عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ٢٨ آذار ٢٠٠٩

القمة بين وحدة الحلم.. وحلم الوحدة

متابعات

القمة بين وحدة الحلم.. وحلم الوحدة

أ‌.        عدنان السمان

www.samman.co.nr

    قمة عربية جديدة يعقدها القادة العرب في الدوحة للبحث في قضايا الأمة العربية.. وهي قضايا كثيرة لا تكاد تُحصى عددًا.. فلكل بلد عربي قضاياه الخاصة به، وقضاياه التي يشترك فيها مع غيره من البلدان العربية أو غير العربية.. ولشعب فلسطين قضاياه في كل من غزة، والقدس، والخليل، ونابلس، وغيرها من جيوب" الضفة" ومعازلها.. وله قضاياه أيضًا في وادي عارة، وفي أم الفحم، وغيرها من مدن المثلث وقراه.. وفي الناصرة، وسائر أرض الجليل.. وفي يافا، وعلى طول السهل الساحلي.. وعلى امتداد أرض النقب أيضًا له قضاياه، وله مشكلاته التي يتفرّد في بعضها، ويشترك في بعضها الآخر مع الأهل والعشيرة.. ليس هذا فحسب، بل إن لشعب فلسطين في كل مخيم من مخيمات لبنان، وفي كل مدنه وبلداته وضياعه قضاياه الخاصة والعامة، وله مثل ذلك أيضًا في سائر أقطار الجوار، وفي كل المنافي، ومناطق الشتات والتشرد واللجوء في هذا العالم.

    ولئن كانت القمة في الماضي تعبيرًا عن وحدة المشاعر العربية، وترجمةً للحلم العربي الجميل الذي يداعب الخيال العربي على كل أرض العرب من المحيط إلى الخليج.. ولئن كانت في طبيعتها وأبعادها النفسيّة، والاجتماعية، والثقافية، والتاريخية سلسلةً من المحاولات لوضع هذه الأبعاد موضع التنفيذ على أرض واقعٍ عربي جديد منذ انعقاد القمة العربية الأولى في القاهرة، وحتى يومنا هذا.. ولئن كانت في مضامينها وأهدافها وتوجّهاتها مراوَحةً بين وحدة الحلم العربي، وحلم الوحدة العربية.. ولئن كانت مقارَبةً بين ماضٍ جميل باسم، وواقع تنثال فيه التحديات، وتبرز المثبّطات والمعوقات، وتضطرب فيه  الأحوال، وتصطدم الأسباب بالمسببات، وتختلط فيه الكليّات بالجزئيات، والإيجابيات بالسلبيات، والنتائج بالمقدمات، ويمتزج الباطن بالظاهر، ويتماهى السر بالعلن، وتأتي الأحكام والمواقف بخلاف ما جاء في قاعدة البيانات وجداول المستندات والمعلومات؛ فإنها اليوم كل هذا وذاك، وإنها اليوم أكثر من ضرورة، وأبعد من حلم، وأغلى من أمنية عزيزة بعيدة صعبة المنال.

    القمة اليوم وسيلة العرب للبقاء، إنها وسيلتهم للخروج من هذا الواقع المر المتخلف.. وهي وسيلتهم لتجسيد هذه الوحدة العربية الكبرى على كل أرض العرب، وعلى كل أرض المسلمين أيضًا.. وهي وسيلتهم لصنع عالم جديد خال من الآلام والحروب والتشرد.. عالم متزن متوازن يخضع لسلطان العقل، وقوانين الطبيعة، وشرائع العدل والعدالة والأخلاق.

    ولكن .. كيف من الممكن أن تكون القمة وسيلة العرب إلى كل هذا؟ والإجابة – باختصار شديد- هي أن العرب قادرون على تحقيق كل هذا لأنفسهم، وللبشرية جمعاء إذا هم اتخذوا من القمة وسيلة لتحقيق ما يلي:

1-  وحدة الأمة العربية من خلال " القمة العربية" بحيث يتم تفعيل هذه "القمة" وتحديثها وتطويرها لحل كافة مشكلات الأمة العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبناء الوطن العربي الكبير على أسس علمية سليمة تقضي على كل مظاهر الفقر والجهل والمرض والتخلف، وتُدخله عصر العلم والتكنولوجيا من أوسع الأبواب وفق خطط مدروسة تبتغي مصلحة هذا الوطن من أقصاه إلى أقصاه دون أي استثناء أو تمييز.. بعيدًا عن أبسط ألوان الصراع والخصومة التي ابُتليت بها أمتنا ونظامها السياسي منذ أمد بعيد .. واتّباع أسلوب الحوار الأخوي الودي المستمر الهادئ الهادف البنّاء وسيلة لحل الخلافات، وبناء الوطن والمواطن في كل أٌقطار العرب وأمصارهم.

2-  تحرير كافة أقطار العروبة، وتخليصها من التبعية للأجنبي، والسير بها على دروب الحرية والبناء، والإبداع، والاستقلال السياسي والاقتصادي، والنمو الاجتماعي والثقافي والفكري..وإقامة علاقات جديدة مبنية على الاحترام، وعلى قدم المساواة مع الدول الكبرى في هذا العالم مستفيدين في ذلك من كافة الأوضاع السياسية الإيجابية التي أخذت تطفو على السطح مؤخرًا مبشرة بعهد جديد، وأفق جديد تشرق فيه شمس هذه المنطقة العربية من جديد.

3-  فتح المجال واسعًا أمام شعوب العالم الإسلامي ودوله للمشاركة الجادة الفاعلة في نظام" القمة"، وهذا يعني فتح المجال أمام أكثر من ستين دولة في العالمين العربي والإسلامي للمشاركة في هذا المشروع التحرري النهضوي القائم على البناء والتطوير والتعمير... إنه، وبمشاركة هذه الأقطار في هذا "النظام" التحرري، وباستقلال هذه الأقطار استقلالاً حقيقيًّا، وقيام هذا الجسم العربي الإسلامي الواحد على كل أرض العرب والمسلمين، وقيام هذه العلاقة الطبيعية المتكافئة بين هذا الجسم وغيره من الدول في هذا العالم، ولا سيما الدول الكبرى المتقدمة علميًّا وصناعيًّا.. أقول إنه بتحقيق هذا الواقع الحلم، ونشوء هذا" الجسم" العربي الإسلامي على مساحة قدرها خمسة وعشرون مليونًا من الكيلومترات المربعة بكل ما فيها من قوى بشرية، وبكل ما فيها من طاقات وإمكانات وكفاءات وقدرات وثروات مائية ونفطية ومعدنية وزراعية وحيوانية قد يتحقق للبشرية توازن واتزان في علاقاتها، وقد يتحقق لها أمن وأمان، وسلم وسلام لم يسبق لها أن حلمت بمثله من قبل.

4-  فتح المجال واسعًا أيضًا أمام كافة الشعوب والقادة في هذا العالم من الراغبين في المشاركة في هذا المشروع العام، والاستفادة منه، والإسهام فيه، ولا سيما أقطار أمريكا الوسطى، وما تبقى من بلدان العالم الثالث ليكون المشروع مِلكًا لكل شعوب الأرض دون استثناء، وليكون واحة أمن وحرية وسلام يستظل بظلها الناس جميعًا في هذا العالم.

    إن القادة العرب يستطيعون من خلال " القمة العربية" بناء أوطانهم.. والنهوض بشعوبهم وبلدانهم في كل ديار العروبة والإسلام.. وإن بإمكانهم أن يساهموا في صنع حضارة عربية إسلامية جديدة تخدم سائر قضايا العرب والمسلمين، وتجمع بين وحدة الحلم الفردي والجماعي، وحلم الوحدة العربية الكبرى على كل أرض العرب.

28/3/2009

  

   

     

 


 

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

31. محجوب

                                           بقلم :عدنان السمان

                                    

 

 

محجــــــوب

 

    لم يعرف "محجوب" كيف " لطش وجهه" بقليل من الماء، ودس رجليه في حذائه بسرعة فائقة، وكأن أمرًا عسكريًّا صارمًا قد صدر إليه بمغادرة بيته للانضمام إلى أهل الحي الذين بدأوا يتجمعون في تلك الساحة الترابية من ساحات الحي المهمل.. لكنّ أمرًا كهذا لم يصدر، ولم يسمع أحد مكبرات الصوت تقول شيئًا في هذه الساعات الأولى من هذا النهار..  فما الذي جرى لمحجوب حتى يغادر بيته بهذه الطريقة، وفي هذه الساعة المبكرة؟ لقد تعود أن يتوجه إلى مدرسته في السابعة والنصف من صباح كل يوم، فما الذي حدث حتى يغادر البيت اليوم قبل شروق الشمس، والطيور لا تزال في وكناتها كما يقول امرؤ القيس؟

    اتجه "محجوب" مسرعًا صوب الطريق الزراعي الذي يصل القرية بما حولها من أراض، وواصل سيره في ذلك الطريق، بينما كانت تتصارع في رأسه شتى الأفكار والخواطر والذكريات... تذكر دموع زوجته – قبل بضعة أشهر – وهي منتحية في زاوية من زوايا محل للمجوهرات تنزع عن عنقها في استحياء ومذلة، وبأصابع مرتعشة ذلك العقد الذهبي الذي كان قد قدمه لها منذ عشرين عامًا هدية لزفافهما، لتبيعه الآن إلى هذا الصائغ، وتبيع معه أجمل ذكريات حياتها كي يدفعا شيئًا مما تراكم عليهما من ثمن الكهرباء – أما ثمن الماء فقد تكفل بتسديده السوار اليتيم الذي كان والدها – رحمه الله – قد قدمه إليها عندما اجتازت امتحان الابتدائية العامة قبل أكثر من خمسة وعشرين عامًا.

    وتذكر "محجوب" كيف أن الصائغ قد تدخل بالطبع ليقص ذلك السوار الجميل الذي لازم معصمها منذ أيام الطفولة... تذكر كل هذا .. تذكر أنهما باعا كل شيء لتسديد بعض التزامات بيتهما في هذا الزمن الذي يتزايد فيه المقموعون، ويتكاثر المعذبون، وينتشر الشحاذون لتضيق بهم شوارع المدن وميادينها العامة...

