عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ٢٧ كانون الثاني ٢٠٠٩

 

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

9.                الحمار     بقلم :عدنان السمان

www.samman.co.nr

الحمار 

    رأيته منذ أيام مكتئبًا مهمومًا شاحب الوجه يحاور بهدوء شابًّا يبيع التين في ذلك الصباح.. اقتربت منهما، وعلى وجهي علامات الدهشة، فصديقي لا يستوقف أحدًا، ولا يحاور أحدًا.. فما الذي يحدث؟

    مضى الشاب لشأنه، ونظر إليّ الصديق نظرة المنتصر.. وقال وهو يضغط على كل حرف من حروف كلماته الموجهة إليّ في ثقة وحزم:

    يبدو أنك ستبقى هكذا على تفاؤلك الشديد.. وإيمانك الراسخ بحتمية انتصار الشعوب على الرغم من كل ما يجري من حولك في كل يوم، بل في كل ساعة..

    قلت: لا أفهم شيئًا مما تقول.

    قال: بل تفهم، ولكنك تتجاهل الموضوع جريًا على قديم عادتك التي أعرفها جيِّدًا.

    قلت: الموضوع؟ أي موضوع يا رجل؟ أقسم أنني لا أفهم شيئًا من طلاسمك هذه في هذا الصباح الملتهب!

    قال: أتريد أن تفهم.

    قلت: سأحاول!

    قال: أتدري أيها المحترم من الظالم ومن المظلوم؟

    قلت: أتتحدث عن ذلك الشاب وحماره؟

    قال: لا

    قلت: أتقصد الرعاة والرعايا؟

    قال: لا

    قلت: إذن تريد الخوض في موضوع القاتل والضحية.

    قال: لا.. ألم أقل لك إنك تحاول استفزازي؟ اسمع أيها الصديق المحترم:

    عندما يريد الناس تحقير أحد يقولون – مع الأسف – إنه حمار.. إنني أسمعها في اليوم مئات المرات.. وأعتقد أنهم مخطئون في هذا، بل ويسيئون إلى الحمير لأن ذلك "الإنسان" الذي يريدون تحقيره هو في الحقيقة دون مستوى الحمار بكثير، وإن تشبيهه بالحمار فيه ظلم كبير للحمار الذي يستحق يومًا يكرَّم فيه أسوة بغيره يسمىّ عيد الحمار العالمي.. كما أن فيه تشريفًا لذلك الإنسان.. فمن الظالم هنا ومن المظلوم؟ أفهمت الآن؟

    قلت: إنني أحاول، ولكن زدني..

    قال: أخبرني بائع التين أنه أمضى في السجن عشر سنين عندما اعتُقل وهو في المرحلة الإعدادية، وأنه خسر مستقبله لأنه رفض أن يتخلى عن مبادئه...

    قلت: أكان ذلك بسبب حمار؟

    قال: لا أيها المحترم، ولكن بسبب صديقه.

    قلت: أتقصد صديق الـ ...

    قال: بل صديق بائع التين.. صديقه الذي رآه وهو يخفي "الممنوعات" آنذاك بين التين وغيره من البضائع المحمولة على ظهر الحمار.. فكان سبب نكبته، ودخوله السجن، والقضاء على مستقبله... غريب أمرك يا أخي.. ألا تعلم بعد كل هذه السنين التي طويتها، والتجارب المريرة التي خضتها أن من الخطأ الفادح تشبيه كثير من الساقطين بالحمير والكلاب والحشرات.. لأنهم دون ذلك بكثير.. هل رأيت حمارًا يخون صاحبه أو غير صاحبه؟ وهل رأيت كلبًا يتخلى عن صديقه أو يغدر به؟ وهل رأيت تيسًا يهرب من مواجهة خصمه حتى لو رأى الموت رأي العين؟ الخونةُ، واللصوص، وقطّاع الطرق، والمغرورون التافهون، والكذّابون، والمنافقون، والقتلة، والمعتدون، والمجرمون، والقوّادون، ومرتكبو الصغائر والكبائر جميعهم من هؤلاء البشر الذين أراك تجاملهم باستمرار، وتعلّق عليهم أكبر الآمال، وتثني عليهم الثناء العطر.. وهم في واقع الأمر ليسوا أكثر من حشرات سامة، أو زواحف قاتلة إذا جاز لي أن أستعمل أسلوب التشبّه والتشبيه... وإذا افترضتُ أن هنالك أسوأ من هؤلاء في البر والبحر وحتى في المياه العادمة، والبرك الراكدة، والمستنقعات الآسنة... يجب أن تعترفوا (أيها المتفائلون) أن هؤلاء الناس الذين تعلّقون عليهم الآمال الكبيرة هم أدنى المخلوقات، وأسوأها في هذا الكون.. وليس من حق أحد منكم أن يسيء إلى الحمير والكلاب والقِرَدة بعد اليوم..

    قلت: هوّن عليك يا عزيزي، واعلم أنك تظلم نفسك، وتظلمني بهذه السّهام التي توجهها إلى صدري في هذا الصباح، وذلك:

1.      لأنني لا أستعمل الكلمات المشار إليها إلاّ في مواضعها استعمالاً حقيقيًّا لا مجازيًّا... ولا أشبّه أحدًا بها.

2.      لعلمي ويقيني أن بعض الحيوانات نافع، وبعضها ضارّ.. وإذا كان التعميم في الحكم على الناس مرفوضًا فهو مرفوض أيضًا في الحكم على الحيوان.

3.   لأن ادعاءك بأنني أعلّق الآمال على تلك "النوعيّات" السيئة من البشر، وأنني أثني عليها الثناء العطر هو ادّعاء باطل.. فأنا أمتدح الصفات الجيدة في الإنسان... أمتدح الإيجابيات، وأثني على المواقف... وأتفاءل لأن الإنسان بطبعه متفائل... وحتى أشد الناس تشاؤمًا هو في الحقيقة إنسان متفائل.... وأما سخريتك من إيماني الراسخ بحتمية انتصار الشعوب فأمر مرفوض، وهو غير مستساغ إذ إن من حق الإنسان أن يشكّل قناعاته كما يشاء... ولا أعتقد أنني المؤمن الوحيد في هذا العالم بحتمية انتصار الشعوب.. وحتى لو كان الأمر كذلك لما تراجعتُ عن هذا الإيمان لأنه حقيقةٌ تاريخية مطلقة... فالشعوب باقية، وأعداؤها إلى زوال.. وكل من يقرأ التاريخ يعرف هذه الحقيقة حق المعرفة، ويؤمن بها كل الإيمان.. والمجال لا يتسع هنا لتقديم الأدلة والبراهين وضرب الأمثلة.

4.   لعلمي ويقيني أيضًا أن الغالبية العظمى من الناس تعاملك كما تعاملها، بمعنى أنك أنت المسئول عن تصرفات الناس تجاهك في معظم الأحيان... وحتى الإنسان السيئ بإمكانك أن تصلحه، وأن تحوله بمرور الزمن إلى إنسان جيد.. وقد توقفه على الحياد.. وقد تفشل محاولاتُك كلُّها.. ويصرُّ السيئُ على أن يبقى سيّئًا وذلك في أحيان نادرة... ولما كان الأمر كذلك فلماذا التشنج والتحامل على الناس، وضيق الأفق، وضحالة التفكير؟؟ لماذا يصرّ بعض الناس على قلب الحقائق، والنظر إلى الأمور كلها بمنظار أسود؟

    صحيح أن الهزائم قد حاقت بنا... وصحيح أن الأيام حُبلى بالأحداث... وصحيح أن الأعداء يحيطون بنا من كل جانب...  وصحيح أن أطماع الطامعين، وأحقاد الحاقدين لا تقف عند حد... وصحيح أن  ألدّ أعدائنا في هذا الخضمّ الزاخر بالأحداث والفواجع والأهوال هم من بني جلدتنا بقصد منهم أو بدون قصد... وصحيح أن سهام الغدر والعدوان تصيب منا مقتلاً في كل يوم، وأن عدونا يضرب المثل الأدنى والأسفل في الخسّة، والنذالة، والعدوان، والطمع، والكذب، والتزوير، وقلب الحقائق.... ولكنْ صحيحٌ أيضًا أننا طلاب حق.. وأننا نعرف جيّدًا ما نريد... وصحيح أيضًا أن مَثَل هذا المجتمع كمثل بركةٍ كبيرة من الماء العذب الصافي، وعلى وجه هذه البركة كثير من الأوساخ والقش والشوائب... فالمتشائم لا يرى إلا هذه الشوائب، والمتفائل لا يرى إلا الماء النقي العذب الصافي بعد تنظيف سطح البركة من الشوائب والأوساخ. وأهم من هذا وذاك سلاح الإرادة الذي تتسلح به هذه الأمة التي ما لانت قناتها، ولا خضعت لغازٍ، ولا ركعت يومًا إلا لله.

