عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ٣١ آب ٢٠١٠

 

متابعات

شاي ومرتديلا

أ‌.    عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

 

    قال: ما الذي صرفك عنا يا أيوب؟

    قلت: مشاغل الدنيا يا ولدي.

    قال: وهل اشتغلت أخيرًا يا أيوب؟

    قلت: لا.

    قال: فما هي المشاغل التي تتحدث عنها؟

    قلت: مشاغل كثيرة في زمانكم النكد هذا.

    قال: عجبًا! هل تعمل بالسياسة دون أن ندري؟

    قلت: لا يا عم.. لم تربطني أدني صلة في يوم من الأيام بالنحاس باشا، ولا حتى بالنقراشي.

    قال:أأنت مشغول بأمور اتحاد الكتاب؟

    قلت: أقسم أنك إنسان غريب، تفتري علي وفي حضوري؟

    قال: فلا أقل من رابطة الصحافيين.

    قلت: يا عم حرام عليك... ومن أنا حتى تكون لي علاقة بكل من ذكرت؟

    قال: حيرت قلبي "معاك" يا أيوب! فما هي المشاغل إذن؟ هل تعمل في لجان الصلح.. وإصلاح ذات البين؟

    قلت: روح "الله يهدك" يا بعيد!

    قال: هل تجمع من حولك الأنصار استعدادًا للمرحلة القادمة؟

    قلت: لا شك في أنك معتوه.. "روح" من وجهي...

    قال: هل تخلع هذا القناع لأتعرف عليك يا أيوب؟

    قلت: إنك تعرفني جيِّدًا يا ولدي.

    قال: اخلع القناع إذن.

    قلت: زمانكم هذا يحتم علي وضع القناع.

    قال: هل لتختفي وراءه؟

    قلت: لست لصًّا يا ولد... تأدب!

    قال: لم أقصد.

    قلت: في زمانكم النكد هذا قلب كل شيء رأسًا على عقب، لقد فقدتم الحياء... وتهاوت في داخلكم الأخلاق.

    قال: لقد عرفت الآن... إنك تعمل في البنية التحتية يا أيوب، وإني أقسم على ذلك.

    قلت: إني أقسم أن عقلك ناقص... وأقسم أيضًا أنك من لصوص المياه الذين ينهبون البلدية، ويحرمون جيرانهم شربة الماء.

    قال: وما شأنك أنت يا أيوب.؟ اشرب خروب.. اشرب تمر هندي.. اشرب سوس يا عطشان...!

    قلت: هل سيواصلون سرقاتهم في رمضان؟ مصيبة فعلاً.. ماذا سنفعل غدًا عندما نريد أن نزين مائدة الإفطار بكأس من الماء القراح فلا نستطيع؟

    قال: زينها بالأموناضة!

    قلت: ماذا تقول يا فاجر؟

    قال: أموناضة.. ماء وليمون وسكر، وفي لغة أخرى ليمونادا، أو ليمونيد يا أيوب.

    قلت: لقد أسرفت في تعذيبي، وبالغت في استفزازي أكثر من ذلك المراوغ الذي يرفض دفع قيمة الفاتورة منذ شهرين.

    قال: قد عرفت الآن... إنك قارئ عدادات المياه في البلدية... وهذا الشخص يرفض دفع قيمة فاتورة المياه...

    قلت: شهران يا ولدي وأنا أحاول الحصول على قيمة الفاتورة دون جدوى.

    قال: والسبب؟

    قلت: ألم أقل لك إنكم في هذا الزمان تجردتم من الخلق والحياء... وإن كل شيء في زمانكم النكد هذا انقلب رأسًا على عقب، أو عقبًا على رأس؟

    قال: إنني أتوجه بالشكر إلى صاحب تلك الفاتورة لأنه السبب في إجراء هذا الحوار معك يا أيوب.. أقسم أنني عرفته.. أتأذن لي بالتوسط بينكما لإنهاء الخلاف؟

    قلت: لا، فأنا لا أريد شيئًا.

    قال: والحوار؟ لا بد له من حافز.. أتريد أن تحرمني حوارياتك؟

    قلت: الحافز؟ وهل تعتقد أن ذلك "الشيء" هو الحافز؟

    قال: ما الحافز إذن؟

    قلت: شريحة من المارتديلا، وكوب من الشاي، وقطعة من خبزكم العجيب هذا.

    قال: لا أفهم ما تقول يا أيوب.

    قلت: هذه الأكلة الشهية هي التي حفزتني لتذكر ذلك الولد الغريب.. يا له من ولد كاذب مراوغ!... قاتلكم الله يا أهل هذا الزمان... عشت حتى الآن آلاف السنين.. واختلطتُ بأناس لا يُحصَوْن عددًا... وأقسم أنني لم أجد طيلة حياتي أحدًا يماثلكم في الخسة والكذب والأذى والسرقة ولؤم الطباع.

    قال: وما علاقة الشاي والمرتديلا والخبز بالأمر؟

    قلت: بل قل الدماء والموتى وجلود الخنازير.

    قال: إنك تحيرني يا أيوب... ورغم تكدر مزاجك هذا اليوم إلا أنني أطلب منك نصيحة!

    قلت: لن أفعل.

    قال: ولماذا يا أيوب؟

    قلت: لأنك لن تعمل بها... فأنت كاذب مخادع كأبناء هذا الزمان.

    قال: أتقصد أنني كصاحبك العجيب ذاك؟

    قلت: بل أقصد الشاي والمرتديلا وجلود الخنازير.

    قال: اخلع قناعك.

    قلت: "الله يخلع رقبتك".

    قال: إخلع قناعك يا أيوب.

    قلت: سيحصل ذلك في الوقت المناسب..

    قال: ومتى سيأتي هذا الوقت المناسب؟

    قلت: أليس الصبح بقريب؟

 

 (31/8/2010)

 


الاثنين، ٣٠ آب ٢٠١٠

رمضانيات

 

فتــح مكـــة

 

    أ. عدنان السمان

www.Samman.co.nr  

كان طبيعيًّا بعد أن نقضت قريش صلح الحديبية أن يقرر الرسول الكريم دخول مكة فاتحًا ، وكان طبيعيًّا أن يستعد لهذا الحدث الكبير في سرِّيَّة وتكتّم شديدين ، وكان طبيعيًّا أيضًا أن يكون عليه السلام حريصًا كل الحرص على عدم إراقة الدماء ، وأن يتم الفتح سلمًا لا حربًا حفاظًا على حرمة مكة وقدسيتها .

في اليوم العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة خرج الرسول الكريم من المدينة قاصدًا مكة في جيش من عشرة الآف مقاتل ، وفي الطريق انضم إليهم العبّاس عم الرسول ، وعلى مسافة ثمانية أميال من شمال غربي مكة ، توقف جيش الفتح في مر الظهران ، وقد انضم إليه هناك كثير من رجال القبائل ممن دخلوا في الإسلام.

كانت قريش تشعر بالخطر المحدق بها نتيجة نقضها العهد ، ولكنها لم تكن تدري بأمر هذا الجيش .. لقد كانت تستبعد أن يحدث هذا في شهر الصيام !! شيء ما دفع أبا سفيان للخروج مع اثنين من زعماء قريش لاستطلاع الأخبار ، وكان أن التقى العباس أبا سفيان في منطقة الأراك ، فصرف صاحبيه ، وتوجه مع العباس صوب الرسول الكريم ، وكان الاتفاق على دخول مكة سلمًا لا حربًا .. لقد ذهل أبو سفيان وهو يرى كتائب النصر تمر من أمامه في استعراض مهيب ، وعاد مسرعًا إلى مكة ليخبر أهلها بما رأى وليخبرهم بأن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن !!

وفي يوم الجمعة المصادف لليوم العشرين من رمضان من السنة الثامنة للهجرة تقدمت الأرتال الأربعة التي شكلها الرسول الكريم نحو أهدافها في قلب مكة (وكانت: رتل أبي عبيدة عامر بن الجرّاح ويتألف من المهاجرين -وقد رافقه الرسول الكريم بكتيبة الخضراء- ورتل سعد بن عبادة ، وهو رتل الأنصار ، أما الرتل الثالث فهو رتل الميمنة بقيادة خالد بن الوليد ، وأما الرابع فكان رتل الميسرة بقيادة الزبير بن العوام) دون أن تواجه أدنى مقاومة ، حتى إذا وصل رتل خالد بن الوليد الى أسفل مكة اعترضه بعض مقاتلي قريش ، وفيهم بعض بني بكر ، وبعض الأحابيش ، وعلى رأسهم عكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أميه ، وسهيل بن عمرو ، وكان اشتباك قتل فيه كثير من المشركين ، واثنان من رتل خالد كانا قد ضلاّ طريقهما ، وابتعدا عن الرتل ... ولقد كانت هذه الحادثة من الأمور التي أسف لوقوعها الرسول الكريم الذي كان حريصًا على دخول مكة سلمًا لا حربًا رغم كل الاستعدادات العسكرية ، وكل مظاهر القوة ، ورغم الأرتال العسكرية التي دخلت مكة من كل جهاتها .. نعم .. كان الرسول القائد حريصًا على أن لا يُسفك دمٌ في مكة .. ولكنّ هذا ما حدث .

