عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الأحد، ٢٩ أيار ٢٠١١

عندما يصبحُ الوطنُ حقيبة..!!

متابعات

عندما يصبحُ الوطنُ حقيبة..!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

     في الماضي البعيد، وفي الماضي القريب أيضًا كان الناسُ، في غالبيتهم، بُسَطاء بدائيين، وكانوا، في غالبيتهم، مسالمين طيبين، قلَّ أن يفكروا بأكثر من ضرورات العيش، وأساسيات الحياة، بل قلَّ أن يعرفوا شيئًا مذكورًا أو غير مذكور من تعقيدات هذه الحياة التي نحياها، وعلى الرغم من سَعَة خيالهم، وصفاء أذهانهم، وصدق نظرتهم، وعمق فلسفتهم، وقوة عبارتهم، ودقة وصفهم، وسحر بيانهم.. في الماضي كان الناس أقرب إلى الفطرة، وكانت حياتهم أقرب إلى الهدوء على الرغم من كل أشكال التوتر والحروب، وعلى الرغم من كل صعوبات الحياة ومشقاتها، وقسوة الطبيعة وأهوالها في تلك الأزمنة التي قلَّت فيها الدول، وكثُرَت فيها الأوطان، وتنوعت فيها الأعراق والألسُن والتيارات والتوجهات، وكانت أعداد الناس فيها محدودة، وكانت وسائل الاتصالات والمواصلات بينهم معدومة أو شبه معدومة، لكنهم، مع كل ذلك، عرفوا كيف يعيشون، وكيف يحاربون ويسالمون، وكيف يكرهون ويحبون، بل إن قصص حبهم وعشقهم كانت تملأ الآفاق في أزمنتهم تلك، ولقد تمكنت من الوصول إلى زماننا هذا ليجد فيها كثير من أهل هذا الزمان زادًا لنفوسهم، وغذاءً لعقولهم وقلوبهم التي ينعشها الحديث عن الحب، وتسعدها هذه الصفحات المشرقة من حياة المحبين والعشاق في تلك الفترة المتقدمة من طفولة البشرية، ومن مراهقتها النفسية والفكرية والشعورية واللاشعورية أيضًا.. إنه، وعلى الرغم من كافة الأوبئة والمعارك والحروب وتجارة الرقيق والسَّبي والتشريد والاغتصاب التي عرفتها تلك العصور والأزمنة، وعلى الرغم من كل ألوان القهر والفقر والجوع والموت التي كانت تفتك بالناس آنذاك إلا أنهم، يقينًا، لم يعانوا مما يعاني منه إنسان هذا الزمان، ولم يشاهدوا شيئًا من هذه الحقائب التي تملأ الرحب، وتضطرب بها واجهات العرض، ودور الأزياء، والمحالِّ التجارية في هذا الزمان.. صحيح أنهم قد عرفوا كثيرًا من أشكال الحقائب وألوانها وأحجامها ومقاساتها المختلفة، وصحيح أن التائهين والتافهين والساقطين والمتساقطين واللاهثين خلف السراب موجودون في كل عصر وفي كل مصر إلا أنك لا تملك ألاّ أن تتميّز من الغيظ وأنت ترى أصحاب الحقائب من أبناء هذا الزمان تغص بهم الشوارع والساحات والطرقات، وتعجُّ بهم القرى والمدن والمخيمات، ويدرك اللاحق السابق، ويتفانى كل أولئك وهؤلاء في خسيس المغنَم، ويتسابقون نحو "القمم" الشمّاء على جماجم النساء والفقراء والأغبياء والأبرياء.. ولا تملك ألاّ تتميّز من الغيظ وأنت ترى كل أصحاب هذه الأخاديد، لا أصحاب ذلك الأخدود وحده، ولا تملك ألاّ تتميّز من الغيظ كجهنم الحمراء وأنت تسأل هؤلاء كما سأل خزنتها أولئك إن كان قد جاءهم النذير، وإن كانوا قد استمعوا له، وإن كان هؤلاء أيضًا قد جاءهم النذر لا النذير، فآثروا ألاّ يسمعوا، وآثروا إلا أن يظلّوا سادرين في الجهل والجهالة والعماية والغواية والفجور، وأصروا على أن يشعلوا النار في تلك الحفر والخنادق والأخاديد التي مُلِئت بالناس من شتى الألوان والأشكال والأعمار والأجناس، وأصروا أيضًا على أن ألا يروا في أوطانهم وأبدانهم وأديانهم وإنسانهم أكثر من حقيبة تحقق لصاحبها سهولة التنقل والعمل والثراء، وعصًا سحريةً تجلب لهم الحظ، وتأتيهم بالنساء والقِيان والجواري والغلمان صباح مساء، وقوةً هائجة جامحة عمياء يذلون بها من يشاءون، ويعزّون من يشاءون، ويفعلون ما يريدون وما لا يريدون.. فالفاعلون يقينًا هم السادة الآمرون لا العبيد المأمورون!!

     عندما يصبح الوطن حقيبة يحدث كل هذا، ويحدث ما هو أدهى وأنكى وأمرّ من كل هذا..يسعى المخربون الحاقدون المأجورون الضالّون المتآمرون من الساقطين الأوباش لتخريب هذا الوطن وبيعه لأعدى أعدائه الطامعين فيه المتربصين به الدوائر، وعندما يصبح الوطن حقيبة سفر يهجر الناس هذا الوطن ، يتنكر الناس لهذا الوطن، يبيع الناس هذا الوطن لمن يدفعون الثمن من أعدائه، ولمن يحبون الوطن ممن عاشوا أزمانًا بدون وطن، ولمن علّمتهم الفواجع والقوارع والنوازل والخطوب أن الوطن هو أغلى ما يملك الإنسان، وأن الوطن فوق الغرائر والمذاهب والمناصب والرواتب والرتب، وفوق المال والنساء والحشيش وكل أنواع "السجاير" والعقارات والعمارات والمفروشات والسيارات، وكل مهن القيادة والقوادة، وكل صور البيع والشراء والنماء والثراء السريع وغير السريع.. وعندما يصبح الوطن حقيبة سفر ترى الناس يروحون ويجيئون مسرعين ومبطئين في شتى الاتجاهات يُسيِّرهم المخططون والمشرفون والموجهون والموجِّهات، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى يريد كلٌّ منهم أن ينجز المهمة التي أُوكِلَت إليه ليحصل بعد ذلك على المقابل الذي وعدوه به، حتى إذا ما انتهت المهامّ أو كادت، وظفر المخططون بما أرادوا أو كادوا، بُهت الكاذبون المفترون المزورون، وابذعرّوا في الآفاق متنكرين متكتمين متسللين لِواذًا حتى لا يراهم أحد، وحتى لا يسألهم أحد عما فعلت أيديهم، وقالت ألسنتهم!!

     وعندما يصبح الوطن حقيبة أموال تتجمع الأموال في هذه الحقيبة، يأتي بها الشطّار من كل صوب وحدب، يغدقها المغدقون عليهم لقاء عقود وعهود والتزامات وجهود بُذِلَت وتُبذَل وسوف تُبذَل، ولقاء تعهدات ومقاولات كلما أنجز منها جانب دُفِع ثمن ما أُنجِزَ، وكانت دفعة أو دفعات لإنجاز المرحلة التالية، ويكون البذخ والترف والإنفاق بسخاء، والتبذير بدون حساب، ويكون أيضًا أن يجمع هؤلاء وأولئك ما استطاعوا من محاسيب وأعوان يشاركونهم الثراء والترف وحياة المجون، ويسبّحون بحمد أبطال هذا الرخاء، ويروّجون لأفكارهم ومشاريعهم المستقبلية المباركة، وعبقريتهم في تحقيق الطموحات والأهداف التي عجز السابقون عن تحقيقها، وسيعجز غيرهم عن تحقيق شيء منها.. فهم وحدهم الذين عرفوا كيف يلعبونها، وهم وحدهم الذين يستطيعون حسم الأمور والمواقف لأنهم عرفوا كيف يخاطبون ضمير العالم! وعرفوا كيف يُحرجون من كانوا خصومًا بالأمس، وعرفوا كيف يحولونهم إلى أصدقاء، وأي أصدقاء!! وأما غالبية الناس في وطن الحقيبة، أو حقيبة الوطن هذه، فإنهم لا يرَونَ شيئًا مما في هذه الحقيبة، والويل لمن يتفوّه منهم بكلمة احتجاج أو شكوى، والويل لمن يعترض منهم على هذه الإجراءات والممارسات.. والتهم دائمًا جاهزة: الناس في هذا الوطن سيئون، وهم مدانون بكافة فئاتهم وشرائحهم، ولا حاجة بنا لذكر ما فعلوا على امتداد عشرات السنين.. يكفي أن نقول إنهم سيئون باعوا وطنهم بدل أن يفتدوه.. ولولا تدخلنا في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان لما بقيت من هذا الوطن بقية نتحدث عنها، ونحارب باستماتة من أجل إنقاذها سِلمًا لا حربًا، لأننا نؤمن فقط بهذا النهج، ولأننا جئنا بعقول مفتوحة، وقلوب مفتوحة لاستعادة ما أضاعه المقامرون، وما باعه البائعون من هؤلاء الناس السيئين!!

     والحديث عن الحقائب يطول ويطول، ولعل من ألعن أنواعها هذه الحقائب الدبلوماسية، وحقائب الحشيش والمهرَّبات والممنوعات والمسروقات بشتى أنواعها وأطيافها وصورها وأشكالها، والحقائب الوزارية التي تُستَسهل في سبيلها الصعاب، ويُراق على جوانبها الدمُ.. هذه الحقائب التي فيها من المكاسب والمزايا والامتيازات ما فيها.. إن قضاء بضعة أيام في منصب رفيع كهذا كفيل أن يؤمّن صاحبه إلى ولد الولد!! وإن نسينا شيئًا في هذا السياق فإننا لا يمكن أن ننسى حقائب المتفجرات التي نقف عندها لحظة واحدة، لأن مثل هذه الوقفة ستلحق بنا أفدح الخسائر والأضرار، ولأنها ستجلب يقينًا لنا تهمة التعاطي بالإرهاب، والتفاعل مع الإرهابيين، وفي هذا ما فيه من دمار شامل إلى ولد الولد، ودمار شامل قد يحل بالبلد، وما أدراك ما البلد؟!

   أما عندما يتحول الوطن بتاريخه وجغرافيته وثقافته وفكره وتراثه وحضارته ومستقبل الأجيال على أرضه إلى حقيبة امرأة، فهمناك الطامة الكبرى، وهناك الداهية الشؤمى، وهناك الويل والثبور، وهناك عظائم الأمور، وهناك ابتلي المؤمنون، وهناك زلزلوا زلزالاً شديدًا.. فالويل لك إن وافقت، والويل لك إن عارضت، والويل لك إن مانعت، والويل لك من المرأة وأحبابها وأنصارها ومؤيديها والمسبحين بحمدها.. والويل لك من الرجل الذي يؤمن بها، والرجل الذي لا يؤمن بها.. عندما يتحول الوطن إلى حقيبة امرأة فإن الرجال يحملون هذه الحقيبة قبل النساء، وتصبح هذه الحقيبة زيًّا شعبيًّا، وزيًّا رسميًّا يتزيّا به الناس شيبًا وشبابًا وأطفالاً.. وعندما يحدث هذا، فاعلم أنها النهاية، واعلم أن منظومة القيم التي تحمي الأسرة والمجتمع والبنيان كله قد انهارت، أو أنها في طريقها للانهيار.. ليس معنى هذا أنني ضد نصف المجتمع إلى هذا الحد، وليس معنى هذا أنني لا أؤمن بأن المرأة هي كل المجتمع لا نصفه، ولكنّ معنى هذا يقينًا أنني أكاد أموت خوفًا من هذه الطريقة التي يتحدثون فيها عن المرأة، ويعاملون بها المرأة، ويحاولون بها رفع مستوى المرأة، وينظرون من خلالها إلى المرأة، وإنني في الوقت نفسه أكاد أموت غيظًا وأنا أنظر إلى بعض هذه النماذج من النساء اللواتي فرضن أنفسهن لهذا السبب أو ذاك، وإلى هذه النماذج التي تحاول اللحاق بمن وصلن من بنات جنسهن، لأنني أؤمن بالكفاءات من الجنسين، ولأنني لا أؤمن بتفضيل جنس على جنس، ولا أتعصب لجنس دون جنس، يمكن أن أقبل بوجود فلانة في هذا الموقع، أو ذاك، فقط لأنها امرأة، وفقط لأن الكوتة قد اقتضت ذلك.

