عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الاثنين، ٣١ كانون الثاني ٢٠١١

لقد استجاب القدر يا أنيس !!

متابعات

 

لقد استجاب القدر يا أنيس !!

                                                          أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

 كان ذلك قبل نحو ستين عامًا يا أنيس : الساعة لم تبلغ الثامنة صباحًا .. الطلاب يصطفون في الساحة , ومدير المدرسة يوجه إليهم كلمةً ما .. لقد ألف الطلاب ذلك المشهد الذي تكرر كثيرًا في ذلك العام .. ينهي المدير كلمته السريعة ذات الجمل القصيرة.. المعلمون المنتشرون على رؤوس صفوفهم يطلبون من التلاميذ التوجه إلى غرف التدريس.. يظهر الشباب فجأة أمام الصفوف .. ينتصبون أمامها في ثقة وحزم.. يصرخ أنيس بأعلى صوته: " إلى الخلف در .. الخروج من الباب الرئيس .. نلتقي المدارسَ الأخرى عند مفترق الطرق , والتجمع أمام دار البلدية " .

   كثير من طلاب المدرسة كانوا صغارًا دون سن  الثانية عشرة , وكثير منهم كانوا دون سن العاشرة , وكان هذا شأن كثير من طالبات المدارس المشاركات آنذاك .. لكن أولئك الطلبة كانوا منضبطين .. كانت غالبيتهم العظمى ملتزمة, تتقيد بالتعليمات , وتنفذ بدقة الأمر اليومي الذي توجهه إليها أيها الرفيق !! ,

 صورتك ما زالت مطبوعةً في عقول أولئك التلاميذ .. قائمة في وجدانهم , وصوتك المجلجل المتناغم مع أصوات الرفاق والرفيقات يملأ الرحب , وتردد صداه السهول, والجبال , و أفواه الدروب , ومفارق الطرق , والمنعطفات , والأكواع , والأزقة الكثيرة , في تلك الأحياء الفقيرة , والأكواخ الحقيرة , والمباني القديمة  المتآكلة الآيلة للسقوط .. وإن كانت تلك الأصداء أيضًا تتردد بعنف في أحياء الأغنياء، و تلامس واجهات بيوتهم , وداراتهم , لتأخذ طريقها بقوة إلى أسماعهم , وأسماع نسائهم , وأبنائهم ؛ فيصيبهم منها ما يصيبهم من خوف على المكاسب والمكتسبات، أو المناصب،  والمراتب، والرواتب، والدرجات، والامتيازات .. كان نشيدكم المفضل الذي حفظناه عن ظهر قلب ولا نزال : إذا الشعب يومًا أراد الحياة//  فلابد أن  يستجيب القدرْ .

 يدور الزمن دورته , وتمضي الأيام متثاقلةً تجر وراءها أخواتها , وتُخرج  أثقالها, وتنوء بكلكلها  , وتصيب الناس بمزيدٍ من ويلاتها ونكباتها وآلامها .. ويكبر الصغار , ويتجرع كثيرٌ منهم كؤوس الحنظل، ويشربون على  القذى،  ويتجرعون راغمين ألوانًا من كؤوس المذلة والهوان , وكؤوسًا من علقم، وكثير منهم كانوا على موعد مع ألوان مختلفة من كؤوس المنية.. يسقط منهم من يسقط .. يموت من يموت .. يختفي بعضهم .. ويتحول بعضهم الآخر ويتغير، ويركب كثير منهم الأمواج , وتكون نهاياتهم مع نهاياتها جثثًا و أشلاء تلقي بها الأمواج إلى الشاطئ .. وأما الصادقون الأوفياء الأكفياء فمكثوا في الأرض لا يبرحونها , وإن أُرغموا على الخروج منها راحوا يعملون من أجل العودة إليها , لم تغب عن بالهم وخيالهم لحظة من ليل أو ساعة من نهار رغم الهزائم , والكوارث، والمصائب، والمصاعب , والانتكاسات , والانهيارات , والانكسارات , ورغم كل عوامل التيئيس والإذلال والتركيع والتقتيل والإحباط، ورغم كل محاولات التضليل والتزوير والاحتواء والتلاعب بالقيم , والمثل , والالتفاف على المفاهيم والثقافات والأفكار والمبادئ والثوابت , ورغم كل محاولات تدمير هذه الثقافات والمفاهيم , والأفكار , والقيم  ورغم كل محاولات تغييرها , وتعهيرها , وشراء كثير من رموزها بالمال والمناصب والأوهام وكل مغريات الحياة الجديدة التي أعدوها لكل قيادات هذا الشعب , ولكل رموزه وأعلامه وقادته و مفكريه , ولكل المتمسكين بثوابتهم من أبنائه و بناته .. ولئن تمكنوا من تحقيق شيء مما كانوا يطمحون إليه، و يطمعون في تحقيقه , ولئن لقيت مساعيهم هذه صدًى في نفوس هذا النفر من الكبار , ومن والاه وتبعه من الصغار، فإن الغالبية من الناس في هذه الديار، وفي غير هذه الديار، على امتداد أقطار العروبة لا زالت كما كانت عند عهدها، وعند كلمتها, وعند حلمها, وعند ذلك الخطاب الذي لازال صداه يتردد في جنبات الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه : إذا الشعب يومًا أراد الحياة !!

   الغالبية العظمى من الناس في كل ديار العروبة تحيّي اليوم ثورة شعب تونس العربي على جلاديه , وسالبي حريته , ومعذبيه .. العرب في كافة أقطارهم وأمصارهم وديارهم يرددون اليوم ما رددناه قبل نحو ستين عامًا , ولا نزال .. العرب ينتصرون اليوم .. العرب يحققون أهدافهم اليوم  , وينتقمون من جلاديهم الذين كانوا السبب في تمزيق هذا الوطن العربي الكبير، وفي تقسيمه, وفي إضعافه,  وفي بيعه للغزاة الطغاة الجناة الذين تفننوا ، ولا يزالون، في تركيعه, وتفريغه من مضمونه ومحتواه العربي , و العبث به , والتآمر عليه مع نفر مأجور من بعض أبنائه الفاسدين المفسدين الضالين المضلين المضللين، ممن أعمت بصائرَهم  تبعيتُهم لأعداء هذا الوطن العربي الكبير، وهذه الأمة العربية التي كانت ذات يوم خير أمة أُخرجتْ للناس !!.

 ويدور الزمن دورته أيضًا، ويكون هذا الزلزال الذي شهده هذا الشهر الأول  من هذه العشرية الثانية من الألفية الثالثة .. زلزال يناير الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه .. هذا الزلزال الذي أطاح بعصابة البغي والتسلط والفساد في تونس، وتمكن في أيام من الانتشار في بعض أقطار الجوار , ليصيب الطواغيت فيها بألوان من الذعر والاضطراب والانهيار ..شعب تونس المغوار قال كلمته , وفجّر ثورته , وانتصر لدماء  الأحرار والثوار في العراق العربي , وانتقم لشهداء العروبة في كل أقطارها وأمصارها.. ثورة تونس نصر ساحق مؤزر لشعوب الأمة العربية، ونصرٌ لهذه الأمة الماجدة من محيطها إلى خليجها , ونصر مؤزر لإرادة الثورة والتغيير في هذه الأمة التي ظن أعداؤها أنها قد ماتت وشبعت موتًا , وظن بعض الأدعياء من أبنائها الذين تآمروا عليها , وناصبوها العداء أنهم قد أصبحوا ولاة أمرها .. خسئوا , فما هم كذلك .. وإنهم يواجهون مصيرهم اليوم جزاءً وِفاقًا لما فعلته أيديهم من جرائم و كبائر وموبقات بحق شعوبهم، و بحق هذه الأرض العربية المطلق في الوحدة والتحرر, وبحقها المقدس في تحرير فلسطين، وإعادة كافة اللاجئين والمهجرين إلى ديارهم، وتطهير القدس , وتحريرها ، وما ذلك على الله بعزيز .

    لقد استجاب القدر يا عرب، فمزيدًا من النيران المقدسة التي تطهر ولا تحرق إلا من أحرق قلوب الناس في هذه الديار.. مزيدًا من  التواصل والتنسيق يا شباب العرب .. ولئن حجب عنكم هؤلاء وأولئك مزايا الشبكة العنكبوتية , ومزايا شبكة التواصل الاجتماعي , فإن لكم من إرادتكم, وإصراركم, ونور بصائركم , وحسن تقديركم للأمور, ما يضمن لكم استمراركم في الثورة حتى تحرير أوطانكم , وحتى إقامة دولة العرب الواحدة الموحدة على كل أرض العرب .. لقد استجاب القدر يا أمة العرب , فواصلي السير على خطى الثوار , وارفعي علم العروبة على كل أرض العرب .. لقد استجاب القدر يا أنيس , فكان لنا ما أردنا , وكان لنا أن نبتسم ابتسامة الثقة والنصر ونحن نودع الحياة , ونسبق الموت إلى الموت كي توهب لنا الحياة .

 

31\1\2011


الخميس، ٢٧ كانون الثاني ٢٠١١

 

القدس هي الجوهر.. واللاجئون هم العنوان!!

 

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

     لا أريد في حديثي اليوم عن القدس واللاجئين أن أدخل في تفصيلات نشأة هاتين القضيتين، ولا أريد أن أكرر كلامًا كثيرًا قيل فيهما، لا لأن مثل هذا الكلام قد أصبح ثقيلاً على السمع شأنه في ذلك شأن الحديث المعاد، ولا لأن الناس في هذه الديار وفي غير هذه الديار، من ديار العروبة قد ملّت النظر فيهما، والإصغاء إلى الأصوات التي تدعو إلى عدم المسِّ بهما، وإلى وجوب حلّهما كما يجب، بل لأنني أشعر اليوم برغبة شديدة في اختصار القول حتى لا يطول، وحتى لا نبتعد بالتالي عن الهدف الذي أنشئ من أجله هذا المقال، وحتى لا تختلط الأوراق في هذه الأيام التي كثر فيها الحديث عن مثل هذا الخلط، وفي مثل هذه الأيام التي تشهد فيها هذه الساحة مزيدًا من التفكك، ومزيدًا من الخلاف، ومزيدًا من التناحر، وكيل التهم، ومزيدًا من الانقسام.. لكل هذه الأسباب، ولأسباب أخرى كثيرة رأيت أن أميل اليوم إلى الإيجاز، وإلى اختيار الكلمات المحددة، والعبارات المباشَرة التي يقتضيها الحسم في هاتين القضيتين اللتين لا تحتملان أدنى شكل من أشكال العبث، أو التلاعب، أو المقايضة، والاتجار والمساومة، لسبب بسيط، أو لسببين بسيطين: أولهما كون هاتين القضيتين فوق كل أوجه التلاعب والمتلاعبين، وثانيهما ذكاء الناس، وإدراكهم الفطري لما يدور حولهم دونما حاجة لدليل، ودونما حاجة لموجه أو محرّض يضع أصابعهم على الحقيقة التي يدركونها بإحساسهم، ورصدهم الواعي لحقيقة ما يدور حولهم.

 

 

    القدس هي الجوهر.. هي جوهر هذه القضية الفلسطينية، وهذا يعني أنها ليست مجرد خط أحمر_ كما يقول السياسيون_ بل إنها جهنم الحمراء فلسطينيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا، وهذا يعني أيضًا أن أحدًا لا يُنصح بالاقتراب منها، مهما أوتي من قدرة على الاحتمال، ومقدرة على التحمل، ومهما رُكِّب في طباعه من خصائص الاحتيال، والمقدرة الخارقة على إتقان التلوّن والتزوير وركوب الأمواج، والمقدرة على ممارسة الانتحار شنقًا أو حرقًا أو خزقًا عندما يتطلب الأمر ذلك.. القدس هي الجوهر، وهي أولاً وقبل كل شيء، وهذا يعني أنها ملكٌ للفلسطينيين جميعًا، وللعرب جميعًا، وللمسلمين جميعًا.. وهذا يعني أيضًا أن أحدًا لا يمكنه التصرف بها، وأن أحدًا لا يمكنه التفرد في تقرير مصيرها، وأن أحدًا لا يمكنه أن يدعي تمثيلها إلا إذا أتى بما يريده أهلها، وبما يريده العرب والمسلمون، وبما تريده شريعة الحق والعدل من إحقاق لحقوق العرب فيها، ومن إحقاق لحقوق المسلمين فيها، ومن إحقاق للحق وإزهاق للباطل.. إن الباطل كان زهوقًا.

 

    هذه واحدة، وأما الثانية فهي أن اللاجئين هم العنوان.. وهذا يعني أن أحدًا (مهما كانت صفاته ومواصفاته ودوافعه ومنطلقاته) لا يمكنه أن يساوم على حقهم في العودة إلى مدنهم وقراهم وأراضيهم التي أُجبروا على مغادرتها والنزوح عنها.. وأن أحدًا ليس مفوَّضًا للالتفاف على هذا الركن الركين من أركان هذه القضية الفلسطينية التي أوجدها الأشرار ليضع الأخيار الشرفاء من أهل فلسطين، ومن العرب والمسلمين نهاية لها.. اللاجئون الفلسطينيون الذين أُخرجوا من ديارهم ينتظرون العودة.. ويحلمون بها، ويعملون من أجلها، ويعيشون لتحقيقها، لا ليكون خروجهم منها هو الخروج الأخير من الجنة، وإنما ليكون بداية الطريق إليها، والموت في أحضانها، وعلى رُباها وجبالها وسواحلها وشواطئها عند انتهاء الآجال.

 

     اللاجئون هم العنوان، وليس لأحد أن يدعي ذلك بدلاً منهم، وعوضًا عنهم، وعودتهم إلى ديارهم التي أُخرجوا منها هي الحل الذي لا حلّ سواه، ولا حلّ بدون تحقيقه.. وعودة اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين إلى ديارهم هي همُّنا الذي يؤرقنا ليل نهار بغض النظر عن ادعاءات المدعين الذين لا تعنينا اعتباراتهم التي يسوقونها ويسوِّقونها لإحباط حقنا هذا في العودة إلى الديار؛ فادعاءاتهم باطلة، وليست الهمّ الذي يؤرقنا، لأن مصيرهم بعد عودتنا لا يمكن أن يعنينا في كثير أو قليل.

 

 

     بقي أن نقول إن من أراد حلّ هذه القضية الفلسطينية عليه أن يفهم أنه لا حل بدون عودة القدس إلى خط الرابع من حزيران، ولا حلّ بدون خروج الغزاة من القدس وسائر أرجاء الضفة الغربية البالغة مساحتها(5879) من الكيلومترات المربعة، ولا حلّ بدون عودة اللاجئين والمهجّرين الفلسطينيين إلى ديارهم التي اُخرجوا منها، لا لأننا نريد أن نضع العربة أمام الحصان كما يقولون، ولكن لأننا حريصون على حلٍّ عادل يضمن سلامًا واستقرارًا وحياةً طبيعيةً للناس جميعًا في هذه الديار، ولا يؤسس لصراع جديد في هذه المنطقة من العالم.. وبغير ذلك لن يكون حلّ، ولن يكون سلام، ولن يكون في الشارع الفلسطيني من يستمع لادعاءات المدعين، وافتراءات المفترين الذين آن لهم أن يختفوا من حياة الناس.

 

 

27/1/2011


الأربعاء، ٢٦ كانون الثاني ٢٠١١

من قال إن الدين يرضى الظلم مخطئ!!

متابعات

 

 

من قال إن الدين يرضى الظلم مخطئ!!

 

عدنان السمان

www.samma.co.nr

 

    كثير من هذه الفتاوى التي يسمعها المرء بين الحين والآخر تنقصها الحكمة، وينقصها التوازن والاتزان، وينقصها الانسجام مع ما في هذه الشريعة من سمو الأهداف والأحكام، والاحتكام إلى قوانين العدل والعدالة والتسامح والمساواة، ومحاربة الظلم والجَور والتسلط والفساد، وفيها من الإساءة إلى هذه الشريعة ما فيها، ومن الاستخفاف بعقول الناس وذكائهم وسلامة تفكيرهم ما يصرفهم عنها، ويمنعهم من الاستماع إلى أولئك الذين يصْدرونها ويصَدّرونها، خدمةً لذوي السلطان من المتسلطين على الناس، المتحكمين بمصائرهم وأرزاقهم وأعناقهم.