    قال: كم أنا سعيد بلقائك في هذا الصباح... لقد أخرجتني من دائرة الشك المظلم إلى نور اليقين الوضّاء.. ولا أنسى أن أشكر صاحبنا بائع التين، وحماره الصابر الأمين.

 

 (2005)

 

 


 

 

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

8.                نابلسيات     بقلم :عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

نابلسيات 

    أبو السعيد رجل في منتصف العمر، طويل القامة، واسع العينين، تبدو عليه ملامح الذكاء، عميق التجارب، حلو الحديث... رأيته مصادفة عند الباب الشرقي للجامع الكبير حيث تنتشر عربات الباعة في هذا الجزء من المدينة... اقترب أبو السعيد مبتسمًا... وضع يدي في يده بهدوء قائلاً: أين أنت يا أخي؟ أبحث عنك منذ مدة.. فأنا في شوق للتحدث إليك... صحيح أنني أنتمي - مثل هؤلاء الرجال جميعًا – إلى الطبقة العاملة التي لم يعد لها وزن في هذه الأيام، ولكنها مع ذلك الطبقة التي تشكل الغالبية الساحقة من سكان هذه المدينة..

    قلت: أنتم الخير والبركة يا "أبو السعيد"..

    قال: اسمعني حتى النهاية.. ثم قرر

    قلت: إني أسمعك

    قال: صحيح أننا جميعًا في هذا الوطن محاصرون، نشكو من سوء الأحوال المعيشية، ولكنني أرى أن هذا الأمر نسبيّ، بمعنى أنه يختلف باختلاف المناطق والطبقات، أو ما يسمونها الشرائح السكانية... نابلس- كما تعلم- محاصرة منذ سنوات حصارًا خانقًا يعرف تفصيلاته القاصي والداني، ولا داعي للإعادة، والشرح المطوّل من جديد... وهذه المدينة التي يعيش فيها أكثر من مئتي ألف إنسان غالبيتهم من العمال لا تستطيع توفير العمل إلا لنسبة ضئيلة من هؤلاء الناس، وهذا يعني أن معظم العمال جائعون... ثم إن الصناعة تكاد تكون معدومة في هذه الأيام.. فوجود المصنع أمر محظور داخل حدود المدينة... وهو أكثر من محظور خارج حدودها بسبب هذه الأوضاع الغريبة التي تأخذ بخناق الناس منذ حين، وبسبب هذه التقسيمات والتصنيفات التي فُرضت على هذا الوطن وإنسان هذا الوطن لأول مرة في تاريخه... ولعدم وجود المناطق الصناعية، وبسبب الدمار الذي لحق بما كان موجودًا منها... وباختصار فإن وضع الصناعة والصناعيين ليس بأفضل من وضع العمل والعمال... بل ربما كان أسوأ... أما التاجر فقد اضطرب وضعه هو الآخر، وأصيبت الحركة التجارية بالشلل بسبب الدمار الذي ضرب الحركة العمالية والصناعية... لقد تحولنا –كما ترى- إلى جيش من باعة الفواكه والخضراوات والمواد الغذائية والملابس الرخيصة، وغيرها!! والسؤال هو: لمن نبيع؟ ومن الذي يشتري؟

    نابلس محاصَـرة منذ سنوات، والأوضاع العامة فيها سيئة لا تطاق... والحياة اليومية للمواطن في تراجع مستمر... والركود الاقتصادي يلقي بظلاله على حياة الناس، ويعصف بأحلامهم وآمالهم وطموحاتهم.. ويدمر كل شيء جميل داخل نفوسهم المكروبة، وأرواحهم الفزعة المستطارة المنكوبة.

    قلت: أوقد شمعة يا صديقي

    قال: ليس عندي شموع!

    قلت: بل عندك.. هات حدثنا عن هذه الحافلات التي ستنقل المرضى من سكان المدينة إلى جنين للعلاج هناك في المستشفى الميداني الأردني.

    قال: نعم.. نعم.. تقصد أولئك الأطباء المتطوعين الذين قدموا إلى نابلس في البدايات الأولى لانتفاضة الأقصى، ولبثوا في المدينة مدة قدّموا خلالها للمواطنين خدمات جليلة، ثم ارتحلوا إلى جنين... سمعتُ في هذه الأيام أن حافلات ستقوم بنقل المرضى (الراغبين في العلاج هناك) من نابلس إلى جنين بشكل منتظم بعد أن يسجلوا أسماءهم لهذه الغاية... هؤلاء الأطباء يعالجون المرضى، ويقدمون إليهم الأدوية، ويجرون الفحوصات والتحاليل الطبية، ويقومون بإجراء كثير من العمليات الجراحية دون أي مقابل... جزاهم الله خير الجزاء... كان حَرِيًّا بنا يا صديقي أن نتمسك بهم هنا في نابلس، وأن نحسن معاملتهم... لكن لا بأس... فجموع المرضى ممن لا يستطيعون دفع تكاليف العلاج في المستشفيات الخاصة، وممن لا يستطيعون شراء الأدوية، أو الانتظار الطويل لإجراء فحص أو تحليل أو رؤية طبيب أو دخول المستشفى الحكومي... أقول جموع المرضى هؤلاء سيبنون جسور الثقة من جديد، وسيعملون من أجل استضافة فريق جديد من الأطباء المتطوعين الأكفياء المؤهلين في نابلس كما كان الأمر في البداية... ولا اعتقد أن الأمر صعب.. فكل شيء ممكن... والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، وللإخوة على الإخوة حقوق ما أجمل أن تُؤدّى!!

    نابلس محاصرة منذ سنوات.. والأوضاع العامة فيها سيئة.. فمن يرفع عنها الحصار؟ ومن يعيد البسمة إلى شفاه الصغار والكبار؟

    قلت: أنتم القادرون على فعل ذلك، انتم يا أهل هذه المدينة، يا عمالها، ويا تجارها، ويا مثقفيها، ويا طلبتها، ويا أبناءها المحبين الملتزمين... أنتم القادرون على رفع الحصار عنها، وأنتم القادرون على إنقاذها مما هي فيه.. وأنتم القادرون عل حمايتها، وتفويت الفرص على كل المتربصين بها وبغيرها من مدن هذا الوطن وقراه ومخيماته.. بعملكم، وصبركم، وصدق انتمائكم، وحسن تصرفكم تستطيعون إنقاذ وطنكم، والارتقاء به في سماء الرفعة والعزة والمجد... وما ذلك على عزمات الرجال بعزيز... وما ذلك على عزمات الحرائر من بنات هذا الوطن الماجدات، وبنات هذه المدينة الباسلات بالأمر الصعب.. هكذا توقد الشموع يا "أبو السعيد".