    إن الحقيبة التي من خلالها يولد الوطن، ومن خلالها يقوى الوطن ويزدهر، ويشتد عوده، ومن خلالها يكون الجيل القوي القادر على حماية الوطن واستعادة أمجاده، ومن نسيج خيوطها يولد مع الفجر أحرار وحرائر على مستوى المسئولية والعمل هي الحقيبة المدرسية التي أهملناها عمدًا، وتلاعبنا بها عمدًا، كي يقطف كل هؤلاء وأولئك ثمار غياب الحقيبة المدرسية التي ما بُنيَ وطن في غيابها.

29\5\2011

الأربعاء، ٢٥ أيار ٢٠١١

 

متابعات

في السلامة والندامة وما بينهما فلسطينيًّا وعربيًّا..!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    قد تتفق المقولات والحقائق الكونية وطبائع الأشياء الثابتة المعروفة المُعاشة مع الأحوال السياسية وتقلباتها لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، وقد تختلف معها.. وقد تقترب منها، أو تبتعد عنها إيجابًا أو سلبًا، وقوة أو ضعفًا في مشهد يرصده المراقبون والمحللون السياسيون، ويستقصي أبعاده وتفصيلاته الباحثون الاجتماعيون والاختصاصيون النفسيون الملمّون بأحوال الأمم والشعوب، وتقلبات هذه الأحوال صعودًا وهبوطًا من خلال العلاقات الخاصة والعامة، ومن خلال المؤثرات والمورثات والإعداد والاستعداد، ومن خلال حركة التاريخ، وعلاقة هذا كله بمنظومة القواعد والثوابت والأفكار والمعتقدات، وثقة هذه الأمة أو تلك بنفسها، وفكرة هذا الشعب أو ذاك عن نفسه من خلال قراءاته ومطالعاته ودراساته، ومن خلال تجاربه وقناعاته التي يشكّلها عبر وسائل الإعلام، وعبر الصوت والصورة، وعبر كل المرايا التي يرى فيها نفسه، ويرى فيها غيره أيضًا، ويرى الناس جميعًا، عراة كيوم وُلدوا، وعلى الصورة التي فتحوا فيها أعينهم على هذه الحياة.. فمن الناس من يُسَرُّ لما يرى، ولا تزيده المشاهد إلا رغبة في المتابعة والبحث والاستقصاء، ومنهم من ينفر من ذلك، ويعود القهقرى إلى قواعده ومنطلقاته إما محطَّمًا يائسًا مكتئبًا، وإما مؤمنًا كل الإيمان بضرورة انتصار هذه القواعد والمنطلقات طال الزمن أو قصُر، فيعمل دون كلل أو ملل من أجل تحقيق هذا الهدف، وهو في سعيه لا يبالي بما يلاقي من صعاب، ولا يكترث بمن يعترضون سبيله، في الاتجاه المعاكس،وقد سدُّوا عليه المنافذ والمسالك والدروب.

   وإذا كان قولهم "إن في العجلة الندامة وإن في التأني السلامة" من هذه المقولات والحقائق التي عرفناها وحفظناها في ذلك الزمن السحيق الموغل في القدم، عندما كنا أطفالاً، أو شبابًا صغارًا نتلمس طريقنا في هذا الوجود بحذر ليس عليه من مزيد، ونحن نغذُّ الخطى نحو الكلمات، وخلف الأشعار والمأثورات التي نملأ بها فراغ النفس، وخواء تلك الصفحة البيضاء الخالية من التجارب، ومن إبداعات المبدعين من شعر ونثر، وإذا كان مثل هذا القول قد حكم خطواتنا على درب الحياة، وفي أزمنة الامتحان النظري والعملي والشفوي والكتابي؛ فكنا شديدي الحرص على أن لا نسرع، أو نتسرع، أو نتعجلَ في خطوة أو إجابة أو تحليل أو استنتاج بشكل قد يكون مغلفًا بالحذر الذي يصل حد الخوف من الوقوع في الخطأ حيث الندم، أو الوقوع في كمين أعدّه معدّوه على الرصيف، أو على قارعة الطريق، فنندم ولاتَ حينَ مندم.. وكنا شديدي الحرص أيضًا على التأني في ذلك كله، لأن فيه السلامةَ بمعناها الشامل الذي ترتاح إليه الأسماع، وتهفو إليه القلوب.. وإن كان كثير منا آنذاك على خلاف هذا وذاك، فتراهم متسرعين مندفعين عندما تكون العجلة والاندفاع طريق الألم والخيبة والندم، وتراهم مبطئين مترددين عندما يستدعي الأمر غير ذلك، وتراهم حريصين على مواجهة الصعاب والعقبات دون تفكير في العواقب، وكثيرًا ما دفع هؤلاء ثمن كل هذا دمًا ودموعًا، وكثيرًا ما دفعوا حياتهم أيضًا ثمن تهورهم واندفاعهم، ولكنني لا أخفي عليكم أن منهم من لم يمت، ومن لم تزده هذه الضربات وتلك الصدمات بالتالي إلا قوةً، لأن الضربة التي لا تميتني تزيدني قوة، ولا أخفي عليكم أيضًا أن كثيرًا من هؤلاء كانوا من المبدعين.

   قد لا يكون قولهم المأثور هذا في السلامة والندامة منسجمًا ورغبة شعب ذاق الأمرين على امتداد عقود وعقود، وهو على امتداد رحلة العذاب هذه متسلح بالصبر، متصفٌ بالتأني، بعيدٌ عن العجلة والتسرع كي لا يحصد الندم.. لكنه لا يجني إلا الخيبة والفشل على الرغم من تقيّده بهذه القاعدة الذهبية في حياته الخاصة والعامة، وفي كل قضاياه المعيشية والسياسية، وهذا دليل يضاف إلى مجموعة الأدلة التي تقف شاهدًا على أن المقولات والحقائق الكونية الثابتة المعروفة المعاشة قد لا تتفق مع الأحوال السياسية لشعب من الشعوب، أو لأمة من الأمم، بل إنها قد تختلف معها قليلاً أو كثيرًا، وهنا مربط الفرس، كما قال الأقدمون من فصحاء هذا الشعب.. مربط الفرس إذن يشير إلى أن هنالك سببًا يحول بين هذا الشعب وبين السلامة حتى لو تأنى، ويحكم عليه بالندم والخيبة والفشل حتى لو تجنب كل أسباب ذلك، وعلى رأس تلك الأسباب التسرع والعجلة.. إن هنالك قوًى معينة تعمل جاهدة من أجل أن يبقى هذا الشعب لاهثًا خلف آماله وأمنياته دون أن يحقق منها شيئًا مذكورًا أو غير مذكور، وهدف هذه القوى أن ينهار هذا الشعب، وأن يرضى بالتالي عن أي حل يقدمه خصومه، لأن شيئًا خيرٌ من لا شيءٍ كما يقولون.

    وعلى الرغم من أن هذا الشعب لم يتمكّن نتيجة هذه الضغوط الشديدة التي تُمارَس عليه من تحقيق السلامة لنفسه ولقضيته العادلة، وعلى الرغم من أنه لم ينحدر إلى حضيض اليأس والإحباط والندم بفعل الأخطاء والخطايا التي ألفى نفسه في دوامتها بفعل مخططات أولئك الخصوم وخططهم بفضل وعيه وإصراره وصلابة عوده، وعلى الرغم من أن هذا الشعب قد تمكّن من التحرك بين السلامة والندامة، بصنع فضاء جديد مكّنه من العيش بعيدًا عن التلاشي والانهيار والاندثار منذ عقدين من الزمان، إلا أنه لا يزال يصارع الأمواج العاتية التي لا تزال تنقضُّ عليه موجة في إثر أخرى بهدف تحطيمه، وتمزيقه، وتجريده من كل معاني الكرامة والعزة، وإرغامه على التنازل عن كافة حقوقه الوطنية، ومشاعره العربية والإنسانية، والسيطرة المطلقة على أرضه ومقدّراته دون أن يفكر في المطالبة بشيء من مقوّمات السيادة على هذه الأرض التي حُسِمَ أمرها لهؤلاء الذين اقتلعوا هذا الشعب منها، وهجّروه عنها.. ملاحقةُ هذا الشعب في فضائه الجديد هذا مستمرة إذن، والعمل جار بإصرار وعناد وتصميم على محاصرته في هذه المِساحة الواقعة بين السلامة والندامة؛ بهدف جرِّه إلى حضيض الثانية راغمًا بعد أن حيلَ بينه وبين السلامة رغم تلهفه عليها، وتضحياته في سبيلها.

   في فضائه الجديد الذي يعيش فيه هذا الشعب منذ عقدين، متسلحًا بالضعف، متوكئًا على العجز، لاهثًا خلف الحدِّ الأدنى من حقوقه التاريخية والوطنية، مطالبًا بالحد الأدنى من ثوابته وحقوقه المشروعة في بلاده فلسطين يأتي خطاب الرئيس الأمريكي، وتأتي مواقف نتانياهو القديمة الجديدة المتجددة، وتأتي ردود الأفعال الفلسطينية في حالة من التمزُّق العربي، والاقتتال العربي، والحروب الأهلية العربية التي أعادت هذه الأمة في كثير من أقطارها وأمصارها إلى عهود الظلام والاحتراب والانتداب والاحتلال الذي جثم على صدرها ردحًا من الزمن، ولكن في هذه المرة لا يأتي هذه كله بجيوش الغرب تقتحم هذه البلاد وتحتلها، وإنما بالأسلحة تتدفق على بعض أبناء هذه الأمة التي اشتراها الغرب، مع الأسف، بثمن بخس لتشعل نار الفتنة، ولتغرقَ الأرض العربية بالموت والدماء والدمار...

   في مثل هذه الأحوال التعسة يأتي خطاب أوباما الأخير، وتأتي تأكيدات نتانياهو على: ضرورة الاستمرار في السيطرة على القدس عاصمة لدولته، وضرورة السيطرة على الأغوار، وضرورة عدم العودة لحدود سبعة وستين (لأنها لا تصلح للدفاع وتحقيق الأمن) وضرورة الاستمرار في إخضاع العرب الفلسطينيين للسيطرة والحصار (لضمان عدم اشتغالهم بالإرهاب والتحريض عليه) وضرورة عدم التخلي عن الكتل الاستيطانية الكبيرة (والإصرار على اعتبارها جزءًا لا ينفصل عن الدولة العبرية) وضرورة أن لا يعود لاجئ فلسطيني واحد من لاجئي ثمانية وأربعين إلى بيته وممتلكاته، وضرورة أن تكون الدولة العبرية دولة لليهود فقط...

  إن هذه "الضرورات" وكثيرًا أخرى غيرها تعني باختصار شديد أن نتانياهو لا يريد سلامًا حقيقيًّا شاملاً متكافئًا في هذه الديار، يل يريد سيطرة مطلقة عليها، ويريد أن يستسلم الآخرون لخططه ومخططاته في محاولة منه للخلاص من الفلسطينيين على مراحل، وإبعادهم عن وطنهم فلسطين بكل الطرق والوسائل، كي تتفرّغ هذه الدولة "العبرية" للتعامل كما يجب مع حركة المد العربي، والتحرر العربي، والوعي العربي، والمقاومة العربية، والممانعة العربية، والرغبة العربية في إقامة المشروع العربي على كل الأرض العربية، ومن ضمنها بطبيعة الحال أرض فلسطين التاريخية التي هي بدورها جزء لا يمكن أن يتجزأ من بلاد الشام الواحدة الموحدة قلب العروبة، ورايتها الخفّاقة منذ بدء الخليقة وحتى ساعة الزوال.

   ضرورات نتانياهو، وأحلامه في السيطرة المطلَقة على هذه الديار منطلَقًا للسيطرة بشكل أو بآخر على كل ارض العرب تأتي متناقضةً مع كثير مما تضمَّنَهُ خطاب أوباما شكلاً لا مضمونًا، لأن هذا "التناقض" لا يعدو كونه "خلافًا" بين أصدقاء، ولأن من يريد من سوريا أن تركع لمشيئته لا يصرُّ على ذلك إلا لكي يقدم أكبر خدمة للدولة العبرية اليهودية، وللحركة الصهيونية في تاريخها، ولا يصرُّ عليه أيضًا إلا ليقضي القضاءَ المبرَم ليس على فلسطين فحسب، وإنما على لبنان أيضًا، وبهذا تتمُّ لإسرائيل ولليمين الإسرائيلي المتطرف السيطرة على بلاد الشام، وبهذا أيضًا يكون أوباما قد حقق أحلام بوش في السيطرة على سوريا بعد احتلال العراق قبل ثمانية أعوام.