    لقد باعا كل شيء... واليوم لم يبق لمحجوب ما يبيعه، وها هو صاحب البيت يطالب بإخلائهم منه لعدم دفعهما الأجرة منذ ستة أشهر.. صحيح أن صاحب البيت لن يتمكن من ذلك – قانونيًّا – قبل مرور ستة أشهر أخرى... ولكن إلى متى ستستمر هذه المهازل؟ إلى متى ستستمر حياة المهانة والمذلة والهوان هذه؟

    ورجع بذاكرته قليلاً إلى الوراء، وتذكر ما الذي حصل في العام الماضي عندما طالب مع عدد كبير من زملائه بتحسين أحوالهم المعيشية.. وضحك وهو يتذكر بعض التهم التي وجهت إليه يومها!

    يا للَعجب! أهكذا يعامَل من يطالب بحقوقه في هذا الزمان، أهكذا يعامل العامل الذي يطالب بلقمة خبز نظيفة يأكلها بكرامة بعيدًا عن المهانة والاستجداء والذل.. كل فعل في هذا الزمان له ألف تفسير وتفسير، وكل كلمة يحاول المحللون المتحذلقون أن يخلقوا لها ألف معنى ومعنى رغم أن الموقف في غاية البساطة، ولا يحتمل أكثر من تفسير واحد واضح وضوح الشمس، ولكن ما العمل؟ هذا ما يجري مع كل الأسف في هذه الأيام!.

    وعاد "محجوب" بتصوراته إلى بيته... ترى ماذا تقول زوجته الآن وهي لا تدري متى خرج، وإلى أين توجه؟ وكيف ستتصرف مع الأولاد في هذا الصباح الأسود؟ أغلب الظن أنهم سيتمردون عليها، وأنها لن تستطيع تقديم شيء لهم، فهي لا تملك شيئًا...

    وتابع سيره في الطريق الزراعي وهو يتأمل تلك المزروعات، ويتمنى لو كان له مثل أصحاب هذه الأراضي ولو نصف دونم، إذن لتفنن في زراعته، ولأضاف أساليب جديدة مبتكرة في الزراعة، ولجعل نصف الدونم ينتج ما لا تنتجه عدة دونمات.. يكفي أنه سيشعر بالحرية وهو يعمل في مساحة محدودة من الأرض، يحس أنه يخدمها وتخدمه، يحبها وتحبه، ويلجأ إليها كلما ضاقت به الأرض على  رحبها.. ولكن ما العمل وهو مجرد معلم مدرسة لا يملك من متاع الدنيا شيئًا؟

    لقد ضاعف من نكده، وسوء حظه هذه العزة الزائدة التي كبرت في داخله مذ كان طفلاً، وهذه المكانة التي يحاول جاهدًا أن يصطنعها لنفسه ولغيره ظنًّا منه أن في هذه الأرض مكانة للفئة الضائعة التي ينتمي إليها!

    كان "محجوب" يحفظ عن ظهر قلب موقع مزرعة جاره وصديقه الحاج محمود، وكان قد علم يوم أمس أن جاره سيكون في مزرعته في هذا الصباح الباكر مع بعض عماله وعاملاته لجمع المحصول، فقرر أن ينضم إليهم، بل أن يسبقهم إلى المزرعة...

    وصل "محجوب" مزرعة جاره الحاج محمود، ولكنه لم يصدق عينيه، فتوقف عند مدخل المزرعة ليمعن النظر في وجه رجل غريب كان يقف إلى جانب سيارة شحن صغيرة يستكمل بعض العاملين من الغرباء الذين لا يعرفهم أيضًا تعبئتها من مزرعة الحاج محمود.. وقف "محجوب" مشدوهًا يعيد النظر في الأشياء من حوله.. ربما ضل الطريق إلى المزرعة بحكم الحالة النفسية السيئة التي تسيطر عليه منذ خروجه من بيته هذا الصباح، وبحكم الأفكار والتصورات المتصارعة في رأسه على امتداد الطريق... ولكن المزرعة هي المزرعة، وها هي  شجرة التوت على مدخلها، ثم هاهي شجرة الجميز تنتصب شامخة متفردة في تلك الناحية من مزارع القرية.. إذن هو لم يضل الطريق.. والمزرعة هي المزرعة، فمن هؤلاء؟ وماذا يفعلون على وجه التحديد؟ هل باعهم الحاج محمود المحصول دون أن يعلم هو بذلك؟ أبدًا فلقد سمع الحاج محمود وهو يتفق الليلة الماضية مع عاملاته وعماله على جني محصول المزرعة في هذا الصباح.. وأين الحاج محمود؟ وأين عماله وعاملاته؟ هل وصلوا هنا ثم عادوا دون أن يراهم، أم تُراهم في الطريق إلى المزرعة؟ ما الذي يحدث؟ تساءل محجوب في حَيْرة بالغة.

    واستفاق من ذهوله على صوت ذلك الرجل الواقف إلى جانب السيارة وهو يوجه إليه السؤال: لماذا تقف هكذا في مكانك دون أن تتقدم لمساعدتنا؟

    - مساعدتكم؟ ومن أنتم؟ أليست هذه هي مزرعة الحاج محمود؟

    - بلى، إنها مزرعته، ولكننا اشترينا المحصول.. ألم يحدث من قبل أن اشترى جار محصول جاره؟ أم تراك استعظمت الأمر لأننا من قرية أخرى غير هذه القرية؟

    - ممن اشتريتم المحصول؟

    - اشتريناه من الحاج محمود نفسه.

    - هذا غير صحيح، فالرجل لم يبع محصوله لأحد..

    - أتكذبني يا صديقي؟

    - لست صديقك..

    - بل صديقي العزيز، وما أنت أكثر من لص أتى إلى هنا، وفوجئ بمن سبقه لجمع المحصول، فغضب..

    - لو جئت من أجل هذا لكنت مستعدًّا له!

    - وهذه هي مشكلتك! تنقصك الجرأة، والتخطيط السليم.. أما نحن فقد ملكنا الجرأة والتخطيط، ففزنا كما ترى بالمحصول، بعد أن اشتريناه، وهذا من حقنا، أنت قمت بعمل فردي جبان أخذ شكل الاستجداء، كان هدفك أن تساعد الرجل كي يتكرم عليك – إلى جانب أجرك - بشيء من المحصول.

    - وماذا في ذلك؟

    - عيب، إنه عمل بدائي يفتقر إلى أبسط قواعد الكرامة، وأصول الأخلاق والمعاملات.

    - وأنتم؟

    - نحن اشترينا المحصول، وها نحن نجمعه بكل نشاط وقوة وشرف.. تعال، وشاركنا العمل إن شئت، ونحن سنعطيك ما تريد، لن نبخل عليك بشيء، وسنوصلك وما تحمل بهذه السيارة إلى بيتك.. تعال.. وشاركنا، لا تتردد..

    وعاد محجوب أدراجه من حيت أتى، وهو لا يكاد يصدق ما رأى وسمع، وتوجه إلى بيت جاره الحاج محمود، وقد أخذ منه التعب والإجهاد كل مأخذ.. وهناك أخبروه أن الحاج محمود في مخفر الشرطة يقدم شكوى ضد أولئك اللصوص بعد أن اشتبك معهم في المزرعة قبل الفجر.. وتوجه "محجوب" ليدلي بشهادته، ولكن أحدًا لم يطلب منه ذلك، ورأى من بعيد جاره الحاج محمود في غرفة ضابط التحقيق الذي كان يسجل أقواله.

    وفي صبيحة اليوم التالي شوهد "محجوب" وهو يقف إلى جانب زملائه الجدد من الباعة المتجولين في مركز المدينة التجاري.

1985


        

 

 


الأربعاء، ٢٥ آذار ٢٠٠٩

في الأزمة الماليّة العالميّة .. أسبابها ونتائجها

متابعات

في الأزمة الماليّة العالميّة .. أسبابها ونتائجها

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

   لم تكن حال الفقراء في هذا العالم قبل تفجّر الأزمة الماليّة الحاليّة بأحسن منها قبل تفجّر هذه الأزمة.. فالفقر هو الفقر، والفقراء هم الفقراء، وإن كان عددهم يقلّ أو يزيد في الحي الواحد،والقرية الواحدة، والمدينة الوحدة، وفي هذا التجمع السكاني، وفي هذه البلاد أو تلك وصولاً إلى رصد هذا العدد على مستوى المجتمع الدَّولي الذي أصبح بفعل ثورة المواصلات والاتصالات والمعلومات قرية واحدة يمكن الإلمام بأخبارها وأحوالها في ساعات.. ووصولاً إلى رصد مستوى الفقر ومفهومه، واختلاف معانيه ومضامينه وتباينها في كل بلد وبلد من بلدان هذا الكون، للوقوف على هذه المستويات، والخروج بأحكامٍ عامة، ومقاييس ثابتة تسهِّل الاستنتاج والاستنباط، وتمكِّن من الحديث المتناسق في النسبي والمطلق، وتجعل من الموضوعات الشائكة الصعبة موضوعاتٍ ميَّسرةً سهلة يمكن فكُّ رموزها وفهم طلاسمها؛ فإذا بها في متناول اليد عجينةٌ طيّعةٌ قابلة للتشكّل بسهولة ويُسر، وإذا بها على بساط البحث حقائقُ وأرقامٌ ينتظمها قانونٌ رياضيٌّ واحد، وتجلو خصائصها وقوانينها فيزياءُ المادة المحسوسة، وتُعيد أشكالها وتشكّلاتِها صعوداً وهبوطاً.. سلباً وإيجابا كيمياءُ المختبر، وحقول التجارب، ويزيلُ عجمتها ولكنتها، ويوضّح غموضها وإبهامها بيانٌ ناصعٌ كبياض يُغري بالحياة لذي عينين.