    قال: لم افهم

    قلت: كن إيجابيًّا.. وكفَّ عن الشكوى، وعن الحديث المعاد، واعلم أن طلب الممكن هو غاية ما يستطيع المرء أن يفعله في بعض الأحيان... وهذا هو مبدأ الحد الأدنى – كما يقولون- فلا بأس يا صديقي إن نحن طلبنا هذا شريطة أن  لا يكون على حساب ثوابتنا ومبادئنا، وقيمنا، وأهدافنا السامية النبيلة.

    قال: وهذا الحديث الذي دار بيننا اليوم بحضور هؤلاء الرجال.. أمام بيت الله هذا هل سيكون من حقنا أن نقرأه في مطبوعة أو كتاب؟

    قلت: أعدكم بذلك... وقد وَفَيت.

 (9/7/2005)

 

السبت، ٢٤ كانون الثاني ٢٠٠٩

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

7.                مقدسي     بقلم :عدنان السمان

www.samman.co.nr

مقدســــــي

  

    في سوق البصل رأيته يتحدث إلى عابر سبيل في مثل سنّه، وما إن رآني حتى أسرع نحوي وعلى وجهه ابتسامة تائهة، بينما يظهر على حذائه وملابسه شيء من غبار السفر...يبدو متعبًا ومضطربًا.."أهذا هو سوق البصل؟" قالها صديقي ربيع بصوت مسموع.

    قلت: نعم.

    قال: ولماذا سميت هذه السوق بهذا الاسم؟

    قلت: لكثرة بصلها وغلالها وخيراتها....

    قال (مقاطعًا): ولكنني لا أرى هنا بصلة واحدة.

    قلت: كان هذا في الماضي..أما اليوم فقد تغير كل شيء، وبقيت الأسماء مجردة من المضامين..وهذه مثلاً سوق الحدادين التي لا ترى فيها حدّادًا واحدًا.. وما يقال في أسواقنا هنا يقال أيضًا في أسواق القدس، والخليل وغيرهما من مدن هذه الديار..ربما بسبب اتساع هذه المدن نسبيًّا، وربما بسبب وجود المناطق الصناعية، وربما...

    قال: وأين هي المناطق الصناعية؟

    قلت: لم تعد كما كانت..بعضها بات مدمَّرًا.. وبعضها مهجورًا و.. وبعضها ما زال قائمًا يندب حظه العاثر، ويرثي "مجده" الغابر..ولا أحد يعلم يقينًا ما الذي ستأتي به الأيام القادمة، وإن كنا نعلم أن الإنسان مفطور على التفاؤل...وهذا معناه أن نتفاءل..واعلم يا ربيع أن أشد ساعات الليل ظلمةً هي تلك التي تسبق ميلاد الفجر وإسفار الصبح.. فتفاءل يا صديقي، ولا تسمح لليأس أن يعرف سبيله إلى قلبك.

    قال: أنت دائمًا هكذا.. تفلسف الأمور كما تريد.. وتعرف كيف تغرس أفكارك وآراءك وقناعاتك في عقول محاوريك وقلوبهم.

    قلت: حسبي أنني لم أزرع الشوك في يوم من الأيام...ومع ذلك فقد حصدت الأشواك والعنب المر بخلاف ما قاله شاعرنا العربي القديم... لم أستسلم لليأس، ولم أسمح لأية هزيمة أن تنال من إرادتي مهما كانت عاتية رهيبة مدمرة.. ثق يا ربيع أنك برغم الجراح والتجارب الأليمة، وبرغم القهر والجوع إلا أنك الإنسان الذي ما لانت له يومًا قناة.. أنت يا ربيع عربي فلسطيني مقدسي حر شريف..وستبقى هكذا دائمًا رغم أنوفهم، ولن تزيدك هذه الحال إلا إصرارًا على النجاح... صدّقني أنني أكنّ لك كل الاحترام.

    قال: لم أعد أشعر بالجوع أيها الصديق.. إنني سعيد، ولن أبحث بعد اليوم عن عمل لا في هذه المدينة، ولا في سواها..وسأبحث عن غذائي ودوائي في كلماتك، بل سأنفق على بيتي من هذه الكلمات..

    قلت: ستباشر العمل اعتبارًا من يوم غد.

    قال: أحقًّا ما تقول؟ إنني لا أصدّق ما أسمع...يا لَلفرحة.. لم أعد عاطلاً عن العمل، سأنفق على ابنتيّ الاثنتين وعلى شقيقتي أيضًا،ـ سأدفع قسط الجامعة كي تواصل ابنتي دراستها...سأعيش سأعيش رغم الداء والأعداء... وسيعود إليّ أولادي الثلاثة، ولن يبقى في معتقلاتهم أحد من أبناء شعبنا.

    قلت: ستواصل ابنتك دراستها حتى التخرج دون أقساط بعد أن حصلت على إعفاء كامل بسبب تفوقها..آمالك كلها سوف تتحقق..تفاءل واصبر.. إن الله مع الصابرين.

    قال: هل سأعود إلى القدس لأواصل حياتي فيها كما كنت؟

    قلت: عندما يعود كل المهجّرين والمشردين إلى ديارهم التي أُخرجوا منها.

    قال: وهل سيعودون؟

    قلت: نعم.

    قال: وماذا عن هؤلاء وأولئك؟

    قلت: إنهم يجدّفون ضد التيار.

    قال: يجدّفون أم يجذّفون؟

    قلت: كلمتان مدلولهما واحد.

    قال: ما سر حبك الشديد لهذه اللغة، واعتزازك بها، وحرصك عليها؟

    قلت: جمالها..ثم إنها وسيلتنا في صراع الحضارات والثقافات والأفكار..وسلاحنا في وجه العولمة التي يريد دعاتها تجريدنا من معالم شخصيتنا وهُويتنا كي يسهل عليهم قيادنا وسَوْقُنا كالقطيع.

    قال: ولماذا يتعلمها كثير منهم؟

    قلت: ليسهل عليهم فهمنا..

    قال: ونحن أيضًا نتعلم لغاتهم كي يسهل علينا فهمهم.. أليس كذلك؟

    قلت: نعم.. ليس كذلك!

    قال:لم أفهم!

    قلت: سؤالك جاء منفيًّا، وكذلك إجابتي.. ونفي النفي إثبات.. فنحن لا نتعلم لغاتهم كي يسهل علينا فهمهم، ولكن إما لأنها مفروضة علينا، أو لتساعدنا في البحث عن عمل، أو لكي نتمكن من الاطلاع على المراجع العلمية، ومتابعة أخبار البحث العلمي.... يجدر بنا يا صديقي أن نتعلم لغتنا كما يجب، وأن نطوّرها باستمرار، وهذا هو أبسط حقوقها علينا.. أليس كذلك؟

    قال: بلى، إنه لكذلك.

    قلت: لقد أجدتَ – يحفظك الله- وأكّدت إجابتك، فجاءت بليغةً قوية مقنعة تنطق بالوعي والإصرار يا ربيع.

(12/4/2006)

 

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

6.               ربيع     بقلم :عدنان السمان

www.samman.co.nr

ربيــــــع

 

    ما إن فتحت الباب حتى وقع بصري على صديق قديم لم أره منذ سنين .. كان كل شيء فيه يثير أكثر من الدهشة والاستغراب: شعره الأبيض الذي استقر على حدود رأسه الخلفية، وغطى جزءًا من أذنيه الكبيرتين الملتصقتين بجانبي رأسه العاري الذي تفصله عن وجهه المستطيل جبهة عريضة بارزة في أسفلها حاجبان كثيفان بلون الثلج يعلوان عينين زرقاوين صغيرتين غائرتين فوق وجنتين بارزتين .. وأنف صغير فوق شاربين متهدلين يغطيان فمًا صغيرًا مطمئنًّا فوق ذقن مكسوة بالشعر الأبيض الذي يحيط بها من كل جانب ... نظرت الى جبينه الذي تنتشر فيه التجاعيد والتشققات ... وألقيت نظرة سريعة على ملابسه الرثة وحذائه العتيق.. ثم سرحت الطَّرْف (عبر قامته المديدة التي باتت تشكل زاوية منفرجة) .. إلى عينيه، فرأيت فيهما أسرارًا كثيرة، وكلامًا ليس كأي كلام.