   أوباما في خطابه، ونتانياهو في مواقفه وتصريحاته يجسدان تعاونًا أمريكيًّا إسرائيليًّا، بل تعاونًا غربيًّا إسرائيليًّا، لأن الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي متفق على هذا منذ أمد بعيد، وإلى جانب الغرب بشقيه تقف الرباعية الدولية أيضًا موقفًا مشابهًا، أو قريبًا جدًّا منه، وإن اختلف عنه أحيانًا في بعض التفصيلات والحيثيات، ولكن ما يجري على الأرض يؤكد في النهاية أنه لا يكون إلا ما يريد قادة اليمين المتطرف في إسرائيل، لأن الغرب بشقيه لا ينظر إلى هذه المنطقة من العالم إلا بعيون إسرائيلية، وحتى هذه التصريحات الإسرائيلية التي نسمعها بين الحين والآخر منتقدة مواقف نتانياهو وتصريحاته، لا تصدرُ يقينًا إلا من خلافات حزبيَّة، وخلافات في الرؤى السياسية والأسلوب والشكل، لا في الهدف والجوهر.

   بقي أن نشير إلى أن حركة التحرر العربي، والمدِّ القومي العربي، وحركة الملايين من العرب الوحدويين العروبيين من فلاحين وعمّال وطلَبَة ومثقفين شرفاء وقادة شعبيين وميدانيين وسياسيين أباة لم يرتبطوا، ولن يرتبطوا إلا بما تمليه عليهم ضمائرهم.. حركة التحرر هذه حركة قوية فاعلة تُؤتي أُكلَها في كل يوم، وأن ما حدث في تونس وفي مصر خير شاهد على صحة ما نقول، وإن ما سيجري فيهما وفي غيرهما أيضًا في المستقبل المنظور لصالح حركة التحرر العربي ليؤكد عمق هذه النظرة التي آمنت بالعروبة وسيلة وغاية وهدفًا وطموحًا.. وإن ما سيجري قريبًا جدًّا في سوريا العروبة أيضًا من حسم لخير دليل على أن الأمور في الوطن العربي تسير في الاتجاه الصحيح على الرغم من كل محاولات الغرب وأعوانه والمخدوعين بأفكاره وأمواله وثقافاته وإغراءاته، وعلى الرغم من كل توجهات الحاقدين، ورغباتهم الدفينة في الانتقام أو السيطرة.

   وبقي أن نشير أيضًا إلى أن الفلسطينيين سيظلون سائرين على الدرب المؤدي إلى الهدف بغض النظر عن كل المحاولات اليائسة لصرفهم عنه، وتحويلهم إلى مسار آخر، أو مسارات أخرى، وسيظلون _ رغم كل شيء_ متمسكين بثوابتهم لا يتنازلون عنها إلى أن تتحقق، وستظل القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين جميعًا داخل الوطن وخارجه، وستظل قضية العرب الأولى، وقضية المسلمين جميعهم إلى أن تُحَلَّ حلاًّ عادلاً يعود معه اللاجئون والمُهجَّرون إلى ديارهم، وينعمُ معه الناس كافة في هذه الديار بالأمن والأمان والحرية، ويعيش معه الناس كل الناس في هذه الديار، وفي كل ديار العروبة والإسلام عيشًا كريمًا في ظل سلامٍ عادلٍ دائمٍ شاملٍ تعود معه الحقوق إلى أصحابها.

25\5\2011

 

  

  

 

 

الاثنين، ٢٣ أيار ٢٠١١

أحداث العالم العربي هي اختبار لقوى الثورة العربية..

إعادة

 

رأيت من الضروري أن أعيدَ نشرَ هذا المقال هنا كاملاً إتمامًا للفائدة، ودفعًا للالتباس، وإنصافًا للحقيقة.

 

 

متابعات

أحداث العالم العربي هي اختبار لقوى الثورة العربية..

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    بعد عقود من سيطرة الغرب على كل أرض العرب، وعلى كثير من بلاد الإسلام، وفي أعقاب الثورة الصناعية التي شهدها الغرب، وبدأ انطلاقًا منها رحلة تفوّقه على الدولة العثمانية، وبعد تمكّنه من السيطرة بالقوة العسكرية على كثير من الأقطار العربية في إفريقيا، وفي آسيا، وبعد تمكّنه أيضًا من القضاء على هذه الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وإلغاء الخلافة بعد بضع سنوات من هزيمة تركيا في تلك الحرب، وبعد خضوع  الوطن العربي لألوان من الاحتلال الغربي، وألوان من الانتداب والوصاية الغربية بموجب تلك الاتفاقات والمعاهدات التي اعتمدها الغرب أساسًا لوضع يده على هذه البلاد العربية، وفي تقاسمها فيما بين كثير من دوله، وفي تمزيق الأرض العربية، وتفتيتها، ونهب خيراتها وثرواتها، ومصادرة قرار العرب، ومصادرة حقهم المقدس المطلق في التحرر والسيادة على كل أرض العرب، وبعد كل هذه الرحلة الشاقة المضنية التي خاض فيها أحرار العرب ثورات مسلحة ضد الاستعمار الغربي في المغرب العربي، وفي مصر والسودان، وفي ليبيا، والعراق، وبلاد الشام، وبلاد الأفغان، وفي كثير من ديار العروبة والإسلام على امتداد القرن الماضي، وعلى امتداد القرن التاسع عشر أيضًا في بعض أقطار العروبة.. بعد كل تلك الحوادث والأحداث التي ألمّت بالوطن العربي، وبعد كل ما شهده على امتداد القرنين الماضيين، وبعد أن تسرّبَ اليأس إلى كثير من النفوس في بلاد العرب أو كاد، وبعد كل عوامل القنوط  والإحباط التي عصفت بكثير من الناس في هذا الوطن العربي فأصابت منهم مقتلاً، وصرفتهم عن الخوض في كثير من قضاياهم المصيرية، وعن الخوض في كثير من مشكلاتهم اليومية والقومية التي واصلت تراكمها، وتابعت استهانتها بالناس، وتحديها لهم، واستخفافها بهم، وإذلالها المبرمَج الممنهَج لهذه الأمة في كل أقطارها، وبعد أن اعتقد كثير من المراقبين والمحللين، وكثير من المخططين في غرب الدنيا وشرقها، أن هذه الأمة قد ماتت، وأنها قد شبعت موتًا، إذا بالقدر يستجيب في تونس، وإذا بالقدر يستجيب في مصر، وإذا به يستجيب في كثير من أقطار العروبة، وإذا بنيران هذه الثورة تحرق اثنين من كبار الطغاة المنحرفين المستبدين، وإذا بنيرانها المقدسة تنتشر في كل أوطان العروبة، تحرق الطغاة، وتحرق الطغيان، وتكون بردًا وسلامًا على الثوار الأحرار من كبار وصغار، في مشهد يَدِقُّ عن الوصف، ويدعو إلى التمرد على الصمت والخوف، ويبعث على الزهو والفَخَار، ويبشّر بانتصار هؤلاء الثوار على عهود القهر والجور والمذلة والصَّغار.

     على أن هؤلاء الغزاة المستعمرين لم يكونوا يومًا ليكتفوا بأدواتهم التي اصطنعوها، وأسندوا إليها مهامّ الحكم، وأناطوا بها مقاليد الأمور في كثير من أقطار العروبة والإسلام، ولم يكونوا ليطمئنوا كثيرًا إلى هؤلاء الوكلاء في هذه العواصم التي استحدثوها، وفي هذه الدول، والدويلات، والممالك، والكيانات التي ابتدعوها، بل راحوا يحيطون هذه الأدوات، وأولئك الوكلاء بجيوش من التابعين، والمجنَّدين المرتبطين بالأسياد من وراء ظهور هذه الأدوات، وأولئك الوكلاء، لأسباب منها أن من عادة الغزاة أن لا يثقوا كثيرًا بتابع، وأنهم يخشَون أن يعتمدوا كثيرًا على الأدوات والوكلاء مهما أوتوا من مظاهر القوة، ومن علامات الذكاء والدهاء، وأنهم يفضّلون أن لا يربطوا مصيرهم في هذه البلاد بمصائر هؤلاء، ومن هنا كان حرص الغزاة على تجنيد أكبر قدْر من الناس للعمل على خدمتهم، والانضواء تحت رايتهم، والائتمار بإمرتهم لأسباب منها ما يتعلق بمراقبة الأدوات والوكلاء، ومنها ما يتعلق بمراقبة الناس، ورصد توجهات الشارع يومًا بيوم، ومنها ما يتعلق برصد كافة القوى والتيارات الفكرية والثقافية والسياسية في البلد، ومنها التنسيق المستمر من أجل الحفاظ على مصالح الأسياد، والحفاظ على أمنهم، والحفاظ على سير الأمور في البلد كما ينبغي.

    ومع ذلك، وعلى الرغم من كل أجهزة الأمن التي اصطنعها الوكلاء لحفظ أمنهم، والحفاظ على مصالحهم ومؤسساتهم وهياكلهم ودوائرهم وعناوينهم وأوكارهم على اختلاف أسمائها ومسمياتها، وعلى الرغم من كل أجهزة الأمن التي أقامها الغزاة المستعمرون من وراء ظهور وكلائهم في كثير من الأحيان، وبالتنسيق معهم في بعض الأحيان، وعلى الرغم من كل هذه المليارات من الدولارات وغير الدولارات التي تراق على الأرض العربية لشراء الولاءات، ووأد الخصومات والعداوات التي تظهر بين الحين والآخر في معسكرات الغزاة وصفوف الطغاة، وعلى الرغم من كل هذه المليارات التي تُرصَد لإذكاء نار الفتنة بين مؤيدي التيار العروبي المؤيد لنهج الممانعة، وسياسة المقاومة، ومؤيدي التيار الغربي المؤيد للمشاريع الأجنبية على كل الأرض العربية، والمؤيد لسياسة الاستسلام للغزاة، ولمشروعهم على كل أرض العرب، وعلى الرغم من كل هذه الأعباء التي تثقل كاهل المواطن العربي، وعلى الرغم من كل هذه الهزائم التي مُنيَ بها على امتداد عقود وعقود، وعلى الرغم من كل عوامل الخوف، والجوع، والقمع، والطبقيَّة، والفساد، والاستبداد، والإقطاع، والضَّياع التي عصفت بأمة العرب في شتّى أقطارها وأمصارها.. إلا أن هذا كله، وكثيرًا غيره لم يمنع شمس العرب أن تشرق من الغرب، ولم يمنع أحرار تونس من تفجير ثورة الياسمين، ولم يمنع شرفاء تونس وعربها الأباة، من كيل الصاع ألف صاع لذلك الطاغية، الذي غادر تونس راغِمًا غير مأسوف عليه، لتسترد تونس أنفاسها، ولتسترد تونس عافيتها، ولتستعيد تونس أمجاد عروبتها وإسلامها، ولتنعم تونس ببهجة الحياة، وطعم الكرامة والعزة من جديد.. وكذلك فإن كل عوامل الخوف، والجوع، والرعب، والقمع، والطبقية لم تمنع شعب مصر من إسقاط ذلك الطاغية، ومن القذف بذلك النظام البوليسي القمعي التسلطي الاستبدادي إلى أعماق الجحيم.. لقد كان ما جرى في تونس، وما جرى في مصر صفعة مزلزِلة، ولطمة مجلجلة، أطارت النوم من عيون الغربيين، وأصابت الغرب بشقّيه الأمريكي والأوروبي بصدمة أفقدته توازنه، وأرغمته على إعادة النظر في حساباته، وعلى إعادة النظر في مواقفه من هذه الأمة العربية التي استجاب القدر لإرادتها.