 

   أقول هذا، وأنا أستمع إلى هذه الفتاوى الناقصة العرجاء التي صدرت عن مؤسسة دينية بعينها، وعن "فقهاء" محدَّدين ممن يسميهم الناس علماء السلاطين، حول محاولات كثيرٍ من البائسين اليائسين إحراق أنفسهم في هذا البلد أو ذاك من بلاد الله الواسعة التي تعمل هذه الأنظمة على تضييقها وإغلاقها في وجوه أصحابها.. هؤلاء "الفقهاء" الذين لا يرَون من هذه الجرائم والكبائر والموبقات إلا بعض نتائجها، بينما يغضّون الطرْف عن أسبابها ومسبباتها، هم لا يرون من هذه الصورة المظلمة سوى هذا الشاب الذي يحرق نفسه بعد أن سدّ أولئك الطغاة كل أوجه العمل والرزق في وجهه، وبعد أن شنّوا عليه حربًا ضروسًا جعلتهم يستكثرون عليه وقوفه خلف "عربة" لبيع الخضراوات؛ فسحبوها منه بدعوى عدم الترخيص.. هؤلاء الذين يصولون ويجولون، ويأكلون الأخضر اليابس، ويسرحون ويمرحون، ويحللون ويحرّمون، ويتصرفون بالبلاد كما يشاءون، ويفعلون بها وبأهلها ما يريدون، ويضعون أيديهم على خيراتها وثرواتها، ويحرمون معظم الناس فيها من أبسط حقوقهم في العيش الكريم.. هؤلاء الطغاة لم يكلف أولئك "الفقهاء" أنفسهم مشقة الإشارة إلى شيء مما يفعلون في تلك الفتاوى التي أصدروها ضد الفقراء البائسين المحتجين الذين لا يجدون خبز يومهم!! أهذا هو الإسلام يا هؤلاء؟ أهذا هو الدين الذي جاء به سيّد المرسلين لإنقاذ البشرية؟ أهذا هو الدين الذي جاء حربًا على الطغاة الظالمين المستبدين بالناس؟ أهذا هو واجبكم تجاه شريعة الله، شريعة الحق والعدل والعدالة، أم أنه دوركم في خدمة أسيادكم من الظَلَمة العتاة المستبدين أعداء الله، وأعداء البلاد والعباد، من الوالغين في دماء الشعوب؟ هل نسيتم أن من أعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر، أم تناسيتم ذلك؟ ولماذا؟ أتراه حرصكم على إرضاء أولئك الظلَمة القتلة الضالين المضلين المضللين الفاسدين المفسدين ممن أضاعوا البلاد وأهلكوا العباد؟ ولماذا تُرضونهم، وتحرصون على هذه العلاقات الحميمة معهم، وهم يحاربون الله ورسوله، ويحاربون الناس، وينكّلون بهم، ويقتلون النفس التي حرّم الله قتلها؟ أتفعلون كل ذلك من أجل منصب رفيع تحتلونه إلى جانبهم لتحللوا ما يحللون، وتحرموا ما يحرمون؟ أتفعلون كل ذلك لقاء ثمن يصرفكم عن الوقوف إلى جانب الشعوب التي باتت تعرف طريقها، وباتت أكثر إصرارًا على التصدي لهؤلاء الطغاة الفاسدين المستبدين؟ وما هو هذا الثمن الذي اشتراكم به هؤلاء؟ لو كنتم تعرفون الله ورسوله، ولو كنتم من المؤمنين الذين يستمعون إلى القول فيتّبعون أحسنه، ولو كنتم من المؤمنين بحق هذه الشعوب في الحياة الحرة الكريمة، وبحق هذه الأوطان في الحرية والتحرر من نير الاستعمار والاستعباد والاستبداد والطبقية، وبحق هذه الأمة في العزة، وفي السيادة على أرضها انطلاقًا من قوله تعالى" ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين".. لو كنتم من المؤمنين بهذا كله لما أقدمتم على شيء من هذا الذي تُقدمون عليه، ولما حاولتم تضليل الناس خدمة لأولئك الطغاة، وخدمة لأسيادهم الغزاة من أعداء هذه الأمة.. إنني لأعجب من هذه الفتاوى التي تحشدون لها كثيرًا من الأدلة الشرعية في الوقت الذي تتنكرون فيه لأدلة شرعية كثيرة تنصُّ صراحة على وجوب التصدي لمن لم يحكم بما أنزل الله!! أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟؟ إنني لا أعرف يقينًا لماذا تمالئون هذا الظلم الصارخ الذي يمارسه هؤلاء ضد هذه الأمة في كثير من أقطارها وأمصارها، ولا أعرف يقينًا لماذا تؤازرون هذا الظلم الذي يمارسه هؤلاء في كثير من ديار العروبة والإسلام إلا أن تكونوا منهم؟ وإلا أن تحاولوا إلصاق تهمة الرضى بالظلم والمذلة والهوان بهذا الدين، وبأتباع هذا الدين في محاولة مكشوفة لتجريده من أروع خصائصه، وأسمى مزاياه، وفي محاولة مكشوفة أيضًا لتشويه معنى هذا الدين.. فهل أكون مخطئًا إن قلت إنكم واهمون، وإن هذا الدين باقٍ وأنتم زائلون، وهل أكون مخطئًا إن قلت إن من قال بأن هذا الدين يرضى الظلم مخطئ، بل إنه لأكثر من مخطئ، وإن مثل هذه الفتاوى الناقصة التي يصدرها هذا النفر ممن ربط مصيره بمصائر أولئك الطغاة لن تزيد الناس إلا إصرارًا على محاربة أولئك الطغاة، ولن تزيدهم إلا هدىً وإيمانًا بحقهم في الحياة الحرة الكريمة، وبحقهم في العيش أعزةً سادةً كرامًا على أرضهم، أو الموت أعزةً سادةً كرامًا شهداء لا منتحرين يائسين بائسين مُحبَطين محطَّمين جبناء.. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. صدق الله العظيم.

 

 (26/1/2011)

 

 


السبت، ٢٢ كانون الثاني ٢٠١١

في ثورة الياسمين.. وهروب زين العابدين!!

متابعات

 

في ثورة الياسمين.. وهروب زين العابدين!!

أ.عدنان السمان

www.samma.co.nr

 

 

    بعد مواجهات وصدامات، وسقوط قتلى وجرحى خلال أعمال العنف الرهيبة التي شهدتها تونس حزم رئيسها المخلوع حقائبه، وألقى عصا الترحال في مكان ما من شبه الجزيرة العربية، في الوقت الذي كثّف فيه السياسيون التونسيون جهودهم، من أجل تطويق "الأحداث" ومحاصرتها، وصولاً بالبلاد والعباد إلى شاطئ السلامة.. وهكذا شكَّل "الغنوشي" حكومة ائتلافية جديدة، احتفظ فيها وزراء الخارجية، والداخلية، والمالية في حكومته السابقة بحقائبهم.. وهكذا أيضًا قال هؤلاء إنهم انسحبوا من "حزب التجمع الدستوري" الذي كان حاكمًا في عهد زين العابدين.. في الوقت الذي شاركت فيه بعض قوى المعارضة في هذه الحكومة الائتلافية التي وعد رئيسها المؤقت"الغنوشي" بإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، وبإطلاق حرية الصحافة، وسائر الحريات العامة في البلاد، وبوضع حد للفساد المالي والإداري، ومحاسبة الفاسدين، وإجراء الانتخابات في موعدها المحدد.. أما ملامح الصورة الأخرى "تونسيًّا" فلم تتبلور بعد، وليس من السهل أن تتبلور بهذه السرعة، وليس من السهل أيضًا أن تستقر الأوضاع في هذا البلد العربي الذي فجَّر شعبه ثورة الياسمين، وتمكنت قواته المسلحة، ورئيس أركان قواته البريّة من خلع زين العابدين بن علي في تلك الساعات الحاسمة من مساء يوم الجمعة الرابع عشر من كانون الثاني بعد استئثار بالسلطة دام ثلاثة وعشرين عامًا، شهدت خلالها البلاد تراجعًا سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا وصل حد الانهيار أو كاد، وكان الوضع مرشحًا لمزيد من التراجع ثلاث سنوات أخرى لو صدَّق الشارع الثائر وعود زين العابدين بالعمل على إصلاح الأوضاع العامة في البلاد، والانسحاب من الحياة السياسية بعد ثلاث سنوات.. وأما ملامح الصورة التي لم تتبلور "عربيًّا"، ولكن ليس من الصعب أن تتبلور على ضوء ما شهده القطر التونسي، وعلى ضوء ما يشهده، وما سيشهده أيضًا، فهي أن هذه الملامح العربية مرشحة لكثير من التغيرات والتفاعلات، ولكثير من عوامل التعرية، ومظاهر الشطب، ولكثير من التعديلات والتناقضات والإضافات، وربما لكثير من ألوان التأثر والتأثير، وعوامل التفجّر والتفجير التي تحملها عواصف الكراهية والأحقاد، ورياح التغيُّر والتغيير، والرغبة في النهب والسلب والتخريب والتدمير أيضًا.. المشهد العربي يبدو الآن مضطربًا، وأعصاب العرب تبدو مشدودةً متوترةً، وعيونهم ترقب وترصد وتتطلع إلى القطر الثاني بعد تونس، وإلى الثالث، والرابع، والخامس، وما بعد الخامس أيضًا من أقطار العروبة المرشحة للثورة على الطبقيَّة، وعلى الفساد والفاسدين من الطغاة العتاة الجناة الجفاة الوالغين في دماء الأبرياء منذ عقود وعقود.. والجيوش العربية التي غابت عن الساحة العربية، أو غُيِّبَت عنها، أراها الآن متأهبة متحفزة تتحرق شوقًا للعمل بعد عقود من التقزيم والتحجيم والتهميش، ومحاولات حرفها عن مسارها، وإرغامها على التنازل عن الدور الذي يُفترض أنها قد وُجدت للقيام به، والاستعاضة عن هذه الجيوش( بعد ذلك، أو قبله، أو بالتزامن معه) بأجهزة الأمن تلك التي عهدت إليها تلك الأنظمة بحمايتها، وقمع كل من تسوِّل له نفسه أن يطالب بحقوق هذه الأمة الواحدة الموحدة في العيش الحر الآمن الكريم، وبحقوق هذه الأمة الماجدة الواحدة الموحدة في العمل دون إبطاء من أجل التحرر والتحرير، ومن أجل حرية الرأي والقول والتفكير والتعبير، ومن أجل كرامة الإنسان في كل مكان ومكان من هذه الأرض العربية الحرة من محيطها إلى خليجها.

 

    ثورة الياسمين في تونس مرشحة لقيادة الثورة العربية المعاصرة بعد سلسلة الإخفاقات والتراجعات والانهيارات التي شهدتها الساحة العربية خلال العقود الماضية.. وثورة الياسمين في تونس( نظرًا لخطورة دورها تونسيًّا وعربيًّا وتاريخيًّا) مطالبة الآن بالنجاح، ومطالبة الآن بتحقيق أهداف الشعب العربي في تونس، ومطالبة بعدم الالتفات لهؤلاء المغرضين المثبطين، وأولئك المرجفين الطامعين المتسلقين المتآمرين على حرية الشعب، وعلى حقه في الحياة الحرة الكريمة.. وثورة الياسمين في تونس مطالَبة الآن بوضع حد لتغلغل أولئك الفاسدين من المشبوهين الذين يعملون جاهدين للالتفاف حول هذه الثورة العفوية المباركة الشفافة، وركوب موجتها من أجل إحباطها وتفريغها من مضامينها وتطلعاتها وأهدافها الكريمة، خدمةً لكل عقود التسلط والتحكم والاستبداد والاستعباد والفساد والتبعيَّة التي أثقلت كاهل شعب تونس، وتركته فريسة للعلل والكوارث والنوازل والآلام، في محاولة للعودة بالبلاد والعباد إلى عهود الجوع والخوف والطبقيَّة البغيضة، والاستبداد والفساد.

 

     ولئن كانت الثورة الفرنسيَّة التي انطلقت من عقالها عام تسعة وثمانين وسبعمئة وألف من نتاج فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو، ورفعت شعارات العدل والحرية والإخاء والمساواة، وأسقطت الطاغية لويس الرابع عشر، وأسقطت معه الباستيل رمز العبودية والاستبداد والاضطهاد والفساد والقمع السياسي والاجتماعي؛ فإن الثورة التونسيَّة التي انطلقت من عقالها في الأيام الأولى من العام الحادي عشر من هذه الألفيَّة الثالثة من نتاج الشعب العربي في تونس، ومن نتاج المعارضة التونسيَّة، ومن نتاج محمد البوعزيزي الذي أحرقَ نفسه، ومن نتاج عربة الخضراوات التي حاول الطغاة حرمانه من اقتنائها بدعوى عدم الترخيص، إمعانًا في تحطيمه وتدميره، وإمعانًا في شنِّ الحرب الضروس عليه، هذه الثورة أسقطت الطاغية بعد عقود من القمع والاستبداد والتسلط على رقاب الناس، وعلى أقواتهم، وأبسط حقوقهم في الحياة الحرة الكريمة.

 

   إن شعبنا العربي في تونس بعد أن أسقط الطاغية، عليه أن يبقى ساهرًا يقظًا حتى لا تضيع دماء شهدائه سدًى، وحتى لا يتمكن المغرضون من سرقة ثورته، وركوب موجته، لتحقيق أهداف الطاغية في تمزيق شعب تونس، وبيعه لأعدائه، وكتم أنفاسه وحريّاته، والولوغ في دماء أبنائه وبناته من جديد.. وإن شعوبنا العربية في المغرب العربي الكبير، وفي كل أقطار الجوار مدعوّة هي الأخرى لنصرة شعب تونس، ومنع الالتفاف على ثورته، ومدعوة للعمل من أجل استرداد حريتها، واسترداد كرامتها، ومحاسبة جلاديها، وسالبي ثرواتها، وناشري التخلف والفساد والضَّياع بين صفوف بناتها وأبنائها.

 

   إن أمة العرب في كل أرض العرب مسئولة اليوم عن مستقبل أجيالها على هذه الأرض العربية التي آن لها أن تتحرر، وآن لها أن تتطور، وآن لها أن تأخذ مكانتها اللائقة بها تحت الشمس، كما كانت قبل أن يتولى أمرها الأقزام!!

 

 


الأربعاء، ١٩ كانون الثاني ٢٠١١

في هذا الغلاء..وفي تشخيص الداء ووصف الدواء!!

متابعات

 

في هذا الغلاء..وفي تشخيص الداء ووصف الدواء!!

 

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

 

    كثير من الناس في شرق الدنيا وغربها، وفي شمالها وجنوبها أيضًا يعانون من آفة الغلاء، ويشكون من ألوان الفقر والجوع والبِطالة والتشرد والشقاء، لكنهم في هذا كله وفي كثير غيره أيضًا، ليسوا سواء.. ولئن كان الناس، كل الناس، في هذا العالم ممن يعنينا أمرهم، ويعنيهم أمرنا، هم إخوان لنا، ونحن لهم إخوان، لأننا منهم، ولأنهم منا، حسابَ رباط وثيق لا تنفصم عراه، هو رباط الإنسانية، إلا أن هنالك، في كل شيء، أولويات، مضافًا إليها كثير من الحسابات والاعتبارات، إذ لا يُعقل أن يذهب ذاهب إلى آخر الدنيا واصفًا للناس الجنة واقترابها، مبيّنًا كيف أنها حلوة، وبارد شرابها! وهو يتلظّى في سقر وما أدراك ما سقر؟! ولما كان الأمر كذلك، وهو يقينًا كذلك، أو ربما كان كذلك، فليكن الحديث في هذا الغلاء الذي بدأت طلائعه تهاجم الناس في هذه الديار، وتفتك بهم في غير هذه الديار من بلاد العرب، وليكن الحديث أيضًا في تشخيص هذا الداء الذي يعصف بهذه الديار وبغيرها من ديار العروبة، وليكن في وصف الدواء الذي قد يكون سببًا في الشفاء، وخروجًا من هذه العلل والأدواء.. وإذا كان لا بد من الإشارة إلى هذا البلد الغربي أو ذاك، وإلى هذه الدولة الشرقية أو تلك، فإن هذا لن يكون إلا من باب استكمال الفائدة، أو محاولة تعميمها، وربط الأسباب بالمسبِّبات وبالنتائج ربطًا مباشَرًا أو غير مباشَر، يمكّننا في نهاية الأمر من وضع بعض النقاط على بعض الحروف، وربما كان أيضًا مما تقتضيه طبيعة البحث، وضرورات التقصي، ومستلزمات التقفّي والاقتفاء والاستقصاء.