شيء آخر أزعج الرسول القائد وأغضبه ، وهو أنه في اليوم الثاني للفتح قتلت بنو خزاعة عدوًّا لهم مشركًا رأوه في مكة ، فخطب الرسول في رجاله وكان مما قاله : يا أيها الناس إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرامٌ من حرامٍ إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ، ولا يعضد فيها شجرًا ، لم تحلل لأحد كان قبلي ، ولا تحل لأحد يكون بعدي ...

        ولقد غضب الرسول الكريم أيضًا مما فعله خالد بن الوليد في بني جُذيمة .. ذلك أن الرسول الكريم بعثه في سرية إلى بني جذيمة ، وهم من كنانة ، ومنازلهم في جنوب مكة داعيًا إلى الإسلام ، ولم يبعثه مقاتلاً .. لما رأى بنو جذيمة خالدًا أخذوا سلاحهم ، واستعدوا للقتال ، فطلب منهم خالد أن يلقوا سلاحهم لأن الناس أسلموا ، فقالوا: نحن مسلمون . فلما سألهم عن السلاح قالوا إن بينهم وبين بعض العرب عداوة ، فخافوا أن يكون خالد وجنده بعض هؤلاء .. ولم يزل خالدٌ بهم حتى ألقوا سلاحهم ، وعندئذ أمر فكتفوا ، وقتل منهم من قتل ، فلما انتهى الخبر إلى الرسول الكريم رفع يديه وقال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ، ثم دعا عليًّا بن أبي طالب وقال له : اخرج إلى هؤلاء ، فانظر في أمرهم ، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ، فخرج علي إليهم ، ومعه مال أعطاه إياه الرسول الكريم ، ففدى لهم الدماء ، وما أصيب لهم من الأموال ، ووزع عليهم ما بقي من المال .

        على الرغم من أن يوم فتح مكة كان عيدًا حقيقيًّا للرسول الكريم ، وللمسلمين جميعًا ، وبخاصة المهاجرين الذين عادوا في هذا اليوم إلى أرض الوطن ، وعلى الرغم من أن ذلك اليوم كان يومًا من أيام الإسلام الخالدة التي أعز بها الله دينه ، ونصر نبيه بهذا الفتح المبين ، وعلى الرغم من أن الرسول الكريم كان في الأحوال العادية واسع الصدر بعيدًا عن الغضب إلا أنه غضب غضبًا شديدًا رغم الفتح المبين ، ورغم الفرحة التي عمت كل صفوف المسلمين : غضب الرسول الكريم لأن دمًا قد سفك في مكة، وكان من الممكن أن لا يسفك، وغضب الرسول لأن ظلمًا قد وقع ، وكان من الممكن أن لا يقع، وغضب الرسول الكريم ، وخرج عن طبعه في يوم الفرحة الكبرى لأنه كان يخشى على هذه الأمة من سفك الدماء !! ولأنه كان يرسي دعائم دين ودنيا لهذه الأمة بعيدًا عن الظلم والقتل وسفك الدماء ... فماذا عسى أن يقول نبي هذه الأمة في كل هذا الذي يحدث اليوم في كل ديار العروبة والإسلام ؟؟

 

 (30/8/2010)


الأحد، ٢٩ آب ٢٠١٠

كم خفضنا الجناح للجاهلين!!

    أ: عدنان السمان

www.samman.co.nr

    كم خفضنا الجناح للجاهلين.. وكم تغاضينا عن حماقاتهم.. وأغمضنا العيون عن ألاعيبهم المفضوحة، ودجلهم الرخيص... وكم عملنا، وعمل الناس من أجل إصلاحهم، ليشعروا بوجودهم، ويتخلصوا من عللهم، وشعورهم الدفين بالخسة.. وكم وجّه إليهم الناس نصحهم وإرشادهم دون ملل.. وكم أسمعوهم أجمل الكلمات، وعرضوا على مسامعهم أسمى الأفكار فقط ليتعلموا كيف يحترم الإنسان نفسه، ويعرف يقينًا معنى الانتماء، وفضيلة الصدق، وقيمة الانسجام مع النفس.. ويتذوق حلاوة الالتزام... وكم ضحّى كثير من الناس بغير قليل من أعصابهم، وبغير قليل من سمعتهم.. وتحملوا كثيرًا من سهام العيون المتسائلة.. وهم صابرون محتسبون يعللون النفس بأنهم سينجحون ذات يوم في تحويل هذا المسخ أو ذاك إلى إنسان سويّ مستقيم، ومواطن صالح كريم.. فتكون المعجزة.. ويكون التغيير.. ويكون الإصلاح.. ويكون الخلاص من كل تلك الشرور والآثام التي تضطرب بها هذه النفوس الخبيثة التي تمعن في أعراض الناس نهشًا وتجريحًا.. وفي العلائق الاجتماعية النظيفة هدمًا وتخريبًا.. وفي أخلاقيات هذا الشعب الطيب، وقيمه الأصيلة تحطيمًا وتشويهًا... ولكن هيهات، فالنفوس الخبيثة تأبى إلا أن تكون حيث يضعها الخبث، وتنحدر بها المهانة، وتهوي بها الخسة، والصفاقة، والسقوط... فلا تعيش إلا على الدجل والكذب والنفاق.. ولا تغتذي إلا من عار.. ولا ترتوي إلا من نذالة وفجور.. ولاتستمرئ العيش إلا في وحل الهزائم، ومستنقعات التآمر والمجازر والدمار.. هذه النفوس الخبيثة تعيش "حالة" تكاد تكون مستمرة، أو هي كذلك دون ريب.. هذه الحالة التي يعرفها كل من عرف تلك المسوخ من الناس.. عندما يبدأ أحدهم هلوسته المحمومة، فلا يكاد يفرغ منها إلا بعد ساعات يحوّل فيها نفسه إلى بطل أسطوري بأسلوب يدعو إلى أكثر من التقيؤ، ويسبب أكثر من الغثيان.. وهو في هلوسته وهذيانه لا يدع عرضًا إلا جرّحه، ولا يترك كذبة مكشوفة كانت أو محبوكة إلا سردها، وأقام عليها الدليل مخترعًا الأحداث والحوادث والأسماء والمسميات والشخوص والأماكن والأزمنة والشهود... ولا يدع بطولة سمعها من الناس، أو "اخترعها" خياله إلا تبنّاها، وألحقها بسلسلة بطولاته التي لا تنتهي.. ولا ينسى خلال هذه "الحالة" التي تغشاه كالمسّ آناء الليل، وأطراف النهار أن يردد على مسامعك ذكرياته، وحكاياته، وصولاته، وجولاته مع كل الوجهاء والزعماء والوزراء وصناع القرار في هذه الديار، وخارج هذه الديار، وفي كل ديار العروبة أيضًا!! فكلهم أقرباؤه، أو أصدقاؤه، أو معارفه، أو معارف معارفه، وأنسباء أنسبائه... يا لَلهول!! واحرّ قلباه!! وامصيبتاه!! ولا ينسى هذا الكذّاب الأشر الذي لا يكاد ينهي مهمته في هذا الخندق المعادي إلا ليبدأ مهمة جديدة في خندق مُعادٍ آخر.. أن يقرع رأسك بأحاديثه المسهبة عن تجاربه الرهيبة في التيه والملكوت والمنفى.. ولا ينسى أن يقرع رأسك بسيل من الألفاظ والمصطلحات وسائر الممارسات التي تلامس حدود الخرافة بعد تجاوز سطح الأسطورة الزرقاء، أو تلك الحمراء القانية.. عندما كان مسئولاً هناك عن كل شيء تحت الأرض، وفوق الأرض، وفي شرق الوطن، وغربه، وفي شماله، وجنوبه أيضًا... حتى إذا ما تجاوب غرٌّ هنا، أو غبيٌّ هناك مع شيء من هذا الذي يسمع وقع المحظور، وبان المستور، وأخرج ما في الصدور... "والحدق يفهم" مع الاعتذار لكل من خاضوا تجاربهم بإباء وعزة، واقتدار ومغالبة للنفس، وردعها، وكفها عن الهوى، والضعف، والاستكانة، والاستسلام.