    وزيرة خارجية أمريكا تُغِذُّ الخطى إلى تونس، وتُغِذُّ الخطى إلى القاهرة، وهي في زياراتها تهدّئ من روع الناس، وتقف إلى جانبهم، وتُعرِب عن إيمانها بحق العرب في العيش بكرامة واحترام، وبحق العرب في نظام سياسي حر يقوم على التعددية، ويقوم على حرية الاختيار، وعلى الديمقراطية التي لا بد منها، ولا غنًى عنها سبيلاً للنزاهة في الحكم، والشفافية في الأداء، وسبيلاً للخلاص من كل هذه المشكلات والأزمات والاضطرابات التي تعصف بهذه الأمة العربية من محيطها إلى خليجها.. والرئيس الأمريكي هو الآخر يتابع ما يجري، ويوجه التحية إلى الثوار العرب، ويُبدي تعاطفه مع هذه الأمة العربية، ثم يحشد الحشود، ويوجه الأساطيل الجوية والبحرية، لحماية الشعب الليبي من قوات العقيد التي تتوعده بالموت الزؤام إن هو لم يتراجع عن تمرده وعصيانه، وإن هو لم يعد صاغرًا إلى حكم العقيد، وكتابه الأخضر، وشِعره الرائع المجيد بشهادة الشاعر الفِلَسطيني هارون هاشم رشيد.. الغرب بشقيه يدّعي الوقوف إلى جانب الشعوب العربية في ثوراتها وهبّاتها الشعبيّة، ضد الظلم والفساد وأمور أخرى، والغرب كله يتناسى في خضمّ هذه الحوادث والأحداث التي تعصف بوطن العرب، وفي غمرة هذه المشاعر الطيبة التي يبديها تجاه أمة العرب، أن كل ما يجري على الأرض العربية من سوء هو من فعل أدواته، ومن فعل أعوانه، ووكلائه، وأن كل ما تعرّض له وطن العرب على امتداد القرنين الماضيين من أهوال لم يكن إلا بفعل الغربيين، وعدوان الغربيين، وغزو الغربيين، واحتلالهم للأرض العربية، وأن كل ما تعرض له وطن العرب، ولا يزال من تمزيق، وتفتيت، ونهب، وسلب، واستباحة، وما يتعرض له المواطن العربي من ألوان الموت، إن هو إلا الثمار المُرّة لهذا الغزو الغربي، والتدخل الغربي، والتخطيط الغربي، لفرض السيطرة الغربية المُطلَقَة على كل أرض العرب، وعلى كل أرض المسلمين أيضًا...

     الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة الأيادي البيضاء على العرب، وعلى المسلمين، وعلى اليابانيين، وعلى كثير من شعوب هذا العالم الثالث في آسيا، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وصاحبة آلاف الآلاف من مليارات الدولارات التي تصدرها بدون رصيد، وبدون ضمانات، وبدون تغطية، وبدون أي اعتبار لأحد، وبدون أدنى اعتبار لشيء سوى القوة، والعربَدة، والسيطرة على كل ثروات العرب والمسلمين، وكل ذهبهم الأسود، والأحمر، والأصفر المسخّر في خدمة هذه الأوراق النقدية الأمريكية المسخرة بدورها لدعم كافة المشاريع العدوانية الاستبدادية المعادية للشعوب، وتطلعاتها، وأحلامها، وطموحاتها في هذا العالم.. الولايات المتحدة هذه زعيمة المعسكر المعادي للشعوب في هذا العالم تعلن نفسها اليوم صديقة للشعوب تمامًا كما أعلنت ذلك في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد خروجها منتصرة من تلك الحرب، وبعد أن أرعبت البشرية بقنبلتيها الذريتين اللتين قصفت بهما هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين.. ولئن كانت الصداقة الأمريكية المعلَنة في تلك الأيام قبل ستين عامًا بالكمال والتمام في هذه الديار الفلسطينية بعد أن مزقتها النكبة، وفي كثير من ديار العروبة والإسلام متمثلةً في كميات من الدقيق، تقدمها أمريكا في أكياس بيضاء أنيقة، يأكل الناس ما فيها من دقيق، ثم يخيطها كثير منهم بعد ذلك ملابسَ تستر عوراتهم، وقد لا تسترها!! وقد كُتبت عليها هذه العبارة: " تقدِمة من شعب الولايات المتحدة الصديق"،  وقد رُسمت على هذه الأكياس يدان تتصافحان،  إحداهما اليد الأمريكية التي رُسم عليها العلم الأمريكي، والثانية بالطبع، يد فلسطينية، أو عربية، أو غير عربية.. ولئن كانت الصداقة الأمريكية المعلَنة آنذاك "أفلامًا" ثقافية، يعرضها الأمريكيون على واجهات المنازل، في كل قرى هذه البلاد، وفي كل مدنها ومخيماتها، ولئن كانت أيضًا معونات، وتسهيلات، ومساعدات تقدمها أمريكا للشخصيات وللأنظمة، والحكومات التي أقامتها في أوطان العروبة، وديار الإسلام، فإنها اليوم أكثر تطورًا، وأشد أثرًا، وتأثيرًا.. إنها أسلحة.. ووسائل فتْك ودمار، ووسائل إعلام تحرّك كثيرًا من الناس، وتوقظ كثيرًا من الخلايا النائمة، وتعمل جاهدةً على خلط الأوراق، ودبلجة الصور والأخبار، وإخضاعها للأهداف الإعلامية المتوخاة، والغايات الإعلامية السياسية المبتغاة، وإنها أيضًا طائرات وغواصات وقذائف موجهة تقصف من تشاء، وتفتك بمن تشاء، وترعب من تشاء، وتتوعد من تشاء.. وإنها كذلك إشارات وتلميحات وإنذارات وإخطارات وتصريحات وتهديدات ينبغي أن نتوقف عندها، لنلمّ بمضامينها ومغازيها، ولنقف على كل ما تضمنته من إشارات ومعان، وما تستوجبه من ردود شعبية ورسمية على حد سواء.

    الغرب بشقيه، وعلى الرغم مما بين دولهِ من خلافات وخصومات بفعل هذا التنافس المحموم فيما بينها على اقتسام أرض العرب، وثروات العرب، وإقامة المشاريع على كل أرض العرب، إلا أنه يتفق على أن ما أصابه في تونس، وما أصابه ويصيبه في مصر هو كرب عظيم، وتهديد لآماله وأطماعه ومشاريعه على كل أرض العرب.. والغرب بشقيه يعلم يقينًا أن أمة العرب، على علاتها، وعلى الرغم من كل الحملات الثقافية الغربية المتعاقبة التي استهدفتها، وعلى الرغم من كل عقود القمع، والإذلال، والتنكيل بكل أشكاله وصوره التي استبدّت بأوطانها وإنسانها، وعلى الرغم من كل الصفقات التي عُقدت، والمليارات التي بُذلت، لشراء الولاءات، وإنشاء هذه الجيوش من الأجهزة الأمنية السرية والعلنية أيضًا، وعلى الرغم من كل الهزائم التي مُنيت بها على امتداد تاريخها الحديث.. هذا الغرب يعلم يقينًا رغم كل ذلك أن أمة العرب مازالت قادرة على الفعل، وأن أمة العرب ما زالت قادرة على امتلاك ردود الأفعال المناسبة على كل أفعال الغربيين، وعلى كل محاولاتهم المستميتة للسيطرة على الوطن العربي، وهذا العالم الإسلامي الذي لا تحده حدود.

    والغرب بشقيه متفق أيضًا على ضرورة التصدي لما يحدث في تونس، ولما يحدث في مصر، وعلى ضرورة خلط الأوراق في ليبيا، وفي اليمن، وفي البحرين، وفي كل مكان ومكان من هذا العالم العربي الذي يغلي بالثورة والتمرد، ويضطرم بنيران التحرر والانعتاق من عسف القيود والأغلال التي رَسف بها، ولا يزال يرسف حتى أدمت رجليه، وأدمت قدَميه، وأدمت يديه، ومعصميه، وأدمت منه العين والسمع والفؤاد.. الغرب متفق على هذا كله، ويبدو مصرًّا كل الإصرار على ضرب روح الثورة العربية، والخروج بها عن مسارها، والتحكم بخط سيرها، والعبث بها، وتسليط أعوانه، وأتباعه، ومنتسبي أجهزته عليها، حتى يتم له تفريغ الثورة من معانيها ومضامينها، والعودة بها ذليلة صاغرة إلى أحضان الغرب من جديد.. ففي كل أقطار العروبة استنفار ومستنفرون، وتأهب ومتأهبون، واستعدادات ومستعدون ومستعدات.. وفي كل أقطار العروبة يقظة أجهزة، ويقظة حكومات، ويقظة دوائر أمن، ومخابرات، واستخبارات هدفها امتصاص نقمة الشعوب، وإرضاؤها بشيء مما قد يصرفها عن أهدافها وغاياتها، وبشيء مما قد يكون حلاًّ وسَطًا يُبقي على الأوضاع مستنفرةً في هذه البلدان، ويُرضي غرور الثوار والثائرين، ويحقق لهم كثيرًا من المطالب والأهداف، ويشركهم في الحكم، ويعطيهم نصيبًا من "الكعكة" ولكنه لا يسلمهم مقاليد الأمور إلا إذا أعطوه الولاء، والتزموا بتنفيذ سياساته، والتقيد بتوجيهاته وتعليماته، وكانوا عونًا له في محاربة أدوات أعوانه ووكلائه السابقين، ليكونوا وكلاءه اللاحقين، وليكونوا المحظيين الفائزين برضاه، ورضى شعوبهم، وليكونوا أيضًا الوارثين، والأمر لم يُحسم بعد، والباب ما زال مفتوحًا، والاستعدادات على حالها.

    أما سوريا فقد استُثنيَت حتى الآن من هذه القاعدة الذهبية التي يعتمدها الغرب الآن أساسًا لحل خلافاته، وتسوية أموره مع الناس في كثير من بلاد العروبة شعوبًا، وحكومات، وأنظمة حكم.. ويبدو أن الغرب يفكر جديًّا الآن بأن يربح في سوريا ما خسرهُ في مصر وتونس، وأن يُلحِقَها بالعراق، ليكون لها ما كان للعراق من دمار وخراب وخسائر لم تشهدها هذه البلاد حتى في عهود الصليبيين والتتار الذين اجتاحوا هذه البلاد، وكأنهم على ميعاد!! الغرب يفكر الآن بضرب سوريا، وهدمها، للخلاص من توجهاتها القومية، وأفكارها العروبية، وتحالفاتها الإقليمية، وعلاقاتها العربية، وصِلاتها التاريخية الثقافية الإستراتيجية بلبنان وفلسطين، وللخلاص أيضًا من مجموعة الأفكار والثوابت التي حسمت سوريا للعروبة والعرب، وميزتها عن كثير من أقطار العروبة والعرب، ولوضع العِصيّ في دواليب التقارب المصري السوري، وربما الوِحدة المصرية السورية التي بدأت تلوح في الأفق مع إشراقة شمس ثورة الخامس والعشرين، ولإحباط كل محاولات الإصلاح والتغيير التي تشهدها سوريا منذ سنوات، ولمعاقبة سوريا والسوريين، على تلك الأخطاء والهفوات التي ارتُكبت في الماضي، عندما كانت سوريا محاصَرة محاطة بالأعداء من كل جانب، مستهدَفة، لا تكاد تدري ما تفعل، ولا تكاد تعلم أين المفر، وقد أحكمَ الطامعون الواهمون عليها الخِناق..

    سوريا التي خرجت منتصرة مرفوعة الرأس من أزماتها التي افتعلها الغرب، وافتعلتها معه أنظمة عربية معينة، وقوًى عربية بعينها، وسوريا التي ما تنكّرت يومًا للمبادئ العربية، والثوابت العربية، والقيم العربية، والأهداف العربية في الوحدة، والتحرر، والتطور، هي سوريا التي يريد لها هذا الغرب الأمريكي اليوم أن تركع، ويريد لها هذا السيد الأمريكي اليوم أن تخضع، ويريد لها هذا المجتمع الدولي الذي يتحدثون عنه اليوم أن تستسلم لأوهام الواهمين، وأحلام الحالمين..  سوريا العربية التي تفاءلت واستبشرت بثورة الخامس والعشرين في مصر، هي سوريا التي تريد لها الولايات المتحدة اليوم أن تتنازل عن وحدة شعبها، وأن تتنازل عن مبادئها وثوابتها، وأن تتنازل عن سياساتها العربية والإقليمية التقدمية التحررية، وأن تصبح كما تريد لها أمريكا تابعًا لها، ينفذ سياستها، ولا يضع العصي في دواليب هذه السياسة..