 

 

    تشير نتائج البحوث والدراسات والإحصاءات إلى أن بلاد العرب التي تعمرها أمة العرب البالغ تعدادها أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان، هي بلاد واسعة غنية بثرواتها النفطية والمائية والحيوانية والمعدنية، وهي بلاد تتمتع بطاقتها الشمسية الهائلة لتعدد صحاريها، وصفاء سمائها، وارتفاع درجة الحرارة فيها نهارًا بفعل شمسها الحارقة، كما تتمتع بتنوع مُناخاتها، وتعدد أقاليمها، وتضاريسها، وغناها بالسهول والسهوب والسبخات والجبال والتلال والتلاع والمرتفعات والوِديان والأغوار والنِّجاد والوِهاد، والحاصلات الزراعية المتعددة تعددَ هذه البيئات وتنوعها، وغناها أيضًا بالمصائف والمشاتي والسواحل اللامتناهية على المتوسط والأطلسي والهندي، وغناها كذلك بالآثار والأنهار والخلجان والغدران والبحار والبحيرات الداخلية المغلقة والمفتوحة.. بلاد العرب هذه التي قد تبلغ مِساحتها مثلَي مِساحة الصين الشعبية، وقد تبلغ مِساحة الولايات المتحدة الأمريكية وكندا مجتمعتين.. بلاد العرب هذه تعاني أمة العرب فيها من آفات الجهل والفقر والمرض، كما تعاني أمة العرب فيها من التفكك والتحلل والانقسام والاقتتال، كما تعاني أمة العرب فيها من الجوع والتشرد والتخلف والطبقية والفساد الإداري والمالي والأخلاقي، ومن النظام السياسي المستبد الذي لا يُحل حلالاً، ولا يحرم حرامًا، ولا يحق حقًّا، ولا يزهق باطلاً، ولا يغضب حين يغضب لغزو أو عدوان على أرض العرب، ولا يثور حيث يثور لسلب أو نهب لثروات هذه الأمة، واعتداء على مقدساتها ومقدراتها، وهدم لبيوت مواطنيها، وتنكيل بهم، وتشريد لهم من ديارهم.. وإنما يرغي ويزبد، ويغضب ويثور مهددًا بالويل والثبور، وعظائم الأمور، حين يرى مواطنًا عربيًّا يطالب بحقه في الحياة الحرة الكريمة، وحين يرى مواطنًا عربيًّا يطالب بحقه المشروع في المأكل والملبس والمسكن، وحين يرى مواطنًا عربيًّا يتحدث عن الوحدة العربيَّة، وعن الأمن القومي العربي، وعن حق العرب في زراعة أرضهم، وحمايتها، وعن حق العرب في التصنيع والتعمير والتطوير واللحاق بركب الأمم المتحضرة المتقدمة القوية في هذا العالم.. بل إن هذا النظام السياسي العربي قد تجاوز مرحلة الوعيد والتهديد والإعداد والاستعداد إلى مرحلة التنفيذ وإطلاق النار على هؤلاء المواطنين العرب الذين يرفعون أصواتهم مطالبين حكوماتهم بوضع حد لهذا الغلاء الجامح الذي يغشى البلاد والعباد، ويذر الغالبية العظمى من هؤلاء المواطنين تحت خط الفقر، ويحرم الغالبية الساحقة منهم حقها الطبيعي المشروع في العيش الكريم، وحقها الطبيعي المشروع في الغذاء والدواء والمسكن والملبس والتعلم والعمل.. هذا النظام السياسي العربي الذي حشد من حوله الأعوان والمرتزقة من خربي الذمة والضمير ومن المتسلقين والوصوليين والانتهازيين الذين تحالفوا معه، ليكونوا رصاصه الذي يصوبه إلى قلوب الناس الفقراء، وإلى قلوب أطفالهم ونسائهم وشيوخهم ومرضاهم، وليكونوا رصاصه الذي يوجهه إلى آمال هذه الأمة، وإلى طموحاتها في الحرية والتحرر والوحدة والتحرير واللحاق بركب الأمم التي تحترم نفسها في هذا العالم.

 

     

     هذا الغلاء غير مشروع، وهو في معظم صوره وأشكاله غير مسوّغ، وغير سائغ، وغير مستساغ، وهو ليس عالميًّا كما يزعمون، وإنما مردّه الجشع والطمع وإصرار هذا النظام على تجويع الناس، بهدف إذلالهم والسيطرة عليهم وتجريدهم من إنسانيتهم وآدميتهم، واستعبادهم، وتسخيرهم لأهدافه في خدمة الأسياد، وخدمة الأعوان والمستفيدين من الضاربين بسيف السلطان، الآكلين من موائده، الذين يقدمون الخدمات المجانية وغير المجانية للسادة الغرباء الذين يحلمون بالسيطرة المطلقة على كل ديار العرب هذه من محيطها إلى خليجها.. هذا الغلاء غير مشروع، فهو باطل الأباطيل، وهو غير مسوَّغ لأنه سبق لبرميل النفط أن بلغ مئة وسبعة وأربعين دولارًا دون أن تصل الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، وهو عند بداية التسعين دولارًا للبرميل، وهو غير سائغ ولا مستساغ لأن النفط العربي يجب أن يكون للعرب، ولأن النفط العربي يجب أن يبني بلاد العرب، ولأن النِّفط العربي يجب أن يوضع في خدمة أمة العرب من محيطها إلى خليجها، ولأن النفط العربي يجب أن يساهم في بناء دولة العرب على كل أرض العرب، ولأن النفط العربي لو جُنِّد لخير هذه الأمة لَحَلَّ كل مشكلاتها، ولما وجدتَ في كل بلاد العرب محتاجًا واحدًا، أو سائلاً واحدًا، أو محتجًّا واحدًا، أو متظاهرًا واحدًا يطالب بوضع حد لهذا الغلاء الذي يحرم كثيرًا من الناس أبسط حقوقهم في العيش الكريم.

 

    إن المسئولية أولاً وقبل كل شيء تقع على عاتق النظام السياسي العربي، بمعنى أن على هذا النظام أن يعمل في الحال على إعادة النظر في كافة ممارساته ضد هذه الأمة، وضد حقها الطبيعي في العيش باحترام على أرضها، قبل أن يستفحل الداء، ويعزَّ الدواء، وقبل أن يندم أولئك وهؤلاء، ولاتَ حين مندم، وقبل أن تلجأ الشعوب إلى الكيّ، وهو آخر العلاج كما قالت العرب.

   

 إن تشخيص الداء ليس أمرًا صعبًا، وإن وصف الدواء هو في متناول اليد.. إن العرب جميعًا (بما فيهم فئة الحكام وكل الزُّمر المتحالفة معهم من الوصوليين والمستفيدين والانتهازيين) يعلمون يقينًا أن حياة العرب في وحدتهم، وفي إخلاصهم لمبادئ الثورة العربية على الجهل والفقر والمرض والبِطالة والتخلف والظلم والاضطهاد والاستعباد والاستبداد والفساد والإفساد والتبعية للآخرين.

 

 

     وإن على العرب جميعًا أن يعلموا أن في غرب الدنيا وشرقها أممًا وشعوبًا وقبائل قد مرّت في الماضي القريب بأسوأ مما تمرّ به هذه الأمة، ولكنها انتصرت على ضعفها بالإرادة والعمل والإصرار على تحقيق الأهداف في الحرية والوحدة والحياة الفُضلى؛ فكان لها ما أرادت، فلماذا لا يكون للعرب أيضًا ما يريدون؟

 

 

19/1/2011

            


الاثنين، ١٧ كانون الثاني ٢٠١١

تراجع أوباما..مؤشرات ودلالات وانعكاسات..!!

 

متابعات

تراجع أوباما..مؤشرات ودلالات وانعكاسات..!!

 

عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    بعد كل تلك الخطابات التي ما زال الناس يذكرونها جيِّدًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كل أقطار أمريكا الوسطى والجنوبية، وفي سائر أقطار أوروبا، وكافة بلدان العالم العربي الإسلامي، وكل أصقاع إفريقيا وآسيا، وصولاً إلى أعماق الجنوب الشرقي من هذا الكوكب الأرضي الذي تحاصره المياه في أستراليا ونيوزيلندا.. وبعد كل تلك الأحاديث المفعمة بالتفاؤل والأمل والثقة والإيمان بحتمية حدوث التغيرات، وإمكانية إحداث التغييرات، والقدرة على إجراء إصلاح شامل في النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الفكري في هذا العالم، والتبشير بعهود من الرخاء والنماء وإشاعة العدل والعدالة والمساواة بين الناس، وحل كافة القضايا الكبيرة التي تؤرق الناس في هذا العالم، وعلى رأسها­_ربما_ القضية الفلسطينية التي تنتظر حلاً عادلاً ينصف العرب الفلسطينيين الذين يهيمون في كل واد منذ عام النكبة، وحتى ساعة كتابة هذا المقال الصارخ الذي أرى من خلاله وجوه الأحبة، وأسمع من خلاله دقات قلوبهم، ونأنأة شياهِ هذا الوطن، وكل ظبائه في يومنا هذا، في بلدنا هذا، في عامنا الجديد هذا الذي يحتفل فيه الشرقيون بميلاد السيد المسيح عليه السلام رسول الإخاء والمحبة والتسامح والسلام.

    وبعد كل ذاك الذي وعدَنا به أوباما، وبعد كل الجهود والمساعي التي بذلها من أجل إحقاق شيء من حقوق عرب فلسطين، ومن أجل رد شيء من الاعتبار إليهم، ومن أجل وقف شيء من معاناتهم وآلامهم التي طال عليها الأمد، ومن أجل إعادة البسمة إلى شفاه صغارهم وكبارهم ومعذَّبيهم.. بعد كل هذا، وبعد كل تلك الوعود التي قطعها الرئيس بحل هذه القضية حلاً عادلاً، وبعد كل تلك الآمال التي علقها عليه هذا الشعب العربي الفلسطيني... يتراجع أوباما اليوم، ويرفع يده عن هذا الملف الذي كان قد تبناه حتى أصبح قضيته، بعد أن أخذت عزيمته هذه بالفتور، وإصراره هذا بالتلاشي والضعف منذ مدة! وبعد أن أخذت الكلمة تفقد سحرها على شفتيه، وفي بصمات صوته، وفي تلافيف روحه المفعمة بالأمل والثقة والجذل، وبعد أن أخذت حماسته لكثير مما بشَّر به، واعتقد أنه قادر على تحقيقه بالنضوب لأسبابٍ كان أوباما يعلم"يقينًا" بعضها، وكان كثير من الناس في هذه الديار يعرفون بعضها الآخر، أما أسباب هذا التراجع فليست من أهداف هذا المقال الذي يتناول مؤشرات هذا التراجع، ودلالاته وانعكاساته محلِّيًّا وعربيًّا ودَوْليًّا بالقدْر الذي يفي بالغرض دون إفراط أو تفريط، وبالقدْر الذي يسمح به وقت القارئ في عصر السرعة هذا، وتسمح به أيضًا هذه المِساحة المخصصة للمقال في هذه الصحيفة المثقلة بالأعباء والمسئوليات التاريخيَّة.

    تراجع أوباما يشير بوضوح إلى أن الرجل قد أدرك أنه غير قادر على الاستمرار في هذا النهج الذي أخذ به نفسه؛ فآثر التراجع، وآثر رفع يده عن هذا الملف، تاركًا التعامل معه للمستشارين والمبعوثين، وللقنوات الرسمية التي تجري بها الأمور، وتعالَج القضايا في إطارها التقليدي، بعيدًا عن الثوريَّة في الخطاب، وبعيدًا عن محاولة سلوك النهج الثوري في الممارسة السياسيَّة للولايات المتحدة التي لا يسمح دستورها بذلك، ولا يسمح به المزاج العام للشارع الأمريكي في معظم الولايات الأمريكية أيضًا، وإذا كانت "ديمقراطية" أمريكا قد فتحت المجال أمام أوباما ليصبح رئيسًا لها، فإن هذه الديمقراطية لا تسمح له بالخروج على قواعدها وأصولها التي يحميها الدستور، ويحافظ عليها المزاج الغربي، والتوجه الغربي المستتر خلف الدستور، والمتمكن من كل كبيرة وصغيرة من كل أجهزة الدولة، ومن كل مؤسساتها ودوائرها المختلفة.. صحيح أن هناك صلاحياتٍ واسعة بيدِ الرئيس، ولكن صحيح أيضًا أنه يُحاسَب بشكل فوري على طريقة أدائه، وطبيعة تصرفاته وممارساته، بل على تصريحاته واختيار كلماته وتعبيراته في كثير من الأحيان، ولاسيَّما عندما يتعلق الأمر بواحدة من أقوى ركائز السياسة الأمريكية، ومن أبرز معالمها وأقوى ثوابتها، وأكثرها وضوحًا وأشدها حساسية أن يلامسها، أو يدانيها، أو يقترب منها أحد بغير ما تسمح به ثوابت السياسة الأمريكية، والمزاج الغربي الأوروبي العام، حتى لو كان هذا" الأحد" سيد البيت الأبيض، فالحساب يكون فوريًًّا، والخسارة تبدو واضحة في تراجع شعبية الرئيس حتى من بين ناخبيه ومؤيديه من أعضاء حزبه الديمقراطي، والحساب يكون فوريًّا، والخسارة ظاهرة للعيان في الكونغرس الأمريكي الذي يتفوق فيه الجمهوريون لقطع الطريق على الرئيس في إشارة واضحة إلى الرئيس وحزبه: أن كفّوا عن اللعب بالنار!! ولما كان الرئيس_ أي رئيس_ لا يريد الخسارة لحزبه، فإنه يتراجع عما عرّض الحزب للخسارة من قول أو فعل أو محاولة.. وهكذا كان، وهكذا أيضًا تراجع أوباما عن كثير من مواقفه، وعلى رأسها تبنيه ملف القضية الفلسطينية، وإشرافه بنفسه على وضع حل الدولتين موضع التنفيذ.. وإن لم يكن أوباما قد قرر السير في طريق آخر مغاير بديل..وإذا كانت هذه هي مؤشرات هذا التراجع باختصار شديد، فما هي دلالاته باختصار أشد؟.

 

   لعل من أبرز دلالات هذا التراجع أن سيد البيت الأبيض قد يكون كل شيء، عندما يقف بكل قواه إلى جانب منظمات الضغط اليهودي في أمريكا، وعندما يؤيد بكل قواه مطالب إسرائيل والإسرائيليين، وعندما يقف بكل قواه إلى جانب الإسرائيليين اليهود في صراعهم مع الفلسطينيين، وفي صراعهم مع كل العرب، ومع كل المسلمين.. في الوقت الذي قد يصل فيه سيد البيت الأبيض حافة (اللاشيء) إذا هو حاول أن يحق حقًّا، أو يزهق باطلاً، وإذا هو حاول أن يقف وقفة حق وصدق إلى جانب مظلوم تسمع الدنيا كلها صراخه وبكاءه، وترى ما حلّ به، وما يحلّ به أيضًا منذ نكبته وحتى الساعة.. ولعلّ من أبرز دلالاته أن الذين راهن عليهم أوباما في شرق الدنيا وغربها هم غثاء كغثاء السَّيل، وأن رهانه هذا هو الذي أدى به إلى النتيجة هذه.. وإذا كان كثير من الغربيين، وكثير من محبي الغرب، ومؤيدي ثقافته وسياسته واستكباره، يقولون: "هذا الرجل مسلم متخلف، وشيوعي متطرف" ولقد أتى به الأمريكيون إلى سدة الحكم كي يقطعوا الشك باليقين، وكي يقيموا الدليل على صحة هذه الدعوى، وكي يثبتوا بما لا يدع أدنى مجال لأدنى شك أن الغرب خير من الشرق؛ فالغرب هو الحضارة والتسامح والحياة.. والشرق هدم وتعصب وموت وتخلف وإرهاب، وشتان ما بين هذه وتلك! فماذا يقول المنصفون، وماذا يقول العرب والمسلمون في كل هذه المزاعم!!.

 

   ولئن كانت هذه هي مؤشرات تراجع أوباما عن تبنيه ملف القضية الفلسطينية بشكل شخصي، ولئن كانت هذه هي دلالاته أيضًا، فإن من انعكاساته أن تشهد القضية الفلسطينية مزيدًا من التراجع، والقضايا العربية مزيدًا من الخسارة والتقهقر والضعف، كما أن من انعكاساته أن يشهد حبل الأمن القومي العربي مزيدًا من الاضطراب والفوضى، وأن تشهد كثير من الأقطار في هذا العالم العربي الإسلامي مزيدًا من تدخل الغربيين وتحكمهم واستبدادهم، ومن تدخل حلفائهم وأعوانهم وأتباعهم أيضًا!.. فهل يكون هذا التراجع بداية صحوة عربية تعيد إلى هذا المشرق وجهه العربي الأصيل المشرق، وأمجاده التي كانت ذات يوم؟؟ نرجو ذلك.

17/1/2011

  


السبت، ١٥ كانون الثاني ٢٠١١

في اليوم الطفل العربي!!


متابعات

في يوم الطفل العربي!!

