن معين، وفي حقبة من التاريخ كانت؟؟

    أغلب الظن أن ما يجري في القدس، وفي المسجد الأقصى، وفي الضفة الغربية المحتلة، وفي قطاع غزة المحاصر، وفي الجولان العربي السوري لا علاقة له بالسلام.. وأغلب الظن أن هؤلاء لا يريدون السلام، بل يريدون الأرض والأمن والحدود المفتوحة مع كل العرب، ومع كل المسلمين دون مقابل، ودون أن يدفعوا شيئًا من ثمن ذلك!! وأغلب الظن أنهم يراهنون في ذلك كله على تخاذل كثير من العرب، وكثير من الفلسطينيين، وكثير من المسلمين، وكثير من المرتشين المنافقين في هذا العالم.. وأغلب الظن أيضًا أنهم مخطئون في تصوراتهم وحساباتهم.. مخطئون في أقوالهم وأفعالهم.. مخطئون في عدوانهم على القدس والأقصى.. مخطئون في إصرارهم على التنكر للحقوق العربية.. مخطئون في إصرارهم على التنكر لحقوق الفلسطينيين العرب في وطنهم التاريخي فلسطين.. مخطئون في استخفافهم بأهل هذه الديار، وبأهل هذه المنطقة من العالم، وباستخفافهم أيضًا بالناس كل الناس في هذا العالم!!!

    إن ما يجري في القدس اليوم لا يخدم عملية السلام، بل يهدم هذه العملية التي لم تعد قائمة، ولن تعود إلى أرض الواقع العملي إلا بعودة العقل إلى رؤوس اليمينيين المتطرفين، وغلاة المتشددين في إسرائيل.. وإن ما يجري في القدس اليوم هو خير شاهد على أن هؤلاء ليسوا راغبين في السلام.. فهل يفهم العرب، وهل يفهم العالم، وهل نفهم نحن الفلسطينيين هذه الحقيقة؟ نرجو ذلك!!

28/10/2009

 


الأحد، ٢٥ تشرين الأول ٢٠٠٩

إلى الهجرس وغانم خليل برهوم، وعبلة الكرمي مع حفظ الألقاب،

 

     إلى الهجرس وغانم خليل برهوم، وعبلة الكرمي مع حفظ الألقاب،

 وبالغ التحية والإعجاب.

أ‌.      عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لقد قرأتُ ما كتبتموه، وسرّني جدًّا إطراء "الهجرس"، وهو بدون أدنى شك إنسان مثقَّف واسع الاطلاع، ولا أُخفي أنني راغب في التعرف عليه، وفي الحديث إليه رغم كثرة الأعمال، وتعدد المسئوليات والأشغال، ورغم أنني لم أدخل بعد عالَم الحاسوب، ويبدو أنني لن أدخله أبدًا، فهنالك من يكتبون ويطبعون ويرسلون، وهنالك ناشر، وهم جميعًا يكفونني مؤونة هذه الأعمال التي جاءت في زمن غير زماني، ولأجيال غير جيلي وأواني، ومواصفات وصفات غير مواصفاتي وصفاتي.

    على أنك أيها "الهجرس" قد كنتَ قاسيًا على أخينا حسام خضر، وقد جئتُ هنا لأقول إنني أهديته المقالة هذه، كما أهديته كثيرًا غيرها ربما بدون ذكر كلمة إهداء.. أما السبب والرابط والصلة بين هذه المقالة (في قوة الضعيف.. وضعف القوي) والإهداء فيأتي ضمن الرد على عبلة وغانم (اللذين يسألان عن العلاقة بين المقال والأخ حسام).

    لقد استوحيتُ هذا المقال –أيها العزيزان- من مراجعتي لمذكرات حسام خضر التي كتبها في فترة التحقيق التي طالت لتبلغ تسعين يومًا.. وقد جاء في سياق ذلك المقال بالحرف الواحد:"وذاك الأسير الذي ألفى نفسه مقيَّدًا على كرسي التحقيق أمام من يحاولون انتزاع الاعترافات منه ضعيف، وعلى آسريه أن يحسنوا معاملته" وجاء أيضًا:" والضعف قد ينقلب إلى قوة دونها كثير من القوى، عندما يصر هذا الأسير على التحدي، وعندما يقرر تعذيب هؤلاء الذين يعذّبونه بالتزامه الصمت المطبق؛ فإن صعّدوا من إجراءاتهم ضده صعّد بدوره، فامتنع عن تناول الطعام؛ فإن لجأوا إلى الإغراء والترغيب بهدف إخراجه من حالة الموت التي "يحياها" وبهدف استقطابه، والزج به في حظيرة مَن يستقطبون راح يتكلم من جديد، وراح يطالب همسًا بحقه في الماء الذي لم يره منذ مدة طويلة عندما يتحدثون في كبار الحوادث والأحداث التي تؤرقهم، وتقض مضاجعهم!!

    والمقالة غنية بعد ذلك بالإشارات الكثيرة الدالة على الصلة الوثيقة بينها وبين هذا الإهداء الذي تساءل عن أسبابه هذان الأخوان الكريمان.

    أرجو (بعد هذا التوضيح) أن يعود الأخوان الكريمان إلى قراءة المقالة من جديد، كما أرجو أن يتاح لهما، ولغيرهما من مثقفي هذا الوطن ومثقفاته الاطلاع على مذكرات حسام التي سترى النور قريبًا بإذن الله.  

للهجرس، وغانم، وعبلة كل تحياتي.

25/10/2009


السبت، ٢٤ تشرين الأول ٢٠٠٩

الإسرائيليون.. إلى أين يقودهم اليمين المتطرف؟؟

الإسرائيليون.. إلى أين يقودهم اليمين المتطرف؟؟

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    هذه المنطقة من العالم التي أسمتها بريطانيا ذات يومٍ الشرق الأوسط، وأسمتها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقةُ الشرقَ الأوسط الكبير، وأسميناها نحن العالمَ العربيَّ الإسلاميَّ، تشهد منذ عقودٍ تحوُّلاتٍ اجتماعيةً، واقتصادية، وسياسية لفتتْ نظر كثير من المؤرخين والمراقبين والمحللين السياسيين على الرغم من بطء هذه التحوّلات، وتعثّر سيرها، بسبب عواملَ ومعوّقاتٍ يعرفها جيّدًا أبناء هذه المنطقة، وتدخلاتٍ يعيها المراقبون والمحللون السياسيون في شرق الدنيا وغربها.

    إلا أننا، وعلى الرغم من كل هذه المعوّقات والتدخلات، وعلى الرغم من مرارة كل الهزائم التي منيتْ بها هذه المنطقة شعوبًا وقبائلَ وأحزابًا وجماعاتٍ وأفرادًا وحكومات، نرى بكل جلاء ووضوح كثيرًا من التحركات النشطة على مستوى الشعوب في هذه المنطقة، نحو بلورة فكر عربي إسلامي جديد، ونحو تحقيق نهضة ثقافية شاملة قوامها هذا الفكر العربي الإسلامي السياسي الذي يوّحد ولا يفرّق، ويجمع سائر ألوان الطّيف في راية واحدة يراها كل العرب، ويراها كل المسلمين بعين الخيال المجنّح المحلِّق في سماء العروبة والإسلام إلى جانب الأعلام الوطنية التي يراها الناس رأي العين على المباني الرسمية في أوطانهم.. كما نرى على أرض الواقع هذه التحوّلات الجديدة التي تعكسها هذه التحالفات، وتترجمها إلى لغة مشتركة هذه التحركات التي باتت لغة كثير من البلدان والحكومات في هذه المنطقة من العالم.

    إن العربي اليوم يختلف كثيرًا أو قليلاً عما كان عليه في العام ثمانية وأربعين، وفي الأعوام التي تلتْ ذلك العام.. في فلسطين نفسها بتنا نرى كثيرًا من هذه الاختلافات والتحولات على كل صعيد، وبتنا نرى كل هذه التغيّرات والمتغيرات الثقافية والمعرفية التي تبشّر بثورة شاملة، ونهضة متكاملة تؤتي أُكُلها الآن وفي كل آن.. وكذلك هي الحال في لبنان، وفي سوريا، وفي إيران، وفي تركيا، وقريبًا في العراق، وفي بلاد الأفغان، مرجئًا الإشارة إلى باكستان، وإلى الصومال واليمن السعيد والسودان، ومرجئًا الإشارة أيضًا إلى كل هذه المقدمات الواعدة في كثير من ديار العروبة والإسلام، من حيث نتوقع، ومن حيث لا نتوقع، فالأيام ستأتي بكل جديد، والليالي ستلد كثيرًا من المفاجآت، ومما لم يكن ضمن سقف التوقّعات والتمنيّات!!

    إن أكثر الناس تفاؤلاً، وأشدَّهم إيمانًا بحتمية صحوة هذه الأمة من غفلتها، ونهوضها من كبوتها، بل من كبواتها وعثراتها، لم يكن يتوقع كل هذا الذي يجري ويدور على الساحة السورية التركية من إلغاء للحواجز والحدود بين شعبين جارين شقيقين كانا منذ فجر التاريخ، ومنذ ما قبل التاريخ شعبين عظيمين أدليا بدلويهما في كل حوادث الخليقة وأحداثها مذ كانا، ومذ كانت الخليقة، منذ التكوين، ومنذ ما قبل التكوين.. وإن أكثر الناس تفاؤلاً وإيمانًا بمستقبل هذه الأمة، وقدرتها على المواجهة والتحدي لم يكن يتوقع حدوث ما حدث في إيران، ولم يكن يتوقع كل هذا التحول في المواقف والأهداف والغايات.. إن هذا التحالف المصيري الذي يضم اليوم هذه الأقطار بشعوبها، ومساحاتها، وإمكاناتها الاقتصادية، وثرواتها المائية، والنفطية، والبشرية الهائلة، وموقعها الاستراتيجي، وحضاراتها العظيمة الموغلة في القدم، وعلاقاتها بكثير من الأمم والشعوب في هذا العالم، يضاف إليها العراق العربي الواحد الموحَّد غدًا أو بعد غد.. هذا التحالف المصيري هو نواةٌ لوحدة كل العرب، وكل المسلمين، بل وحدة كل المستضعَفين جميعًا في كل أقطار هذا العالم.. وحدة كل الفقراء، وكل الطامحين إلى الحرية والتحرر والسيادة والاستقلال والعيش الكريم في عالمٍ تسوده شريعة الحق والعدل والتسامح والإخاء والمحبة والرِّفاء.