    وشعب سوريا الذي يدرك كل هذه الحقائق عَصِيٌّ كوطنه العربي السوري على هذه السياسة الغربية الأمريكية التي تريده صدًى لصوتها.. إن الشعب السوري، وإن شعوب الأمة العربية دون استثناء، وإن شعوب العالم الثالث أيضًا هي شعوب حرة متحررة تحارب من أجل عزتها وكرامتها وتطور أرضها وأوطانها، ورفاء إنسانها، وحماية مقدّراتها من عبث العابثين، وعدوان الطغاة المعتدين، وإن شعب سوريا الذي تربطه أواصر القربى والمحبة بشعوب الأمة العربية، وبكثير من الشعوب في هذا العالم، لا يأبه بكل هذه التهديدات التي يسمعها، والإنذارات، والإخطارات التي ترد إلى ساحاته تباعًا، وإنه قادر على التصدي لكل ما يفتعله هؤلاء وأولئك على أرضه، ولكنه غير راغب في المواجهة مع هذه العناصر والخلايا التي يحركها أولئك المتربصون، لإدراكه أن هذه المواجهات ستكون خطيرة، وستكون مدمرة، وستفضي إلى أحقاب من العِداء والكراهية، وأزمان من الشك، والريبة، والقطيعة، والقلق، والنفور، والخوف من المجهول، وأنها ستهدم ما بُني في تاريخ سوريا الحديث، وما تم إنجازه تحديدًا في العقد الأخير من تاريخ هذا القطر.. ولكن الشعب السوري الذي يرغب يقينًا في حلول سريعة لهذه الأزمة المُفتعَلة بعيدًا عن العنف، وسفك الدماء قادر على حسم الأمور، وقادر على التصدي لهذه الفتنة، وقادر على وضع حد لعبث العابثين، وعدوان المعتدين، وتآمر المتآمرين، وإن كان يرغب يقينًا في منح الفرصة لكثير من أولئك المضلَّلين كي يثوبوا إلى صوابهم، وإلى وعيهم وإدراكهم، ولكثير من أولئك المتآمرين كي يكفّوا عن تآمرهم.. وإن الشعب السوري، وإن الدولة السورية، وإن الأحرار العرب في كل هذه الديار السورية، وفي كل أوطان العروبة، قادرون على لجم الفتنة، وقادرون على وأدها، وقادرون على التصدي لكل مظاهر الفساد والانحراف، ولكل قوى الثورة المضادة، ولكل هؤلاء العابثين المتربصين، ولكل هؤلاء المتآمرين المأجورين الضالين ممن ربطوا مصائرهم بمصائر أعداء هذا الوطن العربي، وبأعداء هذا الوطن السوري، وارتضَوا لأنفسهم أن يكونوا جزءًا من المؤامرة التي تستهدف أوطانًا عربية، وتستهدف شعوبًا عربية، وتستهدف أمة عربية واحدة موحدة فوق كل أرض العرب.

     إن هذه الأحداث التي تعصف بالعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وإن هذا الغضب الشعبي العارم الذي يجتاح كثيرًا من أوطان العروبة، وإن دخول الغربيين، وركوبهم موجة هذه الأحداث، ومحاولاتهم المستميتة لاستغلال هذا الغضب، وهذا التمرد، وهذه الثورات العفوية البريئة التي فجّرها كثير من شباب العرب الشرفاء، وكثير من شابّاتهم، وكثير من أحرارهم، وحرائرهم كبارًا وصغارًا، وإن كل ما يجري على هذه الأرض العربية الطيبة من محاولات لخلط الأوراق، ومحاولات لضرب أنظمة عربية معينة لأنها تؤيد المقاومة والمقاومين، ولأنها ترفض المساومة على الحقوق والثوابت، وتتمسك بالمبادئ والقيم، والمُثل العربية، إن هو إلا اختبار لقوى الثورة العربية، واختبار لتماسك الصف الداخلي العربي، واختبار للوعي العربي، واختبار للإرادة العربية، والثقافة العربية، والهوية العربية، والأخلاق العربية، والثوابت العربية، والحقوق العربية في الوحدة، والتحرر، والحرية، والتطوير، واستعادة الأوطان، والحقوق، والمقدّرات، والمقدسات.. وإن أحداث العالم العربي إن هي إلا اختبار لتضامن قوى الثورة وتماسكها، ومقدرتها على التصدي للمخططات الغربية الاستعمارية المعادية، ومقدرتها على صنع الغد العربي المشرق العزيز لأمة عربية واحدة موحدة حرة كريمة قوية مرهوبة الجانب فاعلة في التاريخ أبية عصية على الطغاة وعلى الغزاة المعتدين.. الدنيا تنتظر الإجابة، وتنتظر نتيجة الاختبار، وتنتظر الرد العربي الرسمي الشعبي الواحد الموحَّد على كل محاولات الهيمنة، والعدوان، والتزوير، وخلط الأوراق، والطغيان، ومحاولات إلحاق هذا الوطن العربي، ومعه كل ديار الإسلام أيضًا بالغرب.. الدنيا كلها تنتظر الإجابة، والدنيا كلها تنتظر نتيجة ما يحدث في هذا العالم العربي اليوم من حوادث وأحداث، والدنيا كلها تدرك أن أحداث العالم العربي هي اختبار لقوى الثورة العربية، وهي أيضًا اختبار لقوى الثورة المضادة وخلاياها النائمة.

23\5\2011

     

الأحد، ٢٢ أيار ٢٠١١

اعادة

متابعات

رويدكم أيها السوريون..!!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لا يعرف قيمة الصحة إلا من حُرِم منها، وإذا كانت الصحة تاجًا على رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المرضى، فإن العيش في وطن آمن مستقر متطور جميل، هو نعمة كبرى، قد لا يقدّرها حقَّ قدرها، ولا يحسُّ بها الإحساس الكافي الذي يملك على المرء السمع والبصر إلا من حُرم منه، وكُتب عليه أن يعيش مشرّدًا، وكذلك من خسرَ آباؤه وأجداده وطنهم على مائدة قمار، أو في حانة، أو في ملهًى ليلي، أو غير ليلي، وتركوه قائمًا هائمًا حالمًا ساهمًا يبحث عن وطن، ويجري خلف لحظة هدوء، ونقطة نظام، وواحة امن وأمان، ووئام وسلام.. فمن هؤلاء السعيد الذي وجد السبيل إلى بُغيته، والطريق إلى غايته بعد طول مشقة، وطويل عناء.. والسعداء هم الذين كان لهم شرف استعادة أوطانهم من غاصبيها، وكان لهم شرف تحريرها وتعميرها وتطويرها والعيش فيها كرامًا أعزّة أقوياء أحرارًا بعد طول خوف وجوع وضَياع ومذلة وهوان، فكانوا العاملين المخلصين، وكانوا أيضًا الوارثين..ومن هؤلاء الشقي الذي رمَحتْه الدنيا، وعضته بنابها، وناءت عليه الليالي بكلكلها، وتكالبت عليه عوادي الزمن، وتحالفت ضده كل قوى الشر، فلم يستطع لها دفعًا، ولم يكن لها ندًّا.. وأما الأشقياء فهم الذين خسروا كل شيء، وحاولوا _جاهدين_ استعادة أي شيء، ولكنهم فشلوا في ذلك لأنهم تأخروا، ولأنهم كانوا يفتقرون منذ البدء للرؤية والنيّة والرغبة الصادقة، ولأنهم كانوا منذ البدء أخلاطًا وأشتاتًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتّى، فكانوا الخائبين الفاشلين، وكانوا أيضًا في الغابرين المندثرين البائدين الهالكين المنقرضين، بعد أن اكتشف الناس زيف توجهاتهم، وأسباب مذلتهم وهوانهم، وبعد أن أصرت الأجيال على تحقيق الأهداف والغايات والآمال.

    لقد عرفنا سوريا منذ بداية عهدنا بهذه الحياة، عرفنا أرضها وسماءها وفضاءها وهواءها وظباءها وماءها وطيرها.. عرفنا صحراءها وجبالها وسهولها وهضابها ونجادها وتلالها وسفوحها وحواضرها وبلداتها وقراها.. عرفنا شمالها وجنوبها وشرقها وغربها وبحرها وجزرها وأنهارها وبحيراتها وأرضها الطيبة الخصبة المعطاء، وإنسانها الطيب الذكي الوفي الكفي الكمي السخي الأبي.. وعرفنا دمشق في أقصى جنوبها الغربي عاصمة هذا القطر العربي السوري، وإن كانت فيما مضى تتوسط هذه الديار السورية عندما كانت عاصمة الدنيا، وتاجًا على هام بني أمية، وكعبة للزوار، وتحفة للنظّار الذين يقصدونها من سائر الأقطار والأمصار.. ولئن كانت دمشق ولا تزال تاجًا على رؤوس الولاة والخلفاء والأمراء والقادة والعلماء والأدباء والشعراء.. ولئن كانت تاجًا تزدان به رؤوس بني أمية وهاماتهم وتزهو به قاماتهم.. ولئن كانت دمشق ولا تزال تاجًا تزدان به هامات السوريين وجباههم، مذ كانت سوريا، ومذ كان السوريون، فإن صلاح الدين هو تاج دمشق: صلاح الدين تاجكِ لم يُجمَّل|| ولم يوسَم بأزينَ منه فرقُ. وكل حضارة في الأرض طالت|| لها من سرْحِك العلوي عرقُ. ألستِ دمشق للإسلام ظئرًا|| ومرضعة الأبوة لا تُعَقُّ.

    إن صلاح الدين هو التاج الذي يزينَ هامَ دمشق، ويزينُ مفرِقَ دمشق، ويزين فرعَها الآسر الساحر، وموجها الهادر الثائر، ونهرها الهادئ الدافئ الذي: جرى في أرضها فيه حياة|| كمنهلّ السماء وفيه رزقُ.. والذي ينساب في أحيائها ويمنحها الحياة والرواء والبهاء، ويصنع من ريفها الأخضر المزهر المثمر اليانع الرائع الجميل ريفِ دمشق لوحةَ حبٍّ دمشقية سورية أموية عربية، وصورةَ مجدٍ عربيٍّ سوريٍّ مشرقٍ متألقٍ متدفقٍ متأنّقٍ متوهجٍ متأججٍ مفعمٍ بالسحر والشِّعر والعطر، زاخرٍ بالطير والخير والبِشْر والظلال والدلال والجمال.

     ولقد كبُرَ هذا القطر العربي السوري، وكبرنا معه وبه، ولقد شهد هذا القطر منذ أوائل تاريخه الحديث، ومنذ البدايات الأولى لعهده بالاستقلال كثيرًا من كبار الحوادث والأحداث، وكثيرًا من التجارب والخطوب التي لم تزده، ولم تزدنا معه إلا قوة، وإلا صلابةً وإصرارًا على تجاوز الصعاب، وتحقيق الغايات والأهداف.. ولقد ازداد هذا الغرب الطامع فينا المجترئ علينا عداءً لسوريا، ولشعب سوريا، ولتوجهات سوريا، فناصبها عداءً على عداء، وكثّف من حملاته عليها، وفرض عليها ألوانًا من الحصار، وحاول مرارًا وتكرارًا اجتياحها لضرب وحدة شعبها، ولضرب إرادة هذا الشعب العربي السوري، ولضرب هذا النسيج الاجتماعي وتمزيقه، ولضرب هذا التآخي والتوادّ والتحابّ الذي يطبع السوريين، ويميزهم عمن سواهم.. لقد حاول هذا الغرب، ومعه كل أدواته، وحلفائه، وأعوانه أن يكسر إرادة سوريا، وأن يحوّلها عن مسارها، وان يُلحقها بممتلكاته وضياعِه التي تملَّكها ووضع يده عليها في بلاد العرب منذ عقود وعقود، ولقد عزّ على هذا الغرب، وعلى هذا المعسكر المعادي الذي يقوده الغرب والغربيون في بلاد العرب أن يفشل في مساعيه تلك، لقد عزّ عليه أن تظل سوريا عصيّة على أطماعه، وأن تظل سوريا وفيّة لمبادئها وثوابتها، وأن تظل سوريا كما كانت دائمًا عربية الوجه والتوجه واليد والبنان واللسان، فجاء اليوم في محاولة خاسرة لتوظيف حالة الثورة العربية في النَّيل من سوريا، لقد حاول استغلال هذا التحرك العربي الشامل ضد البغي والعدوان والتسلط  والفساد والانحراف والاستبداد والاستعباد والتبعية للغرب بشقيه، لإثارة فتنة كبرى في سوريا، يكون وقودها الإنسان العربي السوري، في القطر العربي السوري، وتكون نتيجتها تفكيك وحدة هذا الشعب، وضرب تماسكه، والنّيل من ألوان هذا الطيف، وهذا النسيج، والنّيل من المبادئ والعقائد ومجموعة الأفكار والثقافات والمرتكزات التي صنعت شعب سوريا، وأرض سوريا، وعزّتها وقوتها على مرّ العصور، وتعاقب الأزمان والدهور.