    قلت: ما الذي فعل بك هذا يا ربيع؟

    قال (هامسًا): الزمن.

    قلت ما عندك؟

    قال: كثير.

    قلت: هات

    قال: سلني أجبك.

    قلت: لم أرك منذ مدة طويلة .. فماذا عن أمورك الشخصية أولا؟

    قال: لقد اختلط الخاص بالعام منذ زمن طويل، ولا سبيل للفصل بين الأمرين .. أنت تعلم أنني مقدسي وجد نفسه بين عشية وضحاها خارج حدود مدينته مكرهًا لا طائعًا مختارًا، ثم أخذ الأمر شكلاً قانونيًّا لا غبار عليه، فصُنعُ القوانين من اختصاصهم .. يصنعونها كما يريدون، وبالطريقة التي تناسب أهواءهم، وتخدم مصالحهم... وفقدت بذلك كل شيء.

    بدأتُ حياتي بعد ذلك في إحدى قرى المنطقة ... لقد تعبت كثيرًا قبل أن أنجح في بناء مصنع صغير للطوب، وبعض مستلزمات البناء الأخرى يساعدني في ذلك أبنائي الثلاثة الذين جمعوا بين حب العلم والعمل... ولم تكد الحياة تبتسم لنا قليلاً حتى اعتقل أبنائي، وحورب المصنع... فخسرت كل شيء مرة ثانية، وعملت في شركة بأجر زهيد،وبعد إفلاسها أصبحت عالة على الناس... لم تتحمل رفيقة الدرب كل هذه الصدمات فرحلتْ، وتركتني فريسةً للأمراض والقهر والجوع... أعمل الآن في الترجمة بشكل جزئي لدى إحدى المؤسسات في رام الله .. عندي ابنتان إحداهما في الجامعة، والثانية في المرحلة الثانوية، وتعيش معنا منذ مدة شقيقتي التي رحل عنها زوجها في البرازيل... حضرتُ إلى نابلس باحثًا عن أي عمل يعينني على تحمل تبعات الحياة .. فهل إلى ذلك من سبيل؟

    قلت: هوّن عليك يا ربيع .. فالغالبية العظمى من الناس في هذه الديار تئن تحت وطأة القهر والفقر وسوء الأحوال.. هون عليك..فإن مع العسر يُسرا... ولكن قل لي: هل تزور القدس في هذه الأيام؟

    قال: كنت سابقًا أزورها باستمرار رغم كل الصعوبات.. ولكن خلال السنوات القليلة الماضية وبعد كل هذه العراقيل والحواجز والإجراءات والأسوار لم يعد بإمكاني أن أفعل .. لقد زرتها بضع مرات خلال السنوات الثلاث الماضية للعلاج وبصعوبة بالغة.

    قلت: ولكنك - يقينًا- على علم تام بحياة المقدسيين، وتعرف- دون شك- أدق التفصيلات عن أحوال المدينة المقدسة، وعن أحوال سكانها... فماذا عن أمور القدس والمقدسيين يا ربيع؟

    قال: كغيرها من مدن هذا الوطن،وإن كانت على رأس سلم اهتماماتهم في أعقاب حرب عام سبعة وستين، تتلوها الخليل وبيت لحم ثم نابلس.. وما تبقى يعتبرونه من الأمور المنتهية دون كبير جهد أو متاعب.. إنهم يريدون كل شيء، وهذا ليس سرًّا أو أمرًا جديدًا بل حقيقة ثابتة واضحة يعرفها الناس في هذه الديار وغير هذه الديار...وهم –كعادتهم- يتبعون أسلوب المراحل وصولاً إلى الهدف بأقل خسارة ممكنة، وبالحد الأدنى من الضجيج، وسط حملات إعلامية مكثفة على مستوى الدنيا كلها بهدف قلب الحقائق، وتضليل الرأي العام... فصاحب الحق هو المعتدي .. والمعتدي هو الضحية ... والمؤلم أن كثيرًا من الناس في هذا العالم يعرفون هذا وكثيرًا غيره إلا أنهم- مع الأسف- لا يفعلون شيئًا...

    قلت: لماذا؟

    قال: لأن أصحاب القضية أنفسهم قد نفضوا أيديهم منها منذ زمن طويل...

    قلت: وماذا بإمكانهم أن يفعلوا؟

    قال: بإمكانهم – لو أرادوا- أن يشتروا القدس قديمها وجديدها.. وسائر ضواحيها، وأكنافها ... بإمكانهم أن يشتروها بالمال الذي ينفقونه على الجواري والغلمان في غرب الدنيا و شرقها ... بإمكانهم أن يريحوا أهل القدس قليلاً من رحلة العذاب التي فُرضت عليهم ...

مشيناها خطًى كُتبت علينا              ومن كُتبتْ عليه خطًى مشاها

    بإمكانهم – يا صديقي – أن يقفوا إلى جانب أهل هذه المدينة المنكوبة عن طريق مد يد العـون الفعلي لمؤسساتها وجمعياتها ونواديها ومدارسها ومشافيها وكنائسها ومساجدها ... بإمكانهم أن يمدوا يد العون الفعلي لكل أهل القدس لإنقاذهم مما هم فيه من بؤس ومهانة وعذاب... لكن- ويا لَلعار- تركوا عروس عروبتهم وحدها تقاوم آلة الغزو والعدوان معصوبة العينين.. مقيدة اليدين.. حافية القدمين..ترسف في القيود والأغلال خلف هذه البوابات "الدَّولية" التي أقامها اليوم هؤلاء دون أدنى اكتراث أو اعتبار لأحد في هذا الكون!!!

    بإمكانهم – يا صديقي – أن يفعلوا أكثر من هذا لحماية أرضنا وشعبنا ومقدساتنا في كافة أنحاء هذا الوطن الممزق الذبيح المستباح لو كانوا معنيين حقًّا بنا، وبهذا الوطن الذي يصارع منذ مئة عام من أجل الحرية والتقدم والازدهار... ولو كانوا معنيين حقًّا ببقاء هذا الوطن عربي الوجه واليد واللسان لوقفوا إلى جانبنا، ولأنقذونا مما نحن فيه بقرار سياسي دون قتال... نعم بإمكانهم أن يخلّصوا هذا الوطن، وإنسان هذا الوطن من كل أشكال القهر، والفقر، والخوف، والمرض، والاستبداد، والعدوان، والاحتلال، والأطماع، والبوابات بقرار سياسي شجاع... ولكن..!!

                    لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا             ولكن لا حياةَ لمن تنادي!

    قلت: كفى- يرحمك الله – فإنني أرى آثار الإعياء باديةً على وجهك...

    قال: سأسكت الآن.. وسأمضي لشأني.. على أن تصغي إليَّ جيِّدًا في الزيارة القادمة..هل تعدني بذلك؟

    قلت: نعم أعدك أيها الصديق.

(5/4/2006)


الأربعاء، ٢١ كانون الثاني ٢٠٠٩

متابعات

وماذا بعد المصالحة في الكويت؟؟

أ‌.       عدنان السمان

www.samman.co.nr

    المصالحة التي أُعلنت في قمة الكويت، وشهدنا جانبًا منها على شاشات التلفزة العربية عكست جانبًا من رغبة الشارع العربي الملحّة في صنع تقارب عربي رسمي، وتضامن عربي رسمي دائم وشامل يُفضي إلى وحدة عربية حقيقية شاملة دائمة، لا موسمية طارئة تقتضيها المجاملات، ويفرضها الخروج من الإحراجات امتصاصًا لنقمة الشارع العربي، وامتصاصًا لغضبة الشارع العربي، وارضاء لمزاج الشارع العربي في الوحدة والحرية والتحرر والحياة الحرة الكريمة العزيزة.