    وإن أكثر الناس تفاؤلاً أيضًا لم يكن يتوقع ما حدث ويحدث في القارّة الأوروبيّة من تحوّلات سياسية أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها واعدة، وإنها مبشّرة بميلاد عهد جديد من العلاقات المتكافئة بين شعوب العالم العربي الإسلامي وشعوب هذه القارّة، ولولا هذه الممارسات العدوانية المؤلمة التي يمارسها الأوروبيون في ساحات المعارك والحروب في عدد من أقطار العروبة والإسلام، ولولا هذا التدخل الأوروبي الرسمي في الشأن الداخلي العربي الإسلامي لأمكن القول إن دول الاتحاد الأوروبي قد باتت إلى جانب الحق والعدل والخير أقرب.. ومع ذلك، فإن كثيرًا من المراقبين والمحللين يعتقدون أن دول هذا الاتحاد تواصل السير بخطًى ثابتة نحو مزيد من التفاهم، ومزيد من التقارب مع شعوب العالم العربي الإسلامي، ومع تطلعات هذه الشعوب وأهدافها.

    وكذلك، فإن أكثر الناس تفاؤلاً لم يكن يتوقع حدوث ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يكن يتوقع كل هذه التحولات التي تشهدها الساحة الأمريكية.. صحيحٌ أن الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت تحارب كثيرًا من العرب وكثيرًا من المسلمين في عقر دارهم، وصحيح أن الولايات المتحدة لا زالت تناصب كثيرًا من القضايا العربية الإسلامية العداء، وصحيحٌ أنها لا زالت تكيل بمكيالين في القضية الفلسطينية  تحديدًا. وأنها لا زالت منحازة إلى الجانب الإسرائيلي على حساب الحق العربي، وعلى حساب الثوابت الفلسطينية.. ولكن صحيحٌ أيضًا أن تحوّلاً كبيرًا قد طرأ على سياسة أمريكا منذ تسلّم أوباما الحكم، وصحيح أيضًا أن الشارع الأمريكي –ومنذ عقود- يضيق ذرعًا بسياسات حكامه إزاء كثير من قضايا العالم العربي الإسلامي، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، وصحيح أيضًا أننا قبل أن نلوم أمريكا ونحاسبها على مواقفها التي تقض مضاجع كثير من الناس في ديار العروبة والإسلام علينا أن نلوم أنفسنا ونحاسبها على مواقفها التي تُعدّ في كثير من الأحيان أسوأ من مواقف أمريكا، وغير أمريكا.. علمًا بأن كثيرًا من المراقبين والمحللين السياسيين يعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية في طريقها على الأرجح إلى الكيل بمكيال واحد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وفي طريقها إلى اتباع سياسة متوازنة غير منحازة انطلاقًا من قناعاتها، واستجابةً لرغبة الشارع الأمريكي، وانطلاقًا من مصالحها في هذه المنطقة من العالم على ضوء التحوّلات والتحالفات الجديدة التي تشهدها هذه المنطقة من العالم.

    بقي أن نقول إن الأنظمة العربية المعتدلة هي في طريقها إلى التصلب بسبب هذه المواقف الإسرائيلية من الحصار المفروض على غزة، وبسبب مضي الإسرائيليين في ابتلاع الضفة الغربية، وبسبب المواقف الإسرائيلية الأكثر تصلبًا، والأكثر تطرفًا وتشدّدًا، والأكثر استخفافًا بالحقوق العربية، والأكثر تنكّرًا للحقوق الوطنية الثابتة للفلسطينيين في وطنهم فلسطين، والأكثر عدوانًا على القدس العربية، والأكثر تنكّرًا لحق عودة اللاجئين والمهجّرين الفلسطينيين، والأكثر غرورًا واستعلاءً واستكبارًا في الأرض، والأكثر تهربًا من السلام العادل ومستلزماته ومقتضياته، والأكثر تهربًا من المبادرة العربية، ومن خارطة الطريق الأمريكية.

    وبقي أن نقول أيضًا إنه في الوقت الذي يحقق فيه العرب والمسلمون كثيرًا من الإنجازات على كافة الصعد والمستويات يزداد الإسرائيليون تقوقعًا وعزلةً، وفي الوقت الذي ينفضُّ فيه الناس من حول الإسرائيليين لم يبق ما يراهنون عليه اليوم سوى ترسانتهم النووية، وبقايا دعم أمريكي تقليدي قد يكون في طريقه إلى التلاشي والزوال بعد أن كلف الولايات المتحدة غاليًا على امتداد العقود الستة الماضية.. أما الترسانة النووية فإنهم يعتقدون قبل غيرهم أنها لن تغنيهم عن الحق شيئًا، وأنها لن توفر لهم الأمن والأمان، بل على العكس تمامًا من ذلك، إذ ربما أصبحت هذه الترسانة عبئًا عليهم، ومصدر رعب وقلق لكثير من جنرالاتهم وخبرائهم العسكريين.. وهم يدركون أكثر من سواهم أن التأييد الأمريكي الأعمى قد مضى وانقضى، ومن الصعب أن يعود على الرغم من وقوف الولايات المتحدة حتى الآن إلى جانبهم على استحياء.. وهم يعلمون أكثر من سواهم أيضًا أن اليمين المتطرف لن يحقق لهم الأمن والأمان، ولن يقودهم إلى شاطئ النجاة، وإلى برّ السلامة والسلام، بل إن اليمين المتطرف الذي يتربع على سدة الحكم في إسرائيل هو الذي يجرّ الإسرائيليين إلى عواقب قد لا تُحمد عقباها، وهو الذي ربما يعرض إسرائيل والإسرائيليين لمخاطر وعقبات وكوارث هم في غنًى عنها.

 إن السلام العادل المقنع الذي لا غالب فيه ولا مغلوب هو الوسيلة الوحيدة للعيش الكريم الذي تطمح إليه الشعوب، وإن السلام الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها هو الضمانة الأكيدة لأمن كافة الشعوب وأمانها في هذه المنطقة من العالم.. فهل يدرك اليمين الإسرائيلي المتطرف هذه الحقيقة؟ وهل يكفّ هذا اليمين عن اللعب بأمن الإسرائيليين وأمانهم؟ وهل يفكّر هذا اليمين مليًّا فيما يقول لسانه، وفيما تفعل يداه؟؟ وهل يسأل الإسرائيليون أنفسهم إلى أين يقودهم هذا اليمين المتطرف؟ وهل يدركون أن إعادة الحقوق إلى أصحابها هي الخطوة الأولى في الطريق إلى السلام المنشود الذي تطمح إليه هذه المنطقة من العالم، وترنو إليه شعوبها؟ نرجو ذلك.

24/10/2009


الأحد، ١٨ تشرين الأول ٢٠٠٩

حتى لا تُصاب بالصدمة.. توقّع الأسوأ دائمًا!!

حتى لا تُصاب بالصدمة.. توقّع الأسوأ دائمًا!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    هذه ليست دعوة للتشاؤم.. بل إن عكس ذلك هو الصحيح.. فالهدف هنا أن نبتعد جميعًا عن كل ما من شأنه أن يضعنا في دائرة التشاؤم، وأن يجلب لنا اليأس والإحباط، أو أن يصيبنا بكثير أو قليل من الاكتئاب، أو الانزواء، أو الانكفاء والانغلاق على الذات، والعيش مدة أو مُددًا تطول أو تقصر في ليل الصدمة التي تلقي بظلالها القاتمة على النفس، وتصيبها بغير قليل من اليأس والقنوط وانعدام الثقة إلى أن نتمكن من استعادة التوازن، واستعادة الثقة بالنفس، وتخليص شخصياتنا مما علق بها، وران على جدران مشاعرها وأحاسيسها وسائر مقوّماتها ومكوّناتها من شوائب ومنغّصات ومعوَّقات.

    إذا تقدمت لامتحان (عزيزي الدارس) فلا تخرج منه معلّلاً النفس بأعلى العلامات، وأفضل التقديرات.. وإذا تقدمت (أيها الخريج) بطلب للعمل، فلا تفرط في التفاؤل، ولا تسرف في التخيّلات والأحلام التي قد تصل حد الأوهام، وقد تلامس حدود الخرافات والأساطير التي تحلّق بك من واقع الفقر والجوع إلى فضاء لم يبلغه أحد من رغد العيش.. وإذا خفق قلبك (أيها المحب) لجمال هذه الفتاة، وكمالها، واحتشامها، وخفة روحها، ورجاحة عقلها، ورحت تحدث النفس بأنها هي، وهي وحدها فتاة الأحلام التي ستملأ عليك البيت حبًّا وخيرًا وسعادةً وبناتٍ وبنين.. فلا تسرف على نفسك بكل هذه التخيلات، ولا تغرقها في أحلام اليقظة هذه.. وإذا شاركت في عمل تجاريّ، أو في مشروع ربحيٍّ، فلا تذهب بتخيلاتك وتصوراتك كل مذهب، ولا تضع نفسك في مصاف الأثرياء الذين تتحدث عنهم الفضائيات.. وإذا قُدّر لك أن تضع كتابًا في الأدب أو السياسة أو الاقتصاد، فلا تتوقع أن يغيّر كتابك هذا نظام الكون، ولا تتوقع أن تشتغل الصحف المحلية والإقليمية والدَّولية بالحديث عن عبقريتك وإلهامك وإبداعاتك ردحًا من الزمن، لأنك سبقت معاصريك، وسبقت كل الأوائل أيضًا في هذا الذي جئت به، وحدَّثتنا عنه!! وإذا كنت في مجلسٍ متحدثًا، فلا تظنَّنَّ أنك كلما أكثرت من الكلام كنتَ أكثر إجادةً وإثارةً، وكان الناس من حولك أكثر إعجابًا بكلامك، وهيامًا بأفكارك!! وإذا كنتَ موظفًا كبيرًا أو صغيرًا، فلا تعتقد أنك وحيد زمانك، وفريد عصرك وأوانك، ولا يداخلْك الغرور لحظةً أن هذا الوضع الذي أنت فيه سيستمر إلى ما لا نهاية!! وإذا ابتسمت لك الدنيا وأذاقتك من أفاويقها؛ فلا تطمئنّ إليها، ولا تركنْ إلى نعيمها الزائل، ولونها الكالح الحائل.