أ.عدنان السمان
www.samman.co.nr


   لسنا بحاجة إلى من يذكّرنا بأن الأطفال دون سن الثامنة عشرة في الوطن العربي يشكّلون أكثر من نصف سكان هذا الوطن, وأنهم -مع أمهاتهم- يشكّلون أغلبية مريحة من حقها أن تستأثر بنصيب الأسد من ثروات هذا الوطن، ومن اهتمام كباره, ومثقفيه ,ومفكريه, وأولي الأمر فيه..ولسنا بحاجة لمن يذكّرنا بأهمية الأطفال في قانون تعاقب الأجيال، وتغيّر الأوضاع والأحوال..ولمن يذكّرنا بأهمية الأطفال في الثورة على ثقافة النوم، والخمول، والكسل، في بلاد السمن والعسل, وإحياء ثقافة اليقظة والنشاط والتفاؤل والأمل وحب العمل في كل ديار العروبة من محيطها إلى خليجها..وبأهمية الأطفال في التقريب ما بين المسافات, واختصار الزمن بين الثقافات والحضارات..وبدورهم في بيان فضائل التحدي, ومنازل الإصرار والتصدي، ولسنا بحاجة لمن يذكرنا أيضًا بأن من حق الأطفال أن يعيشوا بحرية وكرامة ورعاية في كل أقطار هذا العالم.
    لسنا بحاجة لمن يذكرنا بهذا, لأننا نعرفه حق المعرفة, ولأننا نعرف يقينًا أن هؤلاء الأطفال هم الأمة كلها اليوم وغدًا وبعد غد, وأنهم روحها, وجسدها ومعناها, ومبناها, وحقيقة وجودها وقيمتها الفعلية هنا على أرض وطنها, وهنالك بين الأمم والشعوب في هذا العالم.. فأي معنًى للأمة بدون أطفالها؟ وأي معنًى لها إذا كان أطفالها مقموعين مضطهدين خائفين أميين مجردين من كافة حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية؟ وأي معنًى لها ولهم إذا كانوا مسلوبي الإرادة, مهزوزي الشخصية, فاقدي الثقة بالنفس, يشبّون على المهانة والكذب والنفاق والخداع, ويشيبون على التبعية والمذلة والفساد والتزوير والتفريط بالأوطان والأديان والإنسان؟ وأي معنًى لأمة يربي كبارُها صغارَها على التنكَّر للفضائل, والقيم, والمبادئ السامية, والأخلاق الحميدة, وعلى عبادة الذات, والكفر بكل ما فيه خير البلاد والعباد,وبكل ما فيه مصلحة هذه الأجيال في حياة حرة عزيزة كريمة في وطن حر عزيز سيد مستقل، لا يهادن فسادًا وانحرافًا واستغلالا ًواستغفالاً, ولا يسالم طاغية معتديًا مستهترًا مستخفًًّا بالناس مستعليًا عليهم، مستكبرًا في الأرض, مغتصبًا لحق الناس، في الحياة الحرة, ولحقهم في البناء والإعمار والسيادة على أرضهم, ولحقهم في العيش الآمن الكريم في أوطانهم؟
   إن خير ما يمكن أن تفعله الأمة هو أن تحسن تربية أطفالها,وأن تحسن تعليمهم,وأن تحيي في نفوسهم ثقافة العمل والأمل والعزة والكرامة والتضحية والمثابرة والإخلاص..وإن خير ما يمكن أن يقدمه الكبار للصغار مدارس يعيشون فيها أجمل أيام حياتهم, ويحبونها الحب كله..مدارس تلبي احتياجاتهم, وتنمّي شخصياتهم, وتغرس فيهم الولاء والوفاء لثقافتهم, ولغتهم, وأمتهم, وتاريخهم, ومبادئهم, ومعتقداتهم.. مدارس تعلمهم الصدق, والأمانة, والإخلاص, والاستقامة, وحب الوطن, والتضحية من أجله, والإخلاص للأمة, والعمل من أجل وحدتها, ونصرتها, وعزتها,والوفاء لقيمها, وتقاليدها, وأعرافها, ومقدساتها.. وإن خير ما يمكن أن يقدمه الكبار للصغار مناهج تلبي احتياجات هؤلاء الصغار, وتكفل حقهم في بناء أجسادهم وأرواحهم, وصنع المستقبل اللائق بهم وبالأمة التي ينتمون إليها.. مناهج يستوعبها الطلبة, ويفهمونها, وتشهد على ذلك نتائجهم, وشهادات لجان المتابعة المكلفة بالإشراف على المدارس والمناهج من غير العاملين فيها,ومن غير المستفيدين منها..لجان متابعة من المختصين المستقلين المحايدين أصحاب التجربة والخبرة والمهارة.. وإن خير ما يمكن أن يقدمه الكبار للصغار رعاية صحية تجنّبهم العلل والأمراض, وتكفل لهم نموًّا جسديًّا ونفسيًّا سليمًا, ورعاية اجتماعية, وتوجيهًا للأمهات, وعناية بهنّ, وبأطفالهنّ, ورعاية اقتصادية, وثقافية, وفكرية, ولُغوية تبني ولا تهدم, تجمع ولا تفرّق, تكتشف المواهب, وتصقلها, وتهذبها, وتكتشف المبدعين والموهوبين وترعاهم!!
   ما أحوجنا  إلى كل هذا, وإلى كثير غيره! ما أحوجنا إلى جيل يحترم نفسه, وينشأ على الكرامة والخلق والعزة,ويغتذي لبان العروبة, ويؤمن بوحدة الأرض العربية, وبالدولة العربية, فوق كل أرض العرب, ويؤمن بالعلم والعمل وسيلة لبناء أمة عربية واحدة موحدة متكاملة في سائر أقطارها وأمصارها.. ما أحوجنا لجيوش من الأطباء, وجيوش من المهندسين، وجيوش من الصيادلة،والتقنيين،والمثقفين ،والمفكرين،والكتّاب،والمؤلفين،والأكاديميين،والمخترعين.. وما أحوجنا قبل هذا كله، أو بعد هذا كله للسياسيين المؤمنين بحق أمتهم في الحياة الحرة الكريمة، وبحقها في السيادة والعزة والاستقلال، وبحقها في العيش الآمن الكريم.
   وإذا كنا نحتفل في هذا اليوم الخامس عشر من كانون الثاني بيوم الطفل العربي, فإنه يحسن بنا أن نشير إلى أن الأمم المتحدة قد ضمنت في إعلانها العالمي لحقوق الإنسان كثيرًا من حقوق الطفولة في المساعدة والمساندة والرعاية, بل إن المبادئ المعلنة في ميثاق الأمم المتحدة قد ضمنت الاعتراف بكرامة أعضاء الأسرة,وبحقوقهم المتساوية, وغير القابلة للتصرف, واعتبرت ذلك أساسًا للحرية والعدالة والسلم في العالم كله.. كما يحسن بنا أن نشير إلى أن الحاجة لتوفير الرعاية الصحية الخاصة للطفل قد ذكرت في إعلان جنيف لحقوق الطفل عام 1934, وفي إعلان حقوق الطفل الذي اعتمدته الجمعية العامة في الثلاثين من تشرين الثاني من العام 1959 والمعترف به في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
   في يوم الطفل العربي لابد من القول إن الاهتمام بالأطفال هو اهتمام بالوطن والمواطن ومستقبل الأجيال على أرض أوطانهم.. وإن إهمال الأطفال هو إهمال للوطن والمواطن؛ فمن أراد خيرًا بهذا الوطن, فليبدأ بأطفاله, فهم عدته, وعتاده, وهم بُناته وحُماته.
وفي يوم الطفل العربي نطالب بحياة كريمة للطفل العربي, وبحياة كريمة للأسرة العربية,وبالكف عن كل مظاهر الاستهتار والاستخفاف بالمواطن..كما نطالب بسيادة القانون, وبقضاء حر نزيه مستقل.
  وفي يوم الطفل العربي لا بد من القول إن من حق الطفل العربي الفلسطيني أن يحيا حياة حرة سليمة على أرض وطنه فلسطين،ولا بد أن يعيش حياةً آمنة مطمئنة بعيدًا عن كل أسباب الرعب والخوف والجوع والأميّة والتوتر والتشرد،وبعيدًا عن كل أشكال التبعية والضَّياع والفساد والانحراف؛لأن هذا من أبسط حقوقه،ولأن هذا هو ما يجب أن يقف على رأس اهتمام أبيه وأمه وأولياء الأمور كل في موقعه،وعلى رأس اهتمام كافة شرائح المجتمع ومؤسساته دون أدنى استثناء.


(15/1/2011)


الخميس، ١٣ كانون الثاني ٢٠١١

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تأليف : فيصل أبو خضرا

                                                              تقديم: عدنان الســمان

 (الحلقة الأولى )

    ما أجمل هذا الحوار الذي دار بين الكاتب رجل الأعمال الفلسطيني " فيصل أبو خضرا" مؤلف هذا الكتاب، و" أبراهام" الطبيب الأميركي اليهودي المولود في بولونيا، والذي جاء به أهله مع إخوته إلى "إسرائيل" بعيد الحرب العالمية الثانية، وتحديداً في العام (1950) أي في الفترة التي كانت فيها أسرة " أبو خضرا" وغيرها من الأسر الفلسطينية تُرغم على مغادرة يافا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية في أعقاب حرب (1948م).

    يتوجه المؤلف إلى الولايات المتحدة الأميركية للعلاج، ويدخل أحد المشافي هناك حيث تُجرى له عملية جراحية ناجحة، يترتب عليه بعدها قضاء فترة نقاهة يكون فيها إلى جانب الأطباء(1)... ويشاء القدر أن يكون "أبراهام " هو الطبيب الذي أنيطت به مهمة الإشراف على "فيصل" خلال هذه الفترة التي نفد فيها صبر المؤلف، وغلبه الحنين إلى الوطن والأهل والعمل... ويسمح الطبيب بذلك شريطة التزام "المريض" بتنفيذ التعليمات .. متمنياً له سفراً هادئاً (2)، ويضيف " أبراهام" مخاطباً "فيصل" :

-        لا تنس أن تتمتع بشمس الشرق، ومياه البحر الأحمر، فإن الله قد منحكم هبات لم يمنحها للآخرين.

-        من أين عرفت أنني ذاهب إلى الشرق والشمس والبحر الأحمر؟

-   من ملفك الذي عندنا في المستشفى، عرفت أنك سعودي من أصل فلسطيني.. وأنا أيضاً أعرف يافا(3) المدينة الساحلية التي تغتسل شوارعها بمياه البحر المتوسط.

-        وهل أنت فلسطيني يهودي؟

-        أنا يهودي إسرائيلي.

-        تقصد أنك من أصل أوروبي.

-        أنا إسرائيلي ولدت في بولونيا، وجاء بي أهلي مع إخوتي إلى إسرائيل بعيد الحرب العالمية الثانية.

-        متى بالضبط؟

-        في العام 1950، وكنت في التاسعة من عمري.

-        ما الذي جاء بك إلى الولايات المتحدة؟

-        إن ظروف إسرائيل ليست جميعها على أحسن ما يرام، فنحن أيضاً نعاني من هجرة مضادة.. وأنا هنا

-   منذ ثمانية عشر عاماً(4) تابعت اختصاصي هنا، وحملت الجنسية الأميركية، لكن أهلي في إسرائيل.. قل لي: هل توافق على وجود دولة يهودية في إسرائيل؟

-        أتريدني أن أكون صريحاً معك؟ لا، لا أوافق على ذلك.

-        إذن أنت تطالب بهلاك الدولة اليهودية.

-        لا.. بل إنني أطالب بالدولة الديمقراطية التي تضم يهوداً ومسلمين ومسيحيين.

    ويستمر هذا الحوار بين الرجلين متناولاً فكرة الدولة الديمقراطية، والسماح لبقية الأديان أن تتمثل في الحكم.. وواقع التمثيل الحالي، وكم هو مجحف بحق العرب .. وتشبيه إسرائيل باللص الذي يُقدم على سرقة.. فهو يريد الاحتفاظ بسرقته، ويريد أن يبقى بعيداً عن أيدي أصحاب البيت... ولكن "أبراهام" يرفض هذا التشبيه الذي ساقه المؤلف مشيراً إلى أن أصحاب البيت في الأصل هم اليهود الذين سُرق البيت منهم!! ويدور الحوار بينهما حول ازدواجية الجنسية: فأبراهام من مواليد بولونيا، ويحمل الجنسية الإسرائيلية، ثم يرتحل إلى أميركا.. ويحمل جنسيتها أيضاً.. ويوضح المؤلف الفرق بين حالة "ابراهام" (ومثله ملايين اليهود الذين يحملون الجنسيتين) وحالته هو، ومثله ملايين الفلسطينيين العرب الذين هُجِّروا من فلسطين ، وحمل كثير منهم جنسيات بعض الأقطار العربية أو الأجنبية.. ويشمل الحوار بين الرجلين كثيراً من القضايا تناولها المؤلف بأسلوب ممتع مقيماً الدليل على صحة وجهة نظره.. مركّزاً على قوتهم وضعفنا.. وعلى أمور كثيرة أخرى في جوهر الصراع العربي الإسرائيلي.

    ينتقل المؤلف بعد هذا الحوار الطريف ليكتب في العلاقة الأميركية – الصهيونية، موضحاً " أن الولايات المتحدة قدّمت لإسرائيل بين 1948 و1990(5) من المساعدات الرسمية، والمعونات الخاصة، والاعتمادات الطارئة، والتعويضات، والمنح الأخرى ما يقدر ب(148)مليار دولار . ومن دون هذا الدعم، لم يكن بمقدور الدولة العبرية الاستمرار الاقتصادي، ولا توطين موجات المهاجرين اليهود القادمين إليها في الأربعين عاماً المنصرمة، وخصوصاً لم يكن بمقدورها بأي شكل خوض حروب: 1956و1967و1973و1982، أو تحمل أي من تبعاتها العسكرية والاقتصادية ، أو أي من مراميها التوسعية".. وهذا يعني أن ما تحصل عليه إسرائيل من برنامج المعونات الخارجية الأميركية، هو أكثر من ربع معونات هذا البرنامج للعالم كله، وما تحصل عليه إسرائيل من المساعدات الأميركية يفوق نصف المعونات الخارجية الأميركية للعالم أجمع.. مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل المساعدات الأميركية لإسرائيل هي هبات منذ عام 1985، وهي غير خاضعة للتقليصات التي يمكن أن تطرأ على برنامج المساعدات الخارجية، بموجب استثناء رسمي من الكونغرس.

    ويجب أن لا يغيب عن بال أحد أن المعونات التي تقدمها الولايات المتحدة للدنيا كلها – باستثناء إسرائيل- هي معونات مشروطة أو مغرضة أو لأهداف سياسية معينة في أغلب الأحيان.. أما المعونات الأميركية لإسرائيل فأمر مختلف كما سنرى في فصول قادمة من هذا الكتاب... ويبقى السؤال المطروح: أيهما المستفيد الذي يسخّر الآخر لأهدافه ومآربه أميركا أم إسرائيل؟

    يشير المؤلف(6) إلى أن اليهود في الولايات المتحدة يعيشون في المدن الكبيرة وبخاصة في نيويورك التي يعيش فيها مليون ومئتا ألف يهودي(7)، ولوس أنجلس حيث يعيش فيها نصف مليون يهودي... وهناك جاليات يهودية كبيرة في شيكاغو وميامي وبوسطن وبالتيمور وكليفلند وديترويت وسان فرانسيسكو... كما أن غالبية اليهود الأميركان تقيم في ولايات الشاطئ الأطلسي الشمالي، وبخاصة في كاليفورنيا وفلوريدا (تضم ولايتا نيويورك وكاليفورنيا وحدهما  حوالي نصف مجموع اليهود الأميركيين.. وهذا يعني أن تواجد اليهود في المدن الكبيرة، وفي الولايات ذات النفوذ يقوي من قدرتهم على التأثير على مواقع صنع القرار في الولايات المتحدة.

    وفي معرض حديثه عن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة يوضح "فيصل أبو خضرا" أنه يقوم على هذا المجتمع اليهودي المتمركز داخل أميركا، والمتّسم ب " ازدواجية الولاء" للدولة الأميركية ولإسرائيل.. وهذا المجتمع اليهودي هو القاعدة البشرية والسوسيولوجية والتاريخية التي تستند إليها، وتنطلق منها التحركات الصهيونية(8)... هذا اللوبي بمعناه الواسع يتكون من مئات التنظيمات، والجمعيات اليهودية العاملة داخل المجتمع اليهودي الأميركي... أما اللوبي الإسرائيلي الـ"ايباك" فهو أهم هذه اللوبيات، وهو اللوبي الإسرائيلي الرسمي.. وهناك تنظيمان يهوديان مركزيان على الأقل يمر الضغط النهائي عبرهما أيضاً هما: " مجلس المنظمات اليهودية" الذي يضم ممثلين عن حوالي (115) منظمة يهودية إقليمية ووطنية. و"مؤتمر الرؤساء" الذي يضم رؤساء حوالي ال (48) منظمة الأكثر نفوذاً... وهذه الأطر التنظيمية الثلاثة العليا (المتداخلة أيضاً فيما بينها) تشكّل قمة الهرم لمئات التنظيمات اليهودية الأميركية العاملة في اتجاه الهدف الواحد نفسه: دعم إسرائيل بكل الوسائل، وعلى رأسها توفير الدعم المادي لإسرائيل عبر الدولة الأميركية، وعبر المجتمع اليهودي الأميركي، والقوى المتضامنة معه في المجتمع المدني.. وتوفير المساعدات العسكرية والتكنولوجية في أزمنة الحرب والسلم.. وتوفير الغطاء السياسي الأميركي لكل ما تقوم به إسرائيل.. وإدخال العامل الإسرائيلي إلى مجمل سياسات أميركا الخارجية.. ومنع المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية عن العرب.. وتشويه صورة العرب.. والعمل على إضعاف شأنهم في كل الميادين.. أما الوسائل فهي "المال اليهودي.. صنع الأفكار وترويجها إعلامياً.. الصوت اليهودي الانتخابي.. الثواب والعقاب: من إثراء وإفقار، وترغيب وترهيب، وترقية ومحاصرة ، إلى التهديد بالعنف الجسدي.

    وبعد أن ينتهي المؤلف من هذه المقدمة في العلاقة الأميركية – الصهيونية يدخل في صلب الموضوع حيث يقسمه إلى ستة فصول تبحث في "العلاقة الخاصة" والأزمنة الجديدة، وهذا هو الفصل الأول. أما الفصل الثاني فيبحث في الـ"دياسبورا" اليهودية في العالم. ويبحث الفصل الثالث: في "اليهود الأميركيون" .. والفصل الرابع يبحث في اللوبي  الصهيوني في واشنطن.. والفصل الخامس في الغايات والوسائل.. أما الفصل السادس فقد خصصه المؤلف للبحث في الدعم الأميركي لإسرائيل.