    أيها السوريون! أنتم ترَون وطنكم، وترون مجتمعكم، وترون واقعكم من الداخل، ونحن نرى ذلك كله من الخارج، وليس الداخل كالخارج.. صحيح أن كثيرًا من السوريين يرون كل ذلك وكثيرًا غيره من الداخل ومن الخارج.. وصحيح أن كثيرًا منهم يعرفون ما لا نعرفه، ويدركون ما لا ندركه، لعلاقتهم اللصيقة به، ومعايشتهم اليومية له، وتأثرهم به، وتأثيرهم فيه، وتطورهم معه، وتطوره معهم.. ولعلاقتهم المباشَرة بالتحديات والعقبات وسائر التطورات والحقائق المعاشة على الأرض سلبًا وإيجابًا.. وصحيح أن كثيرًا منهم أكثر اطلاعًا على خفايا الأمور وخباياها وتفصيلاتها، وأكثر تأثرًا، وأشد تأثيرًا في كل ما يتعلق بالسوريين، وبالوطن السوري من أحوال وأوضاع.. ولكن صحيح أيضًا أننا في هذه الأجزاء من الديار السورية لا زلنا نعتبر أنفسنا جزءًا منها، وإن اختلفتْ الوقائع بين هذه الأجزاء فيما بينها، وبين كل هذه الأجزاء والكل الذي كانت تنتمي إليه ولا تزال، وأننا في هذه الأجزاء والفروع عروبيون حتى العظم، وحدويون حتى النخاع، وأننا نعيش بوجداننا وأحاسيسنا ما يعيشه الناس في ذلك القطر العربي السوري، وأننا نراقب ما يجري على أرض سوريا كلِّها، ونرقبُ الأحداثَ والتطورات، ونجري الموازنات والمقايسات، ونتابع بحسرة ولهفة كل ما يجري على أرض العرب، لنخرج بعد ذلك، وبالتزامن معه، بالنتائج التي تزيدنا تشبّثًا بعروبتنا، وتزيدنا إصرارًا على أننا جزءٌ لا يتجزأ من هذه الديار السورية، وبأن ما يجري هناك، وما يجري هنا إن هو إلا حدث من مجموعة أحداث تأخذ صورًا مختلفة باختلاف المرحلة، وباختلاف المقاولين المشرفين على التنفيذ، وباختلاف المعطيات والأُعطيات، وباختلاف الإنسان الذي استطاعوا أن يصنعوه على هواهم، وفقَ أمزجتهم ليتناغم مع مخططاتهم، ويتماهى مع أهوائهم، ويتساوق مع ما يبيّتونه لهذه الأجزاء (التي تشكل كلّاً واحدًا تاريخيًّا وجغرافيًّا وثقافيًّا وبشريًّا ونفسيًّا) من خطط ومخططات... وعليه، فقد بات من حقنا أن نقول إننا قد نرى ما لا ترون، وقد نعرف ما لا تعرفون، وقد بات من حقنا أن نشد على أيديكم مباركين مهنئين بالخروج مما حاول هؤلاء وأولئك أن يرموكم به، ويضعوكم فيه، وأن نقول بملء أفواهنا أيضًا: رويدكم أيها السوريون.. لا تتعجّلوا، ولا تتسرعوا، فهناك متسعٌ من الوقت لتلبية المطالب، وتحقيق الأمنيات والتمنيّات، وهناك متسعٌ من الوقت لمعالجة كل هذه الأولويات.. واحدة واحدة.. إن الله مع الصابرين.

    أيها السوريون! إن ما نراه اليوم يؤكد ما كنا نراه منذ عقود، بل يؤكد صحة معتقداتنا وتوجهاتنا وقناعاتنا مذ كنا صغارًا، وإن إيماننا بدور سوريا في تحرير الأوطان والإنسان، وإعلاء البنيان، والتصدي للعدوان محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا هو إيمان لا يدانيه إيمان.. فلا تستمعوا لمروجي الفتنة والوقيعة، ودعاة التفرقة، ومطايا الجهل، وضيق الأفق، والإقليمية، والطائفية، والفئوية، والتبعية للغرب بشقيه.. ولا تستمعوا لهؤلاء الذين لا يريدون بسوريا خيرًا؛ فتندموا ولاتَ حين مندم، واربأوا بأنفسكم، وأشيحوا بوجوهكم عن جاهل، أو كاذب، أو ضالع في المؤامرة عليكم وعلى وطنكم، ولا تستمعوا لإعلامي مأجور كاذب يهرف بما لا يعرف، ويرضى لنفسه أن يكون جزءًا من المؤامرة الدنيئة على كل أرض العرب، إعلامي يروج للفتنة، ويحاول الإساءة لسوريا، فقط لأنها آخر قلاع العروبة، ولأنها راعية الثوابت والمبادئ والممانعة والمقاومة، والقيم العربية الأصيلة، ولأنها رمز عزة العرب، وأمل لبنان وفلسطين والعراق وكل أقطار العرب من محيطهم الهادر إلى خليجهم الثائر.. وإياكم أيها السوريون والعبث بوطنكم؛ فالبناء صعب، والهدم والتخريب سهل، لا تهدموا وطنكم، ولا تكونوا عونًا لعدوكم وعدونا في تخريبه.. واعلموا أننا نعرف ما لا تعرفون عندما يتعلق الأمر بحجم المؤامرة التي تستهدف سوريا أرضًا وشعبًا وهُوية ومؤسسات وحضارة وعروبة، إننا نحب سوريا كما تحبونها، وإننا نعلم أبعاد ما يراد بها، وأبعاد ما يراد بلبنان، وما يراد بفلسطين، وما يراد بأمة العرب، وبأرض العرب من المحيط إلى الخليج.. وإذا كان قدركم في سوريا أن تكونوا آخر قلاع العروبة، وإذا كان قدركم أن تعملوا أولاً على حماية البلاد السورية، وتحصينها ضد العدوان، وعلى وحدة أمة العرب انطلاقًا من الوحدة المصرية السورية، وإذا كان قدركم أن تكونوا العرب في زمن التخاذل العربي، والضعف العربي، والعجز العربي، والهوان العربي، والعار العربي والتبعية العربية للغرب بشقيه، فثقوا أن هذا مدعاة عز وفخار، ومدعاة إحساس بالعظَمَة، وشعور بالوفاء والانتماء والكبرياء، لأنكم العرب الشرفاء الأوفياء، ولأنكم العرب الأباة الأحرار في أزمنة الردة والانبطاح والعار.

   أيها السوريون.. رويدكم!! إذا كان هؤلاء الذين يدّعون الحرص على سوريا، ويطالبون بالثورة على الأوضاع فيها بحجة الإصلاح والتغيير، وبحجة تخليص المواطن السوري مما هو فيه، وإذا كان هؤلاء الذين يشهرون سكاكينهم في وجه المواطن، ويشهرون سيوفهم ومُداهم ومسدساتهم في وجوه الآمنين بدعوى إنقاذ البلد والمواطن، وبدعوى تخليص الوطن والمواطن من هذا النظام؛ فإننا نقول لكل هؤلاء إنكم مكشوفون، وإنكم كاذبون، وإنكم من الذين اصطنعهم الغرب، واصطنعهم كل أعداء العرب، وأنتم تعرفون ذلك جيدًا، من أجل ضرب سوريا، ومن أجل ضرب العروبة في سوريا، ومن أجل ضم سوريا إلى قائمة الأقطار التابعة الراكعة للاستعمار، ولكل أعداء العروبة والإسلام.. وإذا كان أولئك الأدعياء الحاقدون المأجورون الذين يناصبوننا العِداء هم من أدوات الغرب وحلفائه وأعوانه على كل أرض العرب، فإننا نسأل هؤلاء الأدعياء المشبوهين المتآمرين : متى كان الغرب حريصًا على أمة العرب في كل أقطارها؟ أليس الغرب من مزّق هذه البلاد؟ أليس الغرب من أهلكَ الحرث والنسل والعباد في هذه البلاد؟ أليس الغرب من انتزع فلسطين من بين أقطار العروبة؟ أليس هو من شرّد أهلها؟ أليس هو من كان وراء نكبات العرب والمسلمين في السودان وباكستان وأفغانستان والعراق وسائر أقطار المغرب  العربي والمشرق العربي أيضًا؟ أليس الغرب هو الطامع دائمًا في كل ثروات العرب على كل أرض العرب؟ ألا يتقاسمها مع ألد أعداء العروبة وألد أعداء الإسلام؟ ألا يتقاسمها أيضًا مع ألد أعدائها من شِرار أبنائها وسفهائهم الذين ناصبوها العِداء مذ كانوا؟ وإذا كانت كل هذه الحقائق صحيحة.. وهي كذلك، فماذا تقولون أيها السوريون في هؤلاء الذين يريدون أن يبيعوكم لهؤلاء؟ ماذا تقولون في هؤلاء المأجورين الذين يتسترون بالديمقراطية المزعومة الزائفة لبيع سوريا إلى أعداء العروبة؟ ماذا تقولون في هذه الديمقراطية المزورة التي قد تأتي بتابع للغرب ينفذ سياسته، ويحكم بالإعدام على مصير أمة ومستقبل شعب؟ ماذا تقولون في كل عملاء الغرب الذين يحاولون أن يفتكوا بالأمة العربية، وأن يصادروا قرارها، وأن يجعلوا من سوريا قاعدة لكل هؤلاء الأعداء فيها يسرحون، وفيها يمرحون، وقد سيطروا على هذا القطر، وسيطروا بالتالي على كل جزيئاته وأجزائه ومكوناته وسياساته؟ وإننا نرى أيضًا فيما نرى أن الموت سيكون في انتظار كل من يتجرأ على سوريا، وعلى كل أرض العرب، بعد أن يلفه العار، وبعد أن يبوء بخزي الدنيا والآخرة.

    أيها السوريون! هذا وطنكم فاصنعوه، وهذه بلادكم تناديكم فلبوا النداء.. إن إخوانكم في لبنان وفي فلسطين، وفي كل بلاد العرب ينادونكم ويهيبون بكم أن تقفوا إلى جانب وطنكم، وإلى جانب كل أحرار العرب، وكل شرفائهم في سعيهم الدائب لتحقيق الكرامة العربية والعزة العربية، فكونوا عند حسن ظن أمتكم بكم، وكونوا سند هذه الأمة العربية، وسند شعبكم الواحد في لبنان وفلسطين؛ فأنتم أنتم العرب.. أنتم أنتم المنتصرون.. أنتم أنتم فرسان هذه الأمة، وأملها الكبير في النصر والتحرير.

    

 

الخميس، ١٩ أيار ٢٠١١

عائد إلى يافا..

متابعات      

 

عائد إلى يافا..

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    ليس هذا عنوان قصة قصيرة يحلمُ فيها قاصٌّ بالعودة إلى يافا، أو يبدي فيها إصراره على العودة إليها مهما طال الزمن، وليس هذا عنوان مقال سياسي يردُّ فيه كاتبه على أوهام أولئك الذين يصرون على إلغاء حق عودة الفلسطيني إلى أرض وطنه الذي هجِّرَ منه، وأُرغمَ بقوة النار والحديد على العيش بعيدًا عنه.. ولكنه جمع بين هذا وذاك، كما جمع بين الحقيقة والخيال، وبين روعة القصة والحكاية، وعنفوان المقال، وسحر البيان، على الرغم من أنه عنوان لأمر جرى يوم الخامس عشر من أيار في الذكرى الثالثة والستين للكنبة، عندما تمكن شاب عربي فلسطيني من اختراق "الحدود" والوصول إلى مسقِط رأس آبائه وأجداده، ورؤية يافا، وتنشُّق عبيرها، والسير في شوارعها قبل أن يختتمَ رحلته المثيرةَ هذه، لتكون حديث الدنيا بأسرها، وحديثي هنا أيضًا، معتقدًا أن هذا من أبسط حقوقي ما دمتُ واحدًا من أهل هذه الدنيا، وما دمت واحدًا من محبي الحق والعدل والحرية والسلام العادل في هذا العالم، وما دمت واحدًا ممن تستهويهم مثل هذه الأحداث التي تقف شاهدًا على ظلمٍ تاريخي وقع، وعلى إصرار شعبي جماهيري عربي فلسطيني دوْلي لرفع هذا الظلم.