    في عهود الإقطاع كانت القرية، وكان الريف، وكانت الأرض الزراعية بمن فيها من الفلاحين وأقنان الأرض ملكاً للإقطاعي يتصرف بها كما يشاء، ويلهو بإنسانها وحيوانها ونباتها كما يريد.. ولم يكن أمام من يرفض هذا اللون من الذل أو الموت بسيف الإقطاعي ورجاله المتسلطين على رقاب الناس، وعلى لقمة عيشهم إلا أن يهرب إلى المدينة وفسادها وطغيان الإقطاع السياسي الذي يُحصي على الناس أنفاسهم، ويعدّ عليهم سكناتِهم وحركاتِهم.. ولئن كان الإنسان في الريف عبدًا في مزارع الإقطاعي في تلك العهود، فإنه في المدينة أيضًا عبد في مطاعمها، ومصانعها، وشوارعها، ومتاجرها، وموانئها، وفي بيوتها أيضًا حيث الخدمة، وحيث التنازل عن الكرامة مقابل لقمة العيش في معظم الأحوال.

    في عهود الإقطاع تلك عرف الناس ما يمكن أن يُسمى باقتصاد النظام الإقطاعيٍ الطبقي القائم على استغلال القوى العاملة، وتسخيرها لصالح الإقطاع الاجتماعي المتحالف بالضرورة مع الإقطاع السياسي الداعم لحليفه، والمتقاسم معه ثروات الأرض، ومجهود الإنسان وطاقاته، ممثَّلاً في استغلال هذا المجهود بالحد الأدنى من الأجر الذي يُبقي على الحياة في أحسن الأحوال، وممثَّلاً في استغفال هذا الإنسان، واستغلال جهله وتخلّفه أبشع استغلال عندما يتعلق الأمر بأعمال السخرة التي تستنزف كل مجهودات الجياع وطاقاتهم دون أي أجر...لم يكن اقتصاد تلك العهود معقَّدًا، بل كان بسيطًا بساطة الحياة نفسها.. بدائيًّا كبدائيتها؛ فقد كانت الحياة آنذاك- أعني حياة سواد الناس الأعظم- خاليةً من كل أشكال الكماليات، قائمة – في أحسن الأحوال- على ما يسد الرمق، ويقي من الهلاك.

    وبحلول عهد الثورة الصناعية في أوروبا، وبدءِ التحولات الاجتماعية والسياسية في مجتمعاتها، أخذت تلك المجتمعات تشهد انقلاباتٍ اقتصاديةً فجّرتها بعد أن كتبتْ مقدماتِها ثورةٌ فكرية عصفت بتلك المجتمعات داعيةً إلى الحرية، والتحرر، وكرامة الإنسان، وبناء النظامين السياسي والاقتصادي على أسس عصرية، ونهج علمي قائم على التحديث والتطوير، ومواكبة التقدم، ومسايرة روح العصر، وتحقيق الأهداف الخاصة والعامة للأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء.

    بعد أن امتلك الغرب القوة المادية، وكل أسباب التفوق العسكري راح يبحث عن أسواق لبضائعه ومنتجاته الصناعية المدنية ثم العسكرية، كما راح يبحث عن أسواق لأفكاره، وعن شعوب تحمل هذه الأفكار كي يسهل عليه اختراقها، والسيطرة – بالتالي- على أرضها ومقدَّراتها بالحد الأدنى من المعارك والخصومة والصراع، وبالحد الأقصى من التفاهم، وتحقيق الأهداف المشتركة... لقد حاول الغرب نشر فكره الرأسمالي في كل أقطار آسيا وإفريقية متَّبعًا في ذلك كثيرًا من الوسائل والأساليب، كما حاول بالوسائل والأساليب ذاتها نشر ثقافته في تلك الأقطار، وإقامة علاقات صداقة وتحالف مع كثير من الأسر، والأفراد، والقياديين من مختلف الفئات، ومن كافة الميادين الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية...بل لقد ذهبت دول الغرب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أسقطت دولاً، واحتلت أقطارًا، وأقامت دولاً، وشردت شعوبًا، وتقاسمت فيما بينها معظم الأقطار في هذا العالم ...ولقد تمكن الغرب أيضًا، وبعد سبعة عقود من الصراع، وألوان الحرب الباردة من تفكيك الاتحاد السوفياتي، ووضع يده على كثير من جمهوريات ذلك الاتحاد... بل لقد ذهبت الولايات المتحدة – تحديدًا- إلى ما هو أبعد من ذلك عندما أقدمت على احتلال دول مستقلة ذات سيادة، وذات عضوية كاملة في الأمم المتحدة مثل أفغانستان والعراق، وذات حضور سياسي وثقافي وحضاري في التاريخ لم تحظ بمثله كل دول أوروبا قديمًا وحديثًا، ولم تحظ بمثله الولايات المتحدة مذ تحررت من الاستعمار البريطاني، ومذ أصبحت دولة، وحتى هذه الأيام...إن الحضارة العربية الإسلامية في أفغانستان والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وفي سائر ديار العروبة والإسلام هي حضارة لم تشهد لها الدنيا مثيلاً من قبل.. لا أقول هذا تعصُّبًا للعروبة والإسلام، أو للتاريخ العربي الإسلامي، والثقافة العربية الإسلامية..  ولكنها الحقيقة الناصعة التي لا يستطيع أحد إنكارها.. حقيقة أن هذه الديار هي مهد الحضارات في هذا الكون، وليس من حق أحد أن يتنكّر لهذه الحقيقة، وأن ينكر فضل هذه الأمة على الدنيا كلها ماضيًا وحاضرًا، وفي كل آن.. وليس من حق أحد أن يأتي من آخر الدنيا بدعوى تحرير هذه الشعوب العربية الإسلامية من جهلها وتخلّفها، وبدعوى محاربة الإرهاب الذي ابتدعته العقلية الغربية، والاستكبار الغربي، والافتراءات الغربية، وكل محاولات التجني الغربي، وكل محاولات التزوير، وقلب الحقائق التي يمارسها الغرب في هذه الديار منذ أجيال وأجيال...قد يرى بعضهم في هذا تحاملاً على الغرب، ودول الغرب، والحقيقة تقول إن ما فعلته دول الغرب، وما تفعله الآن في ديار العروبة وغير ديار العروبة من أقطار هذا الكون هو من الأمور العظام التي تستوجب وقفة كل قوى التحرر في هذا العالم للخلاص من ممارسات الغرب وعدوانيته، واستهتاره بالشعوب، ومصادرة حرياتها، ونهب خيراتها، والاعتداء الصارخ على أرضها وإنسانها.

    لقد حقق الغربيون كثيرًا من أهدافهم وأطماعهم بالسيطرة على هذه الديار، لقد نهبوا وسلبوا وصادروا الحريات، واعتقلوا وقهروا الأحرار والحرائر في كل بلاد العروبة والإسلام...ولكن الذي لم يخطر لهم على بال أن احتلال بلاد الأفغان والعراق سيكون وبالاً على شعوبهم، وسيكون وبالاً على اقتصادهم، وعلى نظامهم السياسي... نعم.. لقد دفعت أمريكا غاليًا ثمن عدوانها، وثمن تهديدها بالعدوان.. دفعته من دماء جنودها نتيجة حرب الاستنزاف التي يخوضها المقاومون الذين وحّدوا صفوفهم، وعقدوا العزم على السير في طريق المقاومة حتى النصر.. ودفعته انهيارًا مدمرًا في اقتصادها، وانهيارًا مدمرًا في اقتصاد حلفائها وأصدقائها، وانهيارًا مرعبًا في اقتصاد المجتمع الدولي بأسره.

    لقد كلفت الحرب على العراق خزينة الولايات المتحدة حتى نهاية العام الماضي (2008) نحو عشرة ترليونات( عشرة آلاف مليار)دولار،ولا تزال الولايات المتحدة متورطة في تلك الحرب حتى الآن، وحتى نهاية العام الحادي عشر من هذه الألفية بموجب قرار الإدارة الأمريكية الجديدة، ولا أحد يعلم يقينًا كم ستبلغ نفقات الخزينة الأمريكية خلال هذين العامين.. ولا أحد يعلم يقينًا أيضًا كم بلغت نفقات الحرب الأمريكية على أفغانستان حتى اليوم، وكم ستكون قد بلغت عندما ستضع الحرب هناك أوزارها ذات يوم.. ولا أحد يعلم يقينًا كم بلغت نفقات الخزينة الأمريكية جراء الاستعدادات الأمريكية للحرب على إيران وسورية، وكافة أطراف "محور الشر" بحسب التسمية التي أطلقتها الإدارة الأمريكية السابقة على الدول والقوى التي لا تريد الانصياع للهيمنة الأمريكية ، والخضوع لخططها ومخططاتها الرامية إلى وضع اليد على هذه المنطقة من العالم، والسيطرة على ثرواتها.

    غاية القول أن تلك الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على كثير من الأقطار العربية والإسلامية، وعلى غيرها من الأقطار في هذا العالم قد كانت عاملاً من العوامل التي أدت إلى تفجر هذه الأزمة المالية العالميّة التي تعصف بالاقتصاد الأمريكي،  وباقتصاد الدول المرتبطة بذلك الاقتصاد في شتى أنحاء هذا العالم، ولا سيما في بلدان آسيا وأوروبا، وبعض بلدان القارة الإفريقية.

    يضاف إلى ذلك تلك " المعونات والمساعدات" التي تنفقها الولايات المتحدة الأمريكية على كثير من أقطار هذا العالم تارة بهدف تعزيز الصداقة والتحالف، وطورًا بهدف دعم الأصدقاء والحلفاء، والعمل على تقوية مواقعهم، وحماية أنظمتهم الموالية لأمريكا والمتحالفة معها، ويضاف إلى ذلك أيضًا شحنات السلاح التي تقدمها الولايات المتحدة إلى تلك الأنظمة في مناطق شتى من هذا العالم، ولا سيما تلك المناطق الساخنة، وبؤر التوتر التي شهدت في الماضي القريب كثيرًا من المعارك والحروب، ولا تزال مرشحة لمزيد منها الآن، وفي المستقبل المنظور ، وتلك التي تؤسس الأوضاع السياسية والاقتصادية والتناقضات الطبقية والفساد الداخلي فيها لصراعات جديدة من الصعب أن يتنبّأ المراقبون بنتائجها، وأن يتكهن المحللون بما ستسفر عنه من كوارث وأهوال.