    فنتيجة الامتحان (أيها الدارس) قد تكون مخيبةً تمامًا للآمال، وطلب العمل (أيها الخريج) قد لا يفجّر في نفسك إلا الغضب والسخط والشعور بالمرارة والقهر، وخفقان قلبك (أيها المحب) قد يكون من طرف واحد، وقد لا يؤدي بك إلا إلى مجموعة أمراض القلب -وقانا الله شرورها-، ومشاركتك في عمل أو مشروع (عزيزي المستثمر) قد تؤدي بك إلى الرصيف على قارعة الطريق، أو أمام واحد من بيوت الله!!، وكتابك (أيها المؤلف الحصيف) قد يكون سببًا في الحكم عليك بالإفلاس سنواتٍ طوالاً إن أنت طبعته على نفقتك، وقد يكون سببًا في نهايتك المبكرة إن طبعتْه هذه الجهة أو تلك، أو سببًا في نهايتك بغض النظر عن زمانها إن كان " الوحي والإلهام" قد عرفا طريقهما إليك في سن متأخرة!!! وإكثارك من الكلام (أيها المتحدث في المجالس) قد يكون مدعاةً للسخرية والتندّر والغمز واللمز -لا أصابنا الله بمثل هذه السهام، ووقانا شر أصحابها-، ووجودك في الوظيفة (عزيزي الموظف) قد يكون مؤقتًا، وقد تخسرها لتعود أدراجك من حيث أتيت، وتصبح شماتةً للشامتين بين عشية وضحاها - وقانا الله ذلك، فالشماتة لؤم كما يقول الأقدمون السابقون السباقون إلى المكارم وحميد الأخلاق والصفات!!- وابتسام الحياة (أيها المنعَم المترَف) نعيمٌ زائل، فلا تطمئن إليه.. فبعد الأفاويق الحلوة التي تذيقك إياها الآن ستجمح بك نافرة، وسترمحك مولِّية، فيملح عذبها، ويخشن لينها، فتصرفك عن الإخوان، وتبعدك عن الأوطان، والكلام هنا لعبد الحميد بن يحيى الكاتب الذي قيل إن الكتابة العربية الفنية قد بُدئت به (بُدئت الكتابة بعبد الحميد، وانتهت بابن العميد) ثم استؤنفت بعد ذلك بفضل الله، وها هي كتابتنا العربية الفنية تملأ الدنيا كلها اليوم بنماذجها الغنية المفعمة بالقوة والأصالة والسموّ والإبداع.

    وإذا كان الأمر كذلك – وهو قطعًا كذلك- فإن من الحكمة وسداد الرأي أن يتوقع الإنسان الأسوأ حتى لا يصاب بالصدمة، وحتى لا يقع فريسة الشعور بالمرارة وألم الخيبة، وحتى لا يدفع ثمن ذلك التفاؤل المبالَغ فيه من أعصابه، ومعنوياته، وتوازنه، واتزانه، وصحته النفسية، وطموحاته الشخصية والعامة، وسعيه المستمر نحو تحقيق الغايات والأهداف، وحتى لا يقضي على نفسه بنفسه، ويحكم عليها بالموت المبكر أو غير المبكر نتيجة تفاؤل بلغ حد الهوس والغرور الجامح، وصدمة مدمرة أعقبت هذا الغرور.

    وبعد

    فإنه ينبغي أن نبتعد عن الإغراق في التفاؤل الوهميّ في كل أفعالنا، وفي كل توقعاتنا، وأن نكون واقعيين في حساباتنا وتقديراتنا، نعدّ للأمر عدته، ونبذل كل ما بوسعنا بذله من أجل تحقيق الغايات والأهداف سواء كان ذلك على صعيد العمل الفردي أو الجماعي.. إذا نحن توقعنا نتيجة سيئة لعمل ما عملناه ثم جاءت النتيجة أفضل مما توقعناه فإننا نجنب أنفسنا آثار الصدمات القاتلة.. صحيحٌ أن التفاؤل أكثر من ضروري لاستمرار الحياة، وأكثر من ضروري لاستمرار العمل من أجل هذه الحياة، وأكثر من ضروري للتطورات والتغيرات والتحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وأكثر من ضروري لتحقيق الانتصارات في كافة المجالات، وعلى كافة الجبهات، وأكثر من ضروري للسير بالحياة الخاصة للأفراد، والحياة العامة للمجتمعات قُدمًا في كل يوم، وفي كل ساعة.. ولكن صحيحٌ أيضًا أنه ينبغي في كثير من الأحيان أن لا يكون تفاؤلنا وهميًّا غير محسوب أو مدروس، وأن لا يكون تفاؤلنا مبالغًا فيه حتى لا نصاب بالصدمة وخيبة الأمل واليأس والقنوط والإحباط عندما نفاجأ بالنتيجة المرة التي تقف مع كل ما كنا نتوقع -قبل ظهورها- على طرفي نقيض!!

18/10/2009


الأربعاء، ١٤ تشرين الأول ٢٠٠٩

هذه المفاوضات.. إلى متى ستستمر؟؟

هذه المفاوضات.. إلى متى ستستمر؟؟

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    إلى متى ستستمر هذه المفاوضات ( الإسرائيلية الفلسطينية) التي أنهت منذ شهر عامها السادس عشر دون أن تسفر عن شيء، ودون أن تحقق شيئًا للفلسطينيين، ودون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى أنها ستحقق شيئًا غير هذا الاستيطان الدّاهم الذي جرّد كثيرًا من القرى والبلدات والمدن التي كانت زراعية من أراضيها، وحاصر كثيرًا من القرى والبلدات والمدن حصارًا رهيبًا تستحيل معه الحياة بدون تنفّس اصطناعي، وبدون كل هذه المنح والمساعدات التي من شأنها أن تُبقي على الناس أحياءً، ولكن لا يُرزقون؟!! فالرزق لم يكن، ولن يكون فتاتَ موائدَ يقيمها المترفون والموسرون من هؤلاء وأولئك.. إنما الرزقُ عمل وكدح وسعيٌ واضطراب في الأرض يأكل معه الناس مما يزرعون، ويلبسون مما يصنعون!!

    إلى متى ستستمر هذه المفاوضات التي لم تحقق غير هذا الاستيطان، وغير هذا الجدار الذي يتلوى ليلَ نهارَ مثل أفعى محمومة تحمل في أنيابها السمّ الزّعاف القاتل أنّى توجَّهتْ، وحيثما حلّتْ، وأنّى مرَّتْ، وكيفما نفثتْ، أو انسابتْ وهاجمتْ، أو لدغتْ؟؟ هذه الملايين من العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية (أو في يهودا والسامرة كما يسميها الإسرائيليون) عيشًا أشبه بعيش مؤقت لا يدري معه الناس إلى أين سيفضي بهم، وكيف ستكون نهاية المطاف وأين؟؟ وأولئك المحاصَرون الرازحون في مدن القطاع ومخيماته وقراه تحت وطأة الحصار الخانق، والموت الزّؤام الخاطف الزاحف المتربّص بهم تحت الأرض، وفوق الأرض.. داخل أكواخهم وخيامهم ومزارعهم، أو في بيوتهم ومدارسهم ومساجدهم ومنازلهم.. تعصف بقلوبهم وأفئدتهم وسمعهم وأبصارهم تباريح الصَّبابة والجوى، وتمزّق سكون الكون من حولهم، كما تمزق أجسادهم الغضّة قذائف عرفت طريقها إليهم، فباتت جزءًا من حياتهم اليومية، وأصبحتْ جزءًا من قُوْتهم وغذائهم، يقتاتون من نيرانها وأوارها فيما يقتاتون، ويغتذون جحيمها وشواظها الحاقد الحارق المزمجر المدمّر فيما يغتذون!!

    هذه الملايين من العرب الفلسطينيين في هذا المحتل من الأرض منذ سبعة وستين تعيش أسوأ حياة يمكن أن يعيشها شعب من شعوب هذه الأرض بسبب كل هذه الحقائق الجديدة التي تُفرض على هذه الأرض في كل يوم، وبسبب هذه السيطرة المستمرة على هذه الأرض في كل يوم، وبسبب هذا الظلم الصارخ الذي يئن تحت وطأته أهل هذه الأرض في كل يوم، وبسبب كل إجراءات التهويد، وكل أشكال التهديد والعزل والحصار الذي تتعرض له القدس في كل يوم، وبسبب هذا الواقع الرهيب الذي يُفرض على الخليل وبلدتها القديمة في كل يوم، وبسبب هذه الإجراءات الغريبة التي يرزح تحت وقعها أهل غزة، ويدفعون ثمنها دموعًا ودماءً في كل يوم، وبسبب كل هذا التضييق والحصار والتحكم بحياة الناس في هذه الديار، ومصادرة أرضهم، ومصادر رزقهم، والتنكر لأبسط حقوقهم في الحرية والعيش بكرامة وأمن وأمان، وبسبب الإمعان في الاعتقال، والزج بالآلاف من أبناء هذا الشعب الصابر في المعتقلات والسجون، وبسبب نهب كافة مقدّرات هذه البلاد، ووضع اليد على مواردها وثرواتها الطبيعية، وبسبب شطب قطاع الفلاحين، وشطب قطاع العمال، واختزال هذا الشعب في فئة متناقضة من الموظفين!! وما ترتّب على ذلك كله من إصابة قطاع الزرّاع والصنّاع والتجار بالشلل، وإصابة قطاع الطلبة بالاضطراب واليأس والقنوط، وإصابة المجتمع كله بالارتباك، والشعور بالمهانة، والخوف من المجهول.