  على الرغم من كل ما كان يجري في منطقة مارون الرأس في الجنوب اللبناني، وعلى أرض الجولان العربي السوري، وسط ضجيج آلاف الحافلات والسيارات التي تُقِلُّ عشرات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين إلى تلك المناطق لإحياء ذكرى النكبة، ووسط ضجيج عشرات الآلاف من الشيوخ والشباب والأطفال، وصيحات النساء تردِّدُها السهول والجبال والوديان، مطالبة بالعودة إلى البيت والدار والوطن، وعلى الرغم من قعقعة السلاح الذي يفتكُ بهذه الجُموع.. على الرغم من هذا كله، فقد تمكن هذا الشاب العربي الفلسطيني (حسن حجازي) وعدد من رفاقهِ ربما، من النفاذ من هذا المشهد، واختراق هذه "الحدود" التي اصطنعها هؤلاء منذ ثلاثة وستين عامًا، فقد وصل حجازي إلى يافا مدينة الآباء والأجداد، قبل أن يضع نهاية رحلته هذه، وقبل أن تستضيفه "القناة العاشرة الإسرائيلية" في مساء ذلك اليوم.

   وعلى الرغم من أنني أكاد أسمع من مكاني هذا، وأكاد أرى أيضًا من يتهامسون مشككين في صدق ما جرى، ومشككين في دلالاته ومعانيه إن هو جرى، ومقدمين التفسيرات المُحبِطةَ لما جرى، وعلى الرغم من كل فلسفات المهزومين، وهلوَسات المأزومين المأفونين، وتفسيرات الضالين المضلين، إلا أنني سأُعرِضُ عنهم، وسأستمر في القول، متابعًا حديثي في هذا الذي جرى، موجِّهًا استنتاجاتي إلى كل من يعنيهم الأمر، مشيرًا إلى ما في هذا الحدث من معانٍ ودلالاتٍ نحن في مسيس الحاجة إليها، كي يزداد المؤمنون إيمانًا، وكي يثوب المرتدون واليائسون إلى صوابهم ورُشدِهم، وكي يدرك كل أولئك وهؤلاء أنه لا يصحُّ إلا الصحيح، وأنه لا حل بدون عدل، وأن في هذه الدنيا متسعًا لكل الناس، وأن يومَ المظلومِ على الظالم أشدُّ من يوم الظالم على المظلوم، وأن على من يريد العيش باحترام أن يحترم نفسه، وأنه على الباغي تدور الدوائر، وأن مع العسرِ يسرًا، وأن الناس جميعًا لآدم، وأن آدمَ من تراب.

   على رأس دلالات هذا الحدث أن الشعوب لا تنسى ما حدث، وأن الناس قد يلوذون بالصمت، وأنهم قد لا يكثرون من الكلام لهذا السبب أو ذاك، ولكنهم يقينًا لا يستسلمون، وأنهم يقينًا لا ينسَوْن، بل يذكرون، وهم يقينًا ينتظرون اللحظة التاريخية كي يصنعوا التاريخ كما يفهمونه، وكما يحبون أن يكون.. وعلى رأس هذه الدلالات أن الحكيم هو من لا تغرُّهُ الدنيا كثيرًا أو قليلاً إذا أقبلت عليه، وأدبرت عن غيره، أو أقبلت على غيره، وأدبرت عنه، لعلمهِ أن الأيام دُوَل، وأن الحرب سجال، وأن الدنيا كرٌّ وفرٌّ، وأنها لا تؤخذ إلا غِلابًا، وأن العاقل هو من يحسنُ إلى خصومه قبل أنصاره وإخوانه وأعوانه، فقد يصبحُ الخصمُ صديقًا، وقد يصبح الأنصار والإخوان والأعوان ألدّ الخصام.. ليس هذا فحسب، بل إن العاقل هو من يتجنَّبُ الإساءة إلى الناس وهو في قمة قوتهِ، كي لا يسيء إليه الناس في ساعات ضعفه وهوانه ومذلته.. لا قوة دائمة، ولا ضعف دائم، والعاقل من فهمَ هذه المعادلة، ووضعها في اعتباره، وصدرَ عنها في فعله وردِّ فعله طوال الوقت.

    أقول هذا وأنا أسمع من تأخذهم العزة بالإثم، فيسرحون ويمرحون ويبطَرون ويحلّلون ويحرّمون كما يريدون، وكما تريد لهم أهواؤهم.. إنني أرثي لحال هؤلاء الذين يستمرئون الظلمَ ويستسيغون البغيَ، ولا يردعهم عقل، أو عاطفة، أو فكر، أو ثقافة، أو خلُقٌ عن ظلم الناس، والإساءة إليهم، وجرحِ مشاعرهم، واغتصاب حقوقهم، والتحكم بمصائرهم.. وأقول هذا، وأنا أرى أيضًا من ارتضَوا لأنفسهم أن يكونوا عونًا لهؤلاء لقاء عرَضٍ زائل، ومكاسب رخيصةٍ لا تغني عن الحق شيئًا، ولا تردُّ عنهم شيئًا من لعنات اللاعنين، ونظرات الازدراء التي يلاحقهم بها الناس أينما حلّوا، وحيثما توجّهوا.. وأقوله وأنا لا أبغي سوى الإصلاح، ولا أريد إلا أن يعيش الناس كلُّ الناس بأمنٍ وأمان ومحبة وتسامح، وأقوله مؤمنًا كل الإيمان بأن الظلمَ مرتعهُ وخيم، وأن الشعوب إذا هبّت ستنتصر، وأن بإمكانها أن تفعل ما تريد، وأنه لا يصحُّ في نهاية المطاف إلا الصحيح، وان العودة الظافرة آتية لا ريبَ فيها، وأن الحق أبلَج، وأن من سلَّ سيفَ البغي قُتِلَ به، وأن العاقبة للمتقين.

     ليس هذا فحسب، بل لا بدَّ لي في موقفٍ كهذا، وفي مناسبةٍ كهذه إلا أن أكررَ ما سبق أن قلته بكل الوضوح، وبدون أدنى لفٍّ أو دوران، وبملء القناعة والإيمان، والفمِ "المليان" من أن السلام العادل المتكافئ المشرِّف الذي يعيد الحقوق إلى أصحابها هو الضمانة الوحيدة للأمن والسلم الدَّوْلي والإقليمي، وهو الركيزة الأكيدة للأمن والأمان والاستقرار والرِّفاء في هذه المنطقة المتوترة المتفجِّرة من العالم.

19\5\2011

السبت، ١٤ أيار ٢٠١١

إن لم يكن ما جرى آنذاك نكبةً، فماذا نسميه ؟؟

متابعات           

في الذكرى الثالثة والستين للنكبة

إن لم يكن ما جرى آنذاك نكبةً، فماذا نسميه ؟؟

 

أ.عدنان السمان       

www.samman.co.nr

      لست أدري لماذا يصرون على أن نلبس ثيابهم ، وأن نتزيّا بزيّهم، ونعتنق مبادئهم وأفكارهم ، ونتبنى ثقافتهم وفلسفاتهم دون أدنى اعتبار لثقافتنا وتاريخنا وآدابنا وأفكارنا ومعتقداتنا ، ودون أدنى اعتبار لمقومات وجودنا ، ومكونات شخصيتنا ، ودون أدنى اعتبار لحقنا المطلق المشروع في العيش الآمن الحر الكريم في ديارنا هذه ، بل في وطننا هذا وطن الآباء والأجداد مذ كانت الدنيا، ومذ كنا ، ومذ كانت الحياة على هذه الأرض منذ فجر التاريخ !!

     إنهم  يصرّون على أن ما حدث في ذلك اليوم لم يكن نكبةً، ولم يكن كارثةً ، ولم يكن مأساةً ، ولم يكن يومًا أسود شُرِّدَ فيه شعبنا العربي الفلسطيني ، واقتُلع من أرض وطنه ، وهام على وجهه في الآفاق متشردًا تحت كل سماء ، هائمًا تحت كل كوكب .. وإذا لم يكن ذلك الذي جرى ( في مثل هذا اليوم قبل ثلاثةٍ وستين عامًا ) نكبةً فماذا نسميه ؟ أنسميه يومًا للفرح والبهجة والسرور ؟ أنسميه عيدًا للحريةِ والانعتاق والانطلاق والحبور؟ لقد كان ذلك اليوم أكثر من نكبةٍ.. لقد كان إقصاءً وتشريدًا لشعبٍ عن وطنه ، وكان إحلالاً للآخرين فيه ، وكان بدايةً لصراع من الصعب أن يتوقف إلا بعودة هذا الشعب الى وطنه حرًّا عزيزًا سيدًا كما كان . 

  لا نريد في هذه الذكرى الثالثة والستين للنكبة التي عصفت بنا في العام الثامن والأربعين من القرن الماضي أن نلطم الخدود، ونشق الجيوب على الرغم من كل ما تعرض له هذا الشعب منذ تلك الأيام، ولا يزال.. ولا نريد في هذه الذكرى أن نطيل الوقوف على الأطلال والآثار والمرابع التي كانت، ثم زالت وأمّحت من الوجود على الرغم من كل موجبات ذلك من المشاهد والذكريات التي تتفطّر لهولها الأفئدة، ويشيب لأهوالها الولدان.

    ولا نريد في هذه الذكرى أن نستسلم للأوهام والأحلام، وأن نُخدع بمعسول الحديث، وحلو الكلام، لأن من شأن ذلك أن يقذف بنا إلى قوارع الطرق، ومذلة الأرصفة ومهالكها، وإلى كوابيس المخدرات وكوارثها، وآثارها المدمرة على الجسد والروح.. والعيش بالتالي على التهيؤات والهلوسات، واضطرابات الرؤية والرؤيا، وعمى البصر والبصيرة، وسوء تقدير العواقب والأمور، والخلط بين الأقوال والأفعال، وفقد الصلة بين الأسباب والمسبّبات، وبين الأسماء والمسمَّيات، والواقع القاتم القائم، والماضي الرائع الذي كان!!

    نريد في هذا اليوم أن نتفاءل، وأن نستعيد الثقة بالنفس، ونحن نستعرض مسيرة هذا الشعب العربي الفلسطيني منذ عام النكبة وحتى يومنا هذا.. نتفاءل ونحن نقول: إن عدد العرب الفلسطينيين في الدولة العبرية اليوم يرتفع إلى مليون ونصف المليون، بنسبة مقدارها عشرون بالمائة من عدد السكان، بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا في عام النكبة ذاك.. برغم تدمير(531) خمسمائة وإحدى وثلاثين قرية عربية، وبرغم ارتفاع عدد المهجّرين على أرض وطنهم هناك إلى (280.000) مئتين وثمانين ألف مهجَّر، ليصبح عدد من يعيشون في قراهم ومدنهم (1.220.000) مليونًا ومئتين وعشرين ألفًا.. صحيح أن نصف هذه الأقلية العربية الفلسطينية في وطنها تعيش تحت خط الفقر، وأن خمسة بالمائة منهم فقط يعملون موظفين حكوميين معظمهم في جهاز التعليم، وأن هنالك(45) خمسًا وأربعين قرية غير معترف بها في النقب وحده، يفتقر سكانها لأبسط متطلبات الحياة العصرية ومستلزماتها، وأن (62%) اثنين وستين بالمائة من سكان تلك الدولة غير العرب لا يرغبون في وجود هذه الأقلية بينهم، ويطالبون بترحيلها كي يتحقق لهم مبدأ يهودية الدولة الذي أصبح أمرًا معلنًا، وشرطًا مسبقًا لمجرد الموافقة على الحديث في بحث موضوع فلسطينيي العام سبعة وستين!!... ولكنّ كل هذا لا يمنع من القول إن هذه الأقلية متمسكة بوطنها، متشبثة بأرضها، واعية على أبعاد  ما يراد بها، تواصل العمل بكل همة وعزيمة وإصرار من أجل تحسين أحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية والقانونية، ومن أجل النهوض بهذه الأحوال، وعلى كافة المستويات و الصعد بما يعزز بقاءها ووجودها الفاعل على أرض وطنها.