    ومثل هذا المسخ لا يجد أفضل من الإشاعة لمحاربة من يسلطه الأسياد عليهم ممن كشفوا ألاعيبه وأكاذيبه وأحابيله.. والانتقام في الوقت نفسه من الناس الذين أحسنوا إليه، ونصحوه، وحاولوا إصلاحه في الماضي الذي كان.. إنه يعرف جيداً أنه نذل جبان.. وأنه مفضوح لدى القاصي والداني.. معروف بكذبه وخسته.. لا يصدقه أحد... فالإشاعة إذن هي السلاح لمحاربة من يريد أن يعلن الحرب عليهم.. ذلك أن الإشاعة لا يُعرف مصدرها، وعليه فإن من الممكن أن يصدقها الناس.. وبذلك يحقق هدفه.. وبئس الهدف... إن مما يؤلم النفس حقًّا أن يجد أمثال هذا المسخ المتطفل على حياة الناس ووجودهم، الوالغ في أعراضهم، المنفّذ لخططٍ ومخططاتٍ تستهدف هذا المجتمع في صميم نسيجه الاجتماعي ليسهل تدميره، ولتسهل بعد ذلك السيطرة عليه مكانًا هنا، ومكانًا هناك في بعض زوايا هذا المجتمع، وفي بعض نوافذه التي يطلّ من خلالها على الآخرين الذين يطلون عليه بِدَوْرهم من خلالها... تلك والله مهزلة، وأية مهزلة!! وتلك والله بلية، ولا نقول: شر البلية ما يُضحك، لأن هذا الأمر كفيل أن يغتال الضحك، ويقتل الابتسام على شفاه كثير من الناس.

 (1975)


السبت، ٢٨ آب ٢٠١٠

رمضانيات

 

أولى معارك الإسلام .. معركة بدر الكبرى

أ.عدنان السمان

www.Samman.co.nr

   كان لابد من الحرب بين أولئك المعتدين المستكبرين من سادة قريش وزعمائها ، وأولئك المستضعفين الذين أُخرجوا من ديارهم ظلمًا وعدوانًا لا لشيء إلا أن يقولوا ربنا الله .. كان لابد من سلسلة طويلة من المواجهات ( التي فرضت نفسها ) بين تلك الكثرة من الضالين المعتدين الطغاة ، وتلك القلة  من المؤمنين الذين أُخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيل معتقدهم .. وكان لابد من موقعة بدر الكبرى بين قوى الطغيان في مكة ، ودولة الإسلام الوليدة في المدينة .. وكان لابد لهذه الفئة أن تنتصر في موقعة بدر التي دارت رحاها في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة ، الخامس عشر من كانون الثاني من العام ستمائة وأربعة وعشرين للميلاد ، وأن تخوض سلسلة من المعارك بعد بدر ، وأن تُهزم في بعضها أيضًا لتأخذ الدروس والعبر من الهزيمة ، وأن تستمر على هذا النهج حتى تفرض سلطانها على شبه الجزيرة العربية ، وتوطّد أركانها هناك في بضع سنين ، وحتى يتم لها تحرير سائر الأقطار العربية من سيطرة الروم والفرس ، وحتى تتمكن من نشر رسالة الإسلام في معظم أقطار العالم المعروفة آنذاك في آسيا وإفريقية وأوروبة ، وحتى تقيم للدنيا كلها دولة عربية إسلامية ، وحضارة عربية إسلامية زاهرة ، وثقافة نيّرة رشيدة أخرجت البشرية كلها من ظلمات التخلف والطغيان والعبودية إلى نور العلم والعدل والمحبة والهدى ... فالناس كلهم سواء .. والبشرية كلها سواسية .. وكافة المواطنين على اختلاف ألوانهم ، وأديانهم ، وألسنتهم ، وأقطارهم متساوون في الحقوق والواجبات ، ليس لعربي فضل على أعجمي ، ولا لأعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، أو أسود على أبيض إلا بمقدار ما يقدم لهذا المجتمع ، ولهذه الدولة ، ولهذه الأمة التي ينتمي إليها من خدمات !!

    كانت قافلة قريش بقيادة أبي سفيان ، والتي تضم أموال مكة وخيرة رجالها سببًا كافيًا للصِّدام ، وكانت السبب المباشر لنشوب معركة بدر ، حيث رأى المسلمون فيها فرصة لتوجيه ضربة قاسية لنفوذ قريش وهيبتها واقتصادها ، كما رأوا فيها فرصة لاستعادة شيء مما فقدوه لدى هجرتهم من مكة إلى المدينة .. فكان من الطبيعي أن يخرج المسلمون في محاولة لوضع اليد على هذه القافلة ، ولم يكن غريبًا أن يشعر أبو سفيان بذلك ، وأن يعلم بأمر الكمين الذي يستهدف القافلة ، وكان من الطبيعي أن يغير أبو سفيان الطريق بعد أن أعلم قريشًا بما جرى ، وكان من الطبيعي أن تخرج قريش بكل قوتها لحماية القافلة ، والتصدي للمسلمين ... وكان من الممكن أن تقف الأمور عند هذا الحد لولا إصرار قريش على القتال .. وكان لها ما أرادت ، وكان الإعداد والاستعداد ، وكان تثبّت الرسول الكريم من موقف المهاجرين والأنصار ، ومبايعتهم إياه على الموت في سبيل الله ، وكان العريش الذي بني للرسول الكريم ، وكانت الحراسة المشددة على هذا العريش .. وكانت المبارزة التي تفوق فيها فرسان المسلمين ، ومن ثم كان الاشتباك والالتحام بين الفئتين ، وكانت هزيمة قريش،  وكان النصر حليف القلة المؤمنة الصابرة الصادقة.

     كان من الطبيعي أن يُقتل من قريش كثير من خيرة أبنائها ، وكان طبيعيًّا أن يُستشهد بعض مقاتلي المسلمين وفرسانهم ، وكان من الطبيعي أن تكون هنالك غنائم ، وأن يوزعها الرسول على كافة مقاتلي بدر ، وكان من الطبيعي أن يكون هنالك أسرى وقعوا في يد المسلمين من قريش ، وأن يكون هنالك أكثر من رأي فيهم ... لقد أخذ الرسول الكريم بالرأي الذي قال بالعفو والفدية .. وهكذا كان ، فقد عفا المسلمون عن بعض الأسرى ، وأخذوا الفدية من بعضهم ، وطلبوا ممن يحسنون القراءة والكتابة أن يعلّم كلٌّ منهم عشرة من أطفال المدينة القراءة والكتابة ... ولأن هذه التجربة كانت الأولى في تاريخ الإسلام ، فقد كان من الطبيعي أن تنزل الآيات الكريمة موضحة الحكم الشرعي فيها ، لقد نزل في أسرى بدر قوله تعالى : " ما كان لرسول أن يكون له أسرى حتى يُثخنَ في الأرض تُريدون عَرَضَ الدنيا واللهُ يريدُ الآخرةَ واللهُ عزيزٌ حكيم " الأنفال 67. ولقد قيل عندما نزلت هذه الآية الكريمة إن القرآن قد نزل هنا برأي عمر الذي طالب بإنزال العقاب الرادع بحقهم .

       لقد كانت معركة بدر  أولى معارك الإسلام  وكانت بداية انتشار الإسلام في شبه الجزيرة العربية ، وكانت المقدمة الأولى ، والبداية الطبيعية بعد ذلك لانتشار هذا الدين في سائر أقطار العرب ، وكافة بلدان المسلمين ، لقد كانت أم اليرموك ، وأم القادسية ... كانت فجر هذه الأمة العربية الإسلامية التي صنعت للدنيا كلها أعظم حضارة في التاريخ ، وصنعت للبشرية كلها مجتمعات إنسانية متحابة متسامحة متعاونة على البر والتقوى ، وأعمال الخير والإحسان .. لقد كانت كافة الأديان والألوان والألسنة تعيش في ديار العروبة والإسلام حياة كلها تعاون وحب واحترام .. لقد كانت دمشق ، وبغداد ، والقاهرة ، وقرطبة ، وإشبيلية ، والقيروان منائر يستضيء بها الناس في هذا الكون ، لقد كانت بغداد – واحّر قلباه - في يوم من الأيام عاصمة الدنيا بأسرها ، كانت بغداد مدينة العلم والعلماء ، والحكمة والحكماء ، مدينة المحبة والتسامح والتعايش بين كل الشعوب ، وكافة الأديان ، وسائر الألوان ... لقد كرّس الإسلام حياة المحبة والتعاون بين الناس جميعًا لأنه لا إكراه في الدين ، ولأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بما يقدم من خدمة وخير وإحسان للآخرين .

 (28/8/2010)

 


الخميس، ٢٦ آب ٢٠١٠

رمضانيات: 

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ  !!