الفصل الأول

العلاقة الخاصة والأزمنة الجديدة

 

    يتحدث المؤلف في هذا الفصل عن الأهمية البالغة لمطلع العقد الأخير من القرن الماضي حيث شهدت تلك الفترة انهيار الاتحاد السوفياتي، وانفراط عقد المنظومة الاشتراكية، وسيطرة الولايات المتحدة – بالتالي- على هذا الكون لأول مرة في تاريخها على هذا النحو غير المسبوق.. حتى أن المؤلف قد سمّى ما كان يحدث في تلك الفترة من إعادة رسم كامل للعالم ( أمام نظرنا) عالم ما بعد "الحرب العالمية الثالثة" هذه الحرب التي انتهى معها عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية(9).

    من الطبيعي أن يناقش المؤلف آثار ما حدث على الساحة الفلسطينية والعربية ، وعلى الصراع المزمن في ديارنا هذه .. فأطفال الحجارة يحرجون الإسرائيليين أيما إحراج، ويفضحون الطبيعة العدوانية للدولة العبرية... وحرب الخليج تدمي بلاد العرب، وتدمر العراق والكويت في آن واحد.. والباب يُفتح على مصراعيه أمام هجرة اليهود السوفيات إلى هذه البلاد... وما دام الاتحاد السوفياتي قد انهار.. وما دام العرب منشغلين بخلافاتهم وأمراضهم المستعصية المزمنة.. ومادامت أميركا قد دخلت الوطن العربي من أوسع الأبواب .. فما الذي يمكن أن تقدمه "إسرائيل" للولايات المتحدة؟ وما هي الخدمات التي يمكن أن تقدمها للغرب؟ لو كانت المسألة منطقية لقضي الأمر، وعادت الأمور إلى نصابها، أو ما يشبه نصابها.. ولكنها ليست كذلك، فلا المقدمات تؤدي إلى النتائج، ولا النتائج ناتجة عن المقدمات!! إنها حسابات من نوع آخر.. حسابات خاضعة لتصرف ذلك اللوبي الضاغط دائماً وأبداً وباستمرار لصالح "إسرائيل" حتى لو كان الصراع مع أميركا نفسها!!! ومعركة المليارات العشرة بين الرئيس الأميركي بوش، ورئيس الحكومة الإسرائيلية (آنذاك) اسحق شامير التي وقعت جولتها الأولى الحادة في شهر أيلول 1991 خير شاهد على صحة هذا القول، وبصرف النظر عن النتائج النهائية التي أسفرت عنها تلك المعركة التي دارت داخل الكونغرس الأميركي بين بوش وشامير إلا أن مجرد حدوث تلك المواجهة دليل قاطع على مدى نفوذ ذلك اللوبي وتمكنه.. ودليل قاطع على مدى اعتماد قادة إسرائيل على فعل هذا اللوبي، ونفوذه الخيالي داخل الولايات المتحدة... صحيح أن تلك المواجهة أسفرت يومها عن تأجيل البحث في المسألة لمدة (120) يوماً على مستوى الكونغرس، وعلى مستوى الرأي العام الأميركي.. وصحيح أن اللوبي الصهيوني يومها قد تراجع تكتيكيَّاً في تلك الجولة، وتراجع مؤيدوه في الكونغرس... ولكن صحيح أيضاً أن الأمور قد اختلفت تماماً .. وكان للإسرائيليين أكثر مما يريدون بكثير في قادم الأيام بفعل ذلك اللوبي، ولأسباب أخرى كما سنرى في فصول قادمة من هذا الكتاب.

يتبع ......

 

 

 

 

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تأليف : فيصل أبو خضرا

                                                                      تقديم: عدنان الســمان

 (الحلقة الثانية )

الـ "دياسبورا" اليهودية في العالم

    الـ "دياسبورا" "تعني الشتات"، وهي تعبير يوناني، وإن التصق تاريخياً باليهود قبل أن يبدأ استعماله حديثاً بالنسبة لعدة أقوام(10)... ويرجح المؤلف أن عدد اليهود في العالم يتراوح بين اثني عشر وأربعة عشر مليوناً (12-14) يستقر سبعة ملايين منهم في الولايات المتحدة وأوروبا مندمجين في مجتمعاتهم، ولا تفكر أكثريتهم الساحقة بالهجرة إلى "إسرائيل" حيث يعيش فيها اليوم نحو خمسة ملايين ونصف المليون يهودي أي نحو اثنين وأربعين بالمئة من إجمالي عدد اليهود في العالم.. أما يهود الولايات المتحدة فيبلغ عددهم ستة ملايين يهودي.. لقد انتقل الثقل اليهودي في العالم من الشرق إلى الغرب وإسرائيل بعد أن انهار هذا الوجود في أوروبا الشرقية والوسطى ، بسبب الاضطهاد الجماعي لليهود على يد النازيّة، وفي العالمين العربي والإسلامي، بسبب الهجرة إلى فلسطين، وتركز في إسرائيل "بعد قيامها" من جهة، وفي القارة الأميركية بشمالها وجنوبها، وفي أوروبا الغربية من جهة ثانية ... وهكذا كانت الغالبية العظمى من اليهود الذين اتجهوا إلى الإقامة في الكيان الصهيوني هي من يهود أوروبا الشرقية، والبلدان العربية.. أما يهود أميركا وأوروبا الغربية المندمجون في مجتمعاتهم، وفي أنظمتها السياسية والثقافية فقد ظلوا في غالبيتهم العظمى خارج حركة الهجرة إلى إسرائيل الأمر الذي حدا بديفيد بن غوريون أن يصف اليهود الباقين خارج إسرائيل بالذين" لا إله لهم"(11) طالباً منهم القدوم إلى إسرائيل التي إنما أقيمت لتكون دولة ليهود العالم جميعاً.. ومما قاله بن غوريون أمام "ندوة القدس الأيديولوجية" التي نظمتها "المنظمة الصهيونية العالمية": "إن صهيونتي بُنيت على الاعتقاد بأننا لسنا جزءاً من الشعوب التي نقيم بينها" ... على أن هذه الدعوات جميعها لم تؤت أكلها، بل إن اليهود الأميركيين يعتبرون أن "أرض الميعاد" لديهم هي أميركا نفسها.. وهكذا يؤمن، معظم اليهود باستحالة تجميعهم في مكان واحد.. بمعنى أن حالة الشتات الراهنة ليست حالة استثنائية ، ولا ظاهرة شاذة، وإنما هي حقيقة ثابتة ميزت التاريخ اليهودي على الدوام... ويسوق المؤلف أمثلة كثيرة من التاريخ يؤيد بها هذه الحقائق.

    إن الدعوة الصهيونية لتجميع يهود العالم في "وطن قومي"(12) لم تكن تعبّر في شيء عن "الرغبة الطبيعيه" لدى ال "دياسبورا" اليهودية، ولم تكن تجسّد أماني هذه ال "دياسبورا"، والذين وقفوا مع الصهيونية في بداياتها، وعلى مدى الثلث الأول من القرن العشرين، كانوا قلة من اليهود الروس والبولونيين، بينما ظلت الأكثرية الساحقة من يهود العالم مناوئة للدعوة الصهيونية، أو غير مبالية بها.. وذلك على الرغم من تبني بريطانيا العظمى لهذه الدعوة، ووضعها وسائلها الاستعمارية في خدمتها... ولولا ظهور النازية ، وما مارسته من اضطهاد جماعي لليهود لما استطاعت الحركة الصهيونية أن تلقى آذاناً صاغية لدى المجتمعات اليهودية في العالم... ومسألة "الالتقاء الموضوعي" بين النازية والصهيونية على إخراج اليهود من أوروبا، كانت ولا تزال موضع اهتمام كثير من البحّاثة والمؤرخين، لما تنطوي عليه من فصول مذهلة... ويوضح المؤلف مواقف كثير من رجال الدين اليهود من هذه القضية، فيذكر أنه قبل أن ينعقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة "بال" بسويسرا سنة 1897 بدعوة من ثيودور هرتزل كان "بيان بيتسبرغ" الذي صدر عام 1885، والذي رفضت فيه الحركة اليهودية الإصلاحية الأميركية فكرة تأسيس دولة يهودية... ولقد أعلن "مؤتمر مونتريال" المنعقد سنة 1897 رفضه الكامل " لكل مبادرة تهدف إلى خلق دولة يهودية" مؤكداً على أن غاية اليهودية "ليست سياسية، ولا وطنية ، بل روحية"، وهي تهدف إلى بعث "السلام والعدل والمحبة" بين البشر... وظل هذا الموقف حتى الحرب العالمية الثانية هو موقف غالبية رجال الدين اليهود في العالم.

    ويشير المؤلف إلى أن النهضات اليهودية إنما برزت في بابل القديمة، ثم في بغداد العربية في عهود الإسلام، وبخاصة منذ القرن التاسع للميلاد، ووصلت إلى ما يعرف بعصرها الذهبي في الأندلس العربية... هذه النهضات كانت مرتبطة باستمرار بالانفتاح الإنساني، وبالتفاعل الخلاّق مع بقية التراثات.. وليس بالتقوقع السياسي العقيم على النفس!! مؤكداً على أن المشروع الصهيوني لم يكن قادراً على الوصول إلى التنفيذ العملي "للدولة اليهودية" لولا النازية.. والعقبة الأهم التي كانت تعترضه هي اليهود أنفسهم.. فهذا المشروع لم يعبّر عن أمانيهم، ولا عن مصالحهم في أكثريتهم العظمى(13).

    ويخلص المؤلف في نهاية هذا الفصل إلى الاستنتاج بأن يهود ال "دياسبورا" اليوم يشعرون أن إسرائيل هي مصدر قوة لهم.. ويشعر يهود إسرائيل أن ال "دياسبورا" هي معينهم الوحيد الثابت في العالم، " إن إرادة الحياة اليهودية لدى ال "دياسبورا" تتوقف إلى حد بعيد على وجود إسرائيل ، كما أن القدرة على الحياة لدى دولة إسرائيل تتوقف إلى حد بعيد على وجود الدياسبورا"...

    ومن جهة ثانية يشعر اليهود الإسرائيليون أنهم هم الذين هاجروا إلى "إسرائيل" وهم الذين يواجهون "التحديات والأخطار"، بينما يقبع يهود الغرب في مجتمعاتهم المزدهرة، ويرفضون التخلي عن نمط حياتهم.. في الوقت الذي تشعر فيه ال "دياسبورا" بالعبء المعنوي الإسرائيلي الذي هو مصدر قلق دائم لها.. ذلك أن المكان الوحيد الذي تسقط فيه منذ الحرب العالمية الثانية آلاف الضحايا اليهودية هو "دولة إسرائيل" .. وأقل ما يقال في هذا الوضع المشوب بالقلق والخطر الدائمين أنه ليس هو الحل الأمثل للمسألة اليهودية".(14)

الفصل الثالث

اليهود الأميركيون

   في خطاب ألقاه بنيامين فرانكلين عام 1789 يقول ما يلي: "... أينما حل اليهود هبط المستوى الأخلاقي  والشرف التجاري، فقد ظلوا دائماً في عزلة لا يندمجون في أي أمة ، يدفعهم الشعور بأنهم مضطهدون إلى خنق الأمة اقتصادياً كما حدث في إسبانيا والبرتغال.. فإذا لم تقصهم الولايات المتحدة عن دستورها فسنراهم في أقل من مئة عام يقتحمون هذه البلاد، لكي يسيطروا عليها ويدمروها، ويغيروا نظام الحكم الذي سالت من أجله دماؤنا..."(15) فهل كان فرانكلين محقاً في قوله .. وهل وضع اليهود أيديهم فعلاً على الولايات المتحدة؟

    لم يكن عدد اليهود في الولايات المتحدة يزيد على ألفين أو ثلاثة آلاف عند إعلان الاستقلال عن بريطانيا في الرابع من تموز من عام 1776، ولقد وصل عددهم إلى أربعة آلاف عام 1820.. وقد ضمن الدستور الأميركي المساواة التامة بين الأفراد، وأصبح كثير من اليهود من أصحاب الأراضي وكبار التجار.. واتجه بعضهم إلى العمل في مجال النشاطات المالية والعقارية، فأنشأوا شركات تأمين، وعملوا في أسواق الأسهم والسندات ، وقطاع الصناعة، وفتحوا المصارف.. كما مارس بعضهم عام 1820مهناً جديدة مثل القانون والطب والهندسة والتربية والصحافة... وفي عام 1826 أصبح عددهم ستة آلاف .. ثم أًصبح خمسة عشر ألفاً عام 1840.. ومئة وخمسين ألفاً عام 1860.. ومئتين وثمانين ألفاً عام 1880.. أما أضخم الهجرات اليهودية إلى أميركا، وأكثرها تأثيراً في تكوّن المجتمع اليهودي فيها فكانت هجرة يهود أوروبا الشرقية التي تمّت بين عامي 1881-1921 حيث وصل إلى الولايات المتحدة خلال تلك الفترة 2.5 مليون (مليونان ونصف المليون) من أنحاء أوروبا الشرقية.. وفي عام 1924 أصبح عددهم 4ملايين و200 ألف نسمة (أربعة ملايين ومئتي ألف نسمة) ولولا أنظمة ال "كوتا " التي فرضتها الولايات المتحدة على الهجرة بعد ذلك بقليل لتضاعف عدد اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية.. ومن الجدير بالذكر أن المراجع اليهودية في أميركا لم تعارض قانون ال "كوتا" لسبب بسيط هو خوفها من وصول مزيد من يهود أوروبا الشرقية التّعساء غير المؤهلين علميّاً ومهنياً في ظروف اقتصادية أميركية صعبة لم تلبث أن أدت بعد سنوات قليلة إلى أزمة 1929 الاقتصادية الكبرى، وهي أخطر أزمة عرفتها أميركا، وعرفها العالم الرأسمالي في تاريخهما ، هذه الأزمة التي استمرت حتى عام 1933.

    لقد استمرت أميركا في الحد الصارم من الهجرة اليهودية إليها بين عامي 1935-1948 بالرغم من الاضطهاد الجماعي الهائل الذي تعرض له اليهود الألمان والبولونيون وسواهم في الحرب العالمية الثانية.. وبالرغم من معرفة أوساط الحلفاء بما كان يتسرب ويتأكد من أخبار ال "هولوكوست" ... كذلك لم يتحرك اليهود الأميركيون بصورة ملموسة لفتح أبواب أميركا أمام اليهود الأوروبيين ... وأكثر من ذلك.. فقد عمل الصهيونيون ما بوسعهم من أجل إفشال "مؤتمر افيان" في فرنسا ، والذي عقد عام 1938 من أجل نقل اليهود الهاربين من الاضطهاد إلى بلدان آمنة.. ونستعيد هنا كلمة بن غوريون الشهيرة في كانون الأول 1938 : " لو علمت أنه يمكن إنقاذ كل الأطفال اليهود الألمان بنقلهم إلى انجلترا، أو إنقاذ نصفهم فقط بنقلهم إلى " أرض إسرائيل" لفضلت الحل الثاني على الأول، وأخذت به"..!!(16)

    إن الغالبية العظمى من اليهود كانت راغبة فقط في الاندماج الكامل في الحياة حيث تقيم، ولا سيما في الولايات المتحدة الأميركية.. ولم تكن تفكر في غير ذلك.. وكانت تعارض الصهيونية في دعوتها لتجميع اليهود في دولة واحدة هي دولتهم أو دولة إسرائيل، أو الدولة اليهودية... ولعل بيان "بيتسبرغ" الصادر عام 1885 عن رجال الدين اليهود الأميركيين الإصلاحيين من أفضل الشواهد على ذلك حيث يقول البيان:" لسنا أمة، بل جماعة دينية.. وبالتالي ليس من تَوق لدينا للعودة إلى فلسطين، أو لتقديم الذبائح والقرابين المتعلقة ببناء الدولة اليهودية"... حتى أن الحركة الصهيونية لم تكن قادرة قبيل الحرب العالمية الأولى على التأثير إلا على أقلية ضئيلة (حوالي عشرين ألفاً) من أصل المليونين ونصف المليون يهودي أميركي.. وكانت "اللجنة اليهودية الأميركية" التي تشكّلت عام 1916 مناوئة تماماً للدعوة الصهيونية ... ولم يتمكن الصهيونيون من البدء بمد نفوذهم في المجتمع اليهودي الأميركي إلا مع صعود النازية .. حيث اتخذ" المؤتمر المركزي للحاخامين الأميركيين" المنعقد عام 1935 (والممثّل لليهودية الإصلاحية) موقفاً حياديّاً من الصهيونية، ثم وافق عام 1937 على الدعوة إلى بناء كيان يهودي في فلسطين كملجأ لليهود المضطهدين، وكمركز ثقافي وروحي... وحتى زعماء الصهيونية الأميركية مثل الحاخام ستيفن وايز صديق الرئيس روزفلت كان يهمهم "إنقاذ يهود أوروبا" عشية الحرب العالمية الثانية بنقلهم إلى أي مكان (إلى مستعمرة بريطانيّة مثل كينيا أو أوغندا) وليس بالضرورة إلى فلسطين... بل إن "اللجنة الأميركية اليهودية" التي كانت لا تزال أهم المنظمات اليهودية، وأوسعها نفوذاً في الولايات المتحدة، بقيت خارج إطار الدعوة الصهيونية ، وفشل بن غوريون عشية مؤتمر "بلتيمور" الصهيوني المنعقد عام 1942 في أوج الحرب العالمية الثانية في استمالتها إلى هذه الدعوة.. ولم يقف جوزف بروسكور رئيس "اللجنة الأميركية اليهودية" إلى جانب الصهيونيين إلا قبيل إعلان دولة إسرائيل عام 1948... وهكذا لم تستطع الحركة الصهيونية مد نفوذها داخل المجتمع اليهودي الأميركي إلا بعد نصف قرن من قيامها.. ولم يكن تحقيق ذلك ممكناً لو لم يمر التاريخ اليهودي الأميركي بفصل ال "هولوكوست".. وفي 14 أيار 1948 كان الرئيس الأميركي هاري ترومان أول المعترفين بـ "إسرائيل" عندما أعلن بن غوريون قيامها في فلسطين .