    ما الذي جناه هذا الشعب من هذه المفاوضات؟ وما الذي خسره من توقّفها؟ وما الذي سيجنيه من استئنافها إذا كان الإسرائيليون أنفسهم يستثنون القدس من هذه المفاوضات؟ وإذا كان الإسرائيليون أنفسهم يرفضون عودة أي لاجئ فلسطيني إلى بيته الذي هُجّر منه، وأُبعد عنه عام ثمانية وأربعين؟ وإذا كان الإسرائيليون أنفسهم يعتبرون هذا الجدار حدودًا بين الدولتين اللَّتين يتحدث المتحدثون عنهما؟ وإذا كان الإسرائيليون أنفسهم يرفضون رفع أيديهم عن أي معبر من هذه المعابر الحدودية؟ وإذا كان الإسرائيليون أنفسهم يرفضون التخلي عن المستوطنات؟ وإذا كان المستوطنون الذين يبلغ تعدادهم اليوم في الضفة الغربية نصف مليون مستوطن يرفضون مغادرة أيٍّ من مستوطناتهم مهما كانت الظروف؟ وإذا كان هؤلاء المستوطنون يعملون جاهدين من أجل توسيع مستوطناتهم في كل يوم؟ وإذا كانوا يقيمون مستوطنات جديدة، وأحياء استيطانية جديدة، وبؤرًا استيطانية جديدة في كل مناطق "يهودا والسامرة" كلما دعت "الحاجة" واقتضت "الضرورة" ذلك، حتى قطّعوا أوصال هذه المناطق، وفصلوا جنوبها عن شمالها، وأصبحوا يسيطرون سيطرة كاملة على سبعين بالمئة منها، وشبه سيطرة كاملة على كافة مظاهر تحركات الناس ووسائل عيشهم في الجزء المتبقي منها؟؟ ما الذي من الممكن أن يجنيه هذا الشعب من مفاوضات كهذه سوى مزيد من الخيبة، ومزيد من الخسارة، ومزيد من التراجع، ومزيد من إضاعة الحقوق، ومزيد من الندم بعد ذلك كله ولات حين مندم؟؟

    وإذا كانت مصر وهي كبرى "الدول" العربية، وصانعة "نصر" أكتوبر قد فشلت في تحرير سيناء المحتلة تحريرًا فعليًّا عن طريق المفاوضات، وإذا كانت مصر هذه بكل ثقلها، وبكل المعارك والحروب التي خاضتها، ووقوف إدارة جيمي كارتر إلى جانبها قد عجزت عن تحقيق شيء ذي بال عن طريق هذه المفاوضات التي أصرَّ السادات على خوض غمارها، فماذا عسى الصغار أن يحققوا؟  أغلب الظن أنهم لن يحققوا شيئًا، وأغلب الظن أن هذه المفاوضات لن تسفر عن شيء، ولن تساهم إلا في فرض هذا الواقع الجديد، وتكريسه في هذه الديار!!

     فإلى متى ستستمر هذه المفاوضات التي لم تكن يومًا سوى فرص عمل ذهبية للمشتغلين بهذه القضية؟ هذه المفاوضات لم تكن يومًا، ولن تكون أكثر من مصدر دخل لم يكن أحد يتوقعه في يوم من الأيام، هذه المفاوضات لم تكن أكثر من وسيلة للكسب والجاه والسلطان والنفوذ وتحقيق المآرب والغايات والأهداف الشخصية حتى ولو كان ذلك مؤقتًا ينتهي باستغناء المشغِّلين عن المشغَّلين، والمستخدِمين عن مستخدَميهم في يوم بات أقرب مما يتوقع كثيرٌ من الناس.

14/10/2009


السبت، ١٠ تشرين الأول ٢٠٠٩

رؤية شاملة.. لتجفيف منابع الصراع ومنطلقاته!!

  متابعات

رؤية شاملة.. لتجفيف منابع الصراع ومنطلقاته!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

  إذا كان الفلسطينيون يصرون على اعتبار القدس أرضًا محتلة منذ العام سبعة وستين، شأنها في ذلك شأن مدن الضفة الغربية وقراها.. وإذا كان الفلسطينيون يصرون على اعتبار المسجد الأقصى المبارك مسجدًا إسلاميًّا منذ أن كان، ويرفضون أن يشاركهم فيه أحد، أو أن يعتدي عليه أحد.. وإذا كانوا يعتبرون قضية اللاجئين والمهجَّرين قضية غير قابلة للنقاش والمساومة، ويجب أن تحل وفق القرار رقم (194) بدون أدنى تحريف أو تزييف.. وإذا كانوا يعتبرون الاستيطان أمرًا غير مشروع منذ أن كان وحتى هذه اللحظة، ويعتبرون المستوطنات بكل أشكالها وصورها ومواقعها وأحجامها مستوطنات غير مشروعة، ولن تكون مشروعة تحت أي ظرف، وبأي حال من الأحوال، بمعنى أنها تكتلات يجب أن تزال، أو أن تُخلى من مستوطنيها في أحسن الأحوال.. وإذا كان الفلسطينيون أيضًا يعتبرون وجود أسراهم في السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف أمرًا لا يمكن التسليم به، ويعتبرونه عدوانًا صارخًا على حرية هؤلاء الأسرى، وعلى حقهم الطبيعي المشروع في العيش الحر الكريم فوق أرضهم التي يفدونها بالغالي والنفيس.. وإذا كان الفلسطينيون يعتبرون هؤلاء الأسرى مقاومين ومقاتلين يمارسون حقًّا مشروعًا ومقدَّسًا في الدفاع عن حريتهم وأرضهم واستقلال وطنهم، ويعتبرون الأسر عدوانًا على هؤلاء المقاومين الذين يجب أن يُخلى سبيلهم دون قيد أو شرط.. وإذا كان الفلسطينيون يؤمنون بحقهم الطبيعي المشروع في العيش الحر الآمن الكريم فوق تراب وطنهم، وفوق أرضهم التي عمروها جيلاً بعد جيل منذ فجر التاريخ، ومنذ أن كانوا، وكانت هذه الأرض.. وإذا كانوا تحت أي ظرف، بل وفي أسوأ الظروف وأقساها سيتشبّثون بهذه الأرض، وسيزدادون تمسّكًا بها، وإصرارًا على تملّكها، والعيش فيها، والتضحية في سبيلها.. وإذا كانت كل هذه الوساطات واللجان والقرارات والاجتماعات والتوصيات والمؤتمرات والضغوطات والمخططات والإغراءات والتهديدات والحروب والمعارك التي شهدتها هذه الديار مذ كانت هذه القضية قد فشلت حتى الآن في التوصل إلى حل لهذا الصراع المستحكم في هذه المنطقة من العالم.. وإذا كانت كل هذه المحاولات التي بذلتها الدول والحكومات والمؤسسات واللجان والأفراد والزعماء الكبار منهم والصغار قد فشلت في التوصل إلى أدنى اتفاق بين القوى المتصارعة كما فشلت في عقد راية الصلح بين هذه القوى... ولما كانت المشكلات في هذه الديار تتفاقم، ولما كانت الأزمات والأخطار الناجمة عنها تتعاظم، ولما كانت الإعدادات والاستعدادات للمواجهات القادمة في هذه المنطقة من العالم تزداد ضراوة وحدّةً يومًا بعد يوم، بحيث غدت هذه المنطقة مسرحًا لكل أعمال العنف والعنف المضاد، وبؤرة من بؤر التوتر، وميدانًا من ميادين سباق التسلّح بأبشع أشكاله وصوره، ولما كان من الواجب أن يدلي كلٌّ بدلوه، وأن يساهم كلٌّ برأيه في تشخيص الداء، ووصف الدواء وصولاً إلى حل يجنّب هذه المنطقة من العالم، بل يجنّب العالم بأسره عواقب هذه المخاطر الرهيبة المحدقة بهذه المنطقة من العالم؛ فإنني أرى من حقي أن أقول:

    إن نظرة سريعة إلى كل مناطق التوتر تثبت بما لا يدع مجالاً للشك في أنها قد تكون محصورة في هذا العالم العربي الإسلامي، وإن مراجعة سريعة لكل هذا الذي يحدث في فلسطين ولبنان وسائر بلاد الشام، وفي العراق وأفغانستان، وباكستان، وسائر أقطار المشرق الإسلامي، وذاك الذي يحدث في اليمن ومصر والسودان والصومال وغيرها من أقطار المغرب العربي، وأقطار إفريقيا يثبت أن العالم العربي الإسلامي هو مسرح كل هذه الحوادث والأحداث التي ترقى إلى أكثر من الفواجع والمآسي والكوارث على مختلف الصعد العسكرية، وما يصاحبها من احتلال وعدوان وتقتيل وسفك دماء وتشريد وتخريب لكل أوجه الحياة في كثير من هذه البلدان.. وعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والنفسية، بحيث لا يتردد منصف محايد في استنتاج أن هذه القوى الاستعمارية الكبرى التي كانت سببًا في إذلال العالم كله ذات يوم، لا تزال تحاول بكل الوسائل، ومختلف الأساليب فرض سيطرتها على هذا العالم العربي الإسلامي، وربطه بسياساتها ليدور في فلكها، ولتضمن بالتالي سيطرتها على موارده وثرواته الزراعية والنفطية والحيوانية والمعدنية... ولتحدث فيه هذا التراجع الاجتماعي والثقافي والفكري الذي يجعل منه مناطق خاضعة لهذه القوى الاستعمارية، بعد أن تُسند أمر الحل والربط فيه إلى أولئك الذين جنّدتهم لهذه الغاية من أبنائه الذين استمرأوا ثقافة تلك الدول الباغية، واستطابوا العمل معها، والانضواء تحت لوائها إمعانًا في التنكر لشعوبهم، والاستعلاء على ما هي فيه من "تخلّف" بدلاً من العمل على تحريرها من ربقة الغزاة المحتلين الذين كانوا ولا يزالون سبب هذا "التخلّف" وسبب هذا الفقر والجوع والخوف والرعب الذي تتردى فيه تلك الشعوب.. وإمعانًا منهم في إغراق هذه الشعوب في مستنقعات الفساد والاقتتال والصراعات الداخلية والانقسامات التي تُضعف ولا تقوّي، وتفرّق ولا توحّد، وتمكّن الأعداء الطامعين من الرقاب بدون تمييز!!