  أ.عدنان السمان

www.Samman.co.nr

تأبى بعض النفوس المريضة إلاّ أن تعمل جاهدةً من أجل تخلف المجتمعات وتقهقرها، ونشر الرذائل والموبقات والفساد فيها، وكأن أيّ نجاح يحققه الناس في هذا المجتمع أو ذاك، هو طعنةُ نجلاء تصيب تلك النفوس في الصميم، ومن هنا يأتي حرصها على محاربة أسباب النجاح في المجتمع، وحرصها على محاربة الناجحين من الناس بشتى الوسائل والسبل، كي يبقى المجتمع مسرحًا لعبث هؤلاء الفاشلين، وتفاهتهم، وحماقاتهم، وعللهم، وأمراضهم، وتسلطهم، وتجبرهم وتحكمهم بالناس، واتّجارهم بمصائرهم، ومستقبل أبنائهم على هذه الأرض.. من على خشبته يمارسون بثّ سمومهم وأحقادهم، ومن على خشبته أيضًا يمارسون دورهم المشبوه في تحطيم المجتمع، وتدميره، وقديمًا قال العقلاء: "ألف عدو خارج البيت ولا عدو واحدٌ داخله" ... وإذا قُدر لك أن تحاور أحد هؤلاء الفاسدين المفسدين، وأن تطلع على حقيقة ما يضمره، وعلى حقيقة ما يعلنه أيضًا، تبين لك أنك أمام إنسان يبحث عما يستر به فشله، ويواري به خيبته، ويغطي به تفاهاته وحماقاته وانحرافاته، فلا يجد أمامه إلا هذا المجتمع الذي أنبته، وأحسن إليه، فيمعن فيه هدمًا وتحطيمًا، ولا يجد أمامه إلا الناجحين من الناس، فيمعن فيهم تسفيهًا وتجريحًا، ويصرّ على محاربتهم حتى يغيروا اتجاهاتهم، ويعدّلوا مساراتهم، ومداراتهم، لأنه ومعه كل من  هم على شاكلته من الضالين المضلين لن يسمحوا لهذا المجتمع أو ذاك أن يفلت من قبضتهم، ولن يسمحوا لهذا المجتمع أو ذاك أن يعرف طريقه نحو النجاح، ونحو النهضة والتقدم والازدهار والانعتاق من قيود الأسر والتخلف والتسلط؛ فالمعركة مصيريةٌ، وهي معركة حياة أو موت! وهي إما أن نكون، وإما أن لا نكون!! وإذا كان الأمر كذلك، فنحن مَن نكون، وغيرنا هو الذي لن يكون، ولدينا من الوسائل، ومن الحلفاء والأصدقاء والقوى ما يضمن لنا ذلك!! فإذا قال قائل لهؤلاء إنهم مخطئون، وإنهم واهمون، وإن الناس لا يحاربونهم، وإن لهم ما يريدون شريطة الكف عن الفساد والإفساد، وشريطة الكف عن العبث بالقيم والثوابت والأعراف ثارت ثائرتهم، وراحوا يرغون ويزبدون، وراحوا يتهددون ويتوعدون ويلوحون بالويل والثبور وعظائم الأمور كما يقولون، وراحوا يفتشون وينبشون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويتوهمون، ويخمّسون، ويسدّسون، ويتهمون، وراحوا يؤلفون ما يؤلفون، ويدونون ما يدونون، من كل ما "تجود" به قرائحهم، وما توحي به أمزجتهم وأخيلتهم وأهواؤهم، وراحوا يسددون اللكمات، ويوجهون الضربات، ويشددون القبضات، ويكيلون الشتائم، ويطلقون التهديدات والإشاعات والافتراءات، ويمارسون كل أشكال البلهوانيات وألوانها في محاولات يائسة لتغيير كل هذه الحقائق الثابتة والأدلة الدامغة، وفي محاولات يائسة بائسة لحجب نور الشمس، وقرصها الملتهب بالغِربال.

  إن هؤلاء، ومن هم على شاكلتهم في هذه المجتمعات والتجمعات ممن يُرثى لحالهم هم الذين يقيمون الدليل على أنفسهم، وهم الذين يدينونها ويدمغونها بالفساد والإفساد والفشل والكذب والتزوير وخداع الآخرين وممارسة الافتراءات بكل أشكالها وصورها، وهم الذين يحكمون على أنفسهم، وعلى نفوسهم قبل أن يحكمَ غيرهم من عباد الله عليها، ومن عجب أن هؤلاء من حيث يشعرون أو لا يشعرون هم الذين ينشرون فضائل خصومهم، وهم الذين يشحنون الرأي العام، ويعبئونه، ويجندونه للوقوف في معسكر هؤلاء الخصوم، لقد صدق من قال: وإذا أراد اللهُ نشَر فضيلةٍ // طُوِيَتْ أتاح لها لسانَ حسودِ. لولا اشتعال النار فيما جاورتْ// ما كان يُعرف طيبُ عَرفِ العودِ. نفعنا الله بإيجابية الحسد هذه التي خلدها هذا الشاعر المجيد، ووقانا شرور الحسد، وشرور الحاسدين، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.                                           

26/8/2010


الأربعاء، ٢٥ آب ٢٠١٠

متابعات:      

في الذكرى الحادية والأربعين لحريق المسجد الأقصى

 

أ: عدنان السمان

www.Samman.co.nr

        " النيران تندلع في المسجد الأقصى، وتؤدي إلى إتلاف الرواق الشرقي الجنوبي، والمحراب، وزاوية زكريا.. ولقد تصدعت أعمدة القبة.. ولوحظ أن النار اندلعت من أعلى، وليس من أسفل حتى أن السجاد لم يُصب بأذى.. وقد اندلعت النيران في حوالي الساعة السابعة من صباح الخميس 21/8/1969... ولم تمض دقائق حتى انتشر الخبر في طول القدس وعرضها.. كما أن محطات الإذاعة، ووكالات الأنباء قد نشرته في مختلف أنحاء العالم".

    هذا شيء مما نشرته "القدس" في عددها الصادر صباح يوم الجمعة في الثاني والعشرين من شهر آب من العام تسعة وستين وتسعمئة وألف تحت عنوانها الرئيس على صدر صفحتها الأولى: حريق كبير يدمّر جانبًا من المسجد الأقصى.

    الجاني تردد على المسجد الأقصى عدة مرات قبل تنفيذ فعلته.. وفي صباح يوم الخميس 21/8/1969 حاول أحد الحراس اعتراض سبيله لمنعه من الدخول، فسارع إلى الفرار عن طريق باب حِطّة حيث ترك وراءه (جرزة) صوفيّة، التقطها الحارس، وسلمها فيما بعد إلى المسئولين في الهيئة الإسلامية التي وافقت في اليوم التالي للحريق (الجمعة 22/8/69) على تسليمها إلى المحققين من رجال الشرطة الإسرائيلية لقاء إيصال رسمي.

    دينس مايكل روهين/ 28 سنة/ مزارع من مدينة سدني في استراليا.. كان عضوًا في كنيسة الله البروتستانتيّة التي تأسست في قبرص، وضمت إليها أكثر من مليون ونصف عضو.. تؤيد اليهود، وتؤمن بأن المسيح هو المهدي المنتظر، وسيعود مرة ثانية... غادر سيدني في العام 1958، وقضى أحد عشر عامًا في الترحال مثل اليهود قبل أن يصل إلى هذه الديار سائحًا ليقيم في كيبوتس مشمار هشارون مدة ثلاثة أشهر.. يقضي نصف يومه في العمل الزراعي، ونصفه الآخر في دراسة التوراة.. وبعد أن غادر الكيبوتس توجه إلى القدس العربية، ونزل في فندق من الدرجة الثانية هو فندق ريفولي.. حيث عُثر في غرفته بالفندق على مواد مشتعلة وسراج كان يجري عليه بعض التجارب... وقد غادر الفندق عند الساعة السادسة من صباح يوم الخميس 21/8 تاركًا ملابسه وجميع حوائجه.

    اعترف روهين خطّيًّا بإحراق المسجد الأقصى.. وقام بتمثيل الجريمة، وقال إنه حاول قبل أسبوعين أن يقوم بفعلته، ولكنه فشل... ولقد وجه إليه النائب العام الإسرائيلي مئير شمغار في الثلاثين من آب 1969 تهمتين هما: الحرق الجنائي، والمساس بمكان مقدس... في 25/ 9 (الخميس) صدر تقرير لجنة التحقيق في ظروف إحراق المسجد الأقصى.. وفي 29/9 (الإثنين)  ذكرت الوكالات أن محاكمة روهين ستتم خلف حاجز مانع للرصاص... بعد أسبوع، وفي يوم الأربعاء 8/10 نُشرت وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة روهين، وفي اليوم التالي استمعت المحكمة لشهادة رئيس السدنة ورئيس الحرس..

    ولقد حرصت "القدس" على نشر وقائع جلسات محاكمة روهين اعتبارًا من 8/10 حتى 31/10 وفي جلسة الجمعة هذه ذكرت "القدس" أن روهين يدّعي النبوّة.. ويعلن نفسه ملكًا للقدس ويهوذا.. وأن الوحي يأتيه بشكل ذبذبات كهربائية في رأسه وجسمه.