    ثم يتحدث المؤلف في نهاية هذا الفصل عن حرب حزيران 1967، وكيف أن تلك الحرب قد ألهبت مشاعر اليهود في الولايات المتحدة الأميركية لأنها أعادت إلى الأذهان شبح المحرقة النازية.. وهكذا أجمعوا على دعم إسرائيل، حمايةً لها من التهديد العربي بإبادتها، والقذف باليهود في البحر!... وينتقل المؤلف إلى الحديث عن حرب 1973، واجتياح لبنان 1982 ومذبحة صبرا وشاتيلا، ولم ينس أن يتحدث عن انتفاضة أطفال الحجارة، واصفاً إياها بأنها كانت انقلاباً في الرأي العام اليهودي الأميركي... وفي نهاية هذا الفصل الثالث يتحدث المؤلف عن مصدر قوة اليهود الأميركيين، واللوبي الإسرائيلي هناك.. فيرد ذلك إلى : الفكر، والمال، والصوت اليهودي في إطار طائفة كثيرة التنظيم.. فهناك مئات المنظمات والجمعيات اليهودية التي تغطي مختلف أوجه الحياة العامة في أميركا، والتي تحركها الأجهزة الصهيونية... هناك أكثر من (500) جمعية ومنظمة يهودية مدرجة في الدليل السنوي لليهود الأميركيين يرتكز إليها اللوبي الإسرائيلي في تحريكه للطائفة اليهودية الأميركية من جهة، وفي ضغوطه على الدولة، والمجتمع الأميركيين من جهة أخرى.

يتبع ......

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تأليف : فيصل أبو خضرا

                                                                      تقديم: عدنان الســمان

 (الحلقة الثالثة)

الفصل الرابع

اللوبي الصهيوني في واشنطن

    يقول المؤلف في مستهل هذا الفصل: " ترد عبارة "اللوبي الصهيوني" في الولايات المتحدة، في معظم الأبحاث والمقالات المتعلقة بالمسألة الفلسطينية، وبالنزاع العربي – الإسرائيلي، وبالعلاقة العربية – الأميركية، دون إيضاح ماهيه هذا اللوبي، ودون التعريف به وتحديده، مما يُبقي هذا " اللوبي" محاطاً بالغموض في أذهان القراء والكتّاب على حد سواء. فعبارة " اللوبي الصهيوني" هي ربما أكثر العبارات إبهاماً في قاموس الصراع العربي - الإسرائيلي الكبير.

    ومع أن تشكيل اللوبي الإسرائيلي ومنظماته على نحو فعال في الولايات المتحدة الأميركية هو حديث العهد نسبياً إلا أن  سعي الحركة الصهيوينة للتأثير على القرارات الأميركية بمختلف الوسائل هو سعي قديم ملازم للفكرة الصهيونية منذ مرحلة الحرب العالمية الأولى، و " وعد بلفور"، وقد ركّز الصهيونيون بصورة خاصة على " الدور الأميركي" ابتداءً من أواخر الثلاثينيات والحرب العالمية الثانية، إثر التأزم الذي طرأ على علاقتهم ببريطانيا بعد ثورة 1936 الفلسطينية، وصدور " الكتاب الأبيض" البريطاني عام 1936، وبعد أن أدركوا الأهمية المستقبلية للدور الأميركي في العالم".

    لا أحد ينكر دور بريطانيا الحاسم في تبني الحركة الصهيونية انطلاقاً من " وعد بلفور".. ولكن لا أحد ينكر أيضاً دور الرئيس الأميركي " ويلسون " في حسم الأمر لمصلحة هذا الوعد إثر المشاورات الهامة التي تمت بين حكومة "لويد جورج" البريطانية والرئاسة الأميركية... فبعد أن تأكدت نهائياً هزيمة تركيا قال ويلسون في آب 1918: "أعتقد أن الأمم الحليفة قد قررت وضع حجر الأساس للدولة اليهودية في فلسطين" .. ومما لا شك فيه أن الجد الأعلى للوبي الصهيوني في واشنطن لويس براندايز قد لعب دوراً بارزاً في هذا الأمر عندما أعلن هذا المحامي اليهودي بطريقة مفاجئة اعتناقه العقيدة الصهيونية، وأصبح واحداً من أعضاء المجموعة الصهيونية الأولى الفاعلة في واشنطن، والتي تضم جاكوب دوهاس، والحاخام ستيفن وايز، وفيليكس فرانكفورتر.

    لقد أخذ الصهيونيون يراهنون على " الورقة الأميركية" ابتداء من عام 1939 على حساب الورقة البريطانية.. وعندما أعلنت بريطانيا (في شباط 1947) أنها ستحيل القضية الفلسطينية إلى المنظمة الدولية لأنها لم تعد قادرة على إيجاد حل لهذه القضية بات مصير المشروع الصهيوني، (ولا يزال) يتقرر في موقعين هما: أرض فلسطين نفسها، والولايات المتحدة الأميركية ... ومنذ انعقاد مؤتر " بلتيمور" في نيويورك عام 1942.. وانطلاقاً من هذا المؤتمر، ومن زعامة آبا هلل سلفر الفعلية للصهيونية الأميركية (لم تصبح زعامته رسمية إلا في العام 1946)... وبالرغم من التناقضات التي سادت مؤتمر بتسبرغ مطلع عام 1943، ومن هيمنة الصراع بين المتشددين والمعتدلين فيه، وعدم حسم الأمور بصورة نهائية بين تيار سلفر وتيار وايز، فقد عزز ذلك اللقاء موقع سلفر كزعيم فعلي للصهيونية الأميركية... ذلك أن حاييم وايزمن نفسه وهو "الأب التاريخي " للحركة الصهيونية، ومهندس " وعد بلفور" لم يلبث أن دفع " ثمن اعتداله" حين خشي من الإسراع في إقامة " الدولة اليهودية" وطالب بتحرك أكثر مرحلية .. مما أدى إلى انقلاب داخل الحركة قام به بن غوريون وسلفر، مما أدى إلى إقصاء وايزمن عن رئاسة " المنظمة الصهيونية العالمية" بنتيجة" المؤتمر اليهودي العالمي" الذي عقد عام 1946 حيث حل آبا هلل سلفر رسمياً محل ستيفن وايز في رئاسة الفرع الأميركي.

    ومنذ إنشاء " مجلس الطوارئ الصهيوني"، وتشكيل شبكة اللجان اليهودية المحلية في أنحاء البلاد، بدأ سلفر عمليات الضغط السياسي على السلطات الأميركية، وصدر الأمر إلى أعضاء اللجان بأن مهمتهم الأولى هي الاتصال المباشر بالنائب، أو بعضو مجلس الشيوخ المحلي... وهكذا انطلقت التحركات المنظمة للوبي الصهيوني في أميركا... وفي أواخر عام 1945 احتلت الجماعات اليهودية التي يحركها اللوبي الصهيوني ساحة (مديسون سكوير غاردن) احتجاجاً على السياسة البريطانية في فلسطين.. وخلال يوم واحد أُرسل في البريد ( 250) ألف بيان، وسارت مظاهرات في ثلاثين مدينة أميركية، واستمرت حركة البيانات والرسائل على نطاق واسع، وانعكس ذلك على أجواء الكونغرس حيث ألقى (27) عضواً فيه خطباً حول مسألة اليهود وفلسطين خلال يومين.

    وكان " مجلس الطوارئ الصهيوني" يتحرك أيضاً خارج إطار الجالية اليهودية الأميركية، ويسعى إلى تعبئة المنظمات البروتستانتية  المؤيدة "دينيَّاً" ل "عودة" اليهود إلى فلسطين، وخلال عام 1944 اتخذت حوالي ال (3000) منظمة وجمعية، وناد، ونقابة أميركية ( غير يهودية) مواقف مؤيدة للصهيونية، وأغرقت الكونغرس بسيل من البرقيات في هذا الاتجاه... ومع هذا كله .. وبالرغم من وطأة الاضطهاد النازي، واستغلال الصهيونيين له لفرض دعوتهم... إلا أنه لم يكن من السهل كسب موافقة الرئيس فرانكلين روزفلت (الذي حكم الولايات المتحدة من عام 1933 ـ 1945) ولا الرئيس هاري ترومان (الذي حكمها من عام 1945 إلى عام 1952) على مشروع إقامة " دولة يهودية" في فلسطين... رغم ما فعله روزفلت من فتح أبواب الإدارة الأميركية والوظائف الرسمية أمام اليهود ... ولعل من الضروري أن يُشار هنا إلى ذلك اللقاء الذي تم في شباط 1945 على متن الباخرة "مورفي" بين الرئيس الأميركي روزفلت والملك عبد العزيز بن سعود... ذلك اللقاء الذي كان له أثره البارز على نظرة روزفلت إلى الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتفهمه وجهة النظر العربية.. ولقد وعد روزفلت العاهل السعودي بأنه " لن يفعل أي شيء لمساعدة اليهود ضد العرب، ولن يقدم على أية مبادرة مناوئة للشعب العربي"... ثم أكد وعوده في رسالة مفصلة بعثها إلى الملك في 5/ نيسان/ 1945 ... ويموت فرانكلين بعد أسبوع من تلك الرسالة، ويحل محله في كرسي الرئاسة نائبه هاري ترومان... لقد وصف"هرتزبرغ" الرئيس روزفلت ب"الارستقراطي الذي إن لم يكن معادياً تماماً للسامية، فقد كان ينظر إلى اليهود الأميركيين كأغراب".

    ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن آيزنهاور، وموقفه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكيف أنه أجبر الإسرائيليين على الانسحاب من سيناء، ووقف بصرامة ضد الأجهزة الصهيونية العاملة في أميركا.. وفرض رأيه في نهاية المطاف... وبعد أن يسهب المؤلف في الحديث عن العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية، وعلاقة أميركا باللوبي الصهيوني العامل فيها في عهد آيزنهاور الذي اتسم بالقوة، يتحدث المؤلف عن وصول ليندون جونسون إلى منصب الرئاسة الأميركية بعد اغتيال جون كينيدي في تشرين الثاني 1963، ويعتبر ذلك نقطة تحول رئيسة في تاريخ الأجهزة الصهيونية في الولايات المتحدة، وفي تاريخ العلاقة الأميركيةـ الإسرائيلية.. ويقول إنه ـ منذ ذلك الحين ـ قد انتهى زمن الرؤساء الأميركيين الذين يفصلون بين السياسة الأميركية والسياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط ويوازنون بينهما.. وبدأ زمن الرؤساء الأميركيين الآخذين بمبدأ التوافق الاستراتيجي الكامل بين واشنطن وتل أبيب بحيث يستحيل التمييز بينهما... وإذا كان الرؤساء ترومان وآيزنهاور وكينيدي وفّروا الدعم اللازم لإسرائيل فهم فعلوا ذلك "ضمن حدود معينة" ودون إلغاء سياساتهم العربية ... أما ما حدث منذ وصول جونسون إلى البيت الأبيض.. وما حدث في عهدي رونالد ريغان الأول والثاني فهو وضع إمكانات أميركا المالية والعسكرية في خدمة المشاريع الحربية والتوسعية الإسرائيلية، وإخضاع سياسات أميركا العربية لمبدأ الحفاظ على أمن اسرائيل، وتسهيل تحركها في المنطقة... ويورد المؤلف أمثلة كثيرة مذهلة على صحة ما يقول(17).... وإذا كان فيصل أبو خضرا قد قال كل هذا قبل نحو خمسة عشر عاماً فماذا عساه يقول اليوم لو أنه يُصدر " الجزء الثاني" من كتابه موضوع الحديث "تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا"؟ نتمنى على المؤلف ـ وهو يقرأ الآن هذه الكلمات- أن يصدر كتاباً جديداً يتناول فيه الفترة من 1992 وحتى أيامنا هذه.

    ويخصص المؤلف الصفحات الأخيرة من هذا الفصل ل "تحديد اللوبي الإسرائيلي"، مشيراً إلى أن كلمة "لوبي" قد ظهرت منذ عام 1808، وكان المقصود بها التواجد في الأروقة (لوبي) لمحاولة إقناع ممثلي الشعب باتباع مختلف الوسائل، وبهذا القدر أو ذاك من اللياقة.

    اللوبي الإسرائيلي ـ كغيره من اللوبيات الكثيرة العاملة في الولايات المتحدة ـ مسجلّ بصورة رسمية بموجب أحكام قانون 1946... وخلافاً للاعتقاد السائد ينظر الرأي العام الأميركي بحذر إلى المجموعات الضاغطة معتقداً أن " الكونغرس" واقع أكثر من اللزوم تحت تأثير مجموعات الضغط الخاصة"... ولهذا الحذر ما "يبرره"، نظراً للعلاقة المعقدة القائمة بين " اللوبيات" ورجالات الكونغرس من شيوخ ونواب في تلك الدائرة الحسّاسة التي يلتقي فيها المال بالسياسة.. ويلعب المال دوراً رئيساً في نشاط المجموعات الضاغطة.. وبخاصة عبر مساهمة هذه المجموعات في تمويل الحملات الانتخابية البالغة الكلفة للشيوخ والنواب.. بحيث يُخشى أن تقوم بين الطرفين المقايضة الضمنية التالية: "بقدْر ما تساهمون في تمويل معاركي الانتخابية، وتأمين فوزي بقدر ما أساهم في حمل آرائكم في الكونغرس والدفاع عنها"!... وهكذا يصبح رجالات الكونغرس أسرى المال والإعلام والعلاقات غير المنظورة ، وتأييد المراجع النافذة هنا وهناك، وتأمين الأصوات التي يقدمها لهم بصورة ثابتة هذا اللوبي أو ذاك... فأين الحد الفاصل بين الحرية السياسية والرشوة المموهة؟ وأين ينتهي الاقتناع ويبدأ الابتزاز؟ وما مصير الديمقراطية في كل ذلك؟؟

    في مجال تحديد اللوبي الإسرائيلي في أميركا يمكن إثبات الاستنتاجات التالية:

  1. يرتكز اللوبي الاسرائيلي إلى مئات التنظيمات والجمعيات اليهودية المنتشرة في كل أنحاء الولايات المتحدة.
  2. داخل هذه المئات من التنظيمات والجمعيات اليهودية لا بد من التوقف عند مجموعتين منها هما "العصب الأساسي" للوبي الإسرائيلي، وهما الأدوات الرئيسة التي يتمحور حولها النشاط الصهيوني في أميركا: (أ) مجموعة المنظمات اليهودية الكبرى في حد ذاتها والعاملة على الصعيد الوطني العام، وأهمها "اللجنة الأميركية اليهودية" المصنفة سياسياً في "الوسط"، ومنظمة "بئناي بئرت" المصنفة في اليمين، ومنظمة " المؤتمر الأميركي اليهودي" المصنفة في "اليسار".. وتغطي هذه المنظمات عبر تعددية سياساتها الأميركية مجمل المشاعر والتوجهات السياسية المتفاعلة في المجتمع الأميركي، مما يوسع كثيراً إطار تحركها الذي يصب في الهدف نفسه: خدمة مصالح اسرائيل (ب) مجموعة المنظمات المهتمة بـ (فدرلة) سواها من التنظيمات والجمعيات اليهودية ، والتنسيق بينها ضمن أطر اتحادية ومركزية .. وأهم هذه المنظمات: "ايباك" (لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية) التي تقوم بوظائف اللوبي الرسمي تجاه الكونغرس الأميركي وفقاً لأحكام قانون 1946، و"مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأساسية" الذي هو بمنزلة مؤتمر قمة دائم لأهم المنظمات اليهودية في أميركا، و"مجلس المنظمات اليهودية" أو (المجلس الوطني الاستشاري للعلاقات اليهودية )الذي هو اتحاد لعدد كبير من المنظمات اليهودية الفعالة على المستويين المحلي والوطني... وتتمتع السلطات  والأجهزة الإسرائيلية بنفوذ بالغ داخل هذه الهيئات.. والموقف الإسرائيلي الرسمي هو صاحب "الكلمة الأخيرة" في كل الموضوعات التي تهم الدولة العبرية(18) .

يتبع ......

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تأليف : فيصل أبو خضرا

                                                                      تقديم: عدنان الســمان

 (الحلقة الرابعة )

الفصل الخامس

في الغايات والوسائل

    يتضح مما سبق أن اللوبي الإسرائيلي في أميركا يتابع غايتين رئيستين: الأولى تحقيق أكبر قدر ممكن من الدعم الأميركي الرسمي والشعبي لإسرائيل.. في المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية والسياسية والاستراتيجية، في ضوء المخططات الإسرائيلية المرحلية والبعيدة المدى، وبالتنسيق الدقيق مع المسئولين الإسرائيليين... أما الغاية الثانية فهي ضرب احتمالات التعاون الأميركي العربي (إلا ما يصب منها في مصلحة إسرائيل) في مختلف المجالات الحساسة ، والإساءة إلى صورة العرب في الولايات المتحدة والعالم.. معتمداً على نوعين متكاملين من الأساليب هما الأساليب الجهازية، والأساليب المجتمعية العامة.