    ولئن كانت هذه المصالحة التي شهدتها قمة الكويت بين عدد من الأنظمة العربية مطلبًا شعبيًّا عربيًّا يطمح إلى ما وراء هذه المصالحة من وحدة الصف والكلمة والهدف، مرورًا بالحد الأدنى من وحدة العرب الكبرى، وصولاً إلى تثبيت هذه الوحدة العربية الشاملة على كل أرض العرب؛ فإن هذه المصالحة بالنسبة لفلسطين والفلسطينيين والقضية الفلسطينية أمر أكثر من حيوي، وأكثر من مصيري، وأكثر من حاسم لعلاقته المباشرة بفلسطين والفلسطينيين: وجودًا أو عدمًا.. نصرًا أو هزيمة لأجيال كثيرة قادمة.

    ستنعكس هذه المصالحة العربية بشكل مباشر على العلاقة الفلسطينية الفلسطينية، فإن كانت صادقة جادّة مخلصة كان الانعكاس إيجابيًّا، وإلا فإنه سيكون سلبيًّا، وسيفضي إلى مزيد من الفرقة والقطيعة في الصف الفلسطيني، وإلى مزيد من التناحر والتنابذ والتخاصم بين الأشقاء في الوطن الواحد.. وهذا ما لا يريده أحد من أهل هذه الديار ، وما لا يريده أحد في كل ديار العروبة والإسلام، وما لا يريده أحد من أصدقاء قضايانا في كل أقطار هذا الكون.

    إن الواقع الأليم في قطاع غزة يقتضي أن يهبّ الفلسطينيون جميعًا ومعهم كل العرب، وكل المسلمين، وكل أصحاب الضمائر الحية في هذا العالم لنجدة غزة، وإنقاذها مما هي فيه من فواجع ونوازل لا تقوى على حملها الجبال .. هذا الواقع الأليم في غزة يتطلب عملية إنقاذ فوري شامل ومكثّف على مستوى الطعام والشراب، وكافة مقومات الحياة اليومية ومستلزماتها.. وعلى مستوى البحث السريع، ( وبكل الوسائل العصرية المتطورة) عن أحياء أو شهداء تحت الأنقاض.. وعلى مستوى تقديم العلاج السريع والفعال لكل الجرحى والمرضى والمصدومين من أهالي قطاع غزة، وما أكثرهم!! وعلى كافة المستويات النفسية والصحية، والتعليمية.. وبذل كل جهد ممكن من أجل العودة بالحياة إلى القطاع، ومن أجل تأهيل الناس هناك ولو لممارسة القدْر الأدنى من الحياة اليومية العادية أو شبه العادية.. والمطلوب أيضًا البدء فورًا بعملية إعمار شامل للقطاع، من أجل تأهيل الناس هناك ولو لممارسة القدْر الأدنى من الحياة اليومية العادية أو شبه العادية.. والمطلوب أيضاً البدء فورًا بعملية إعمار شامل للقطاع تعيد كافة البنايات والبيوت والمؤسسات والوزارات والمساجد والمدارس والجامعات إلى الوضع الذي كانت عليه قبل العدوان.

    إن هذا كله، وكثيراً غيره مما يستدعيه إنقاذ الأحوال الزراعية، والتجارية، والصناعية، والعمالية، والخدماتية بكل أشكالها وصورها يقتضي التحرك السريع لوضع حد فوري لهذا الواقع المأساوي المروع الذي يعيشه الناس في قطاع غزة.. إن الأولوية الآن للعمل.. للإنقاذ.. للتضامن مع كل أهل القطاع.. للتخفيف من آلام الناس الجسدية والنفسية بكل الوسائل الممكنة، وبأقصى سرعة ممكنة.. الأولوية الآن لفتح المجال واسعًا أمام الطواقم، وفرق العمل من ذوي العلم والمعرفة والاختصاص في كافة المجالات العلمية والطبية والهندسية والعملية من سائر الأقطار العربية والأجنبية لإقامة المشافي الميدانية، وإعادة افتتاح المدارس، والتخطيط الشامل لإعادة بناء القطاع من جديد!!

    هذا هو المطلوب فعله في الحال بعيدًا عن المهاترات، وبعيدًا عن المناكفات، وبعيدًا عن المساجلات ، وبعيدًا عن الأهداف والغايات والمماحكات السياسية التي أوصلت شعبنا إلى ما هو فيه، ووصلت بقضيتنا – مع شديد الأسف- إلى ما هي عليه منذ عام ثمانية وأربعين وحتى وقتنا هذا.. كفانا خصامًا، وكفانا اقتتالاً، وكفانا اتّجارًا بآلام هذا الشعب الذي يكابد صنوف العذاب منذ مئة عام..

    كفانا يا قوم.. ولنبحث في الحال عن الوسائل التي تمكّننا من إنقاذ أهلنا في غزة، ومحاولة إعادة البسمة إلى وجوه أطفالها.. كفانا يا قوم، ولنبحث في الحال عن الطرف أو الأطراف التي من الممكن أن تضع كافة النقاط على كل الحروف لوقف هذه الآلام الجسدية والنفسية التي تفتك بأهلنا كل أهلنا في قطاع غزة .. إن المنظمات والجمعيات والهيئات الإنسانية التي من الممكن أن تقوم بهذه المهام العاجلة التي لا تحتمل التأجيل موجودة، وعلى رأسها وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم (الأونروا) الموجودة في القطاع منذ ستين عامًا، وإلى جانبها عدد من المنظمات الدولية.. وإلى جانب كل هذه العناوين والجهات فإن أهل غزة قادرون على العمل السريع لإنقاذ الموقف، والقيام بالواجب ... المطلوب الآن تأجيل كافة تناقضاتنا وخلافاتنا ، أو تناسي كل هذه التناقضات والخلافات التي من الممكن نسيانها أيضًا إكرامًا لهذا الوطن الدامي الذبيح، وإكرامًا لقوافل الشهداء الذين ضحَّوا بأرواحهم من أجل فلسطين منذ ستين عامًا وإكرامًا لدماء شهدائنا، ودموع أطفالنا في غزة.. فهل هذا كثير؟؟

20/1/2009

   


متابعات

المتخاذلون

أ. عدنان السمان   

www.samman.co.nr

لقد فجرّت القضية الفلسطينية منذ نشوئها قبل أكثر من ستين عامًا كثيرًا من أوجه الصراع بين النظام العربي الرسمي الذي لا يخفي تبعيته بهذا الشكل أو ذاك لهذه الدولة الغربية أو تلك، والشارع العربي الغاضب الرافض لهذه التبعية وذاك التخاذل، هذا الرفض الذي عبّر عن نفسه بتلك المظاهرات الصاخبة، والمسيرات الحاشدة، والاحتجاجات الدامية التي شهدتها العواصم والمدن والقرى العربية على امتداد الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه احتجاجًا على ما حل بفلسطين، واستنكارًا لضياع الجزء الأكبر من هذه الديار الفلسطينية عام ثمانية وأربعين نتيجة للسياسة العربية الرسمية، وتخاذل الجيوش العربية التي دخلت فلسطين آنذاك بحجة حمايتها، والحفاظ على عروبتها، وإسقاط وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود فيها!!!  لقد عبرّت الأمة العربية بكل عمالها وفلاحيها ومثقفيها في أعقاب تلك النكبة الرهيبة التي حلت بفلسطين والفلسطينيين عن غضبها، ورفضها لكل أشكال التخاذل والتواطؤ والتبعية للأجنبي.. كما شهد الوطن العربي في أعقاب تلك النكبة سقوط أنظمة، وقيام أنظمة أخرى ترفض السير في ركاب الغرب، وترفض التبعية لبريطانيا التي كانت وراء نكبة فلسطين، كما كانت وراء كثير من الويلات والمآسي التي شهدها العرب في تاريخهم الحديث.