    في يوم الإثنين 3/11 نشرت "القدس على صدر صفحتها الأولى "تفاصيل الجلسة الأخيرة" وفي 4/11 جاء قولها : استئناف محاكمة روهين.. تفاصيل الجلسة التاسعة. وفي 5/11: استئناف محاكمة روهين.. شهادة البروفيسور غيبنز والدكتورة لفنغستون لمتهم مصاب بانفصام الشخصية وباختلال في الدماغ... في يوم الخميس 27/11 قالت: انتهاء محاكمة روهين.. المحامي يطلب إطلاق سراح المتهم.. وتبرئته من المسئولية الجنائية... وفي يوم الأربعاء 31/12: تبرئة روهين من المسئولية الجنائية عن إحراق الأقصى.. وإدخاله مستشفى الأمراض العقلية في الطالبيّة. (أُصدر علنًا في هذا اليوم 20/12/ 1969 بحضور المدعي مئير شمغار. غبرائيل باخ. يونا بلاتمان ممثلين للدولة، وبحضور المتهم دنيس مايكل روهين ومحاميه يتسحاق تونيك... التواقيع).

    بقي أن نشير إلى أنه على امتداد الشهور الأربعة التي أعقبت هذا الحريق الرهيب، وحتى صدور قرار تبرئة روهين شهد الوطن العربي موجات استنكار.. واجتماعات.. وتصريحات.. كما تقدمت الباكستان والجزائر والسنغال في الرابع عشر من أيلول 69 بمشروع قرار من سبع نقاط إلى مجلس الأمن حول هذا الحريق... كما أن "القدس" قد قادت حملات التبرعات للأقصى.. وقادت الدعوة إلى إعماره.. وشهدت صفحاتها مقالات ناريّة تعبّر عن أسمى المشاعر، وأنبل العواطف والتضامن مع الأقصى والقدس... وفي يوم الأربعاء 26/11/ صدر بيان عن لجنة إعمار الأقصى تحدد فيه موقفها من موضوع الإعمار الذي يستدعي التشاور مع العالمين الإسلامي والعربي... وفي يوم الخميس 18/12 نُشر تصريح لسماحة الشيخ حلمي المحتسب حول إصلاحات الأقصى.

    حريق المسجد الأقصى الذي أسفر عن إحراق منبر صلاح الدين، وإتلاف الرواق الشرقي الجنوبي، والمحراب، وزاوية زكريا، وتصدّع أعمدة القبة، وغير ذلك من الأضرار المادية الجسيمة... هذا الحريق الذي احترقت معه مشاعر كل العرب، وكل المسلمين، وكل محبي الحق والعدل، وكل المؤمنين بالله وبالقيم والمثل العليا والمقدسات، وكل أبناء الحضارات والثقافات والشرائع العريقة الراقية، وكل هواة التاريخ وعشاق الآثار في هذا العالم... هذا الحريق الذي أصاب أولى القبلتين لم يكن الفصل الأول من فصول هذه المسرحية المأساة، ولم يكن الفصل الأخير... فما إن ضموا الشطر الشرقي من القدس (بعد أيام من حرب سبعة وستين) إلى شطرها الغربي الذي كان قد وقع في أيديهم عام ثمانية وأربعين.. حتى راحوا يبحثون.. وينقّبون.. ويغيّرون معالم البلدة القديمة.. ويعيدون كتابة تاريخها وجغرافيتها.. ويتصرفون فيها تصرف المالك في ممتلكاته... لقد راحوا يهدمون بيوتًا هنا، وأخرى هناك، وزاوية لهذه العائلة وأخرى لتلك.. بل لقد أزالوا بعض الأحياء، وكثيرًا من البيوت،  وراحوا يغيرون معالم البلدة القديمة، ولاسيما تلك الأماكن، والمواقع، والبيوت القريبة من الأقصى والملاصقة له... وها هم يحفرون، ويبنون، ويهدمون كما يحلو لهم تحت الحرم، وفوق الحرم، وحول الحرم... وحتى لا يظن أحد أنهم يفعلون هذا في البلدة القديمة فقط نقول إنهم ومنذ الأيام الأولى لاحتلالهم القدس عام سبعة وستين راحوا أيضًا يقيمون الأحياء السكنية لمستوطنيهم، وراحوا يصادرون، وينهبون، ويستولون على الأرض بكل الوسائل... فهذه منطقة خضراء، وتلك منطقة مغلقة، وهذه ليست للبناء، وتلك للمرافق العامة... وبمرور الوقت أصبحت الأحياء العربية في القدس محاصرة مغلقة معزولة عن سائر الأراضي المحتلة منذ عام سبعة وستين.. محاطة بالأسوار والجدران والبوابات، لا يستطيع أحد دخولها حتى لو كان من أبنائها الذين فصلهم هذا الجدار عنها إلا بشق الأنفس.. أما الذين لا يحملون هويتها فدخولهم إليها أضحى من المستحيلات، والحديث في هذا الأمر يطول ويطول.. إنه بحاجة إلى أكثر من مقال هنا وآخر هناك، وأكثر من كتاب مصوَّر يروي كل هذا الذي جرى ويجري دون أن يعترض معترض، ودون أن يرفع صوته أحد مطالبًا بوضع الأمور في نصابها!!! لقد أصبحت المستوطنات في محيط القدس، وفي داخل القدس أيضًا هي الأصل، وأصبحت الأحياء العربية هي الاستثناء.. فإلى متى؟ وما الذي يبتغيه هؤلاء؟؟

    بقي أن نقول في هذه الذكرى الأليمة إن كل هذا الذي يجري ويدور في هذه الديار منذ عقود من عدوان، واضطهاد، واستخفاف بالناس، واستيلاء على أراضيهم، ومصادرة لحقوقهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، واعتداء على إنسانيتهم، ومشاعرهم، وكرامتهم، واتّجار بمقدّراتهم، ومقدّساتهم، واحتياجاتهم، لا يمكن أن يخدم بأي شكل من الأشكال قضية السلام الذي أضحت الشعوب في أمسّ الحاجة إليه كي يعيد إليها شيئًا من أمنها وأمانها، وكي يعيد إليها  شيئًا من حقوقها السليبة، وشيئًا من كرامتها الذّبيحة... هذه الاعتداءات.. وهذه التجاوزات والانتهاكات.. وهذا التلاعب والتحايل والخداع الذي لا ينطلي على أحد لا يمكن بحال أن يضع نهاية لهذه المسرحية التي تعددت مشاهدها وتفرّعت، وكثرت فصولها وتشعّبت، واستحكمت أهوالها وتجذَّرت... وأصبح اللعب فيها على المكشوف.. وأصبح القتل والنهب والسلب والاغتصاب أكثر من مألوف... نريد حلاًّ منصفًا عادلاً متوازنًا يعيد الحقوق إلى أصحابها، ويؤسس لحياة بشرية باسمة.. ترضى عنها الأجيال القادمة.

        وبقي أن نقول أيضًا في هذه الذكرى الحادية والأربعين لإحراق الأقصى إنهم ماضون في تهويد القدس، وماضون في بناء المستوطنات فيها، وماضون في تهويد الضفة الغربية، وماضون في زرعها بالمستوطنات، وماضون في تجاهل أدنى الحقوق الوطنية الثابتة للفلسطينيين في وطنهم فلسطين، وماضون في حصار غزة، وعزلها عن هذا ال/عالم، وماضون في حصار الأقصى، والتهديد في كل لحظة بهدمه، وماضون في ترويع الفلسطينيين، وهدم منازلهم، ومصادرة أراضيهم، والقذف بهم في غياهب السجون والمعتقلات، وأنكى من كل هذا أنهم ما زلوا يتشدقون بالسلام، ومازالوا يناورون ويفاوضون ويتظاهرون بالموافقة على إقامة "دولة" للفلسطينيين على جزء من أراضي الضفة الغربية، شريطة أن تكون هذه "الدولة" مقطّعة الأوصال، منزوعة السلاح، محاطةً بالمستوطنين، خاضعةً لرغباتهم وتجاوزاتهم، ومحاطةً أيضًا بجيش الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما من جهة الشرق، لا تملك حقًّا في مياه، أو فضاء، وليس لها أدنى وجود على معبر أو بوابة تربطها بالعالم الخارجي، وأدهى من هذا وأمرّ أنهم يريدون أن تكون هذه "الدولة" الوهم إضافة إلى كل ما فيها من مستوطنين ومواطنين مكانًا يحشرون فيه أهل الجليل والمثلث والنقب تحقيقًا ليهودية "إسرائيل"، ويستقبلون فيه عددًا محدودًا من لاجئي لبنان أو غير لبنان إلغاءً لحق العودة، وتخلصًا منه، والتفافًا عليه، وتشويهًا لمعناه، وصولاً لشطب هذه القضية الفلسطينية، ظنًّا منهم أنهم قادرون على ذلك، وظنًّا منهم أنهم قادرون على شطب هذا الشعب، وإخضاعه، وتركيعه، وتصفية قضيته، ووضع اليد على أرضه وثرواته ومقدساته، وظنًّا منهم أنهم قادرون على وضع نظرية الإقصاء والإحلال موضع التطبيق، وظنًّا منهم أنهم بذلك يصنعون السلام ويحققونه، وما علموا أن هذا الذي يطلبونه ويصرّون عليه هو العدوان، وأن العدوان لا يمكن أن يؤسس للسلام، وأن السلام لا يتحقق إلاّ بإحقاق الحقوق، وعودتها إلى أصحابها، وأن السلام أيضًا لا يمكن أن يكون عادلاً شريفًا دائمًا إلاّ إذا كان متكافئًا مقنعًا تؤمن به الشعوب، وترضى عنه الأجيال القادمة.