    وإن نظرة سريعة إلى كل هذا الذي يجري في كثير من ديار العروبة والإسلام، وفي كثير من أقطار العرب والمسلمين وأمصارهم من معارك وحروب وصراعات داخلية وفقر وجهل وصراعات قبلية ونفسية يندى لها الجبين لتؤكد أن أولئك الأقوياء هم المسئولون عن كثير من هذا الذي يجري ويدور في كثير من هذه الأقطار.. صحيح أن كثيرًا من أبناء هذه الأقطار يتحملون جانبًا من المسئولية، وصحيح أن كثيرًا منهم مسئولون عن كل هذا، أو عن بعضه، وصحيح أن العدو الداخلي في كثير من الأحيان هو أشد خطرًا من العدو الخارجي.. ولكن صحيحٌ أيضًا أن أولئك الأقوياء لو لم يكونوا طامعين في ثروات الضعفاء، وفي بلادهم، ومقدّراتهم ومقدساتهم، ولو لم يكونوا رؤوس الرذيلة في هذا الوجود لما وَجَدَ هؤلاء المنحرفون المتخاذلون الخانعون من أهل تلك الأقطار موجةً  يركبونها كي توصلهم إلى أمجاد كاذبة، وعظمة مزعومة، وألقاب يربأ بنفسه عنها كل مواطن يحترم نفسه من أبناء تلك الأقطار:

                         أمةٌ قد فتَّ فــي ساعدها//بُغضُها الأهلَ، وَحُبُّ الغربا

                          تعشقُ الألقاب في غير العلا//وتفدّي بالنفـوس الرُّتَبا!!

    إن من واجب هذه الدول الكبرى إن كانت حريصةً على صنع سلام عالمي، وإن كانت حريصةً على أمن الشعوب وأمانها وحريتها ورِفائها في هذا العالم، وإن كانت حريصةً على الأمن والسلم الدَّوليين راغبةً فيه، وإن كانت حريصةً على كرامة الإنسان وحرياته، حريصةً على تمتعه بكافة الحقوق التي نصت عليها المعاهدات والمواثيق الدولية، وإن كانت حريصةً على إشاعة العدل والعدالة والمحبة والتسامح والإخاء في هذا الكون، وإن كانت حريصةً على إغلاق المعتقلات والسجون، والتوسع في بناء المدارس والمعاهد والجامعات، والسموّ بإنسانية الإنسان، والأخذ بيده نحو شاطئ السلامة، وبرّ الأمان، وإن كانت حريصةً على إعادة الحقوق إلى أصحابها، والمهجّرين إلى ديارهم، وإن كانت حريصةً على رفع الظلم عن المظلومين، والحصار عن المحاصَرين المضطهدين فإن عليها أن تعمل من أجل ذلك فورًا، وبدون تردد، أو تلكُّؤ، أو مراوغة!!

    إن بإمكان هذه الدول الكبرى، ومعها كل القوى الخيّرة في هذا العالم أن تحل مشكلات هذا الكون في أيام، وأن تعيد الحقوق إلى أصحابها في أيام، وأن ترفع الظلم والضيم عن المظلومين في أيام، وأن تزرع الابتسامة الجميلة على شفاه كل الأطفال في هذا العالم في أيام، وإن بإمكان هذه الدول الكبرى انطلاقًا من رؤية إنسانية شاملة، وانطلاقًا من نيّة نظيفة صادقة، ومبادئ أخلاقية حميدة سامية أن تجفّف كل مصادر الصراع ومنطلقاته وأسبابه، وان تقضي على كل أسباب التوتر والتأزم والحروب في أيام، وأن تجعل من هذا الكون كله واحة أمن وطمأنينة وسلام.

    بإمكان هذه الدول أن تفعل هذا كله، وبإمكانها أن لا تفعل، وعندئذ تكون هي المسئولة عما يجري، وعما سيجري في هذا الكون من مقاومة، وعما سيجري في هذا الكون من سباق للتسلح، ومن محاولات لخلق توازن في القوى، وتوازن في الرعب، وتوازن في العمل الجادّ الذي يستهدف إعادة الأمور إلى نصابها في كل مكان من هذا العالم ولو كره الكارهون!!

10/10/2009

    


الخميس، ٨ تشرين الأول ٢٠٠٩

الاستيطان الفلسطيني في يهودا والسامرة!!!

متابعات

الاستيطان الفلسطيني في يهودا والسامرة!!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    ليس سرًّا أن الضفة الغربية المحتلة قد أصبحت منذ الخامس من حزيران من عام سبعة وستين وتسعمائة  وألف (من وجهة نظرهم) يهودا والسامرة.. وليس سرًّا أن الضفة الغربية البالغة مساحتها (5879) خمسة آلاف وثمانمائة وتسعة وسبعين من الكيلومترات المربعة قد ضُمّت إلى ما سبقها من الأرض التي احتُلتْ عام ثمانية وأربعين، تمامًا كالقدس التي أعلنوا ضمها إلى "دولتهم" بعد أيام من تلك الحرب التي أسمَوْها "حرب الأيام الستة".. وليس سرًّا أنهم يريدون الأرض كل الأرض، ويريدون  الحدود المفتوحة مع كل العرب، ومع كل المسلمين، ويريدون السلام الذي يخدم هذه الأهداف، ويلبي هذه الغايات.. السلام الذي يفصّلونه ويصنعونه وفق هواهم، وبحسب مقاييسهم وتصوراتهم لتلبسه كافة الأطراف التي يريدون صنع السلام معها من نواكشوط حتى ما وراء طشقند، ووراء أوزبكستان على هذه الأرض البالغة مساحتها أكثر من خمسة وعشرين مليونًا من الكيلومترات المربعة، والتي يعيش عليها أكثر من مليار ونصف المليار من العرب والمسلمين.. وليس سرًّا أنهم نجحوا في ذلك إلى حد بعيد.. وليس سرًّا أنهم ما زالوا يبذلون الجهود المكثَّفة لتحقيق مزيد من المكاسب في الأقطار التي انقادت لمشيئتهم في دنيا العروبة والإسلام، ولممارسة مزيد من الضغوط على الأقطار التي ما زالت ترفض الانقياد لإرادتهم، والانصياع لمشيئتهم.. ليس سرًّا أن كثيرًا من العرب، وكثيرًا من المسلمين يصنَّفون على أنهم من "الموالاة"، وأن كثيرًا منهم أيضًا يصنَّفون على أنهم من "الممانعة" التي تصرّ على أن لا تكون الاستجابة لشروطهم بدون ثمن.. والتي تصرّ على أن تكون هذه الاستجابة لتلك الشروط بعد تحقيق الحد الأدنى من المطالب المشروعة التي أقرّها المجتمع الدولي، وأقرّتها المرجعيات والوثائق والمؤتمرات والاتفاقات الموقّعة، وأقرتها أيضًا حقائق التاريخ، ووقائع الجغرافيا، كما أقرّتها وتقرّها كافة المقوّمات الثقافية والدينية والقومية والُّلغوية، وكافة المكوِّنات والمورِّثات الجينية التي تؤكد بما لا يدع أدنى مجال للشك عمق هذه الصلة بين هذه الأرض العربية الإسلامية وبين أهلها من العرب والمسلمين الذين امتلكوها وتملّكوها منذ فجر التاريخ، ولا زالوا يمتلكونها ويتملكونها، وسيبقَوْن كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وما عليها أيضًا.

    ولكن هؤلاء الذين يريدون كل شيء، ولا يعترفون لغيرهم بأي شيء، يرفضون التسليم بكل هذه الحقائق الدامغة، ويرفضون الاعتراف بأن مطامعهم في هذه البلاد لا تكاد تقف عند حد، ويرفضون الاعتراف بأنهم إنما يجدّفون ضد التيار، ويرفضون تصوّر ما يؤدي إليه هذا التجديف من مخاطر، وما تلحقه هذه المغامرات من أضرار بمن يخالف قوانين الطبيعة، وبمن يجدّف ضد التيار، وبمن لم يأخذوا العبر والدروس من التاريخ القديم والوسيط، ومن التاريخ الحديث أيضًا!!

    هؤلاء الذين يريدون كل شيء دون أدنى سند من حق، أو حُجّة، أو برهان، أو دليل يقفون اليوم وقفة صاحب الحق المُدافع عن حقه!! يقفون اليوم متشبثين "بحقوقهم" في هذه الأرض التي احتلّوها، ولا زالوا يحتلونها، ويغيّرون معالمها في كل يوم، وفي كل ساعة.. ويستعيرون لغة أصحابها ولهجتهم وحججهم في وقف الاستيطان، وفي ضرورة أن يخرج المحتلون إلى حدود الرابع من حزيران على كل الجبهات العربية، كما يقضي بذلك المجتمع الدولي، وكما يقضي بذلك البيت الأبيض، وكما تقضي بذلك المبادرة العربية، وكما تقضي بذلك الاتفاقات الموقعة مع الفلسطينيين، وكما تقضي بذلك رغبة سائر الدول في هذا العالم!!!

    هؤلاء الذين يريدون كل شيء، والذين يطلقون اسم "يهودا" على جنوب الضفة، واسم "السامرة" على شمالها يطالبون اليوم بصوت مرتفع بضرورة أن يتوقف الاستيطان الفلسطيني العشوائي في هذا الجزء الذي لا يتجزأ من أرض إسرائيل!! إنهم يعلنون ذلك على الملأ، ويطالبون به بأصوات مرتفعة دون أدنى وازع، ودون أدنى رادع، ولقد بلغ بهم حرصُهم على قلب الحقائق، وتزوير التاريخ، والعبث بالجغرافيا إلى الادّعاء بأن الفلسطينيين قد أقاموا عشرات الآلاف من المباني التي يجب أن تُزال (بموجب القانون) لأنها تمثّل الاستيطان الفلسطيني العشوائي!! وقد بنيت بدون تراخيص، ناسين أن الفلسطينيين هم أصحاب هذه الأرض ، وأن الاحتلال أمر غير شرعي، وأنه إلى زوال، وناسين أن هذا الاحتلال هو الذي رفض، ولا زال يرفض منح الناس التصاريح اللازمة للبناء، وأن هذا الاحتلال هو الذي يشترط الموافقة على طلباته لكي "يمنح" الناس رخصًا كي يتمكنوا من البناء بموجبها.. وناسين أن هذه الشروط التي يشترطها الاحتلال كفيلة بتجريد أهل هذه البلاد من حقهم في البناء على أرضهم، ومن حقهم أيضًا في العيش على هذه الأرض!!! وناسين أيضًا أن القرار رقم(242) والذي صاغه اللورد كرادون والصادر في أعقاب احتلال عام سبعة وستين قد طالب بخروج الاحتلال من الأراضي العربية المحتلة، وأن القرار (338) قد طالب أيضًا بذلك، وناسين أن الدنيا كلها تطالبهم بذلك، وأن المبادرة العربية قد طالبتهم بذلك، ولكنه العناد والإصرار على المراوغة لكسب الوقت وتكريس الاحتلال الاستيطاني.. كل ذلك وراء هذه المواقف التي يمارسونها اليوم جهارًا نهارًا.. هذه المواقف التي تفضح أطماع الطامعين، وتكشف مخططاتهم، وتعكس سوء نواياهم، وتهرّبهم من استحقاقات السلام، لأنهم يريدون الأرض كل الأرض، ويريدون العلاقات الطبيعية مع كل العرب، ومع كل المسلمين، ويريدون "السلام" الذي يصنعونه على هواهم، وبحسب مقاييسهم، ليخدم أطماعهم في السيطرة على كل هذه المنطقة من العالم، والتحكم بشعوبها، ووضع يدهم على مقدّراتها ومقدّساتها، ومصادر عيشها، والتحكم بمستقبل أجيالها!!