ولئن تمكن الغرب بعد ذلك من العودة بكثير من الأقطار العربية إلى عهود التبعية المطلقة.. ولئن تمكنت أمريكا من السيطرة على الموقف، وإخضاع كثير من بلدان العرب والمسلمين لإرادتها.. ولئن نجحت أمريكا أيضًا في العودة بكثير من الأقطار في ديار العروبة والإسلام إلى الاستعمار القديم البشع بكل ما فيه من دموية وعنف وإرهاب، وبكل ما ينطوي عليه من إذلال للشعوب، وسلب ونهب لثرواتها وخيراتها، وعدوان على مقدّراتها، ومقدّساتها، وتراثها، وثقافتها، وملامح شخصيتها، وهويتها.. ولئن تمكنت أمريكا من شراء الضمائر والذمم، ومن استزلام كثير من الناس في كثير من أقطار المسلمين والعرب؛ فإن ما يمكن قوله والتأكيد عليه أيضاً هو أن أمريكا قد فشلت في إخضاع العرب والمسلمين لهيمنتها وغطرستها، وأن أمريكا قد فشلت في شراء كثير من الناس في سائر ديار العروبة والإسلام، وإن أمريكا قد فشلت كذلك في كسب ودّ أحد من أهل هذه الديار، بل إن الشعوب في هذا العالم تناصب أمريكا العداء لعدوانيتها، واستبدادها، واستكبارها، ووقوفها إلى جانب قوى البغي والظلم والعدوان في هذا العالم، ومعاداتها للحق وأصحاب الحق في كل مكان من هذا الكون.

إن السياسة الأمريكية التي أثبتت وتثبت في كل يوم فشلها وانحيازها ووقوفها إلى جانب أعداء الشعوب وجلاديها وسارقي لقمة عيشها قد باتت العدو الأول لهذه الشعوب في أقطار آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، بل إن كثيرًا من شعوب أوروبا قد باتت تناصب هذه السياسة العداء لانحيازها وعدوانيتها وإصرارها على تدمير حياة الشعوب، ونهب خيراتها وثرواتها، ولست مبالغًا إن قلت إن نسبة كبيرة من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها ساخطة على هذه السياسة الأمريكية العمياء، غاضبة منها لتخبطها وجرّ الأمريكان إلى المهالك، وتوريطهم في الحروب الظالمة ضد كثير من الشعوب، يضاف إلى ذلك هذه الانهيارات الاقتصادية التي تسببت فيها تلك السياسة الفاشلة العنصرية المغامرة المنحازة.

وإن هذه السياسة الأمريكية التي اصطنعت الحكام في كثير من أقطار هذا الكون، وسخرتهم للعمل من أجل مصالحها الاستعمارية، وسلّطتهم على شعوبهم، وجنّدتهم لمناصرة البغي والظلم والعدوان والفساد والإفساد بكل أشكاله وصوره ومسمياته وأسمائه القبيحة قد باتت سياسة مكشوفة عارية حتى من ورقة التوت تلعنها الشعوب، وتلعن أولئك الأعوان من كافة الفئات والمستويات الذين يقفون إلى جانبها لقاء البقاء في المناصب، ولقاء حفنة من الدولارات، ولقاء شيء من الامتيازات، وشيء من النساء، ولقد أصبح هؤلاء التابعون من حكام وأعوان ومؤيدين للسياسة الأمريكية وتطلعاتها في ديار العروبة والإسلام عبئًا على هذه السياسة، وأحد أسباب فشلها وتراجعها، وكراهية الشعوب لها في هذه المنطقة من العالم، كما أصبحت هذه السياسة الأمريكية العنصرية المنحازة العمياء عبئًا على هؤلاء الأعوان والمؤيدين والمتنفذين، ومصدر حرج شديد لهم أمام شعوبهم، وأمام الناس العاديين في كثير من بلاد العرب وديار المسلمين... الأمر الذي بات يهدد هؤلاء الأتباع بشرٍّ مستطير على أيدي هؤلاء الغاضبين من الناس، وينذر باقتراب نهايتهم تمامًا كما حدث في أعقاب نكبة عام ثمانية وأربعين.. يضاف إلى هذا رغبة السياسة الأمريكية نفسها في التخلص من هذه الوجوه التي استُهلكت، وأصبحت مصدر سخط الناس وكراهيتهم وغضبهم، واستبدالها بغيرها إنقاذًا لسمعة أمريكا، في محاولة مكشوفة لتحسين صورتها القبيحة في كل بلاد العروبة والإسلام.

على أن ما جرى ويجري في غزة من مجازر، وتدمير لكل أوجه الحياة، وعدوان سافر مبيَّت على القيم والأخلاق والأعراف، وما صحب هذه الهجمات المسعورة، وما رافق هذه الاعتداءات الصارخة غير المسبوقة على الناس جميعًا في قطاع غزة الشامخ المقاوم من مسيرات، وتظاهرات، واحتجاجات، وغضب، وغليان شعبي في كل المدن العربية، وفي كل مدن العالم.. كل ذلك بما سبقه على امتداد السنوات القليلة الماضية، من كوارث ونوازل واعتداءات متواصلة، وعلى امتداد العقود التي أعقبت عام النكبة من آلام، وما شهدته أرض غزة من محاولات مجنونة للحسم العسكري المدمر الذي سعى الغزاة لتحقيقه على الأرض قبل وضع قرار وقف إطلاق النار موضع التنفيذ.. كل ذلك كان الحد الفاصل بين عهد التبعية والتخاذل والخنوع والاستسلام، وعهدٍ جديدٍ هو عهد الثورة والغضب وإحقاق الحقوق، والخلاص من التحكم والهيمنة والمذلة وسياسة المراحل التي تؤدي سابقتها إلى لاحقتها وفق مخطط مدروس لوضع اليد على الأرض كل الأرض، وتشريد الشعب كل الشعب حتى لا يبقى في هذه الديار أحد من أصحابها الشرعيين!!!

إن ما جرى ويجري في غزة، وإن ما ستسفر عنه الحرب على غزة، وإن المقاومة الفلسطينية التي استطاعت بالصبر والإيمان والتحدي أن تحدث تغييرًا جذريًّا هنا على أرض فلسطين، وهناك على كل أرض العرب والمسلمين، وهنالك في كل بقاع الأرض، ولاسيما في دول أمريكا اللاتينية التي فجرّت بركان الغضب فيها فنزويلا هوغو تشافيز، تلتها بوليفيا.. هذه المقاومة الفلسطينية التي لم ترفع الراية البيضاء رغم كل أشكال الموت والدمار والجوع والخوف والبرد والنزف والحصار، ورغم كل أشكال التخاذل والتبعية التي غلفت مواقف كثير من الرسميين العرب وكثير من الرسميين المسلمين، والتي وصمت مواقف هؤلاء وأولئك من اللاهثين الراكعين المتخاذلين المتساقطين المستسلمين بالعار، ودمغتهم بالوقوف في معسكر أعداء أمتهم وشعوبها المكافحة من أجل الحرية والسيادة والاستقلال... كل هذا الذي حصل، وكل هذا الثبات رغم حرب الإبادة التي استعمل فيها هؤلاء كل ما في ترسانتهم من الأسلحة المحرمة، ورغم ما طالب به أحد أقطاب يمينهم المتشدد من ضرورة ضرب غزة بقنبلة نووية لا تبقي منها شيئًا ولا تذر.. كل هذا سيضع الفلسطينيين، وسيضع القضية الفلسطينية على عتبة مرحلة جديدة تضع حدًّا للتبعيّة العربية للأجنبي، وتضع حدًّا للتخاذل الرسمي العربي، بعد أن قال الثبات كلمته، وبعد أن قال المقاومون كلمتهم، وبعد أن قال الإعلام كلمته، وبعد أن قال الأحرار كلمتهم، وبعد أن قالت التظاهرات والمسيرات والاعتصامات والاحتجاجات كلمتها، وبعد أن قال هوغو تشافيز كلمته، وبعد أن قال الغضب الشعبي العربي كلمته أيضًا.