 (25/8/2010)

 


الثلاثاء، ٢٤ آب ٢٠١٠

متابعات

فيضانات باكستان.. والمساعدات المحدودة

 

أ.عدنان السمان

www.Samman.co.nr

هذه الفيضانات التي لم تشهد باكستان مثيلاً لها من قبل، ألحقت أبلغ الأضرار، وأفدح الخسائر بالاقتصاد الباكستاني، ودمرت المحاصيل الزراعية في المناطق التي تجتاحها، والبالغة مساحتها نحو مائتي ألف من الكيلومترات المربعة، هي ربع مساحة هذه البلاد التي ما زال أكثر من عشرين مليونًا من شعبها البالغ تعداده نحو مائتي مليون إنسان يئنون تحت وقع هذه الفيضانات المدمرة، ويواجهون ألوانًا مختلفة من الموت والخوف والجوع والتشرد والأمراض والأوبئة بما في ذلك الكوليرا التي تنذر باجتياح تلك البلاد المنكوبة... أكثر من ثلاثة أسابيع مضت، والعالم كله يشاهد غضب الطبيعة وهيجانها في باكستان، وتنكيلها بالناس كبارًا وصغارًا، وتشريدها للملايين الذين يهيمون على وجوههم في العراء، دون أن يقدم هذا العالم شيئًا مذكورًا من مساعدة، لهؤلاء المنكوبين، ودون أن تُحدث هذه الكوارث ردود الأفعال التي تستوجب الرد، وتستوجب النفير العام لمواجهتها، والتصدي لها عالميًّا، للتخفيف من آثارها المدمرة، وإنقاذ هؤلاء الناس من غضبها وثورتها وتنكيلها بهم، دون أدنى اعتبار لضعفهم وعجزهم، ودون أدنى اعتبار لبؤسهم وفقرهم وعريهم وهوانهم على الناس في هذا العالم !! ولو كانت هذه الكوارث المدمرة التي تعصف بالباكستانيين، وتزلزل الأرض تحت أقدامهم قد حلت بغير باكستان، ونكبت أناسًا غير الباكستانيين، ومن هم في حكمهم لاختلف الأمر، ولو كان شيءٌ من هذه الكوارث قد أصاب حظائر للكلاب، أو نوادي للعراة، ومثليي الجنس لتسابق كثير من الناس في هذا العالم لمد يد العون والمساعدة إليهم، ولتفنن كثير من الناس في هذا العالم في الإعراب عن مشاعر التضامن معهم، ولتسابق كثير من الفنانين والرسامين والنحاتين والشعراء في تخليد هذه الكارثة، وكتابة المراثي المؤثرة في ضحاياها.. فقط لأنهم ليسوا عربًا، ولأنهم ليسوا مسلمين، ولأنهم ليسوا من الفقراء المقموعين في هذا العالم الذي ينضح بالعنصرية، وتفيض أوعيته بالحقد على كل طلاب الحق وأنصار الحق، وعلى كل طلاب الحقوق وأنصارها ومؤيديها من كل جنس ولون ودين ولسان في هذا العالم دون استثناء !!

في هذا الوادي الأخضر الجميل وادي سوات فجّر الغزاة ملايين الأطنان من المتفجرات، ومن يدري! فلعلهم قد استهدفوا الناس فيه، (وفي غيره من الأماكن والمواقع في باكستان، وغير باكستان من أقطار العالم الإسلامي ذاك) بعدد من القنابل النووية التكتيكية كتلك التي استعملوها في مطار بغداد وأبو غريب والفلوجة والبصرة، ولعل هذا الذي فعلوه ويفعلونه مضافًا إليه كل هذه التفجيرات والتجارب النووية التي يجرونها منذ عقود، ولا يزالون، هو من أبرز الأسباب في حدوث هذه التغيرات المناخية التي يشهدها هذا العالم، وفي حدوث هذا الاحتباس الحراري الذي يؤدي (فيما يؤدي إليه) إلى كثير من هذه الاضطرابات المناخية، وإلى كثير من هذه الاختلالات والاعتلالات التي نشهدها اليوم في هذا العالم، وسنشهد مزيدًا منها أيضًا في المستقبل المنظور، وغير المنظور، إن كان هنالك مستقبل على هذا الكوكب المنكوب بكل أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها هؤلاء، وبكل نزعات الحقد والعنصرية التي تدفعهم دفعًا للانتقام بكل ألوانه وأشكاله وصوره من كل المسلمين العرب، والمسيحيين العرب، ومن كل المسلمين والمسيحيين المؤيدين للحق والعدل والحرية، ومن كل أنصار العدل والعدالة والسلام العادل الشريف المتكافئ في هذا العالم، ومن كل القوى المناوئة للاستعمار والاستبداد والاستعباد والغطرسة والتحكم بالشعوب ونهب ثرواتها في هذا الكون.

 24/8/2010


قطــوف من النحـو

(الاسـتثناء)

-6-

أ/ عدنان السمان

www.Samman.co.nr

ويضيف البصريون قائلين إن المستثنى قد يعرب بدلاً من المستثنى منه كما في قولنا (ما نجح من الطلاب أحد إلا المجتهدون) فكما لا يجوز تقديم البدل على المبدل منه فكذلك لا يجوز تقديم أداة الاستثناء وجعلها طليعة الكلام.. ولكن الكوفيين اعترضوا على هذا متذرعين بتقديم المستثنى على المستثنى منه على الرغم من أن الكثرة هي تقديم المستثنى كما في قول الشاعر: ومالي إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ // وما لي إلا مذهبَ الحقِّ مذهبُ (تقديم المستثنى على المستثنى منه) وقول الآخر: الناسُ إلب علينا فيك ليس لنا // الا السيوفُ وأطراف القنا وزَرُ (تقديم المستثنى على المستثنى منه مما يؤيد الكوفيين). وتقديم المستثنى على المستثنى منه مع وفرته في كلام العرب صحيح فصيح لا مطعن فيه بضرورة أو شذوذ. ولقد بنى البصريون رفضهم لتقديم أداة الاستثناء، على أن هذا التقديم يؤدي إلى أن يعمل ما بعد حرف النفي –ما- فيما قبلها، في قولهم: (إلا طعامك ما أكل زيد) فإن طعام في هذا القول مفعول به لأكل الواقع بعد ما، وما لها الصدارة كأداة الاستفهام فليس يعمل ما بعدها فيما قبلها. وحجتنا واضحة وهي أن المستثنى يُنصب بما هو قبل إلا من فعل أو شبه فعل، وليست إلا هي الناصبة له. ثم دحض البصريون حجة الكوفيين التي تمنع التناظر بين المستثنى والبدل والتي تبيح تصدير أداة الاستثناء بناء على هذا المنع، وقد دحضوا هذه الحجة من أساسها برأي من يجيزون تقديم البدل –في حال بدليته- على المبدل منه، وإن كان هذا الرأي ليس هو الفصيح ولا الرجيح. ثم دحضوها بقولهم إن المستثنى لا يقاس على المبدل من كل وجه لأنه وإن جاز إعرابه بدلاً إلا أنه قد تجاذبه شبهان: كونه مفعولاً به، وكونه بدلاً فأعطي من كل من الشبهين حظًّا، ولهذا منح منزلة وسط أجازت تقديمه على المستثنى منه رعاية للمفعولية، ومنعت تقديمه على الفاعل رعاية للبدلية. * هل تجيء إلا بمعنى الواو؟ الكوفيون يقولون إنها تجيء بهذا المعنى، والبصريون يرفضون ذلك. استدل الكوفيون لرأيهم بما يلي: قالوا إن إلاّ وردت  في القرآن الكريم وفي النصوص العربية بمعنى الواو، من ذلك قوله تعالى: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" واستدلوا على ذلك بقول الشاعر: شدختْ غرةَ السوابق فيهم // في وجوه إلى اللَّمام الجِعادِ (الشاهد ورود الى بمعنى مع) (إلى مخففة من إلاّ). ومن ذلك: بها كل خوار إلى كل صعلة // صهولٍ ورفض المذرعات الشوَاهب (أي مع كل صعلة). وكل أخٍ مفارقه أخوه // لعمر أبيك إلا الفرقدان (والفرقدان). أما البصريون فقد رفضوا ذلك قائلين إن الواو تشرك ما بعدها في حكم ما قبلها إثباتًا أو نفيًا، أما إلاَّ فإنها تخرج ما بعدها من حكم ما قبلها، فكيف يكون أحد الحرفين بمعنى الآخر؟ ولقد ناقش البصريون شواهد الكوفيين مبينين أن ما فيها هو استثناء وليس بمعنى الواو.