    على مستوى الجهاز، يرتكز اللوبي الإسرائيلي إلى الشبكة الواسعة من التنظيمات التي يحركها، والتي تطال مختلف القطاعات ، وأوجه الحياة الأميركية... فما يتم الاتفاق عليه بين المسئولين الإسرائيلين ومسئولي " ايباك" مثلاً، أو " مسئولي مؤتمر الرؤساء"، أو "مجلس المنظمات".. يدخل حيز التنفيذ بالشكل الملائم.. فيمكن أن يبقى ضغط اللوبي محصوراً في واشنطن، ويتناول عبر "القنوات المركزية" الكونغرس، والبيت الأبيض ، ووزارة الخارجية.. كما يمكن في حالات أخرى أن ينتقل الضغط إلى الإطار الشعبي والإعلامي والفكري الواسع عبر مئات التنظيمات والهيئات واللجان المحلية التي "تفتح النار" في الاتجاهات المرسومة من خلال التظاهرات، والندوات، والبيانات ، والمقالات المنشورة ، والبرامج المذاعة، والمتلفزة، والحملات الهاتفية، والتهديدات، وبث الشائعات في هذه المدينة أو تلك، أو في عدد كبير من الولايات والمدن والأنحاء في آن معاً، وقد يشمل مجمل الأراضي الأميركية... وعلى مستوى الجهاز أيضاً يسعى اللوبي إلى تكوين " بنية فكرية وإعلامية " ثابتة لخلق الأجواء المؤاتية لما يصبو إليه من إقناع ، وتمهيد، وتسويغ، وتغييب، وتضخيم، واختلاق، وتحذير .. كما يولي أهمية خاصة لإيصال مؤيديه إلى مجلسي الشيوخ والنواب في الكونغرس.. ويجد اللوبي في النظام الانتخابي الأميركي مرتعاً خصباً لممارسة نفوذه...

    وبالطبع ، فإن هذا النشاط "الجهازي" لم يكن ممكناً لولا ارتكازه إلى قاعدة مجتمعية أميركية هي الجالية اليهودية.. ولولا " تأمرك" اليهود، واندماجهم في الحياة العامة في الولايات المتحدة بصورة ناجحة خلال القرن الماضي لما كان لجهاز اللوبي دور يُذكر.. فأهمية اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة أنه إسرائيلي المضمون والأهداف، أميركي الوجه والهوية يتحرك بقوة غريبة خارج إطار الدولة وأجهزتها في هذا المدى الواسع من المؤسسات الاجتماعية، والاقتصادية، والإعلامية، والثقافية والعلمية، والنقابية، والإثنية، والدينية التي يتشكل منها ما يسمى بـ "المجتمع المدني"... يقول إدوارد سعيد في كتابه "القضية الفلسطينية والمجتمع الأميركي": هناك من جهة، المجتمع السياسي الأميركي الذي تجسّده الدولة وتحتويه، ومن جهة أخرى هناك المجتمع المدني الأميركي الذي يتجسّد في المؤسسات الخاصة نسبيَّاً.. وإن من المهم للغاية فهم أمرين عن المجتمع الأميركي المدني والسياسي هما: (19) إن قوة الأمة لا تنبع من الحكومة المركزية، أو من حكومات الولايات بصفتها حكومات من نوع ما.. وإنما تنبع من مؤسساتها المدنية.. وهذا الأمر ينطبق على الدول الصناعية الغربية بعامة... إذ أنها ليست مجتمعات قمعية وعسكرية .. وإنما هي مجتمعات يدور فيها جانب كبير من النشاط خارج السيطرة المباشرة للدولة وللمجتمع السياسي .

    لقد ركزت الحركة الصهيونية باستمرار – كما سبق- على فكرة "توافق المصالح" و " التوافق الاستراتيجي" بين الولايات المتحدة والدولة العبرية.. وسعت جهدها لتعميم هذه الفكرة وترسيخها في "المجتمع المدني" وفي الدولة الأميركية على حد سواء.. بحيث تصبح مقولة " ما هو مفيد لأميركا مفيد لإسرائيل" هي المبدأ الذي تُدَقُّ باسمه كل الأبواب(20).

    ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن هاجس الهيمنة ، فيورد ما قاله " أدلاي ستيفنسون السناتور السابق الذي أمضى عقداً من الزمن في "مجلس الشيوخ" في استنتاج له حول قوة اللوبي الإسرائيلي في الكونغرس الأميركي: "لرئيس إسرائيل تأثير على السياسة الأميركية الخارجية في الشرق الأوسط أكثر منه على سياسات حكومته بوجه عام".. ويثبت "بول فندلي" الذي أمضى اثنين وعشرين عاماً في "مجلس النواب الأميركي" الرأي التالي: " لا أبالغ إذا قلت إن "ايباك" تتحكم فعلاً بكل تصرفات ال "كابيتول هيل" بشأن السياسة الشرق أوسطية... فـ"ايباك" أصبحت مرادفاً للسلطة، السلطة الباغية المرعبة" .. ويورد المؤلف رأي "ماكلوسكي" : "بصراحة أكثر إن "ايباك" ترهب الكونغرس"..ورأي السناتور السابق "وليام فولبرايت الذي أعلن عام 1973 من على شاشة التلفزيون أن "مجلس الشيوخ الأميركي "خاضع" للسياسات الإسرائيلية المؤذية للمصالح الأميركية"، وقوله: "إن أكثرية عظمى في مجلس شيوخ الولايات المتحدة – حوالي ثمانين في المئة- تؤيد إسرائيل، وأي شيء تريده إسرائيل تأييداً تامّاً"، وقوله: "إن معارضة اللوبي الإسرائيلي هي انتحار للسياسيين باستثناء رجل مثل آيزنهاور كان يشعر بالاطمئنان.. ذلك أنه كان قد أرسى دعائم شهرته ، وأصبح عظيماً في نظر البلاد كلها، فلم يعد يخشى أحداً، فجاهر بما يعتقد به" مضيفاً: " أعتقد بأنه سيأتي رئيس يفعل ذلك، ولكن لن يكون اسمه آيزنهاور"... ويورد المؤلف شهادات كثير من السياسيين الأميركيين من يهود وغيرهم، وشهادات كثير من المفكرين حول الأسلحة السيكولوجية التي يستعملها مسئولو "ايباك" وغيرهم للتهويل، وتخويف الآخرين، وترويعهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم.. وهكذا ينهي المؤلف حديثه عن هاجس الهيمنة بقوله: إن شعار "ايباك" هو بكل وضوح "صيت قوة ولا صيت ضعف" مع ما ينطوي عليه ذلك من معان(21).

    ومن الحديث عن هاجس الهيمنة يعود المؤلف ليكتب تفصيلاً عن المال والصوت اليهوديين، ومدى تأثيرهما على سير الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى صنع الأفكار، وترويجها إعلاميّاً.. فيتحدث عن الكلفة المادية المرتفعة للحملات الانتخابية في النظام السياسي والإعلامي الأميركي.. وعلى سبيل المثال فإن المعلومات الإحصائية لانتخابات 1984 تشير إلى أن متوسط ما أنفقه كل عضو ناجح في "مجلس النواب" على حملته الانتخابية يبلغ حوال (270) ألف دولار.. أما لمجلس الشيوخ فبلغ متوسط كلفة الحملة الانتخابية لكل سناتور ناجح مبلغ مليونين وتسعمئة ألف دولار.. وارتفعت كلفة المقعد في مجلس الشيوخ إلى ثلاثة ملايين دولار عام 1986.. وتضيف صحيفة "واشنطن بوست" في عددها الصادر في أول تموز 1987 أن على السناتور الذي ينوي إعادة ترشيح نفسه أن يجمع تبرعات مقدارها عشرة آلاف دولار كل أٍسبوع لمدة اثنين وخمسين أسبوعاً، وذلك لكل سنة من سنوات عضويته في "مجلس الشيوخ" البالغة ست سنوات.. وفي مثل هذا الجو ينشط اللوبي الصهيوني في تمويل الحملات الانتخابية، وشراء ولاء الكونغرس في كل ما يتعلق بقضايا الصراع العربي الإسرائيلي... ويتحدث فيليب ستيرن في "واشنطن بوست" عدد 2-11-86 عن أساليب تمويل الحملات الانتخابية من قبل "اللوبيات" السياسية، مما يجعل تلك القوى مصدراً للفساد، وبالتالي يجعل رجال الكونغرس رهائن لدى النظام الفاسد الذي أوجدته وغذّته قوى الضغط الخاصة.

    وفي سياق حديثه عن "المال اليهودي"، ودوره في الحملات الانتخابية يشير المؤلف إلى قانون تمويل الحملات الانتخابية الذي صدر عام 1974 إثر "فضيحة ووترغيت" عندما جمع جهاز حملة "نيكسون" للانتخابات الرئاسية ما يقارب ال (17) مليون دولار من (124) شخصاً فقط تبرع كل منهم بما يزيد عن (50) ألف دولار.. وتمت فيما بعد مكافأة كبار المتبرعين بتعيينهم سفراء هنا وهناك! وهكذا أراد الكونغرس عبر قانون 1974 " إصلاح" التمويل الانتخابي، إذ سمح للفرد الواحد أن يتبرع للمرشح بألف دولار في العام كحد أقصى.. ولكن اللوبي الصهيوني عرف كيف يتكيف مع هذا القانون بشكل لم يؤثر على النتيجة .. وهكذا لم يعد من فارق بين الحالة التي كانت سائدة قبل عام 1974 والحالة التي سادت بعد ذلك.. كما أن المؤلف يشير هنا إلى قضية " المال السري" الآتي من إسرائيل، والتي حقق فيها السناتور وليام فولبرايت... حيث انتهى الأمر بتوجيه تهمة العداء للسامية للسناتور فولبرايت، ومحاربته في حياته السياسية حتى إفقاده مقعده في "مجلس الشيوخ"! وما قاله المؤلف في "المال اليهودي" يقوله في "الصوت اليهودي" مورداً أرقاماً وحقائق مذهلة حول هذا الموضوع تدل دلالة قاطعة على مدى تحكم اللوبي الصهيوني في نتائج الانتخابات الأميركية عن طريق الأصوات اليهودية في المناطق ذات الكثافة اليهودية العالية على وجه التحديد.  

    وينهي المؤلف هذا الفصل الخامس من كتابه "تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا" بالحديث عن الإرهاب الذي يمارسه اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية ضد كل من يقف في وجه هذا اللوبي، وضد كل من ينتقد السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين والعرب بشكل عام، وضد كل من يظهر أي تعاطف كان مع قضية الفلسطينيين العادلة في صراعهم مع الإسرائيليين ... كما يتحدث بإسهاب عن حالة الحصار التي يمارسها هذا اللوبي ضد كل من يحاول تفهم وجهة النظر العربية... ويسوق المؤلف كثيراً من الأمثلة والحقائق حول هذا الإرهاب الفكري، وهذا الحصار الذي يفرضه هذا اللوبي على كل من يوصف باللاساميّة... ولعل من الضروري هنا أن أورد باختصار شديد حكاية اللوبي الصهيوني مع تشارلز هـ.بيرسي المليونير العصامي الذي فاز بعضوية مجلس الشيوخ عام 1966 بعد أن فاز بشكل مفاجئ على بول دوغلاس الديمقراطي الليبرالي الذي حصل على غالبية أصوات اليهود... وفي السنوات الست التالية أيد "بيرسي" المعونات لإسرائيل، وحث الاتحاد السوفياتي على السماح بهجرة اليهود، وانتقد ما سماه إرهاب منظمة التحرير الفلسطينية، وانتصر للقضايا الاجتماعية بقوة استقطبت اليهود عندما سعى إلى إعادة انتخابه عضواً في مجلس الشيوخ عام 1972 حيث نال 75%من أصوات اليهود... على أن حبل المودة بينه وبين اليهود اضطرب في عام 1975 إثر عودته من رحلة إلى الشرق الأوسط، وإصداره تصريحاً قال فيه: "إن إسرائيل وزعماءها الذين أكنّ لهم أوفر الاحترام لا يمكن أن يأملوا في أن توقع لهم الولايات المتحدة في المستقبل شيكاً مفتوحاً" . وقال بأن إسرائيل ضيّعت فرص التفاوض ، ووصف ياسر عرفات زعيم منظمة التحرير بأنه " أكثر اعتدالاً من المتطرفين الآخرين"،  وحثّ إسرائيل على عقد محادثات مع منظمة التحرير، والتفاوض على الانسحاب "وبخاصة" إلى حدود ما قبل عام 1967.

    وبعد ذلك بأسبوع تلقى بيرسي مذكرة من أحد رجاله  تقول: "تلقينا (2200) برقية، و(4000) رسالة ترد على البيانات المتعلقة بالشرق الأوسط... غالبية أصحاب البرقيات والرسائل المعادية هم من الجماعات اليهودية بمدينة شيكاغو الذين يهددون بحجب أصواتهم وأموالهم عنك في أية مناسبة قادمة". ومع كل ما فعله بيرسي بعد ذلك لكسب ود اليهود إلا أنه لم يفلح في ذلك، وكانت النتيجة أنه فشل فشلاً ذريعاً في تلك الانتخابات.

    إن الجدل حول الشرق الأوسط كان كافياً لأن يخسر بيرسي مقعده.. ففي عام 1978 كان قد صوّت له ستون ألفاً من اليهود على الأقل.. ثم تحولوا عنه بعد ست سنوات، والسبب هو سعي اللوبي الدائب خلال الحملة لإظهار السناتور بيرسي" بمظهر المعادي لإسرائيل... ويكفي سجل بيرسي الحافل بتأييد إسرائيل لنفي هذه التهمة، ولكن نفراً محدوداً فقط من اليهود هبّوا للدفاع عنه، فإذا حدث مرة أن وُصم المرشح بأنه مناهض لإسرائيل سرت الوصمة كالسم بسرعة وبعمق ، وتعذّر بعد ذلك إزالتها(22).

يتبع.......

تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا

تأليف : فيصل أبو خضرا

                                                                      تقديم: عدنان الســمان

 (الحلقة الخامسة " الأخيرة ")

الفصل السادس

الدعم الأميركي لإسرائيل

    منذ قيام إسرائيل عام ثمانية وأربعين كان هناك بصورة أو بأخرى اتجاهان أميركيان:

أحدهما يدعو إلى تقديم " المصالح الأميركية" على الاعتبارات الأخرى في الشرق الأوسط، والثاني يقرر مواقفه في ضوء حساباته الصهيونية... ومع أن الغلبة كانت باستمرار للاتجاه الثاني ( وقد لعب اللوبي الصهيوني دوراً حاسماً في ذلك) فلا بد من بعض الإضاءة على هذا التجاذب:

    لم يكن فرانكلين روزفلت ـ كما عرفنا ـ مقتنعاً بقيام دولة يهودية في فلسطين، وكانت نظرته إلى اليهود الأوروبيين مبنية على "الاعتبارات الإنسانية" لإيجاد مأوى لهم في هذا المكان أو ذالك ( لكن بعيداً عن الولايات المتحدة !)، كذلك خلفه هاري ترومان، الذي لم تكن إسرائيل لتظهر إلى الوجود لولا موافقته المسبقة على قيامها، واعترافه بها فور إعلان قيامها.. وبرغم ذلك لم يكن كثير الحماسة لموقفه.. لكن خطأه الأكبر من زاوية المصالح الأميركية أنه أول رئيس يرضخ "للأصوات اليهودية"، وللاعتبارات الانتخابية الداخلية الضيقة لاتخاذ قرار استراتيجي بالغ الأهمية في الخارج بصرف النظر عن مصلحة أميركا الحقيقية فيه... وهو بذلك أول من أدخل "العامل اليهودي" إلى صلب القرار الاستراتيجي الأميركي في النصف الثاني من القرن العشرين، وأول من فتح الباب أمام التأثر الأميركي الرفيع المستوى بنفوذ اللوبي الصهيوني في واشنطن... وكان أركان حكم ترومان يبنون معارضتهم لقرار الاعتراف بإسرائيل على "اعتبارات تتعلق بمصالح أميركا القومية"، وقد قالوا في معرض اعتراضهم على ذلك القرار إن دعم أميركا للمشروع الصهيوني سيفتح المجال لتسلل النفوذ السوفياتي إلى المنطقة العربية... كما أشار مساعدو الرئيس إلى أن قرار الاعتراف يعتبر مناقضاً لمبدأ حق تقرير المصير بالنسبة للفلسطينيين، وأنه سيقود إلى التسبب في عدم استقرار منطقة الشرق الأوسط بأسرها... ولتسويغ موقفه أجاب ترومان بقوله: "آسف أيها السادة إذ أن عليّ أن أتجاوب مع رغبات مئات الآلاف من المواطنين الأميركيين الذين ينتظرون نجاح الصهيونية... إنه ليس لدي بين الناخبين مئات الآلاف من العرب...