18/1/2009


السبت، ١٧ كانون الثاني ٢٠٠٩

متابعات

من مواطن عربي فلسطيني

 إلى الرئيس الأمريكي أوباما

أ. عدنان السمان   

www.samman.co.nr

أحب في بداية هذه الرسالة أن أشير إلى ما جرى ويجري في غزة من مجازر، وترويع، وتجويع، واستخفاف بالقيم، والمثل، والأعراف، والمبادئ التي نادت بها سائر الشرائع، وأقرتها كافة المواثيق والقوانين، وأكدت عليها كل منظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وكل جمعيات أصدقاء البيئة، والرفق بالحيوان في هذا العالم الذي تحكمه شريعة الغاب؛ فلا مكان فيه إلا للأقوياء، ولا سلطان فيه إلا للخارجين على القانون من مغامرين ومقامرين وكاذبين وسارقين وأغبياء!!

أحب أن أشير إلى كل هذا الذي جرى في غزة .. هذه المنطقة الصغيرة الفقيرة المحاصرة المعزولة من هذا الكون.. ذات الكثافة السكانيّة العليا بين مدن العالم وتجمعاته السكانية... كما أحب أن أشير إلى كل هذا الذي جرى ويجري في القدس والخليل ونابلس وجنين، وفي الأغوار وقلقيلية وطولكرم، وفي أريحا وطوباس وسلفيت ومنطقة اللطرون وسائر قرى رام الله والبيرة، وفي كل مناطق الضفة الغربية المحتلة منذ حرب الخامس من حزيران من عام سبعة وستين وتسعمائة وألف.. هذه الضفة التي تمزقها المستوطنات والجدران والمصادرات، ويقبع أكثر من أحد عشر ألفًا من شبابها وفتياتها ونسائها وأطفالها وشيوخها في السجون ومراكز التوقيف والمعتقلات!!

ولابد من الإشارة أيضًا إلى تلك النكبة التي حلت بفلسطين والفلسطينيين عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف.. تلك النكبة التي أتت على ثمانية وسبعين بالمئة من أرض فلسطين، وشردت معظم أهلها، وهكذا كانت قضية اللاجئين الذين يربو تعدادهم اليوم على خمسة ملايين يعيشون حياة اللجوء والتشرد على أرض وطنهم، وفي الأقطار المجاورة، وفي سائر أقطار هذا العالم يحملون معهم مفاتيح بيوتهم، وشهادات ملكيتهم لأراضيهم، في انتظار العودة إلى تلك البيوت والأراضي تنفيذًا لقرارات المجتمع الدولي ومقرراته!!

السيد الرئيس

إن مسلسل الحروب والمعارك الذي تشهده أجيال هذه المنطقة من العالم جيلاً بعد جيل منذ مطلع القرن الماضي مرورًا بنكبة عام ثمانية وأربعين وحتى يومنا هذا كان بسبب الظلم الصارخ الذي حاق بفلسطين والفلسطينيين، وإن كل ما تشهده المنطقة اليوم، وما ستشهده غدًا وبعد غد إن هو إلا نتيجة حتمية للسياسات الخاطئة التي مورست بحق هذا الشعب، وبحق قضيته التي كانت قضية العرب الأولى والمركزية ذات يوم.. هذه السياسات التي أخطأت عندما اعتبرت فلسطين أرضًا بغير شعب، وأخطأت عندما منحتها للآخرين من هذا المنظور، وأخطأت عندما آزرت هؤلاء الآخرين، وساندتهم في السيطرة على هذه الديار، بل وعلى كل هذه المنطقة التي يسمونها الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، وأخطأ هؤلاء الآخرون عندما خُيّل إليهم أنهم قادرون على السيطرة على هذه الديار، وأنهم قادرون بعد ذلك على السيطرة على هذه المنطقة من العالم، وأخطأ كثير من حكام هذه المنطقة وقادتها عندما آثروا مصالحهم الشخصية الرخيصة على مصالح أوطانهم وشعوبهم، وأخطأت تلك السياسات الغربية التي راهنت على هؤلاء، وزينت لهم التبعيّة للغرب على حساب المصالح الحقيقية لشعوبهم، ومستقبل أجيالهم.

السيد الرئيس

إن كل مراقب متتبع لسير الأحداث في هذه المنطقة من العالم يدرك أن كل ما جرى، ويجري، وما سيجري كان بسبب هذه الحلول الخاطئة، والتصورات والرؤى المغلوطة التي حاولت تلك الإدارة فرضها على الناس في هذه الديار.. نعم، لقد توهمت تلك الإدارة، كما توهمت إدارات أخرى مشابهة في الماضي- أنها قادرة على فرض حلولها وتصوراتها ورؤاها على أرض الواقع.. فكان ما رأينا في الماضي، وما نرى الآن، وما سنرى إذا استمرت هذه المحاولات، وإذا استمر هذا التنكر لأبسط حقوق العرب الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، والعيش بحريّة واحترام في بلادهم، وفي أرض آبائهم وأجدادهم فلسطين بعيدًا عن الظلم، وبعيدًا عن الهيمنة والاستعلاء، وبعيدًا عن كل الرؤى والخيالات والأوهام التي تريد تصفية القضية الفلسطينية بالقفز عن حق شعبنا في القدس العربية وفق حدود الرابع من حزيران 67، وحق شعبنا في العودة وفق نص القرار 194.

السيد الرئيس

إنه، ومن منطلق الإيمان بالسلام العادل الشامل الدائم المقنع الذي لا غالب فيه ولا مغلوب، والذي يعيد الحقوق إلى أصحابها.. ومن منطلق حق الشعوب في تقرير مصيرها، والعيش بحرية واحترام في أوطانها بعيدًا عن الإقصاء والإحلال وبعيدًا عن الاقتلاع والتهجير، ومن منطلق الإيمان الراسخ بمبادئ الأمم المتحدة، وضرورة وضع قرارات المجتمع الدولي (التي تصنع السلام، ولا تؤسس لصراع جديد) موضع التنفيذ، فإنني أدعو الرئيس الأمريكي الرابع والأربعين براك أوباما إلى العمل السريع من أجل إحلال السلام في هذه المنطقة المتفجّرة من العالم.

17/1/2009   


الخميس، ١٥ كانون الثاني ٢٠٠٩

 

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

5.                أيوب     بقلم :عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

أيوب

 

قلت: عرفتك صابرًا رابط الجأش ثابت الجنان، ولم أعهدك باكيًا شاكيًا هلوعًا جزوعًا...فما الذي يبكيك يا أيوب؟