حاشى في الاستثناء: اختلف النحاة على مذاهب ثلاثة في تحديد القسم الذي تنتمي إليه: 1- فذهب الكوفيون إلى أنها فعل ماض 2- وذهب البصريون إلى أنها حرف 3- ذهب المبرد إلى أنها تتردد بين الفعلية والحرفية. استدل الكوفيون على رأيهم بما يلي: 1) إن حاشى تتصرف وليس يتصرف إلا الفعل، ودليل تصرفها مجيء المضارع منها: ولا أرى فاعلاً في الناس يشبههه // ولا أحاشي من الأقوام من أحد. الشاهد: مجيء أحاشي فعل مضارع من حاشى مما يؤيد رأي الكوفيين القائل بأن حاشى فعل ماضٍ، لأن التصرف من خصائص الأفعال. وقول الشاعر: قبح الإله ولا أحاشي غيرهم أهل السبية من بني حمانا (مجيء أحاشي مضارعًا من حاشى مما يدل على أن حاشى فعل ماضٍ لأنه تصرف والتصرف من خصائص الأفعال وقول الشاعر: قبح الإله ولا أحاشي غيرهم // أهل السبيلة من بني حمّانا (مجيء أحاشي مضارعًا من حاشى مما يدل على أن حاشى فعل ماض لأنه تصرَّف، والتصرف من خصائص الأفعال) كما يقول الكوفيون. 2) إن حرف الجر يأتي بعدها متعلقًا بها وبمجرورها، ولو لم تكن فعلاً ما تعلق بها لأنها حينئذ ستكون حرفًا على رأي البصريين، والحروف لا يتعلق بها الجار والمجرور إلا بتأويل. 3) إنه قد يتصرف بالحذف في لفظها كما في قراءة /حاشَ الله/ حاش، وحشا. والحذف لا يكون قياسًا إلا في الأفعال مثل: قم، دع، ارم، اسع، أو الأسماء مثل أخ، يد، دم، أما الحروف فإن الحذف فيها غير قياسي. واستدل البصريون لرأيهم بما يلي: 1) أن ما لا تدخل على حاشى، ولو كانت فعلاً لدخلت ما عليها كما دخلت على عدا. 2) يقع الاسم بعد حاشى مجرورًا، وهذا برهان حرفيتها. يقول الشاعر: حاشى أبي ثوبان إن به // ضنًّا على الملحاة والشتمِ (جر أبي ثوبان بحاشى مما يدل على أنها حرف جر كما يقول البصريون، فهذا شاهد لقولهم). وقول الآخر: من رامها حاشى النبيِّ وأهله. وقول الشاعر: في فتية جعلوا الصليب إلههم // حاشاي ... 3) ولو كانت حاشى فعلاً لجلبت نون الوقاية كما في عدا: تمل الندامى ما عداني فإنني//  بكل الذي يهوى نديمي مولع (عداني نون الوقاية).

تفنيد البصريين لأدلة الكوفيين: 1) نفوا أن تكون حاشى متصرفة وقالوا إنها جامدة، وإن حاشى ليست مأخوذة منها أخذ اشتقاق وإنما مأخوذة أخذ نحت مثل بسمل من بسم الله، وحوقل.... 2) نفى البصريون أن تكون لام الجر بعد حاشى متعلقة بها، ذلك أن اللام بعد حاشى زائدة لا متعلق لها مثل: بحسبك هذا الأمر (فالباء زائدة) وقول الراجز: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (الباء زائدة). 3) الحذف الذي يزعمه الكوفيون في حاشى هو للتخفيف أو التنزيه كما خففت رب في قول الشاعر: أزهير إن يشب القذالُ فإنه // رُبَ هيضل ....  (تحقيق ربّ بحذف الباء الثانية..) وخففت أيضًا في قول الشاعر: ألم تعلَمَنْ يا رَبِّ أن رُبَ دعوةٍ // دعوتك فيها مخلصًا لو أُجابُها (تخفيف ربّ بحذف الباء الثانية) وخففت مع تسكين بائها: (ألا رُبْ ناصر... أحسابها). أما الرأي الصواب فهو رأي المبرد فقد أورد دخول ما على حاشى في قول الشاعر: رأيت الناس ما حاشى قريشًا... (ورود حاشى فعلاً بدليل سبقها بما ونصب الاسم بعدها مفعولاً به). وردد نصب ما بعد حاشى بدون دخول ما عليها كما في رواية صحيحة لقول الشاعر: حاشى أب ثوبان إن أبا // ثوبان ليس ببكمة فدم (نصب بها بدون دخول ما عليها). وقال المبرد إن لها متعلقًا وإن لها مضارعًا. (أحاشي). فالعرب يخفضون بحاشى وينصبون بها –أداة استثناء- وحملها على الحرفية عندما يكون ما بعدها مجرورًا (حاشى لله) وعلى الفعلية عندما يكون ما بعدها منصوبًا أجدر بالقبول وأبعد عن التعصب والتكلف.

(تــــم بحمـــــد اللـــه)

24/8/2010


السبت، ٢١ آب ٢٠١٠

متابعات:

رسالة مفتوحة إلى شمعون بيرس

  أ/ عدنان السمان

www.Samman.co.nr

          قرية العراقيب في النقب تُهدم وتسوّى بالأرض، ليهيم أطفالٌ وشيوخٌ ونساءٌ ورجالٌ على وجوههم في موجة الحرّ هذه التي تغشى البلاد والعباد، وفي شهر الصيام الذي دعوتَ لتناول طعام الإفطار فيه على مائدتك كثيرًا من وجهاء هذه البلاد وشخصياتها.. نعم، لقد هُدمت قرية العراقيب في النقب ثلاث مرات خلال شهر واحد، وهُدمت للمرة الرابعة منذ أيام، وتحديدًا في اليوم السادس من شهر رمضان، يضاف إلى هذا حرص رجالك، وإصرارهم على مواصلة هذا النهج، والاستمرار في سياسة الهدم والتهجير لا في العراقيب وحدها، ولا في النقب وحدَه وإنما في القدس، والأغوار، والجليل، وفي مناطق نابلس والخليل، وفي كل مكان ومكان يوجد فيه عرب على امتداد هذه الأرض الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط غربًا، ونهر الأردن شرقًا، لا فرق في ذلك بين ثمانية وأربعين، وسبعة وستين، ولسنا بحاجةٍ لضرب مزيد من الأمثلة، ولسنا بحاجة للحديث عن هدم المقابر، وإزالتها عن وجه الأرض، وبعثرة عظام الموتى في الشوارع وتحت أقدام المارة من رجالك ومستوطنيك، فالوقت لا يتسع، وطبيعة هذه الرسالة أيضًا لا تسمح بذلك... ولئن كانت مثل هذه الأعمال التي يمارسها رجالك بحق المواطنين العرب، والموتى العرب، في كل هذه الديار (إضافةً إلى هذه الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية والصحية والتعليمية المزرية التي يعيشونها تحت سمعكم وبصركم) مرفوضةً ومدانة بكل المعايير والمقاييس والمكاييل والموازين، ولئن كانت مستهجَنةً مستقبحة مستنكَرة إذا صدرت عن أنظمة ديكاتورية استبدادية لا تقيم وزنًا للإنسان ولحرياته ولاحتياجاته، ولا تقيم وزنًا لعدلٍ وعدالة وحقوق سياسية واجتماعية واقتصادية وصحية وتعليمية ومعيشية للإنسان، فإنها لعمري أكثر من ذلك، وإنها لعمري قد لا تجد النعوت المناسبة إذا هي صدرت عن أُناس يقولون إنهم ديمقراطيون متحضرون يحترمون الإنسان، ويحترمون حرياته وحقوقه واحتياجاته!! قد يقال إن هذه الإجراءات التي تتخذ بحق عرب هذه الديار هي إجراءات قانونية، ولكن من هم الذين وضعوا هذه القوانين، وكيف وضعوها، ولماذا؟ ومن هم الذين يرفضون "منح" تصاريح البناء لهؤلاء العرب ولماذا، ومن هم الذين يمتنعون منذ عشرات السنين عن إعداد الخرائط الهيكلية التي من شأنها أن تسهل مهام البناء بالحصول على التراخيص اللازمة لذلك، ولماذا؟ ومن هم الذين يتجاهلون حقوق المواطنين العرب في العمل والتعلم والتطور ومسايرة ركب الحياة؟ ومن هم الذين يضعون العراقيل والعقبات، ويفتعلون المشكلات، ويعملون جاهدين من أجل مصادرة أبسط حقوقهم في العيش باحترام فوق تراب وطنهم ولماذا؟ ومن هم الذين يقدمون المليارات لأحزاب سياسية دينية صغيرة متطرفة متعصبة غالبيتها من أموال المخالفات التي تُفرض على المواطنين العرب، ويحرمون ملايين العرب من أبسط حقوقهم في البناء والبنى التحتية، بل من أبسط حقوقهم في الحصول على المأكل والمشرب، وفي الحصول على الخدمات الضرورية مثل باقي عباد الله في هذه الدنيا؟ ومن هم الذين يعملون جاهدين من أجل تخلف العرب؟ ومن هم الذين يصادرون أرضهم، ويسدون عليهم أبواب الرزق والعمل؟ ولماذا؟ وبعد، فليس هذا إلا غيضٌ من فيض، وقليل جدًا من كثير، وعناوين رئيسة بدون أدنى تفصيل لم آتِ بها هنا لتسجيل أهداف أو إحراز نقاط، وإنما أتيت بها في رسالتي هذه بنية حسنة، وهدف نبيل من أجل تحقيق عيش كريم لكل المواطنين في هذه الديار دون استثناء... وإذا كان قدر هذه الملايين أن تعيش معًا في هذه الديار، فإن مما يفرضه العقل، وتفرضه الحكمة أيضًا أن تتوجه هذه الملايين بهمة من أجل توفير العيش الكريم لكل الناس، والقضاء على الفوارق الطبقية بينهم، وتحريم الظلم والعدوان، وتشريد المواطنين من بيوتهم، ومصادرة أرضهم ومصادر رزقهم.. إن شمعون بيرس وهو يتبوأ المنصب الأعلى، ويحتل المكانة الأولى، ويعرف كل صغيرة وكبيرة من كل هذه الحوادث والأحداث والتطورات والتغيرات التي طرأت على هذه الديار منذ أكثر من ستين عامًا قادر على أن يفعل شيئًا إيجابيٍّا يقلص به الفوارق بين الناس، ويحدّ فيه من مدّ هذا اليمين المتطرف الذي يغشى البلاد والعباد، ويهدد الحياة المشتركة، والعيش المشترك بأفدح الخسائر والأضرار.. شمعون بيرس قادر على وضع حد لكثير من الظواهر السلبية إن هو أراد، وشمعون بيرس مطالَب بمعالجة كثير من مشكلات عرب هذه الديار وقضاياهم قبل أن يتوجه لمعالجة قضايا العرب في إيران، وفي غير إيران، وهو مطالب بإحقاق كثير من حقوق الفلسطينيين التي يعرفها ونعرفها ويعرفها الناس أيضًا في هذا العالم.