    وغاية القول أيضًا أن هذا التحالف الذي قادته الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين ، وأن هذه "الشركة" التي ساهمت الولايات المتحدة فيها بأكثر من نصف الأسهم لاستعمار هذا الكون، ووضع اليد على الأرض والإنسان فيه جريًا  على أساليب الاستعمار القديم، وأكثرها تسلُّطًا وبدائية وعدوانيّة ودمويّةً قد أدت إلى عكس ما توخّته هذه الشركة (التي ضمّت كثيرًا من الدول الاستعمارية ذات الأهداف والمطامع في كل أقطار هذا الكون) إذ تنبّهت الشعوب لما يُراد بها، وراحت تقاوم أهداف هذه الشركة وتطلعاتها وأطماعها.. كما راحت تهاجم دول هذه الشركة، وذاك التحالف في عقر داره حينًا، وفي كثير من قواعده ومصالحه المنتشرة في هذا العالم حينًا آخر.. الأمر الذي أدى إلى مزيد من الخسائر، ومزيد من الانهيار في اقتصادات تلك الشركة، وبخاصة اقتصاد أمريكا التي تتزعم تلك الشركة، وتقود ذلك التحالف.

    ولا بد لمن يريد الكلام في هذه الأزمة المالية العالميّة أن يشير إلى بعض خصائص النظام الرأسمالي الغربي في فتح المجال واسعًا أمام الأفراد والشركات والمؤسسات لتحقيق الأرباح بغض النظر عن الوسيلة والأسلوب.. حتى تلك الوسائل والأساليب التي تحرمها القوانين تمكن ممارستها بطرق ملتوية تمكّنها من الالتفاف على القوانين، والتحايل عليها، وبالتالي الإفلات من قبضتها.. ثم إن تكالب المجتمع الرأسمالي على المادة، وولعه الشديد بها، واتصاف أفراده بالجشع والتهافت على جمع المال بغض النظر عن الوسيلة في كثير من الأحيان، وتعلّق الأفراد بالرفاهية، وحرصهم الشديد على تحقيق الحد الأقصى منها مهما كان الثمن.. كل ذلك عمّق الطبقية في المجتمع الرأسمالي، وقضى – أو كاد – على الطبقة الوسطى التي كانت في الماضي تشكّل غالبية الناس في المجتمع.. وأوجد طبقتين: واحدة غنية متنفّذة متحكمّة، وهي قلّة من ذوي الحكم والجاه والسلطان، وثانية فقيرة محكومة مغلوبة على أمرها، وهي سواد الناس الأعظم، والكثرة الكاثرة من المواطنين.. لقد أصبحت هذه الطبقة المعدمة – بمرور الزمن – عبئًا على الدولة، وعبئًا على النظام الاقتصادي الرأسمالي نفسه الذي أصبح مطالَبًا بالإنفاق عليها، ومعالجتها من الأمراض، ومكافحة الآفات الاجتماعية والصحية والنفسية الناجمة عن الفقر  والتشرد والجنوح والانحراف، فكان هذا سببًا من أسباب الانهيار، وكان سببًا من أسباب الأزمة المالية العالميّة التي تعصف بالكون في هذه الأيام.

   إن النظام الاقتصادي الرأسمالي الربويّ القائم على الاستغلال، والاستغفال، والمغامرة، والمقامرة، والعدوان على الناس، وامتصاص دماء الشعوب، واحتلال بلادها، ونهب ثرواتها.. هذا النظام الاقتصادي الرأسمالي يئنّ اليوم تحت وقع ضربات سياسية واجتماعية ونفسية متتالية ليس من السهل أن يثبت تحت وطأتها، وليس من السهل أن يخرج منها سليمًا معافًى لأنه لم يكن كذلك في يوم الأيام، ولأنه وُلد وهو يحمل في أحشائه جرثومة فنائه.. ويبدو أن أوان الاستحقاق قد حان.

    لقد وقع ذلك النظام الاقتصادي هذه المرة في شر ما صنعت يداه على امتداد العقود الماضية؛ فكانت هذه الأزمة المالية غير المسبوقة التي يتهاوى تحت وقعها الآن ، وإن حاول أرباب ذلك الاقتصاد المنهار أن يقلّلوا من حجم هذا الانهيار، والإيحاء بأن موعد الخروج من أزمتهم قد بات قريبًا، أو أنه مسألة وقت... إن هذا الانهيار الاقتصادي الذي ستُغلق معه كثير من المصانع والشركات، لتعصف البطالة بملايين العمال في تلك المجتمعات، وليختفي اليورو والدولار من الأسواق ، وكذلك باقي العملات، ولترتفع في الوقت نفسه أسعار السلع والبضائع وكل الحاجيات، وليكثر المتسولون والمتضورون جوعًا في الأحياء والشوارع والطرقات، ولتفتك الجريمة المنظَّمة والعشوائية بالناس في تلك المجتمعات والتجمعات ، ولتكثر العصابات والمافيات في سائر مجتمعات النظام الرأسمالي المنهار.. وليس من السهل أن تقوم لهذا النظام قائمة بعد ذلك إلا إذا غيّر جلده، وغيّر عقليته، وطريقة تفكيره، ولم يعد ذلك النظام العدواني المتسلط على الناس في أوطانهم وأبدانهم وأديانهم.

    وفي غمرة الحديث عن المستقبل الرهيب الذي يتهدد كثيرًا من الشعوب في هذا العالم.. وفي غمرة الحديث عن الفواجع والنوازل التي تنتظر كثيرًا من المجتمعات بفعل هذه الأزمة المالية العالمية فإنه يحسن بشعوب العالم العربي والإسلامي أن تستفيق من غفلتها كي تحقق لنفسها السلامة من آثار هذا الانهيار المدمر..

   يحسن بهذه الشعوب أن تتوجه في الحال لزراعة أرضها، والعمل السريع من أجل تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي العربي، وتحقيق حرية الإنسان العربي وكرامته، ووضع أهدافه في السيادة والاستقلال والحياة الكريمة موضع التنفيذ في الحال.

    إذا رغب العالم العربي في تجنب آثار هذا الزلزال الاقتصادي المدمر الذي سيعصف بكل دول المعسكر الرأسمالي فما عليه إلا أن يحقق لنفسه شكلاً كافيًا من أشكال الوحدة العربية، والتقارب العربي، والوفاق العربي.. وما عليه إلا أن يتوجه لزراعة أرضه، والاعتماد على نفسه في خلق اقتصاد عربي سليم قائم على العمل الجاد المشرّف، والحصول على لقمة العيش من عرق الجبين.. بعيدًا عن ثقافة الكسل، وبعيدًا عن التبعية للأجنبي، وبعيدًا عن رهن الأرض والاستقلال ومستقبل الأجيال بمشاريعَ وأوهامٍ وخيالات من صنع أولئك الواهمين الحالمين الذين جنَوا على أنفسهم، وجنَوا على البشرية، وجرّوا عليها أبشع الكوارث والمآسي والنكبات.

25/3/2009

     

   


 

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

30ليلة

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

ليــلـــــة

 

    المدن، والقرى، والمخيمات جميعًا في فلسطين تحترق.. كل شيء في فلسطين يحترق: عيون الأطفال.. قلوب الشيوخ والأمهات.. صدور الشباب... إطارات السيارات المشتعلة تملأ الجو لهيبًا بلون الدم، ودخانًا كثيفًا بلون الحقد والكراهية... القنابل الضوئية تنتشر شموسًا، فتحيل الليل البهيم نهارًا مبصرًا... صرخات تُسمع هناك... شباب، وكهول، وشيوخ يُقتادون إلى جهات مجهولة قسرًا، وبأسلوب غاية في العنف.. وقد انتصف الليل أو كاد... وأصوات عالية تشق جوز الفضاء.. تمزق سكون ليل الأسارى والخانعين في الأقطار المجاورة لفلسطين تنطلق قوية مجلجلة بهذا الهتاف الأبدي: الله أكبر، والويل للغزاة.. الله أكبر، والموت للطغاة.. الله أكبر، وعاشت فلسطين.. الله أكبر، والنصر للثوار.. بالروح بالدم نفديك يا شهيد.. بالروح بالدم نفديك يا فلسطين... من أقصى هذا الوطن إلى أقصاه.. من أعالي جنين شمالاً، وحتى الحدود المصرية في أقصى جنوب قطاع غزة.. ومن أريحا وطوباس في أغوار أبي عبيدة عامر بن الجراح شرقًا، وحتى خط الهدنة على امتداد الخط الأخضر غربًا كان الإضراب الشامل، وما سبقه ولحقه من أيام الحداد على أرواح الشهداء، والاحتجاج على عمليات المداهمة والمصادرة والاعتقال والتنكيل يدخل يومه الرابع.. فلا تكاد ترى، أو تسمع في فلسطين كلها إلا صدى انتفاضة شعب قرر استرداد حريته من غاصبيها، وإلا أعمال قمع وانتقام يقوم بها جيش احتلال بأكمله، لتركيع هذا الشعب، وقمع انتفاضته.

    كنت في  تلك الليلة الحالكة السواد في ضيافة صديق قديم رآني مصادفةً في جنين، وأقسم عليَّ أن أعود معه إلى "ميثلون" كي أبيت ليلتي هناك.. ولم يكن من الموافقة بد، فالناس في جنين ومخيمها، وميثلون، وقباطية، واليامون، وعرابة، ويعبد، والجلمة، وبرطعة، وطورة، وكفر راعي، والسيلة، وعقابا، ورابا، وجبع، ومسلية، وعنزة... وفي كل قرى جنين وبلداتها أناس طيبون يتصفون بالشهامة والكرم والصدق... ولعمري فإنني دائم الحنين لمواويلهم، وأعراسهم، وأصوات زجّاليهم، ومنشديهم.. حيث رخامة الصوت وصفاؤه، ونقاء السريرة والروح والضمير... لقد قالوا قديمًا: "مبيت ليلة في الحيرة خير من علاج سنة" وأنا أقول: "مبيت ليلة في ميثلون أحب إليّ من الدنيا وما فيها"... لقد كان من الطبيعي أن يكرم صديقي الميثلوني وفادتي، وأن أنعم على مائدته بعشاء عظيم، وأن أتذوق بعد هذا العشاء أحلى بطيخ لا تجده إلا في ميثلون بخاصة، وفي منطقة جنين بشكل عام.