    لقد نسي هؤلاء أنهم يطلبون المستحيل.. ولقد نسي هؤلاء أنهم يخالفون بذلك طبيعة الأشياء.. ولقد نسي هؤلاء أنهم يجدّفون ضد التيار.. ولقد نسي هؤلاء أن السلام لا يمكن أن يتحقق بدون عودة الحقوق إلى أصحابها، وأنه لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان عادلاً مقنعًا ترضى به الشعوب، ولا يؤسس لصراعات جديدة، وحروب جديدة تثيرها أطماع الطامعين، ومغامرات المغامرين الذين لم يقرأوا التاريخ، ولم يستفيدوا من دروسه.. وقديمًا قال الحكماء: السعيد مَن وُعظ بغيره، والشقيّ من وُعظ بنفسه.. فهل من مستمع؟ وهل من مستجيب؟ نرجو ذلك.

 8/10/2009

الاثنين، ٥ تشرين الأول ٢٠٠٩

في الذكرى المئوية الأولى لميلاد الشاعر عبد الكريم الكرمي

متابعات

في الذكرى المئوية الأولى لميلاد الشاعر عبد الكريم الكرمي

               أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

      ولد عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في بلدة طولكرم التابعة لمدينة نابلس (والتي أصبحت مركز قضاء بني صعب في أواخر القرن التاسع عشر) في مثل هذه الأيام من سنة (1909)، كما يستفاد من الأوراق الخاصة التي عثرت عليها (غادة أحمد بيلتو) مؤلفة كتاب: عبد الكريم الكرمي- أبو سلمى- هذا الكتاب الذي أمدّني بكثير من المعلومات المتعلقة بحياة هذا الشاعر العربي الفلسطيني، وبكثير من وجهات نظر المؤلفة في شعر الكرمي ونثره، مما لم يرد في غيره من المراجع التي اعتمدتُ عليها، واستندتُ إليها عند كتابة هذا المقال في الذكرى المئوية الأولى لميلاد هذا الشاعر الكبير، إضافة إلى ما كان قد استقر في الذاكرة من سيرة هذا الشاعر، ومن أشعاره وأخباره، وعلاقاته، وأسفاره، ونشاطاته في سائر مراحل حياته الغنية الحافلة بالعطاء والإبداع على امتداد تاريخه الأدبي النضالي الطويل.

     ولئن كان عبد الكريم شاعرًا وناثرًا وثائرًا لا يُشق له غبار، فلقد كان مدينًا بكثير من هذه المواهب والمزايا والخصال لنشأته في أسرة علم وأدب.. فجدّه لأبيه الشيخ (علي المنصور) عالم كبير تتلمذ على خيرة شيوخ دمشق، وعاد إلى فلسطين ليكون حُجة في الفقه والإفتاء والقضاء، وعلمًا من أعلام الإسلام فيها.

    وهو ابن الشيخ سعيد الكرمي (1852م) الذي تلقى علومه في الأزهر الشريف، وحضر دروس جمال الدين الأفغاني، وكانت له صلات بالشيخ الإمام محمد عبده.. وبعد تخرجه، وحصوله على الشهادة العالمية الأزهرية عاد إلى فلسطين ليكون علمًا من أعلامها، ومفتشًا ومُفتيًا في القضاء الوليد، وليكون أيضًا من مؤسسي المجمع العلمي العربي بدمشق، ورائدًا من رواد الثقافة العربية، والفكر والصحافة فيها قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى (1935م) ويدفن في مسقط رأسه طولكرم.

    أما أخوه (أحمد شاكر) الكرمي الكاتب الناقد المولود في طولكرم (1892م) فقد درس في الأزهر الشريف، و في الجامعة المصرية، وساهم في تحرير "الكواكب" المصرية، وفي دمشق – بعد عودته إليها من مصر بعد الحرب العالمية الأولى- أنشأ مجلة أسبوعية أدبية أسماها "الميزان"، كما حرر أيضًا جريدة "الفيحاء" واشتهر بتوقيع (قدامة) تحت عنوان "مفكرة المحرر".

    ومن إخوته أيضًا الأديب الذائع الصيت "حسن الكرمي" صاحب برنامج "قول على قول" الذي كان يذاع من هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، وهو الذي كتب كثيرًا من المقالات في كثير من الصحف والمجلات الإنجليزية والعربية، ومن إخوته كذلك "محمود الكرمي" المدرّس والمحاضر والمناضل الذي اغتاله خصومه السياسيون في صبيحة الخامس والعشرين من كانون الأول سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف. لقد تزوج الشيخ سعيد الكرمي أربع نساء، وأنجب منهنّ ستةً وعشرين ولدًا، وثلاث بنات هن أخوات عبد الكريم وإخوته الذين كانوا في غالبيتهم العظمى أعلامًا من أعلام فلسطين، ورجالاً من خيرة رجالها.

    في الأوراق التي عثرت عليها مؤلفة كتاب "عبد الكريم- أبو سلمى" جاء قوله : "ما أزال وأنا طفل، أذكر كيف كنت واقفًا مع بعض الأطفال أمام دارنا في طولكرم، عندما جاء جنود أتراك، ومعهم ضابط، ودخلوا إلى الديوان، ثم خرجوا، وذهب الوالد معهم، ولم يعد، وكلما سألت عنه كانوا يقولون إنه ذهب إلى الشام.. وكثيرًا ما كنت أذهب مع لداتي إلى محطة طولكرم، ويقف كل واحد منا إلى جانب عمود من أعمدة الهاتف التي نُصبت حديثًا، ويدق عليه بالحجر، ثم يخاطب من يريد، ويضع أذنه على العمود حتى يسمع الجواب، ولا أزال أذكر تمامًا عند ضرب عمود الهاتف قولي: أين أبي؟؟ وكأني كنت أفسر الجواب من الصدى: هو في الشام.

    في فترة غياب الشيخ سعيد عن بيته التي استمرت سنتين وسبعة أشهر في سجن الوالي بتهمة المطالبة بالاستقلال يقول عبد الكريم: " أكلنا كراديش الذرة، والجراد في الحرب العظمى الأولى في أثناء سجن والدي بدمشق"، ويذكر العذاب الذي لقيته أمه، فيقول: " مرة، رأيت تينًا كثيرًا عندنا، بيع منه قسم وأكلنا قسمًا، وفهمت بعد ذلك أن والدتي كانت تذهب مع بعض النسوة، ولا تُخبر أحدًا، إلى قرية الطيرة، وتشتري تينًا، وتحمله على رأسها، وتعود ماشيةً إلى طولكرم، وتذهب في الصباح الباكر لبيعه" لقد بقيت والدته على هذه الحال إلى أن عاد الشيخ سعيد من دمشق بعد الإفراج عنه.

    وعندما انتقل الشيخ سعيد إلى دمشق بعد قيام الدولة العربية المستقلة برئاسة الملك فيصل اصطحب معه ابنه عبد الكريم ووالدته، حيث تابع دراسته الابتدائية في المدرسة الظاهرية هناك، ثم عاد إلى طولكرم مع أمه المريضة، حيث فارقت الحياة فيها تاركةً وحيدها في رعاية جدته.. ويعود أخوه (أحمد شاكر) من مصر ليسافر الأخوان إلى دمشق من جديد، وليواصل عبد الكريم دراسته الابتدائية في المدرسة الظاهرية، وفي مكتب عنبر بدمشق، حيث درس مع إخوته حسن وحسين وعبد الغني فيه، وكانوا ينامون في القسم الداخلي في هذا المكتب، ويذكر الكرمي (أبو سلمى) من أساتذته في هذا المكتب (الذي كان مركزًا للإضرابات والثورات الطلابية في دمشق) جودة الهاشمي، وسليم الجندي، والشيخ محمد الداودي الذي أطلق عليه لقب أبي سلمى، ومسلم عناية، وحسن يحيى الصبّان، وعبد القادر المبارك، وأستاذ اللغة الفرنسية التونسي صالح جميلو ومحمد البزم، وأبو الخير القواص.. أما من رفاقه فيذكر زكي المحاسني، وجميل سلطان، وأنور العطار، وكانوا يقولون الشعر كأبي سلمى.. وقد بقي أبو سلمى في هذا المكتب حتى سنة سبع وعشرين وتسعمائة وألف حيث تقدم لامتحان البكالوريا، ولم يواصل دراسته الجامعية في دمشق، بل عاد إلى القدس ليواصل دراسته في معهد الحقوق..

    على أنه لا بد من الإشارة إلى أن المجمع العلمي بدمشق قد أقام حفلاً تكريميًّا لشعراء الشباب: أبي سلمى، وزكي المحاسني، وجميل سلطان، وأنور العطار.. ومن الطريف أن جريدة "القبس" لصاحبها المرحوم "نجيب الريّس" قد أفردت صدر صفحتها الأولى في كل يوم لواحد من هؤلاء الشعراء الأربعة، تنشر قصيدته مع صورة له، وقد كانت قصيدة الكرمي تحت عنوان "تلة رضوان"، وكانت أول قصيدة تُنشر له في دمشق.

    ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أن أستاذه الشيخ محمد الداودي هو الذي أطلق عليه الكنية التي عُرف بها طوال حياته "أبو سلمى" وفي هذا يقول الكرمي: "كنت في الصف الثامن، وكان أستاذنا في اللغة العربية الشيخ محمد الداودي من رجال الخلق والأدب والدين، أعطانا مرة قصيدة في مدح السيف، لحفظها، ولما طلب مني في الدرس التالي تسميع القصيدة، قلت له إنني لم أحفظها، وقد حفظت بدلاً منها قصيدة أخرى، فقال: أسمعنا إياها، فأنشدتها، وكانت قصيدة ابن عبد ربه التي مطلعها:

            ودّعــــتني بزفرةٍ واعتناقِ     ثم قالـــت: متى يكون التلاقي؟

   فضحك، رحمه الله، وقال: اتفقنا، القصيدة التي لا تعجبك تحفظ بدلاً منها قصيدة تعجبك، وهكذا بقيت الحال بيننا، ومرة من المرات، طلب منا موضوعًا إنشائيًّا، فأتيت، وقد نظمت قصيدة غزلية، فطلب مني أن أنشدها أمام الطلاب، فوقفت وألقيتها، وهي تغزل بفتاة اسمها "سلمى" ومطلعها:

          سلمى! انظري نحوي فقلبي يخفقُ    لما يشيرُ إلـــيّ طَرْفُك أُطرقُ!

    وأخذ – رحمه الله- يبدي ملاحظاته، ويسأل الطلاب رأيهم أيضًا، وفي الفرصة بين الدرسين أخذ رفاقي الطلاب ينادونني: يا حبيب سلمى، يا أبا سلمى، فكنت أغضب، وألاحقهم، وفي الدرس اللاحق قال أستاذي الشيخ محمد الداودي: يا أبا سلمى، تعال أسمعنا ماذا نظمت.. فهدأت ثائرتي، وتقبّلتُ هذه الكنية، واللقب الشعري، ومن بعدها أخذت أنشر في صحف دمشق، وفي مجلة الزهراء في القاهرة قصائد لي بتوقيع " أبو سلمى" ولازمني هذا التوقيع حتى الآن، وبه عُرفتُ أكثر من اسمي الحقيقي.

      لقد استوقفتني أدق التفصيلات في حياة أبي سلمى، وفي سيرته ومسيرته، فوقفت عند كثير منها، وربما أطلتُ الوقوف لعلمي وقناعتي أن التفصيلات هي مفاتيح الشخصية، وهي مكوناتها التي لا تقل أثرًا عما يرثه الإنسان من أبويه وأجداده، وعما ينتقل إليه من إرث اجتماعي وبيئي عام.. وبدونها يصعب على الدارس والناقد والمحلل والمعلم والمتعلم أن يجد طريقه إلى فهم هذه الشخصية أو تلك، وأن يجد الطريق إلى فهم أعمالها، وإلى تفسير هذه الأعمال بردّها إلى منطلقاتها، ومكوناتها الأولى الضاربة في أعماق هذه الشخصية ( بخلاف ما يقوله بعض دارسي الأدب ومدرّسيه ونقّاده من أن النص هو وسيلتنا لفهم صاحبه، وهو وسيلتنا للحكم العادل عليه) ولعلمي وقناعتي أيضًا أنه من الصعب أن نفهم نصًّا أدبيًّا بدون معرفة مناسبته، وبدون الرجوع إلى هذه المناسبة، وبدون معرفة الحالة الشعورية والنفسية التي كان عليها الشاعر أو الناثر عند كتابة النص.. إن المقدمات هي التي تفضي إلى النتائج، والنتائج تفضي بدورها إلى الأحكام الصائبة فيما يتعلق بالواقع المعاش الذي تظل فيه هذه الشخصية أو تلك فاعلة مؤثرة قائمة ماثلة بين الناس على الرغم من بعد المسافة، وتعاقب العصور والأجيال. وكما أن فهم أسباب النزول شرط مسبق في فهم آيات القرآن الكريم، فإنّ الوقوف على مكونات شخصية المفكر والأديب ناثرًا كان أو شاعرًا، وإنّ فهم الظروف والأحوال المحيطة بالأديب عند كتابة هذا النص الأدبي أو ذاك هي عوامل مساعدة على فهم هذه النصوص الأدبية من جهة، وهي عوامل مساعدة على فهم هذا الأديب أو ذاك من جهة ثانية.

    ولسوف أقف هنا على دقائق وتفصيلات أرى أن لها صلة في تكوين هذا الشاعر الكبير، وفي إثراء شاعريته، ورسم معالم مسيرتها وتوجهاتها وإبداعاتها، وانعكاس ذلك كله على دائرته المحلية والإقليمية والقومية، وأثر هذا كله على الدائرة الدولية، وعلى البعد الإنساني في إنتاجه الأدبي.

    وإذا كانت ثقافة الإنسان، وتجاربه، وبيئته الخاصة، وبيئته العامة، وعلاقته بغيره في محيطه الصغير، وفي محيطه الكبير، وأحواله المادية، والنفسية، وخصائصه الجسدية، وقدراته العقلية والذهنية والفكرية، وفكرته عن نفسه.. إذا كانت كل هذه العوامل وكثير غيرها، مما نعرف، ومما لا نعرف، تفعل فعلها في الإنسان – أي إنسان- فإنها في الأديب ناثرًا أو شاعرًا، أو ناقدًا، أو قاصًّا، أو روائيًّا، أو كل ذلك، أو بعضًا مما ذُكر، أو واحدًا منه تكاد تكون هي المكوّنات، وهي اللبنات الأولى التي تشكل عالمه الأدبي، وتلوّنه بألوانها القاتمة، أو الزاهية، أو الرمادية، وتلقي عليه من ظلالها، وتطبعه بطابعها، وتضفي عليه من جمالها وبهائها وروائها وتألّقها وحياتها.. أو قبحها وظلامها وعبوسها وسوادها وموتها.. إنها حاضره ومستقبله، وحضوره بين الناس، وقربه منهم، أو ابتعاده عنهم خلال حياته، وبعد مماته.

    وإذا كانت حادثة صغيرة مما لا يثير انتباه الناس تفعل فعلها في نفس الأديب الذي يرى ما لا يرى غيره، فإن من الطبيعي أن يفعل الألم بكل صوره وأشكاله فعله في هذه النفس المرهفة المحبة دائمًا للحق والخير والجمال.. ومن الطبيعي أن تترك الكلمة في نفسه آثارًا لا تُمحى، وكذلك النظرة العابرة، والمؤامرة مهما صغرت، وكذلك الاستخفاف به، أو الاستعلاء عليه، أو الإساءة إليه.. ويفعل فعله في النفس المرهفة الفقر، والجوع، واليتم، والعري، والظلم، واللون، وزوجة الأب، وزوج الأم.. وكذلك الزملاء، والمعلمون، والآباء، والأمهات، والجدات، والعمات، والخالات، والأخوال، والأعمام.. ومن العوامل التي تترك آثارًا من الصعب أن تمحى في النفس المرهفة الجهل، والتخلف، والمرض، والقبح، والموت، والغضب، والحرمان، والاضطهاد، والاستبداد، والاستعباد..إلى أقصى اليمين قد تندفع هذه النفس لسلبيات في كل ما ذُكر، أو في بعضه، أو إلى أقصى اليسار.. وقد تضطرب هذه الشخصية، وقد تنحرف عن مسارها الذي سلكته قبل أن تلم بها النوازل، وتحل بساحتها الآلام.. وقد لا تضطرب.. وقد تقوى على مواجهة ذلك كله بفعل أب حكيم، أو معلم عظيم، أو صديق طيب، أو كتاب يحصّنها بالوعي، ويسلّحها بالحب، ويغذيها بالفضيلة، ويفتح عينيها على الجمال، ويكسبها شعورًا عامًّا بالرضى، ويمكِّنها من شق طريقها في الحياة بقوة وثبات، وعزم وعزيمة وإصرار.

    ماذا كان بوسع هذا الطفل أن يفعل وقد سُجن والده، بعد أن اقتيد من مضافته أمام ناظريه، لو لم يكن له مَن شدّ أزره، وهدَّأ روعه؟ ماذا كان بوسعه أن يفعل لولا هذه الأسرة المتماسكة التي ملأت فراغ أبيه طوال فترة غيابه؟ لقد ظل هذا الطفل الذي لم يدخل المدرسة بعد يبحث عن أبيه، ويسأل أعمدة الهاتف عنه (تمامًا كما كنّا نفعل بعد ذلك إذ كنّا صغارًا!!) حتى عاد.. ولو لم تكن هذه الأسرة المتماسكة، وهذا الأب المثقف الواعي لما انتصر هذا الطفل على أحزانه بعد موت أمه، ولما عاد مع شقيقه (أحمد شاكر) إلى دمشق حيث يقيم فيها والده منذ مدة.. ولما استأنف فيها دراسته حتى حصل على (البكالوريا) الثانوية العامة.. ولولا شرف الانتماء، ووضوح الرؤية لما عاد عبد الكريم إلى فلسطين المشتعلة بالثورة ضد الانتداب البريطاني، ولآثر البقاء في دمشق مثل كثير من الناس.. ولكنه آثر العودة إلى فلسطين، وإلى القدس تحديدًا ليدرس الحقوق في معهدها، وليقوم بالتدريس في المدرسة العمرية داخل أسوارها قريبًا من كنيسة القيامة، ثم لينتقل بعد سنة واحدة للتدريس في المدرسة البكرية في المصرارة.. يقول الكرمي عن هذه الفترة من حياته: "كنت أدرس مع بعض رفاقي، في غرفتي القائمة في المصرارة آنذاك دروس الحقوق، ومنهم الشيخ عبد الله غوشة من القدس، والمحامي مصطفى رشيد من جنين، وعباس الفاهوم من الناصرة.. وكان مدير الحقوق "مستر غودبي" المختص بالقانون الدولي، ومن الأساتذة العرب علي جاد الله، وعادل زعيتر، وكان على الطلاب الذين يريدون الدخول إلى مدرسة الحقوق التقدم للفحص باللغة الانجليزية، وكان الممتحن هو المستر "بندويش" النائب اليهودي العام في حكومة فلسطين، ونجح الطلاب اليهود جميعًا، فاتفقنا نحن أن نؤدي الامتحان أمام الأستاذ موسى العلمي الذي كان أكبر محام في النيابة العامة، ويحمل لقب "محامي التاج"، وهكذا كان التدريس باللغات الثلاث: العربية، والإنجليزية، والعبرية، وهي اللغات الرسمية، ولكن أوراق الفحوص كانت تذهب إلى لندن لتوقيعها".