    أما الاتجاه الذي يغلّب الاعتبارات القومية الأميركية على الاعتبارات الصهيونية في الشرق الأوسط فقد استمر، بالرغم من ضعف تأثيره التدريجي على القرارت الأميركية... ويشار ـ في هذا المنحى ـ إلى البيان الذي أدلى به جورج بول أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة ل "مجلس الشيوخ" الأميركي في 15 تموز 1982، والذي يعبّر عن تجربته نائباً لوزير الخارجية الأميركي من عام 1961 إلى عام 1966... وبصفته ممثل الولايات المتحدة الدائم في الأمم المتحدة عام 1968.. وقد استهل بول بيانه بالقول: "إن بلدنا بحاجة ماسة إلى إعادة صوغ علاقته بإسرائيل".. وتحدث عن عدوان 1956، و1967، وضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، وقصف المناطق السكنية في بيروت بعد ذلك بشهر واحد.. واجتياح لبنان الذي كان لا يزال مســتمرا ً" حين كان بول يتكلم في ذلك الصباح"... وأعاد بول إلى أذهان الشيوخ أن "أميركا التزمت الصمت منذ العام 1967 بينما كانت إسرائيل توطد عاصمتها في القدس المحتلة، وتضم مرتفعات الجولان، وتزرع المستعمرات في 40% من ضفة الأردن الغربية"... وقال لهم يومها: "يبدو في العلاقات الخارجية الأميركية منذ عام 1967 أن إسرائيل هي الشواذّ لكل قاعدة، ولكل مبدأ تؤمن به أميركا"... وأضاف: " هذه عادة يجب أن نقلع عنها... إنّ سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قد سارت على قرع الطبل الإسرائيلي مدة زادت كثيراً عن اللزوم".(23)

    ويؤكد المؤلف في هذا السياق على أن قوة اللوبي الإسرائيلي في واشنطن إنما قامت (بالإضافة إلى "المال اليهودي" والأصوات اليهودية" ، "وشبكة العلاقات اليهودية النافذة في مجالات الثقافة والإعلام والنشر) على ترسيخ الاعتقاد بـ "توافق المصالح" بين أميركا وإسرائيل في الشرق الأوسط.. فوفقاً لهذه المقولة التي "صنعها" اللوبي و"سوّقها" على نطاق واسع.. يصبح" ما هو مفيد لأميركا مفيداً لإسرائيل".. والعكس أيضاً.. وإن كل الغطاء الفكري والسياسي والمعنوي للدعم الأميركي لإسرائيل قائم على هذه المقولة ... ويضيف قوله : "إن اللوبي الإسرائيلي الذي يمثل الموقع الهام المعروف في واشنطن يستطيع التأثير على كثير من دول العالم الثالث انطلاقاً من موقعه الأميركي" ... فغالباً ما تحصل إسرائيل على خدمات سياسية واقتصادية ودفاعية أميركية لهذه الدولة أو تلك من دول العالم الثالث.. مقابل تنازلات تقدمها هذه الدول للسياسات الإسرائيلية في الأمم المتحدة وخارجها.. وهكذا يلعب اللوبي الصهيوني في واشنطن دور "الوسيط السري" بين تل أبيب، وعواصم الدول المحتاجة، والعاصمة الأميركية لما فيه مصلحة إسرائيل.

    وإذا كان العون الاقتصادي والعسكري الأميركي في المرحلة الأولى من تاريخ " الدولة اليهودية " هو الذي أمدها بالقدرة على الاستمرار، ومكّنها من تركيز كيانها في الأرض العربية فإن الحصول على مزيد من هذه المساعدات في شتى المجالات هو الذي فتح أمامها باب المغامرات العسكرية والتوسعية المستمرة في المرحلة الثانية من تاريخ هذه الدولة وحتى الآن... وقد تطور هذا الدعم بصورة مطّردة، حتى أضحت إسرائيل الدولة الأكثر اتكالاً على المعونات الخارجية في العالم.. وليس في تاريخ الدول أي مثال يضاهي إسرائيل في الاعتماد على الدعم الخارجي.. وهذه الاتكالية الفريدة من نوعها هي سلاح ذو حدين: فهي – من جهة – تتيح لدولة صغيرة أن تتسلح بالقدرات الاقتصادية والاستراتيجية لدولة عظمى ، وأن تضع هذه القدرات الهائلة في خدمة مصالحها، وهي – من جهة ثانية – نقطة ضعف هامة في الكيان الصهيوني الذي بات مصدر قوته الحقيقي قائماً خارجه.. ويكفي لسبب أو لآخر أن يخف الدعم الاقتصادي العسكري الأميركي لإسرائيل حتى يتزعزع مجمل الاستراتيجيات الإسرائيلية على المدى القريب أو المتوسط... ومن هنا تأتي الأهمية البالغة للوبي الصهيوني في واشنطن.

    في مجال المساعدات الأميركية لإسرائيل( والبالغة 148 ملياراً من الدولارات بين العامين 1948و1990) لا بد من التوقف عند ثلاثة إيضاحات رئيسة هي:

أولا: تنقسم المساعدات الواردة من الولايات المتحدة لإسرائيل إلى مساعدات رسمية صادرة عن الحكومة الأميركية، ومساعدات خاصة صادرة عن المجتمع الأميركي، وبخاصة الجالية اليهودية الأميركية فيه... حيث تنطوي المساعدات الرسمية على معونات اقتصادية، ومعونات عسكرية.. وهي تتألف من المنح والقروض التي تقدمها الدولة الأميركية لإسرائيل سنويّاً ( وقد أصبحت كلها منحاً منذ العام 1985 مع رونالد ريغان ) .. وعندما يتحدث جورج بوش عن "أكثر من أربعة مليارات دولار من المساعدات المدنية والعسكرية " التي قدمتها أميركا  لإسرائيل "خلال السنة المالية المنصرمة "(24)  فهو يقصد المساعدات الرسمية السنوية هذه.. ويضاف إلى هذه  المعونات، ضمانات القروض التي تقدمها الحكومة الأميركية لإسرائيل، وقد أشار بوش إلى ضمانات قروض بقيمة "400 مليون دولار" للفترة المذكورة .. ويمكن أن تصل هذه الضمانات إلى أرقام مذهلة، مثل طلب الضمانات التي تقدمت به حكومة شامير في صيف 1991 للحصول على قروض بقيمة عشرة مليارات دولار لتوطين اليهود السوفيات .. تضاف إلى هذه المساعدات الرسمية المباشرة، الثابتة والطارئة، المعونات الرسمية غير المباشرة عبر العقود التقنية والعلمية، وعقود الصيانة، والامتيازات التجارية، مما يُقدَّر ب(1.5) إلى (2) مليار دولار في العام.. وهكذا تبلغ المساعدات الرسمية، الاقتصادية والعسكرية، المباشرة والمقنّعة، التي تقدمها الدولة الأميركية لإسرائيل في الوقت الراهن (1991) ما قيمته (5) إلى (6.5) مليار من الدولارات سنوياً في أقل تقدير... أما المساعدات الأميركية الخاصة الصادرة بصورة أساسية عن المجتمع اليهودي في أميركا ، فهي تتألف من المعونات المالية التي تقدمها المنظمات اليهودية الأميركية(25)، والأفراد العاديون لإسرائيل، والتي تقدر بأكثر من (2) مليار دولار في العام من جهة، ومن مردود بيع "السندات الإسرائيلية" في أميركا، ومن الودائع الأميركية في البنوك الإسرائيلية، وغيرها من التسهيلات والقروض، مما يتجاوز ال (2) مليار دولار في العام أيضاً، من جهة أخرى.. وهكذا تبلغ المعونات الرسمية والخاصة، الواردة من الدولة والمجتمع الأميركيين لإسرائيل ما بين (9.5)و(10) مليارات دولار في العام في أقل تقدير.

    ثانياً- إن المساعدات الأميركية لإسرائيل قد تبعت بالطبع تطور العلاقة الأميركية – الإسرائيلية التي مرت بمرحلتين رئيستين : مرحلة 1948-1963في عهود ترومان ، وآيزنهاور، وكنيدي حيث كان الدعم الأميركي لإسرائيل مهماً للغاية، لكنه مقتصر على "ضمان أمن اسرائيل" (وهذا هو جوهر البيان الثلاثي لسنة 1950) دون مجاراتها في أطماعها التوسعية ، والمرحلة الممتدة من عام 1964 حتى الفترة الأخيرة (يقصد مطلع العقد الأخير من القرن الماضي ) التي دشّنها جونسون ، وأوصلها إلى ذروتها ريغان، حيث تطور الدعم الأميركي لإسرائيل بصورة متصاعدة مذهلة.. مما مكّن الدولة العبرية من شن حروبها التوسعية على مدى حدودها... أما التطور الكبير الذي شهدته المعونات الأميركية لإسرائيل في مرحلة ما بعد 1964 فقد كان تطوراً كمياً ونوعياً في آن معاً.. وإضافة إلى ضخامة المساعدات في حد ذاتها، فقد سلكت هذه المساعدات التوجهات التالية: ارتفاع المعونات الأميركية الرسمية قياساً للمعونات الخاصة. ارتفاع الدعم العسكري قياساً للدعم الاقتصادي المدني داخل المساعدات الرسمية. ارتفاع نسبة الهبات قياساً لنسبة القروض داخل المساعدات الرسمية إلى حد تحوُّل كل المساعدات إلى هبات ابتداء من العام 1985. البروز المتزايد للمساعدات الطارئة. استثناء المساعدات المقدمة لإسرائيل من كل تخفيض يطرأ من عام لآخر على برنامج المساعدات الخارجية الأميركية للعالم.

ثالثاً- إن المساعدات الرسمية والخاصة الصادرة عن الولايات المتحدة لإسرائيل، لا توضح، على ضخامتها ، الثمن الكامل للدعم الأميركي للدولة العبرية.. إذ لا بد من إضافة أمرين اثنين لتكتمل صورة الكلفة الأميركية: (الأول) ما تنفقه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وحوله، لبناء استراتيجيات ملائمة لأمن إسرائيل ومصالحها، مما يصعب تقديره بدقة، وهو في أي حال لا يقل عن (2.5) مليار دولار سنوياً.. أما (الثاني) فهو خسائر أميركا التجارية في العالم العربي بسبب التزامها بإسرائيل، مما يقدر بأكثر من (8) مليارات دولار في العام.. وهكذا انطلاقاً من ال (9.5) مليار دولار من المساعدات الأميركية السنوية، الرسمية والخاصة، يصل مجمل "ثمن" الدعم الأميركي للدولة العبرية، بين نفقات إضافية محددة في المنطقة، وخسائر اقتصادية، إلى أكثر من (20) مليار دولار في العام !!(26)

    ولعل من الضروري والمفيد أن نطّلع جميعاً على بعض ما جاء في كتاب "ستيفن غرين"(27) ملخصاً المرحلة السابقة على النحو التالي: " إن النمط الذي توطد في السنوات 1964-1967 قد استمر بلا تغيير تقريباً حتى يومنا هذا".. ويضيف: " وفي السنوات 1946-1983 منحنا إسرائيل ما يفوق (27) مليار دولار على شكل عون اقتصادي وعسكري رسمي.. وهذا يمثل ما قيمته (7700) دولار لكل رجل وامرأة وطفل يعيش في إسرائيل في الوقت الحاضر، أي ما يفوق (38000) دولار لكل عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص.. وخلال الأعوام الثلاثة الماضية (1981-1983) بلغ معدل المساعدة الرسمية الأميركية ما يفوق (3400) دولار (سنوياً) لكل عائلة مؤلفة من خمسة أشخاص .. وهذه الأرقام لا تشمل الهبات الخاصة، كما لا تشمل مبيعات سندات التنمية الإسرائيلية".. ويستمر غرين في تلخيصه لتلك المرحلة قائلاً: " إن نسبة 70% من مجموع المساعدات الأميركية الرسمية لإسرائيل حتى اليوم هي عسكرية الطابع.. ومنذ سنة 1946 منحت الولايات المتحدة إسرائيل ما يتجاوز (17) مليار دولار على شكل مساعدات عسكرية في معظمها، أي ما يفوق (99) بالمئة مما أعطي لها منذ سنة 1965.. وفي هذه الفترة أعطت الولايات المتحدة إسرائيل وحدها مساعدة عسكرية تساوي أضعاف ما أعطيناه إلى دول الشرق الأوسط التسع عشرة مجتمعة، بما في ذلك العون الذي أعطيناه لإيران خلال حكم الشاه".

ولا بد أيضاً من الاطلاع على شيء مما كتبه (إدوارد تيفنن)(28) عام 1987 ملخصاً المرحلة السابقة كما يلي : "فالعلاقة الخاصة بين إسرائيل والولايات المتحدة تشمل مبالغ ضخمة . فمنذ عام 1948 قدمت الولايات المتحدة من المساعدات العسكرية والاقتصادية لإسرائيل ما قيمته (28) مليار دولار .. وكان ما يزيد قليلاً عن نصف هذا المبلغ (أي 14.6 مليار دولار) على شكل هبات لا تُردّ.. وتقول إحدى الدراسات الاقتصادية بأن إسرائيل تتلقى سنوياً (1.4) مليار دولار من مصادر أميركية غير حكومية (...) من الهبات اليهودية غير الخاضعة للضريبة ، ومن شراء السندات الإسرائيلية.. وعليه فإن هذا المال تخسره "الخزينة الأميركية" ،ويستمر الكاتب: " وخصص ريغان لإسرائيل عام 1985-1986 مبلغ (4.5) مليار دولار كمساعدات اقتصادية وعسكرية.. وهذا يعني أن كل إسرائيلي يتلقى سنوياً مبلغ (1500) دولار ، أي أن الأسرة المكونة من أربعة أفراد تتلقى (6000) دولار سنوياً.. ويضيف " ويشتد عجب المرء إذا علم أن الراتب الشهري لإسحق موداعي، وزير المال الإسرائيلي في عام 1985 كان (580) دولاراً!!

 

  

الهوامش

1 فيصل وأبراهام صفحة 11 من الكتاب.

2 الصفحة نفسها من العنوان نفسه.

3 هي مسقط رأس المؤلف حيث ولد فيها عام 1934م.

4 اعتباراً من مطلع العقد الأخير من القرن الماضي.

5 في العلاقة الأميركية- الصهيونية، صفحة 31 من الكتاب.

6 في العلاقة الأميركية – الصهيونية صفحة 34 من الكتاب.

7 هذه الأرقام تعود إلى مطلع العقد الأخير من القرن الماضي.

8 في العلاقة الأميركية – الصهيونية صفحة 36 من الكتاب

9 العلاقة الخاصة والأزمنة الجديدة صفحة 41 من الكتاب

10 ال "دياسبورا" اليهودية في العالم صفحة 55.

11 من خطاب ديفيد بن غوريون ، أمام "المؤتمر الصهيوني" الخامس والعشرين" في كانون الثاني 1961.

12 ال"دياسبورا" اليهودية في العالم صفحة 63.

13 ال"دياسبورا اليهودية في العالم" صفحة 65.

14 ال "دياسبورا" اليهودية في العالم ص67.

15 كتاب "السياسية الأميركية والعرب/ مجموعة من الباحثين / صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية – الطبعة الثانية – بيروت 1985 صفحة 276.

16 اليهود الأميركيون/ الهجرة اليهودية إلى أميركا / صفحة 80 من كتاب فيصل أبو خضرا "تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا"

17 اللوبي الصهيوني في واشنطن – ما قبل جونسون وما بعده – صفحة 117 من كتاب "تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا".

18 اللوبي الصهيوني في واشنطن – تحديد اللوبي الإسرائيلي – ص124-125.

19 في الغايات والوسائل – الجهاز والمجتمع – صفحة 131-132 من كتاب فيصل أبو خضرا "تاريخ النفوذ اليهودي في أميركا"

20 المرجع السابق.

21 في الغايات والوسائل – هاجس الهيمنة – صفحة 133 و135 من الكتاب نفسه.

22 في الغايات والوسائل – الإرهاب الفكري وحالة الحصار – صفحة 157و160من الكتاب نفسه.

23 الدعم الأميركي لإسرائيل ـ في التوافق الاستراتيجي ـ صفحة 166و 167 من الكتاب نفسه.

24 من المؤتمر الصحافي الذي عقده جورج بوش في "البيت الأبيض" في 12/9/1991م.

25 اهم الهيئات المولجة بتنظيم التبرعات لإسرائيل هي جمعية "النداء اليهودي الموحد" التي تأسست عام 1939م، و"نداء إسرائيل الموحد" إضافة بالطبع إلى "الوكالة اليهودية" . وهناك أيضاً هيئات أقل أهمية مثل "اللجنة اليهودية الأميركية المشتركة" و"الصندوق الوطني اليهودي" و"صندوق الأوقاف الإسرائيلي " و"صندوق اسرائيل الجديدة"، وكلها معفاة من الضرائب.. وترتكز هذه الهيئات إلى مئات المنظمات اليهودية التي تغطي مجمل أوجه الحياة الأميركية ، والتي لها دورها في جمع التبرعات.

26 الدعم الأميركي لإسرائيل- المساعدات الاقتصادية والعسكرية – صفحة 176-177 من الكتاب نفسه.

27 ستيفن غرين "الانحياز: علاقات أميركا السرية بإسرائيل" 1984 الطبعة العربية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1985،ص223.

28 إدوارد تيفنن "اللوبي: اليهود وسياسة أميركا الخارجية" ، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الثالثة، بيروت 1990 صفحة 257-258.

 

 (13/1/2011)