    قلت لصديقي القديم: أرى عندك في هذه الحظيرة شتى أصناف الحيوانات الأليفة والطيور الداجنة.. لقد سبق أن زرتك من قبل، ولم أشاهد شيئًا من هذا.. فما سر ذلك؟

    قال : صحيح أنني أهتم بتربية بعض الأغنام والطيور منذ عشرات السنين.. ولكن اهتمامي هذا تضاعف كثيرًا، وبشكل يلفت النظر في المدة الأخيرة.. وهذا الاهتمام بالثروة الحيوانية – كما تعلم – كان توجّهًا عامًّا في الريف الفلسطيني منذ بداية الانتفاضة، وذلك لتوفير احتياجات الناس من اللحوم والألبان، وما إلى ذلك.. لو تجولت قليلاً في البلدة لرأيت أن اهتمام الناس هنا بالثروة الحيوانية لا يقل أبدًا عن اهتمامهم بالزراعة مهنتهم الأولى .. ومهما يكن من أمر، فهذا يكمل ذاك، والمهم في نهاية الأمر أن نتمكن جميعًا في المدن وفي الأرياف من تحقيق نوع من التكامل في اقتصادنا، ولاسيما المنزليّ منه، وتوفير البدائل لكثير من المنتوجات والمصنوعات التي قرر شعبنا مقاطعتها، والاستغناء عنها منذ الأيام الأولى لانتفاضته.

    قلت: هل نجحتم في ذلك؟

    قال: إلى حد ما.

    قلت: ما أبرز المشكلات التي تواجهكم في هذا المجال؟

    قال: مشكلاتنا يا صديقي كثيرة.. ولكنها في هذا المجال بالذات تتلخص في الغلاء الفاحش الذي طرأ على أسعار الأعلاف مؤخرًا.. وفي عدم الاهتمام الكافي من قبل دوائر الصحة والبيطرة بهذه الثروة الحيوانية الهائلة.. مما تسبب في إصابة كثير منها بالأمراض، وبالتالي انتقال هذه الأمراض إلى الإنسان.. وغني عن القول إن ضيق المساحات المخصصة للرعي في البلاد بشكل عام يسبب لنا مشكلة كبيرة، فلقد أقدمت سلطات الاحتلال على مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية والمراعي، ولم تترك للناس في أغلب الأحيان ما يكفي لاحتياجاتهم من أراضيهم.. أضف إلى ذلك غياب عملية التنسيق بين  القرى المختلفة الأمر الذي سبب فائضًا في نوع من الحيوانات أو الطيور.. بينما تفتقر الأسواق المحلية إلى أنواع أخرى.. والأمر ليس جديدًا، فما كنا نعاني منه في مجال الزراعة أصبحنا نعاني منه الآن في مجال الثروة الحيوانية.. ومن الممكن أن نضيف عاملاً آخر وهو تعرض سلطات الاحتلال بين الحين والآخر لبعض مزارع الدواجن في البلاد بالهدم والإتلاف بحجة عدم حصول أصحابها على التراخيص اللازمة.. وما إلى ذلك من حجج وأسباب.. ولكنك تعرف السبب الحقيقي.. إنه محاولات التخريب المتعمد التي يمارسها الغزاة لقتل اقتصادنا، وتجويع شعبنا، وتركيعه.

    ولقد تحدث صديقي الميثلوني في موضوعات كثيرة، وكانت أحاديثه ممتعة مسلية، وذات دلالات عميقة تنمّ عن وعي وصدق ودراية... فكما تحدث في الاقتصاد تحدث أيضًا في السياسة مؤكّدًا على أن نضال شعب فلسطين من أجل نيل حريته واستقلاله وتقرير مصيره فوق تراب وطنه لا يمكن أن يضيع هدرًا، فلكل مجتهد نصيب.. ولابد لكل ليل من آخر مهما طال.. وللباطل جولة ثم يضمحل.. وشعب فلسطين شعب صابر مرابط.. وهو شعب الرجولة والتضحيات.

    قلت لصديقي: هل تحدثني عن سلبيات هذه الفترة في منطقتكم؟ وبماذا تنصح الشباب؟

    قال: ولماذا لا نتحدث في الإيجابيات؟ لا أحب الحديث في السلبيات.. هذا إذا افترضنا وجودها في منطقتنا.... وأما ما أنصـح به الشباب فكثير... تعلم يا صديقي أن الشباب بشكل عام قليلو التجربة.. شديدو الاندفاع والحماسة.. وهم  - دون شك- أنقياء أبرياء شرفاء.. فإذا أضيف إلى إيجابياتهم هذه حكمة الشيوخ وتجربتهم فإن هذا يجنبهم الوقوع في أخطاء أو تجاوزات هم في غِنًى عنها.. صحيح أن الكمال لله وحده.. ولكن أخذ آرائنا نحن الشيوخ بعين الاعتبار من شأنه أن يبلغ بهم أقصى درجات الكمال.. إن من  شأنه أن يجنبهم مواطن الزلل، ويوفر عليهم كثيرًا من العثرات.. قد تقول لي إنهم ليسوا وحدهم.. وإن بينهم كثيرًا من أهل الرأي، وأصحاب التجارب.. ولكنني أقول إن هذا غير كاف.. إن لم يكن في كافة المناطق ففي كثير منها... شيء آخر لا بد من الإشارة إليه هو الوحدة.. لا تستغرب يا صديقي هذا المطلب.. فأنا لا أطالب بوحدة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، ولكنني أطالب بوحدة أبناء القرية الواحدة! وأبناء المخيم الواحد! وأبناء الحي الواحد في المدينة! أطالب بهذه الوحدة لأسباب أهمها أنها قوة، وأننا جميعًا بحاجة لمزيد من القوة.. أعني القوة بكافة أشكالها وصورها.. ثم إنها الوسيلة الوحيدة لضمان عدم إيقاع الظلم بأي مواطن بريء.. وما أسوأ الظلم، وأمرّ طعمه، وأوخم عواقبه! فكيف إذا اقترن الظلم بالاعتداء؟ وكيف إذا وصل الاعتداء حد التصفية الجسدية؟ أعتقد أن شيئًا من هذا ما كان ليحدث لو تسلح شبابنا بسلاح الوحدة، وتحصنوا بحصنها الحصين.. إذن لعصمتهم هذه الوحدة من الخطأ.. ولدفعت هذه الوحدة الالتباس، وأحلت محله نور اليقين، ووفرت على شعبنا أخطاء بل خطايا يجب أن لا تحدث... شيء آخر لا بد من التوجه به إلى بعض أبنائنا هو أن السلطة مركب صعب محفوفة طريقه بالأمواج المتلاطمة، والتيارات الغادرة القاتلة، والدوامات الخادعة الساكنة المؤدية إلى الويلات والمهالك... فليكن حذرًا من ارتضى لنفسه الصعود إلى هذا المركب.. وليكن دائمًا مفتوح العينين، حاضر الذهن، ذكي الفؤاد، نقي الضمير، شديد الثقة بالنفس في غير غرور أو افتتان بمظاهر السلطة والسلطان.. وإلا فإنه يمارس بقصد أو بدون قصد لونًا أو أكثر من ألوان الاستبداد، أو العدوان على الناس في أنفسهم، أو في ما تبقى لهم من ممتلكات.. وهذا خطر جسيم لا بد من التحذير منه قبل أن يتسع الجرح، ويصعب الرتق، ويزداد الفتق سوءًا، ويحدث ما لا تُحمد عقباه... هكذا تكلم صديقي الميثلوني.. وهكذا ظل ينطق بالحكمة في تلك الأمسية اللطيفة الهادئة هدوء نفس محدثي حتى نمنا دون أن ندري كيف كان ذلك.. وإن كنا ندري يقينًا كيف أفقنا.. بل كيف أفاقت تلك البلدة الوادعة.. وكيف استقبلت نبأ استشهاد أحد أبنائها... صوت طلقات مزقت سكون الفجر... الشباب يتصدون بصدورهم العارية لمحاولة اقتحام تستهدف استباحة البلدة.. أعين الشباب الساهرة كانت بالمرصاد... لم يتمكن الشباب من العودة بجثمان الشهيد.. بل عادوا يحملون عددًا من جرحاهم... ودوّت في جو البلدة كل الأصوات: الله أكبر.. وعاشت فلسطين.. بالروح بالدم نفديك يا شهيد.. بالروح بالدم نفديك يا فلسطين... كل أهالي البلدة كانوا يرددون الهتاف الأبدي وهم يتسابقون لنجدة الشباب الذين اصطبغت ملابسهم بالدماء وهم يحملون جرحاهم.. بينما تجمعت قوات محمولة من جيش الاحتلال عند نقطة التقاطع مع الشارع العام الموصل بين جنين ونابلس حيث مدخل ميثلون.

 

 

(1988)



الاثنين، ٢٣ آذار ٢٠٠٩

متابعات

أربعة وستون عامًا على تأسيس الجامعة العربية

أ‌.      عدنان السمان

    www.samman.co.nr

 

    في الوقت الذي تبحث فيه الأمم والشعوب في هذا العالم عن وسائل تحقق بها وبوساطتها أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في الذي الوقت الذي تقوم فيه التكتلات والتحالفات سرًّا وعلانية بين كثير من الدول في هذا العالم، وفي الوقت الذي تُعقد فيه الاتفاقات بين هذه الدول لتحقيق مزيد من الأهداف المادية والمعنوية لشعوبها ورعاياها على المستويات المحلية والإقليمية والدَّولية، وفي الوقت الذي أصبحت فيه كل دول العالم تبحث عن مصالحها وأهداف شعوبها في التقدم والرِّفاء والازدهار، والخلاص من المشكلات والأزمات والتحديات نجد كثيرًا من الدول في هذا العالم تعيش أحوالاً سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية متردية.. في الوقت الذي تعاني فيه الغالبية العظمى من شعوب هذه الدول من الفقر والجهل والمرض والتخلف والضَّياع، وفي الوقت الذي تخضع فيه تلك الشعوب لألوان شتى من التعسف والظلم والاضطهاد، وصور لا تكاد تُحصى من التحكم والاستعباد والاستبداد.