    وفي هذه الفترة من حياته كان يكتب بعض مقالاته في جريدة " مرآة الشرق" لصاحبها بولس شحادة، وكانت تصدر في القدس، وتعبّر عن رأي حزب الدفاع الذي كان يرئسه "راغب باشا النشاشيبي" رئيس بلدية القدس آنذاك، وكان يُعرف باسم حزب المعارضين مقابل حزب المفتي (الحاج أمين الحسيني) الذي كان يسمى حزب المجلسيين.. وقد ربطته صلة قوية بإبراهيم طوقان، وقد كانا يعدّان صفحة أسبوعية في إحدى الصحف التي كانت تصدر في يافا، كما قاما بتشكيل جمعية "عصبة القلم" في القدس، وكان من أعضائها: رئيف خوري، وخليل البديري، وإبراهيم طوقان، وعارف العزوني، وأبو سلمى، ورجا حوراني.. وكانت له صلات قوية بكثير من المفكرين والأدباء العرب منهم: عمر الفاخوري، وأمين نخلة، ووالده الشيخ رشيد نخلة، والأخطل الصغير، وتوفيق يوسف عواد، والشاعر الشعبي عمر الزعبي، وخير الدين الزركلي، وشفيق جبري، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، ومعروف الرصافي، ومحمد مهدي الجواهري، الذين زاروا فلسطين، وعمل بعضهم فيها، وأقاموا فيها الندوات، وألقوا المحاضرات، وكذلك فإن للكرمي صلات وثيقة بالكاتب عبد القادر المازني، وأحمد أمين، وزكي مبارك.. ومما قاله الكرمي عن نشاطه في النادي الأرثوذكسي العربي: " كان لي نشاط في القدس أولاً، ثم في حيفا، في النادي الأرثوذكسي، العربي. وكان لوجود الصديق حنا نقارة المحامي رئيس هذا النادي أثر كبير في ازدهاره، وأقيمت فيه ندوات سياسية وثقافية واجتماعية... وأذكر أننا قرأنا ونحن في حيفا عن موعد إقامة حفل تأبين لعمر الفاخوري، فأسرعنا إلى بيروت، في أول حفلة تأبينية، وألقيت قصيدة في الحفل، وقد سررت حين علمت أن حنا نقارة يكتب عن ذكرياته في النادي الأرثوذكسي العربي"

    وفي المعرض الفلسطيني الأول الذي أقيم في القدس سنة 1935، ولقائه هناك "رقية حقي" التي أصبحت زوجته فيما بعد، وأم وحيده "سعيد" يقول الكرمي: " في ذلك اليوم، وفي أثناء المعرض، أقمنا حفلة تمثيلية لرواية " أميرة الأندلس" تأليف أحمد شوقي، وفي أثناء الحفلة ألقى إبراهيم طوقان قصيدة (غيد إشبيلية) وكانت أمسيات المعرض الأولى في القدس أجمل أمسياته، وفي ذات مساء رأيت فتاتين، وقد سرتُ خلف إحداهما، وعلمت أنها رئيسة الاتحاد النسائي في عكا، وابنة توفيق حقي العبد الله رئيس بلدية عكا، وأحد رجالات فلسطين المرموقين. فقلت فيها قصيدة نشرتها في جريدة "فلسطين" التي كانت تصدر في يافا وكانت القصيدة تحت عنوان "حمامة الشاطئ الغربي" ومنها:

         

             حمامةَ الشاطئ الغــربيِّ سال دمي          ردّي الجناح على جـرحِ الهوى الدّامي

            ياربةَ الخالِ يحــمي الثغرَ معترضًا          فِدًى لخالكِ أخـــــوالي وأعمامي

             يا ليتني في ظلال الـــدارِ زنبقةٌ           تهدي إليكِ شذى حــــبي وتهيامي

            أو ليتني في حــــماها طائرٌ غرِدٌ         حيــــــرانُ ما بين إقدامٍ وإحجام

             ياربةَ الخــالِ إن الخالَ بلبـلني             نامي فإنك أيــــقظت الهوى نامي

    وقد  كتب فيها كثيرًا من القصائد في الصحف الفلسطينية واللبنانية بعناوين "ذات الخال" أو "فتاة الشمال" وأحيانًا بتوقيع "ذو الخال".. وكان يسافر إلى عكا، ويسهر معظم الليل على الشاطئ، وينام في فندق متواضع اسمه "فندق عوض" في البلدة القديمة.. وكان في الصيف يذهب إلى لبنان حيث كانت تصطاف في "عاليه" وكان ينشر قصائده في الصحف الفلسطينية واللبنانية والسورية، وكانت عناوين القصائد (ما لبنان لولاها؟) أو (نحن في لبنان) وقد نشرت صحيفة المعرض لصاحبها (ميشال زكور) ثلاث قصائد له، ولإبراهيم طوقان، ولجلال زريق... وفي 17/1/1936 تم عقد قران الكرمي على الآنسة رقية حقي في عكا.. كما يقول أبو سلمى في مذكراته، وفي 29/10/1937 أنجبت وحيدهما سعيد. ومن الجدير بالذكر أن رقية زوجته، وأم وحيده سعيد كانت تكبره بعشر سنوات، ومما قاله الكرمي في مواقفها إلى جانبه، وفي فضلها عليه في أيام أزمته بعد فصله من التعليم بسبب قصيدته "جبل المكبر" ما يلي:" كنتُ أغضب إذا لقيتُ إجحافًا من أحد، أو نكرانًا للجميل من صديق، أو افتئاتًا على الحق..فكانت لا يهدأ لها بال حتى تزيل الغضب، وكانت تقول: يجب أن تعمل المعروف دون مقابل.. كان قلبها الكبير يسع الدنيا.. لقد سرنا معًا في هذا الدرب الطويل الدامي، في فلسطين، فكانت الجناح الوارف يقي من كل حر، والبلسم الشافي يداوي كل جرح"

    بقي أبو سلمى في حيفا، حيث كان يعمل محاميًا، وأرسل زوجته إلى منزل أسرتها في عكا، ولكنه اضطر بعد أيام لمغادرة حيفا إلى عكا في زورق بخاري، وتسقط حيفا بتاريخ 22/نيسان/1948 فيغادر أبو سلمى وأسرته عكا إلى دمشق عن طريق ترشيحا والجبل، ومعه مفاتيح البيت والمكتب على أمل العودة بعد أسبوعين.. وتسقط عكا في 16/أيار/1948، وفي هذا يقول الكرمي:" كنتُ في حيفا عندما سقطتْ عام ثمانية وأربعين، أما عائلتي فكانت في عكا، ولم أستطع الالتحاق بها برًّا، فركبت البحر حاملاً بعض أوراقي ومفتاح البيت، ومن عكا خرجت في الثامن والعشرين من نيسان عام ثمانية وأربعين، وأتيت إلى دمشق، وحين تحسستُ المفتاح في جيبي، تذكرتُ الأندلس، نعم تذكرتُ الطلاب المغاربة الذين كانوا يدرسون في مدارس مدينة نابلس، تذكّرتهم عندما كانوا يتحدثون إليّ، ويقولون بأن مفاتيح بيوتهم في الأندلس ما تزال معهم، لقد ظلّت كلماتهم محفورة في عقلي وقلبي".

     استقر الكرمي في دمشق، و عمل فيها محاميًا تمامًا كما كان في حيفا، وقد ظل جنديًّا في خدمة قضيته على كل المستويات إلى أن أسلم الروح خلال عملية جراحية في يوم السبت الحادي عشر من تشرين الأول سنة ثمانين وتسعمائة وألف... ولئن كنتُ أكتب هذه السطور في الذكرى المئوية الأولى لميلاد هذا الشاعر الكبير؛ فإنني أيضًا أستطيع القول إنني أكتب ما أكتب في الذكرى التاسعة والعشرين لوفاته رحمه الله.

    هذه سطور سريعة من سيرة هذا الشاعر، ومن مسيرته أضعها بين يدي القاريء الكريم وفاءً لذكرى الشاعر الكبير.. على أنه لا ينبغي أن أنهي هذه السطور  قبل أن أعد بدراسة نقدية لشعره، و بدون أن أضع بين يدي القارئ الآن شيئًا من شعر الكرمي.. يقول أبو سلمى:

        

        

         يا أخي أنتَ معي في كل درب//فاحمل الجرحَ وسر جنبًا لجـنبِ

         قد مشيناها خطًى دامـــيةً//أنبتتْ فوق الثرى أنضــرَ عشبِ

         فهنا الأيتامُ في أدمــــعهمْ// وهنا تهوي العذارى مثل شُهبِ

         وشيوخٌ حملوا أعوامَــــهمْ//مثقلاتٍ بشظــايا  كلِّ خَطْـبِ

         هم ضحايا الظلمِ هل تعرفُهم//إنهم أهلي على الدربِ وصحبـي!!

 

ومن قصيدته "الخالدان الشعب والموطنُ" قوله:

         دمي روى فلتصـــمت الألسنُ//أروعُ شعر القلب لا يُعـــلَنُ

         ما أروعَ الصمـــتَ إذا ما رَوى// مأساةَ شعبي قلبيَ المثْــخنُ

         يعبقُ شعري بشـذى موطـــني//لولاه لا يزكـــو ولا يَحسُنُ

         شعريَ جسرٌ يلــــــتقي فوقه// أهلي بما يحلو وما يُشـجنُ

         وكلّ شعرٍ لم يصـــــغه الهوى//وتربتي السـمراءُ مستَهْجَنُ

         وكلُّ حرفٍ لم يكـــــــن نورُه// مقَتَبَسًا من نارنا يُلــعَنُ

         نقصفُ كالأرمـــــاحِ لا ننثني//في الروع أو نخضعُ أو نذعنُ

         ولا نُبالي في ســـــبيل اللقاء//نُقتلُ أو نُصــلبُ أو نُسجنُ

         يا وطنــــــي حتّامَ لا نلتقي؟//وأنت في قلـــوبنا تسكنُ

4/10/2009