قال: أمور كثيرة يا ولدي لا يمكن حصرها...كيف لا أبكي وهذا الظلم الصارخ غير المسبوق يفعل فعله في هذه الديار، وغير هذه الديار من بلاد الله التي كانت واسعة...إن ما يبكيني هو هذا السيل الجارف من الأكاذيب ، والغش ، والخداع، والتزوير، وقلب الحقائق، وإنزال أشد العقوبات بالأبرياء المسالمين من أصحاب البلاد الشرعيين بسبب وبدون سبب..ومكافأة المعتدين الغزاة العنصريين الذين نهبوا كل شيء، واستباحوا كل شيء...وصادروا كل شيء...إن ما يبكيني هو أن هؤلاء المعتدين قد وجدوا أعوانًا لهم ينفذون رغباتهم ومخططاتهم...بل وقد يرشدونهم إلى ما لا يخطر لهم على بال من الفظائع والموبقات التي تقشعر لهولها الأبدان...وأنكى من ذلك وأدهى أن هؤلاء المعتدين قد وجدوا في هؤلاء الأعوان من يقوم ببعض المخازي والجرائم نيابة عنهم...يبكيني هذا المريض الذي لا يستطيع الحصول على الدواء...وهذا الطالب الذي لا يستطيع متابعة دراسته لأنه من المقموعين المسحوقين الجياع في هذا الوطن...يبكيني هذا العامل الذي لا يقوى على توفير شيء من احتياجات أسرته...وهذا الفلاح الذي صادروا أرضه، وقطعوا أشجاره، وقتلوا دجاجه وأغنامه، وعزلوه عن محيطه بوسائل كثيرة باتت معروفة للقاصي والداني في هذا العالم الذي فقد ضميره منذ زمن بعيد...تبكيني هذه الأم التي لا تجد ما تقدمه لأطفالها... وهذا الطفل المتشرد الذي لا يجد معيلاً أو موجّهًا أو مرشدًا...وهذه المتسكعة التائهة التي " خدعوها بقولهم حسناء" فراحت تبحث عن ثمن هذا الحسن في سوق الجسد...يبكيني هذا الصمت المريب الذي يلف الدنيا من حولكم..وهذا الصمت المشبوه تجاه كافة قضاياكم العامة والخاصة، وتجاه سائر أوجه حياتكم اليومية التي توالي انزلاقها وتدحرجها نحو الانهيار الشامل تارةً على طريق الانتحار الذاتي ..وطورًا بفعل فاعل...كيف لا أبكي يا ولدي وأنا أرى الخراب والدمار والهوان، وسائر العلل والآفات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والنفسية تعصف بهذا المجتمع، وتضرب بدون أدنى رحمة كل مدنه ومخيماته وقراه؟؟ كيف لا أبكي وأنا أرى أن أعداد الأسرى تزداد بشكل مذهل غير مسبوق؟ ففي كل يوم معتقلون وأسرى جدد يضافون إلى الأسرى الذين كنتم تقدرونهم بعشرة آلاف فيما مضى من أيام .. كيف لا أبكي وقد أصبح عددهم اليوم ثلاثة عشر ألفًا، ولا زال الجرح النازف مفتوحًا؟؟ كيف لا أبكي وكل مدن هذا الوطن، ومخيماته، وقـراه خاضعــة للاجتيــاح، والعزل، والإغلاق، وتقطيع الأوصال بشكل لم يشهد له هذا الوطن مثيلاً من قبل؟

قلت: كفى يا أيوب..فقد بلغت مني ما بلغتَ...ونلتَ مني في دقائق ما لم ينله هؤلاء، وكل أولئك في كل أيام العمر الخالية...

قال: لقد صوّرتُ أحوالكم يا صديقي، ولم آت بشيء من عندي..ولم أبالغ في وصف هـذه الأحوال،

بل لقد تعرضتُ لأقل القليل منها...فأنا أعرف ما لا تعرفون..ولكنني أربأ بنفسي عن تصوير كل معالم الصورة..

قلت: الآن، وقد سكنتْ حدّةُ غضبتك.. وأفرغتَ كلَّ شحنتك، وكل ما في جعبتك أرجو أن تحدثني بهدوء وإيجاز عن سبب وجود من تحدثتَ عنهم في مستهلّ حديثك ممن يقومون بما لم يقم به المعتدون أنفسهم من فظائع وموبقات...فهل تقدم لنا هذه الخدمة أيها الحكيم الصابر؟

قال: عندما ينمّي الأب في أبنائه خلق الوشاية والسعاية، ويربيهم على التقرب المستمر منه بأي ثمن، وعلى حساب باقي أفراد الأسرة، فإنه يرتكب خطأً كبيرًا بحقهم...وعندما يسلط بعضهم على بعض يراقب كل منهم الآخر، ويحصي عليه أنفاسه متدخلاً في أدق تفصيلات حياته ليرفع إلى أبيه كل ذلك فإن هذا الأب إنما يجني على أبنائه، ويصنع منهم شخصيات مهزوزة يمكن اختراقها وتسخيرها لخدمة أغراض المخترقين وأهدافهم.

وعندما يسلك المعلم في تربية طلابه سلوك هذا الأب في تنشئة أطفاله... ويستعين ببعضهم لمعرفة ما يحدث في الصف، أو ساحة المدرسة، أو في هذا البيت أو ذاك من بيوت الحي، فإنه إنما يهييء هؤلاء الطلاب لممارسة أخس الأدوار، وأبشعها بحق أنفسهم، وأسرهم، ومجتمعهم...

وكذلك فإن الدور الرهيب الذي يلعبه مدير المدرسة، وهو يختار المخبرين السريين من الطلاب في صفوف مدرسته لينقلوا إليه "بمختلف الوسائل" كل ما يجري في هذه الصفوف، بما في ذلك ما يقوله المعلمون ويفعلونه، وبما في ذلك ما يجري في بيوت زملائهم، وما يقال فيها، وما يجري في مدارس أخرى أو في أماكن لا علاقة لها بالدراسة والتدريس... هذا الدور الرهيب الذي يقوم به مثل هذا المدير لا يمكن أن يوصف إلا بأنه الطريقة المثلى لصناعة مثل هؤلاء الأعوان.

وتكتمل حلقات هذه الدائرة عندما ينتمي هؤلاء الفتية خارج أسوار مدارسهم أو داخلها، وضمن أسوار جامعاتهم أو خارجها، وفي إطار جيش العاطلين عن العمل.... أقول عندما ينتمي هؤلاء إلى هذه الفئة أو تلك، وإلى هذا الزعيم أو ذاك..تكتمل الحلقات... ويختلط الخاص بالعام.... وتشتد ضراوة الصراعات والتكتلات والتشيعات.. وتشتد الحاجة للاختراقات كي يعرف كل فريق ما في قدور الفريق الآخر أو الفرقاء الآخرين، وما في مطبخه على النار الهادئة أو النار المستعرة... وتروج سوق التجسس، والتنصت، والتلوّن، والكذب، والنفاق، والازدواجية، والتوتر، والخوف، واضطراب السلوك، والتِّيه، وانعدام الوزن، والضَّياع المغلف بمتطلبات المرحلة وحكم الرغيف.... ويبقى القول الفصل للسيجارة التي تحرق باحتراقها كل خيوط القيم والأخلاق وشرف الانتماء، وكل الأوراق الملونة الجميلة من جغرافية هذا الوطن وتاريخه، إضافة إلى صدر صاحبها، وصدور جلسائه من ذوي الحاجات العاجلة، وممن يبحثون وسط هذا الطوفان عن دور أيّ دور!! وما على أعداء هذه الأمة إلا أن يركبوا... فالأوضاع جد مواتية، وما زرعوه في الماضي البعيد يؤتي أكله اليوم... فأفيقي يا خرافي.. واتبعيني يا شياه!!

    إن أمة يصنع أعداؤها زعماءها، وتصاغ مبادئ حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في دوائر هؤلاء الأعداء، ومراكز بحوثهم ودراساتهم ومعاهدهم الاستراتيجية هي أمة - واحرّ قلباه - بحاجة ماسة لصحوة سريعة شاملة تعيد إليها وجودها واعتبارها ومكانتها التي كانت يوم كانت خير أمة!!

    وتسألني يا صديقي عن هذه المسوخ... ابدأ يا صديقي بالكلمة التي تصنع الإنسان.. ابدأ بالتربية السليمة في البيت، وفي الشارع، وفي المدرسة.. ابدأ بثورة ثقافية شاملة تأتي بجيل جديد لا يعرف الكذب، والتلون، والتزوير، وقلب الحقائق، والنفاق.. جيل حر عزيز متحرر لا يعرف الخضوع والاستسلام، ولا يساوم على الأوطان، والثوابت والمقدسات.

(10/1/2007)