    ليس من السهل أن تلمّ مراكز الدراسات والبحوث بآلام الأمة العربية ومشكلات شعوبها على الرغم من كل هذه الثروات الطائلة التي تحظى بها كل أرض العرب.. والسبب أولاً وقبل كل شيء يكمن في تمزق العرب وانقساماتهم وتشرذمهم وخصوماتهم وتبعيتهم للأجنبي الذي ينهب ثرواتهم، ويتحكم في اقتصادياتهم الأمر الذي انعكس سلبًا على العرب والعروبة والشعوب العربية ودول العرب، بل وعلى المسلمين والعرب الذين يبلغ تعداد دولهم نحو ستين دولة! وتبلغ مساحة أرضهم نحو عشرين مليون ميل مربع يعيش عليها نحو مليار ونصف المليار من البشر، ولكن هذا كله لم يشفع لشعوب هذه الأمة، وَلم يَحُلْ دون تبعيتها للغرب بطرق مختلفة منها الاحتلال، ومنها هذه المنظمات والجمعيات والتنظيمات التي أقامها الاستعمار الغربي ليحكم بها وعن طريقها شعوب هذه الأمة ودولها... ومن  هذا على سبيل المثال لا الحصر هذه الجامعة العربية التي تأسست في الثاني والعشرين من آذار من عام خمسة وأربعين وتسعمئة وألف، وهي - كما جاء في ميثاقها – منظمة دولية مقرها القاهرة، وغايتها: " توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية تحقيقًا للتعاون فيما بينها، وصيانة لاستقلالها وسيادتها، والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد ومصالحها" و" التعاون في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية" والتي وقعت ميثاقها  كل من مصر والعراق والأردن واليمن وسوريا ولبنان والسعودية، وانضمت إليها ليبيا عام ثلاثة وخمسين وتسعمئة وألف، كما انضم إليها السودان عام ستة وخمسين، أما المغرب وتونس فقد انضما عام ثمانية وخمسين ، وانضم إليها الكويت عام واحد وستين، والجزائر عام اثنين وستين، وجمهورية جنوب اليمن الشعبية (التي توحدت مع اليمن لاحقًا) عام ثمانية وستين ، والبحرين (مملكة البحرين) وقطر وعُمان واتحاد الإمارات العربية عام واحد وسبعين.

    ولهذه الجامعة ميثاق يشتمل على عشرين مادة، وثلاثة ملاحق يتعلق أولها بفلسطين، والثاني بالدول غير المشتركة في هذه المنظمة، والثالث بالأمين العام وتعيينه.. وتتكون الجامعة من "مجلس الجامعة" المؤلف من جميع البلدان العربية المشتركة و"اللجان الدائمة" و"الأمانة العامة".. ولقد ساعدت الجامعة بلدانًا عربية كثيرة لنيل "استقلالها" مثل ليبيا، ومراكش، وتونس والجزائر. ولا أدري يقينًا كم يبلغ عدد الدول الأعضاء في هذه الجامعة العربية، وإن كنت أسمع ممن يعنيهم الأمر أن عددها اليوم هو اثنان وعشرون دولة.

    لا بد – ونحن نستعرض تاريخ الجامعة العربية – من القول إن هذه الجامعة التي تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية. والتي كان لبريطانيا وللسير أنتوني إيدن بالذات الدور الأكبر في تشكيلها إنما أقيمت لضرب الوحدة العربية ، وتكريس القطيعة والانقسام على الساحة العربية، وتعميق الانقسامات والخلافات بين العرب في مختلف أقطارهم وأمصارهم.

    إن اسم هذه الجامعة – جامعة الدول العربية – يدل دلالة قاطعة على افتراض وجود دول كثيرة على الأرض العربية في الوقت الذي كانت فيه بلاد العرب لا تشكّل أكثر من بضع ولايات في دولة الخلافة العثمانية، ولم تكن أكثر من جزء من دولة الإسلام في زمن الخلافة العباسية التي اتخذت من بغداد عاصمة لها، وكذلك في زمن بني أمية عندما كانت دمشق عاصمة الدنيا بأسرها... هذه الجامعة العربية التي تضم اليوم اثنتين وعشرين دولة إنما أقيمت عام خمسة وأربعين من القرن الماضي لتمزيق البلاد العربية، وإقامة كيانات سياسية كثيرة في بلاد العرب يجمع بينها أنها تابعة للغرب، وأنها كيانات هزيلة لا تملك من أمر نفسها شيئًا إلا بمقدار ما يسمح به السادة الكبار في عواصم الغرب... وإن اسم  هذه الجامعة – جامعة الدول العربية- يشير صراحة إلى أن عدد هذه الدول المشتركة فيها قابل للزيادة مع الأيام، فدول العرب يمكن أن يزداد عددها بالفوضى الخلاّقة والاحتلال والانقسامات التي تشهدها الأرض العربية، والمنطقة العربية.. وهذا منوط برغبة الدول الأعضاء فيها، وهو عائد إلى طبيعة اتخاذ القرار فيها وهو الإجماع، هذا القرار الذي تحاول دول عربية كثيرة استبداله بالأكثرية بعد أن فشلت في تحقيق الإجماع على بعض مطالب الغرب، ثم سكتت تلك الأصوات المطالبة باعتماد الأكثرية بعد أن أوجد الغرب حلاًّ لهذه المشكلة باللجوء إلى احتلال هذا البلد أو ذاك، وتشكيل حكومة أو حكومات موالية لسياسته فيه، وبهذه الطريقة يمكن حل المشكلة، ويمكن توفير غطاء قانوني لمطالب الغرب في ديار العرب، ويمكن اعتبار جامعة الدول العربية في نهاية المطاف جامعة لكل دول المنطقة التي لا بد من توحيدها باسم دول الغرب، ولا بد من تجنيدها لخدمة أهداف تلك الدول ومصالحها.

    ولئن فعل الغرب ما فعله بهذه الديار انطلاقًا من مصالحه في بلاد العرب، وبعد مؤتمرات واتفاقات منها مؤتمر سان ريمو الذي عُقد في هذا المرفأ الإيطالي في الخامس من أيار من عام عشرين وتسعمئة وألف لدرس قضايا الانتداب والبترول في الشرق الأوسط، وتقرر فيه تقسيم البلاد العربية، ووضعها تحت الانتداب على أن يكون لبنان وسوريا لفرنسا،  والعراق وفلسطين لبريطانيا... ومنها اتفاق سايكس بيكو سيء الصيت؛ فإن الغرب مستمر في سياساته الرامية إلى الإمعان في فرض السيطرة على الوطن العربي، والإمعان في تقسيمه، وتفتيته، وتجزئته بقدر المستطاع، والإمعان في إخضاع جامعة الدول العربية لرغبة الغرب ومخططاته الرامية إلى مزيد من السيطرة على أرض العرب...

   إننا في هذه الأيام التي تصادف ذكرى تأسيس الجامعة العربية لنسأل: إلى متى ستبقى هذه الجامعة أداة في يد الغرب؟ وإلى متى ستبقى رمز قطيعة وتفكك؟ وعنوان تبعية وتمزّق وانهيار؟ وإلى متى ستبقى الدعوة إلى وحدة العرب، وقيام الدولة العربية الكبرى على كل الأرض العربية دعوة يحاسب عليها القانون؟؟ إلى متى ستبقى هذه الجامعة وسيلة من وسائل خضوع هذه الأمة العربية للأجنبي في الوقت الذي يستطيع فيه العرب أن يتخذوا من هذه الجامعة نفسها وسيلة قوة، ووسيلة عزة، ووسيلة وحدة، ووسيلة تقدم وازدهار وبناء لكافة شعوب الأمة العربية؟؟

    وإننا في هذه الأيام التي تصادف الذكرى الرابعة والستين لميلاد هذه الجامعة العربية لنؤكد أن العرب قادرون على تحويل هذه الجامعة العربية إلى جامعة حقيقية للعرب توحّد ولا تفرّق، تبني ولا تهدم.. جامعة تعمل من أجل إعمار الوطن العربي وازدهاره ورفعته وتقدمه واستقلاله وتطويره .. جامعة حقيقية فاعلة تصنع الإنسان العربي الجديد، والنظام العربي السياسي الجديد الذي يحترم نفسه، ويحترم الإنسان، ويحترم حق هذه الأمة العربية العظيمة في العيش باحترام وكرامة وعلى قدم المساواة بين أمم هذا العالم.

22/3/2009


(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

29حليمة 

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

 

حليمـــة

 

    وقف "عبد الجبار –بشاربيه المتهدلين الأبيضين الضاربين إلى الصفرة،، وبعينيه السوداوين اللتين لا تنفكّان ترمشان بما تبقى حولهما من أهداب، وبثيابه الرثة...وقدميه الحافيتين- يحملق في "زوجته" "حليمة" وهو يصرخ: ماذا أحضرتِ لنا؟ ما هذا؟ بقول..بقول..بقول! ألم تشبعي من البقول؟ ألم تكرهي البقول؟ لقد كرهتها...كرهتها...أريد تفاحة يا حليمة..تفاحة يا امرأة...ألا تفهمين؟ أريد شيئًا نأكله غير هذه البقول، وغير "المؤن"  التي تقدمها لنا وكالة الغوث..أريد شيئًا ذا معنى..ذا طعم..ذا نكهة...أريد أن آكل شيئًا مما يأكله الآدميون يا حليمة، لا مما ترعاه البهائم...لقد سئمت..سئمت..كرهتُ الدنيا..كرهتك يا حليمة!

    استمر "عبد الجبار" يصب جام سخطه وغضبه على رأس زوجه "حليمة"، وهي واقفة ساكنة لا تتحرك كتمثال قديم أبلاه وأتى على معالم وجهه تعاقب السنين...وقد تجمدت يداها المعروقتان على صدرها، وهما يضمان باقة يانعة محكمة التنسيق، لكنها ليست باقة من ورد، إنما هي من "البقلة" التي أكثرت "حليمة" في الفترة الأخيرة –كغيرها من الناس- من طبخها بما توافر لديها من بصل، وبما تبقى في صفيحة زيت "المازولا" التي حصلت عليها منذ مدة عندما حضرت إلى هذا الطرف القصيّ المنسيّ من المخيم سيارة كانت تحمل "المؤن" خلال فترة منع تجوال استمرت عشرة أيام.