    كما نريد في هذا اليوم أن نتفاءل، وأن نستعيد الثقة بالنفس ونحن نقول: إن عدد العرب الفلسطينيين في ( الضفة الغربية) يبلغ اليوم مليونين ونصف المليون، منهم (875.000) ثمانمائة وخمسة وسبعون ألف لاجئ ومهجَّر يعيشون في (19) تسعة عشر مخيمًا، و(1.725.000) مليون وسبعمائة وخمسة وعشرون ألف مواطن.. وإن عدد اللاجئين والمهجَّرين في قطاع غزة يبلغ اليوم(1.125.000) مليونًا ومئة وخمسة وعشرين ألفًا يعيشون في (9) تسعة مخيمات، وإن عدد بقية المواطنين هناك يبلغ(375.000) ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألفًا.. ليصبح عدد المواطنين العرب الفلسطينيين داخل فلسطين التاريخية (5.600.000) خمسة ملايين وستمائة ألف مواطن ومواطنة... لا أحد ينكر أن الغالبية العظمى من هؤلاء المواطنين تعيش حياة صعبة جدًّا، وأن كثيرًا من مواطني (الضفة الغربية) ولا سيَّما فئة الشباب والخريجين يغادرون هذه المنطقة للعمل في أي خارج يُتاح لهم، وأن مصادرة الأرض، وبناء المستوطنات، والإمعان في إجراءات العزل والمضايقة والتجويع وبناء الجدار تُجرى على قدم وساق... ولكن لا أحد ينكر في الوقت نفسه أن هذه الملايين التي تعيش هنا على أرض الوطن تشكّل عائقًا بشريًّا يقف بقوة أمام الخطط والمخططات، وسدًّا منيعًا أمام كل إجراءات التهويد، ووضع اليد على مقدَّرات هذا الشعب المتشبث بأرض وطنه بدون حدود.. إن أحدًا لا يمكنه أن يقلل من الأهمية البالغة لهذه الملايين من العرب الفلسطينيين على أرض وطنها.. إنها قضية تريد حلاًّ.. ولا بد للمجتمع الدولي أن يقدم الحل لأنه الذي صنع المشكلة، وأوجد بالتالي هذه القضية.. ولا بد لهذا الحل أن يكون عادلاً ومقنعًا يعيد الحقوق إلى أصحابها كي يُكتب له النجاح.. وإلا فإن القضية ستبقى قائمة تبحث عن حل، وستبقى في الوقت نفسه بجذورها وفروعها وتراكماتها ومستجداتها مصدر قلق وتوتر واضطراب لهذا المجتمع الدولي الذي يجب أن يجد حلاًّ عادلاً مقنعًا لمشكلة من صنع يده.

    إنه، وفي مثل هذا اليوم الذي نستعرض فيه مسيرة هذا النصف المقيم على أرض الوطن من شعبنا العربي الفلسطيني، ليجدر بنا أن نشير إلى نصفه الثاني الذي يقيم منذ عام النكبة في الأقطار العربية المجاورة لفلسطين، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عدد الفلسطينيين في هذه الأقطار قد بلغ(3.400.000) ثلاثة ملايين وأربعمائة ألف فلسطيني في لبنان وسوريا والأردن، وأن عدد الفلسطينيين في باقي الأقطار العربية، وغيرها من دول العالم قد ارتفع إلى مليونين، ليصبح عددهم خارج أرض الوطن (5.400.000) خمسة ملايين وأربعمائة ألف فلسطيني .. وبذا يكون تعداد هذا الشعب اليوم أحد عشر مليونًا بالكمال والتمام .

    ولسوف يتضاعف تعداد هذا الشعب خلال السنوات العشرين القادمة، ولسوف تتضاعف أعداد أطبائه ومهندسيه ومحاميه وصيادلته ومعلميه ومثقفيه ومفكريه وإعلامييه وصحافييه وعماله وتجاره ورجال أعماله، ولسوف تتضاعف أيضًا أعداد محبيه ومؤيدي قضيته العادلة من أبناء الشعوب الشقيقة والصديقة في هذا العالم.

    إننا، وبالرغم من كل هذه الإيجابيات التي يراهن عليها شعبنا، ويعقد عليها آماله في تحقيق الأهداف والطموحات والآمال، وبالرغم من إيماننا المطلق بحتمية انتصار قضايا الشعوب العادلة على مر العصور، وتعاقب الأجيال والدهور، منذ فجر التاريخ، وحتى يومنا هذا، وبالرغم من إيماننا بحتمية انتصار قضية شعبنا في نهاية المطاف، لأنها واحدة من قضايا الشعوب العادلة التي انتصرت، ولأن خلفها شعبًا مُؤمنًا تسلح بالعزيمة والإرادة والإصرار.. إلا أنه لا بد من الإشارة بمرارة وألم إلى مواقف أولئك الذين يتنكرون لحقوقنا الثابتة المشروعة في بلادنا، وعلى ثرى أرضنا الطهور، ولا بد من الإشارة إلى هذه النوايا السيئة التي أصبحوا يظهرونها تجاهنا علنًا، ويجاهرون بها صباح مساء، ولا بد من الإشارة إلى كل هذه الممارسات التي تستهدف حصارنا، وتجويعنا، والتضييق علينا، وحشرنا في هذه المعازل والمعتقلات الصغيرة والكبيرة، وتجريدنا من أبسط حقوقنا في الحياة والحرية والتقدم والرِّفاء!!

    هل نسي هؤلاء حقيقة أننا أصحاب هذه الأرض مذ كانت؟ وهل نسي هؤلاء أننا شعب عريق أصيل حفر بصماته بقوة على جدار الزمن منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها؟ وهل نسي هؤلاء أننا ننتمي لخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله؟ وهل نسي هؤلاء أننا شعب طيب متسامح محبٌّ للآخرين، محبٌّ للحق والعدل والحرية والسلام، وأن العيش معنا وبنا، وإلى جوارنا، وفي كنفنا أمر ممكن إذا لم نُظلم، وإذا لم نُستفزّ، وإذا عاملنا الآخرون بما نحن أهله من احترام؟

    إننا في هذا اليوم الزاخر بالحوادث والأحداث والمشاهد والذكريات المؤلمة الحزينة والرؤى والأخيلة والخيالات المتصارعة المتشابكة المتقاطعة التي تعصف عصفًا بهذه الذاكرة التي مزقتها الأحداث، وأدمتها الخطوب والكوارث والأهوال .. إننا في هذا اليوم الذي نقف فيه خاشعين ونحن نحيي فيه ذكرى شهدائنا الذين سقطوا منذ عام النكبة، وعلى امتداد عهد الانتداب البريطاني، وحتى يومنا هذا، ونحيي فيه ذكرى أسرانا الذين أضاءوا السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف بنور إيمانهم ويقينهم على مر الدهور، وتعاقب العصور... إننا في هذا اليوم الذي نختزل فيه التاريخ كله، ونختزن فيه الآلام والفواجع والكوارث والنكبات كلها، لنَمدّ أيدينا مصافحين كل المؤمنين بضرورة بناء سلام عادل دائم شريف متكافئ في هذه الديار.

      لقد قالوا منذ ثلاثةٍ وستين عامًا إن أقلية قد هزمت أكثرية ، وقلنا إن هذا ليس صحيحًا ، وإن تلك الأقلية التي تتحدثون عنها كانت بمن معها، وبما امتلكت يومها من وسائل القوة هي الأكثرية ومع ذلك فإنها لم تهزم تلك "الأكثرية " التي تتحدثون عنها ، والدليل كل هذه الممارسات التي تُرتكب ضدها منذ تلك الأيام حتى هذا اليوم ... والدليل أيضًا أن كل هذه الممارسات والمخالفات الصريحة لكل الشرائع والقوانين والأعراف ، وكل هذه التجاوزات, وإشعال الحرائق ,والملاحقات ,والمداهمات, والمؤامرات ، والمخططات ، والتحالفات لم تسفر ، ويبدو أنها لن تسفر ، أو على الأقل من الصعب جدًًّا أن تسفر عن تحقيق شيء مما في تلك الرؤوس ، ومن هذا الذي يضطرم في تلك النفوس ... ولو كانت تلك الأقلية التي يتحدثون عنها قد هزمت أحدًا لكانت الأمور على غير هذه الصورة ، ولكانت الحال غير الحال ، ولحقّقت تلك الأقلية أهدافها في السيطرة والاستقلال وراحة البال .

      وقالوا يومها إنهم يستعيدون حقًّا تاريخيًّا، وقلنا إن هذا أيضًا ليس صحيحًا ، وبغض النظر عن قضية السبق التاريخي ، وعن الجذور التي تضرب في أعماق الأرض منذ فجر التاريخ ، فإن هذا الزعم لا يكفي ، ولا يشكّل أساسًا سليمًا لواقع جديد ، ولو كان الأمر كذلك لكان من حقنا أن نعود إلى أقطار كثيرة في شرق الدنيا وغربها عشنا فيها، وعمرناها ، وبنينا فيها حضارات لا تزال قائمة ماثلة للعيان شاهدة على عظمتنا حتى اليوم ، دون أن تنجح هندسة على تقليدها ومحاكاتها ، ودون أن تنجح هذه الطبيعة بقضها وقضيضها من النيل منها ، بل إن تعاقب العصور، وكر السنين والدهور لم يزدها إلا عظمة وقوة وشموخًا .. إنها شاهد على قوة مبدعيها وعظمتهم ,فالصنعة دليل على الصانع ، والصانع العظيم يُعرف مما صنع ...وبغض النظر أيضًا عن هذا وذاك فقد قلنا وقالت الدنيا كلمتها بحق من اقتُلعوا وهُجّروا ، وبوجوب عودة الأمور إلى نصابها ، والمياه إلى مجاريها ، وبوجوب عودة الحق إلى نصابه، والسيف إلى قِرابه ، والأسد إلى عرين غابه، ولكن شيئًا من هذا لم يحدث حتى اليوم .

    وقالوا إننا عدوانيون لا نجيد إلا الصراخ، وافتعال الأزمات ، وصناعة المعضلات والمشكلات ، وقلنا إن هذا الزعم مخالف للتاريخ ، مجافٍ للواقع ... ليس قولهم هذا صحيحًا لأننا الذين صنعنا علم الكلام ، وعلم المنطق ، وعلوم البيان والبديع والبلاغة وعلوم اللغة،ونهضنا بعلم الفلك والكواكب والنجوم والجغرافية والهندسة والرياضيات والطب والصيدلة والكيمياء والفيزياء ، ووضعنا أكبر ثروة في الفقه والتشريع والآداب في تاريخ البشرية ، وأقمنا صرحًا للمبادئ والقيم والمثل العليا والأخلاق والمحبة والرحمة والتضامن والتعاطف والمودة والإحسان والتسامح والرفق بالحيوان هو الأول من نوعه في تاريخ الإنسان .

    وقال بعضهم في مثل هذا اليوم من ذلك العام إننا شعب صحراوي ، وإلى الصحراء لا بد أن نعود !! وقول هذا البعض ينطوي على قدْر هائل من المغالطة والعدوانية والاستعلاء ... صحيحٌ أننا أخذنا من جِمال الصحراء قوتها وصبرها وشدة احتمالها ، وصحيحٌ أيضًا أننا أخذنا من الصحراء صفاء سمائها ، واتساع آفاقها ، وروعة واحاتها ، ووضوح الرؤية، والحذر ،والاهتداء بالكواكب والنجوم ،والتمرس بحياة الخشونة والفروسية والشجاعة عند مواجهة حيواناتها ،والسير في خلواتها ... ولكن صحيحٌ أيضًا أننا أبناء سهول وجبال وشواطئ وبحار وأنهار عرفتنا وعرفناها منذ أن خلق الله هذه الأرض ومن عليها .. لقد دانت لنا الدنيا .. وكنا سادة العُصُر !! هذه ليست شوفينيّة قوميّة متعصبة ، ولكنها الرد على من يريد أن يقذف بنا إلى الصحراء !!

    كلمات في ذكرى النكبة فرضت نفسها ، فزفرتُها كي لا أختنق بها .. عبراتٌ أذرفها في مثل هذا اليوم من كل عام ، ودمع شرقتُ به حتى كاد يشرق بي في هذا الصباح الذي نرجو أن يكون نهاية التشرد والتشتت والضياع بعودة الحقوق إلى أصحابها في ظل سلام عادل دائم مقنع مشرف لا غالب فيه ولا مغلوب ... سلام عادل لا يُظلم فيه أحد ، ولا يبغي فيه إنسانٌ على إنسان  في هذه المنطقة المتفجرة من العالم.

(15/5/2011)