    لم يكن صوت عبد الجبار أمرًا جديدًا، أو مفاجئًا لجيرانه، فلقد أصبح منذ زمن شيئًا من حياتهم اليومية على الرغم من كونه أمرًا مؤسفًا ومؤلمًا.. وما أكثر الأمور المؤلمة التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية – نحن الفلسطينيين- خارج فلسطين وداخلها....كنت أسمع صوت عبد الجبار من بيت شقيقتي "هاجر"...نظرتُ إلى شقيقتي التي أدركت فورًا ما أريد، فقالت باسمة: إنهما –كما ترى- مذ سكنا هذا المخيم.

    قلت: هل عرفتِ عنهما شيئًا؟

    قالت: نعم.

    قلت: سأدخل بيتهما لأعمل على تهدئة الموقف.

    قالت: وما شأنك أنت؟ إنك ضيف، وهما لا يعرفانك...ثم إن نظام منع التجوال قد فُرض منذ دقائق، بعد أن رُفع بضع دقائق!!اسمع أصوات الأعيرة والقذائف...إنهم يفرّقون الفتيان ويلاحقونهم...والموقف ليس بحاجة إلى تهدئة...سيهدأ عبد الجبار، وسينام أيضًا بعد قليل.

    قلت: لا عليك، سأزورهما الآن.

    حملت دفتري، وأخذت معي شيئًا مما تحتفظ به شقيقتي في بيتها من فاكهة وخُضَر لمواجهة الأزمات المستمرة المتتالية منذ مدة....تأكدت من نظافة الطريق..وسرت صوب بيت "عبد الجبار"...طرقتُ الباب بهدوء..سمعته يقول بأعلى صوته: لقد جاءوا..لقد جاءوا يا حليمة..لا تخرجي..انتبهي...بينما فتحت "حليمة" بابًا خشبيًّا متآكلاً كثير الشقوق والثغرات، وقالت بصوت خفيض، وبوجه يخلو من التعبير: تفضل..أأنت شقيق جارتنا هاجر؟ قلت: نعم. ودخلتُ بينما كان عبد الجبار بعيدًا يلوّح بعصاه، ويصرخ: اتركوها..دعونا وشأننا..ماذا يريدون يا حليمة؟

    قلت لحليمة: أهو فاقد البصر؟

    قالت: تقريبًا.

    قلت: وماذا عن بقية الحواس؟

    قالت: إنه يحيرني...ستعرفه جيِّدًا الآن.

    وصلت مع "حليمة" باب "الغرفة" حيث يقف "عبد الجبار"، وقالت له "حليمة" هامسة: أسكت، هذا ضيف محترم أتى لزيارتنا...تغير عبد الجبار، وألقى بالعصا التي كان يلوح بها، وقال وهو يحدق بي، ويبتسم، ويمد يده لمصافحتي: أهلاً وسهلاً بالضيف المحترم..

    قلت – وأنا أصافحه، وأتأمل ملامحه وهيئته- : أهلاً بك يا عبد الجبار...

    وقطب الرجل حاجبيه قائلاً: كيف عرفت اسمي؟

    قلت: وهل هو سر؟

    قال: نعم...إنه سر.

    قلت: سمعت حليمة تناديك بهذا الاسم.

    قال: حليمة؟ إنها دائمًا هكذا تكشف أسراري...إنني لا أسيء الظن بها...ولكنها هكذا دائمًا تتصرف ببساطة وجهل!

    وتدخلت "حليمة" قائلة "لعبد الجبار": أتريد أن يظل ضيفك واقفًا هكذا؟ واعتذر "عبد الجبار" بسرعة قائلاً: تفضل، تفضل بالدخول...ودخلنا الغرفة المتواضعة: سرير قديم أشبه بأسرة الجيش البريطاني في فترة الانتداب على فلسطين..يرتفع قليلاً عن الأرض، عليه غطاء رث يقبع عند الزاوية اليمنى لمدخل الغرفة..وستة كراسي قديمة من الخيزران منتشرة على أرض الغرفة في غير نظام رتبتها "حليمة" قبيل دخولنا بأن وضعتها على امتداد الواجهة المقابلة للباب في صدر الغرفة...ويرى الداخل على يسراه شيئًا يشبه خزانة خشبية صغيرة طُليت بدهان أسود تتفشى فيه بقع مختلفة الأشكال والأحجام، ذات ألوان مختلفة أبرزها اللون الأبيض...جلستُ لدى وصولي أول كرسي، وجلس "عبد الجبار" إلى يميني...بينما انسلت حليمة من الغرفة قائلة إنها ستحضر لنا الشاي...وسادت الغرفة لحظات من الصمت كان كل منا يتفحص فيها صاحبه...ويلملم أوراقه، ويرتبها كما يقولون...وأدركتُ

أن أمامي مجالاً خصبًا للحديث، (والأخذ والعطاء) إذا حافظ "عبد الجبار" على هدوئه.

    دخلت "حليمة" تحمل الشاي، وجلست قبالتنا على السرير واضعة راحتيها على خديها، بينما تركز نظرها على أرض الغرفة. وبدأ "عبد الجبار" الحديث قائلاً: ألا تعرِّفني على نفسك أيها الضيف المحترم؟

    قلت: أنا جار لكم، وأعمل في إحدى الصحف.

    قال: يعني "صحفي".

    قلت: نعم.

    قال: هل معك "كاميرا" لتصوّرني؟

    قلت: لا، فأنا لا أحب التصوير، ولا أعمل مصورًا صِحافيًّا.

    قال: لا تحب التصوير أم أنك تخبئ "الكاميرا" بعد أن صورت بها "أهل" المخيم؟ على أي حال أنت لم تصورني، بل لم تحضر "الكاميرا" معك بعد أن عرفت أنني أكسر كل "كاميرا" أراها، وأتصدى لكل "صحفي" يحاول تصويري.

    قالت حليمة "مقاطعة": يا عبد الجبار، قلت لك إن ضيفك محترم، هل نسيت؟ إنني أعرفه جيِّدًا، وهو يعمل لخدمة سكان المخيم، وغيرهم من أهل بلادنا...

    قال: تقولين أهل بلادنا؟ هل يصورهم ضيفنا أيضًا؟ ويرسل صورهم إلى الأجانب لنظل "فُرجة" للناس في هذه الدنيا؟

    قالت: لا، لا يصور ضيفنا أحدًا من أهل بلادنا.

    قال: أيها الضيف المحترم، قل لي من تعرف من أهل بلادنا؟

    قلت: أعرف كثيرًا من الناس.

    قال: مثل من؟

    قلت: السيد عبد الجبار، والسيدة حليمة..

    ارتعش "عبد الجبار" قليلاً، وقال: ومن أيضًا؟

    قلت: أتعرف أنت أحدًا من أهل بلادنا؟

    قال: أنا؟ وضحك ضحكة عالية..طبعًا، أعرف كل الناس.

    قلت: مثل من؟

    قال: هذه أسرار. أتظن أنني أبوح بها بسهولة؟ أتريد أن تعرف كل شيء بهذه البساطة أيها المحترم؟ تقول حليمة إن عمري أصبح خمسًا وسبعين سنة...وأنا لا أصدقها، فهي لا تعرف شيئًا... عمري الآن اثنتان وثلاثون سنة...وأولادي محمد، وعلي، وأحمد، وخالد...وزوجتي حليمة بنت المختار سعيد..وبيارتي من أكبر بيارات المنطقة، وهي لشدة اهتمامي بها تعتبر أفضل بيارة في المنطقة كلها...

    قلت – مقاطعًا- : تريد أن تقول في منطقة يافا كلها...

    قال: نعم، نعم...لكن كيف عرفت؟

    قلت – بسرعة - : وهل تخفى لهجة أهالي يافا؟ إنها حلوة يا أخي حلاوة برتقال يافا...

    ابتسم عبد الجبار، وقال: بعد أن نبيع في الأسواق المحلية ما نبيع..تعودنا أن نصدر كثيرًا من إنتاجنا إلى أوروبا...هل تعلم أنني وعمي المختار والد حليمة هذه، وجارنا الشيخ عثمان، والشيخ محمد، ويوسف أفندي نستطيع أن ننشط الحركة في الميناء، شهراً كاملاً و...و...وتغيرت لهجة الرجل، وأخذ يصرخ: ماذا قلت؟ هل قلت الميناء..نعم..الميناء.."مينة يافا"..المينا..أيوه المينا..لا..لا..ليس صحيحًا..لم أفعل شيئًا.. أنا لم أفعل شيئًا.. هم الذين اعتدوا علينا..لا..لا...وفي هذه الأثناء كانت "حليمة" قد أتت بالدواء...وبقوة لم أرها في كثير من الرجال تمكنت من السيطرة على "عبد الجبار"، ومن ثم تمكنت من إعطائه الدواء، وهو في حالة من الهياج..أعقبتها حالة من التشنج بعد أن وقع أرضًا... بينما تناثر الزبد من فمه، ليسيل من شدقيه، واستسلم بعد ذلك لنوم عميق...وألقت عليه "حليمة" غطاء بعد أن وضعت وسادة تحت رأسه...

    قلت لها: لو نقلناه إلى السرير.

    قالت: لا..دعه هكذا حتى يصحو من غيبوبته.

    قلت لحليمة: وهل تطول غيبوبته هذه؟

    قالت: لا..استرح أنت..فلقد ألِفتُ هذا من عبد الجبار..وليس في الأمر بالنسبة لي أي جديد.

    قلت: ما سبب ذلك؟ لماذا وصل عبد الجبار إلى هذه الحال؟ خبريني...هذا الرجل يخفي في أعماقه أسرارًا كثيرة..قولي يا حليمة من هو هذا الرجل؟ أين أولاده الذين تحدث عنهم قبل قليل؟

    قالت حليمة: سأروي لك كل شيء..دعني أحضر لك الآن كوبًا آخر من الشاي.

    قلت: لا مانع.

    أخذ عبد الجبار يتململ، ويتمطّى، ويتثاءب، وينطق بكلمات غير مفهومة...وتساقطت من جيب قميصه بعض الأوراق..أحسست برغبة شديدة في تفحص هذه الأوراق، وكدتُ أن أشبع فضولي بالاطلاع عليها لولا صوت سمعته، أو خيّل إليّ أنني سمعته...صوت من أعماقي صرخ بي: لا..لا تفعل، هذا ليس من حقك...لقد وعدتك حليمة أن تروي لك كل ما تريد عن هذا الرجل...وتساءلتُ: هل تعرف حليمة شيئًا عن هذه الأوراق؟ هل تحسن القراءة؟ هل سبق أن أُطّلعتْ عليها؟ ودخلت حليمة، ومعها الشاي..فأشرتُ إلى الأوراق..قالت حليمة –دون أن تمس أيًّا منها- : تلك كما ترى بطاقة هويته الشخصية، وهذه الأوراق "المجلتنة" شهادات ملكية بالأراضي والعقارات التي يملكها صادرة عن دائرة

تسجيل الأراضي، ودائرة المالية في يافا..وشهادة ميلاده..وبعض الأوراق الخاصة الأخرى.

    قلت: يبدو أنك مطّلعة عليها تمامًا.

    قالت: نعم...لقد قرأتها كلمة كلمة...باللغتين العربية والإنجليزية...

    نظرتُ إلى حليمة مشدوهًا وقلت: هل تحسنين قراءة الإنجليزية أيضًا؟

    قالت: نعم، وأتقنها كتابة ومحادثة.

    ازدادت دهشتي وقلت: كم تبلغ السيدة "حليمة" من العمر؟

    قالت: أكثر قليلاً من خمسين سنة.

    قلت: وهل أنت من مواليد يافا أيضًا؟

    قالت: ولماذا تقول أيضًا؟

    قلت: لأن عبد الجبار من مواليد يافا...أليس كذلك؟

    قالت: ليس الأمر كذلك..لقد عاش "عبد الجبار" سنوات طويلة من حياته في يافا..وكان من ذوي الأملاك فيها، كما كانت له بعض الأملاك في غزة...ولقد عاش فترة طويلة من حياته في سجون الإنجليز عندما ألقوا القبض عليه في ميناء يافا بتهمة قتل اثنين من جنودهم...ولقد ولد عبد الجبار في القدس لأبوين مقدسيين...تمكن من الهرب من سجن عكا عام 1946 قفزًا عن سور السجن حيث أصيب ببعض الكسور في الجمجمة..وأنقذه بعد ذلك عدد من شباب عكا...عولج في مخبأه بشكل جيد، واهتم به سماحة المفتي آنذاك، واستقدم بعض الأطباء للإشراف على علاجه...شارك "عبد الجبار" بشكل فعال في حرب عام 1948، في صفوف "الجهاد المقدس" حيث كان ضابط اتصال ممتازًا في الكتيبة الثانية... وأصيب بجراح بليغة في إحدى العمليات العسكرية التي نفذها تحت لواء الشهيد القائد عبد القادر الحسيني...وعولج ثانية بشكل مكثف... أصيب بصدمة في يوم استشهاد عبد القادر... وأصيب بصدمة كبيرة في أعقاب هزيمة عام 1948... رفض الخروج من البلاد بعد النكبة... وأمضى فترة من حياته بعد ذلك مختبئًا مطاردًا حزينًا...تعرض لمحاولة قتل بعد سنتين من النكبة، عندما تمكن ثلاثة مجهولين من الوصول إلى مخبأه بصحبة زوجه التي أقنعوها أنهم من أصدقائه القدامى، ويريدون الوصول إليه لأمر ما، وعند وصولهم أدركت الزوج المسكينة –حليمة- سوء نواياهم، فافتدته بروحها، وحالت بينهم وبينه..لقد استقرت ست رصاصات في جسدها، فقضت نحبها فورًا، ولاذوا بالفرار بعد أن ضربوه ضربة موجعة على رأسه أفقدته بصره تقريبًا، وأصابته بالإغماء، وفي هذه المرة أيضًا أنقذه بعض أهالي القرية التي كان يقيم فيها...وبعد ذلك قرر العيش في أحد المخيمات...فهو لاجيء من يافا التي يملك فيها بيتًا وأرضًا...وأغلب الظن أنه تمكن بمساعدة بعض الأصدقاء القدامى من "تزييف" شخصيته، وتغيير اسمه إلى "عبد الجبار"..وفي المخيم عاش معه أولاده محمد وعلي وأحمد وخالد..كانوا شبابًا من خيرة الشباب...ولما كانت الحياة في تلك السنوات غاية في الصعوبة فقد اندفع كثير من الشباب للعمل خارج البلاد، وبخاصة في الكويت، وبعض أقطار الخليج...وهكذا سافر أبناؤه الواحد تلو الآخر....وبقي عبد الجبار وحيدًا منذ أواخر الخمسينيات..فساءت حالُه الصحية والنفسية كثيرًا، وفقد ما كان قد تبقى من توازنه واتزانه....ولما كان الأطفال لا يرحمون، بل لا يعرفون من هو "عبد الجبار" فقد آذَوْه كثيرًا... وأصبح المسكين لعبة كثير من الأطفال والشباب، إلى أن تبنته أسرة محترمة من رام الله، ونقلته قسرًا من المخيم حيث أفردت له "سكنة" خاصة به، وخصصت له ممرضة محترمة تشرف على أحواله، وتقوم على خدمته ورعايته...وظل الأمر هكذا حتى استرد "عبد الجبار" شيئًا من عافيته، فعاد إلى حياة المخيم....أما أسرته فلم يكن على وفاق معها منذ البداية بسبب اختلاف المشارب والميول والأهواء....وأما أبناؤه فقد حاولوا مرارًا أن يقنعوه بالسفر، ولكن دون جدوى...فعبد الجبار لا يريد أن ينفصل عن هؤلاء اللاجئين الذين عاشوا في دمه، وتمكنوا من حالتي الوعي واللاّوعي لديه....وبقيت الأمور تسير على هذا النحو حتى عام 1968 عندما علم عبد الجبار أن أبناءه الأربعة يعملون قريبًا منا هناك خلف النهر مع آلاف الشباب من أبناء هذا الوطن مما أثلج صدر عبد الجبار..وأصبحت أحواله منذ ذلك الحين مرتبطة كل الارتباط بأحوالهم هناك....فكانت بين مد وجزر...إلى أن انقطعت أخبارهم ذات يوم....إنني لم أرَ إنسانًا كهذا الإنسان الذي ارتبطت حياته كلّـيًّا بأرضه، وأحوال شعبه.

    قلت: وأنت؟ ألستِ زوجًا له؟

    قالت: لا.

    قلت: لقد ذكرتِ أن مجهولين تمكنوا من خداع زوجه "حليمة" عندما أقنعوها أنهم من أصدقائه القدامى...حيث افتدته بروحها.

    قالت: نعم...إن حليمة "اليافاوية" هي زوجه...أما أنا فلست حليمة...لقد تسميت باسمها منذ بضع سنوات عندما كُلّفت بالإشراف على "عبد الجبار"، حيث كان في وضع صعب..فخدمته بإخلاص..وانتقلت به إلى هذا المخيم لأتمكن من الإشراف عليه –كما ترى- ولكي أكون قريبة من مكان سكني هناك في بيت الممرضات المتطوعات.

    قلت: هل بإمكاننا أن نتعارف؟

    قالت: من أنت؟

    قلت: كما قال عبد الجبار "صحفي".

    قالت: وأنا ممرضة ذات خبرة طويلة بالإشراف على الحالات الخاصة.

    قلت: أيمكنني النظر في بطاقتك الشخصية؟

    ابتسمت وقالت – وهي تناولني البطاقة- : تفضل.

    كان الاسم مغطى بقصاصة رقيقة من الورق..أما الجنسية فقد اتضح منها أن "حليمة" من رعايا إحدى الدول الأجنبية! يا لَلْهول! هل حقًّا ما أرى، أم أنني في حلم؟

    قلت: أراك تعرفين كل شيء عن عبد الجبار.

    قالت: هذا ما تستدعيه طبيعة عملي.

    قلت: ومنذ متى تقيمين في فلسطين؟

    قالت: منذ أمد طويل..إنها حكاية سأرويها على مسامعك في لقاء آخر.

    وأفاق عبد الجبار من إغفاءته..وأخذ يحدق بي، بينما راح يتمتم: إياك أن تصورني..لقد كسرت "الكاميرا" ذات يوم، وضربت "الصحفيين" الذين أرادوا تصويري...

    قلت: لن يحدث شيء من هذا أبدًا.

    اعتدل عبد الجبار في جلسته...ووضع رأسه بين يديه وهو يقول: صداع، صداع..أشعر بصداع شديد يا حليمة...أحضرت حليمة دواءً على وجه السرعة...شرب عبد الجبار الدواء، وقام في تثاقل، وأخذ مكانه حيث كان إلى يميني..وضع عبد الجبار رجله اليسرى على اليمنى، وأسند رأسه إلى الجدار من خلفه، وابتسم في هدوء غريب، وقال: أتريد أن تعرف شيئًا عني يا حضرة المحترم؟

    قلت: أقرأ في عينيك تاريخ شعب..وأرى في وجهك شمم الأقصى، ومنائر يافا..وأحسّ في قلبك الكبير دقات تنبيء بانبلاج فجر هذا الشعب العظيم الذي لن يخضع أبدًا... إنه شعب جدير بالحياة والحرية...

    وأنت يا حليمة...يا من تجسدين روح الإنسانية الحقة بوقفتك الرائعة الرائعة إلى جانب شعبنا في ساعات مخاضه...أنت يا حليمة خلقتِ فيّ إحساسًا عارمًا بأن المستقبل على هذه الأرض للشعوب...هذه الشعوب الطيبة المحبة للسلام والعدل والحرية.

    ودَّعتُ "حليمة" و"عبد الجبار"، وقفلتُ عائدًا إلى بيت "هاجر" لأسجل كل ما رأيت بنزاهة وتجرد.                    

 

(1988 )