                           21/8/2010


                       

رمضانيات

الصوم عبادةٌ.. ورياضةٌ روحيةٌ.. وأخلاق

     أ/ عدنان السمان

www.Samman.co.nr

 

الصوم عبادة.. فهو ركنٌ من أركان الإسلام التي بُني عليها، ولا يكون الإسلام إلا بها مجتمعة، ولا يحسن إسلام أحد إلا بها، وبها مجتمعة، فليس لأحد أن يلغي الصوم، وليس لأحد أن يلغي الصلاة، وليس لأحد أن يلغي فريضة الحج، وليس لأحد أن يمتنع عن أداء الزكاة، وليس لأحد أن يمتنع مستكبرًا عن النطق بالشهادتين، ثم يأتي زاعمًا أنه مسلم!! الصوم عبادة، لأنه طاعة، ولأنه امتثالٌ لأمر الخالق، ولأنه فريضة لا بدّ من ممارستها، ولا بد من القيام بها، دون أدنى تهاون، أو تذمر، أو تقصير... على أنه من مسلَّمات هذا الدين، ومن ثوابته أيضًا أن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحدٌ إلا غلبه، وهذا يعني أن المسلم مطالَبٌ بالصوم إذا كان قادرًا، أما إذا لم يكن، فهو غيرُ مطالبٍ به حتى يصبح قادرًا عليه، بزوال السبب من مرض أو سفر أو نحو ذلك، وهذا معناه أن هذه العبادة لا تجبُ إلا على القادر عليها، وأما غير القادر لسبب مؤقت طارئ فهو معفًى من ممارستها إعفاءً مؤقتًا حتى يزول السبب، وبعد ذلك ينبغي أن يصوم في غير رمضان أيامًا بعدد الأيام التي أفطر فيها، وأما غير القادر على الصيام بسبب الكبر، وما في حكمه كالمرض الشديد الذي لا يُرجى شفاؤه فهو معفًى، ولا ينبغي أن يرهق نفسه، أو يزيد من سوء حالته الصحية، أو تعريض نفسه لمخاطر صحية جديدة بممارسة الصيام (يريد الله بكم اليسر) على أن ينفذ ما تلزمه به الشريعة من كفارة مراعيًا أسبابها وأحكامها؛ فالله يحب أن تؤتى رُخَصُه، كما يحب أن تؤتى عزائمه، وإذا كان الصوم عزيمة لأنه مما شُرِعَ من الأحكام ابتداءً؛ فإن الإفطار في رمضان رخصةٌ ينبغي أن يعمل بها المسلم؛ فالله الذي شرع الصيام، وأوجبه على المسلمين هو الذي خفف عنهم، وأعفاهم منه إعفاءً مؤقتًا أو دائمًا بحسب الظروف، ومقتضيات الأحوال.. أقول هذا مشيرًا إلى حلول شهر الصيام في هذه الأيام الشديدة الحرارة، موجهًا الكلام إلى المرضى، وإلى الأطفال بضرورة أخذ الحيطة والحذر، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.

والصوم رياضةٌ روحية تبني الأرواح المؤمنة الخيرة القوية القادرة على ممارسة فعل الخير، والقيام بأعمال البر، وكما أن الرياضة البدنية من شأنها أن تقوّيَ الأجسام، وأن تخلصها من كثير من أمراضها وآلامها في بعض الحالات التي تكاد أن تكون هذه الرياضة فيها هي الحل والعلاج، فإن الرياضة الروحية هي الأخرى تفعل في الأرواح ما تفعله الرياضة البدنية في الأجساد، وعليه، فإن الصوم بالإضافة إلى كونه عبادةً كالصلاة، فهو أيضًا رياضة روحية تهذب النفوس، وتسمو بها إلى عالم الفضيلة، وسماء النقاء والتألق والطُهر، وتقوي الإرادة، وتزيد الإنسان المؤمن إيمانًا مع إيمانه، وصبرًا على الصعاب، والمشاقّ لا يقوى عليه إلا أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجرٌ عظيم.

والصوم أخلاق، وإذا كان الخالق قد أثنى على نبيه ورسوله العظيم محمد صلوات الله وسلامه عليه بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم" فإن من حقنا أن نقول إن الصوم عبادةٌ، وهو رياضةٌ روحيةٌ، وهو أيضًا أخلاق تزين الصائم، ويزدان بها المسلم في شهر رمضان بخاصةٍ، وعلى مدار العام بعامةٍ، ولا ينبغي لهذا المسلم أن يخلع عنه هذه الزينة بانتهاء شهر رمضان حتى لا يكون مَثَلهُ كمَثَل من قال فيه الشاعر "صلى وصام لأمر كان يقصده".

جعلنا الله جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.  

21/8/2010


الخميس، ١٩ آب ٢٠١٠

رمضانيات 

بناء المساجد في الإسلام

  أ/ عدنان السمان

www.Samman.co.nr

        بانتصار الإسلام، وانتشاره، وقيام دولته في المدينة المنورة، كان لا بد من بناء المساجد؛ فكان مسجد الرسول في المدينة، ليكون مكانًا للعبادة، والتفقه في الدين، وملتقًى، ومقرًّا، وقيادةً، ومجلس حكم، وقضاء، وكان لا بد من انتشار المساجد بعد ذلك في كل شبه جزيرة العرب، وكان لا بد من انتشارها خارج شبه الجزيرة، فانتشرت في بلاد الشام، والعراق، وفارس، ومصر، لتنتشر بعد ذلك في معظم أقطار آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكان من الطبيعي أن يهتم المسلمون بالمساجد لكل ما ذُكر من أسباب، ولأسباب أخرى منها، وعلى رأسها أنها أصبحت مراكز ثقافية، ومعاهد وجامعات ومنطلقات للفكر والمعرفة ومنائر علم وفكر ونور وهداية، ومشاعل تمزق الظلام في هذا الكون، لتشرق فيه، وتسطع في سمائه شمس الإسلام الذي إنما جاء ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وليهدي البشرية سبل العدل والمحبة والتسامح والأمن والأمان والسلام مع النفس أولاً بصلاحها وإصلاحها، ومع الناس كل الناس من كل جنس ولون ولسان ومعتقَد بدعوتهم إلى كلمة سواء ألاّ نعبد إلا الله، وألاّ نفعل إلا ما يرضيه، وأن نجتنب كل ما يغضبه؛ فهل بقي لأحد بعد ذلك ما يقوله؟ وهل بقي لأحد بعد ذلك ما يضيفه؟ وإذا كان الله هو العدل المطلق، فما الذي يريده الناس كل الناس أكثر من هذا العدل؟ وأكثر من هذا الإخاء؟ وأكثر من هذا التسامح؟ وأكثر من هذه المحبة؟ وأكثر من هذا السموّ الروحي، والتسامي الخلقي، وتحريم الظلم.. والحثّ على الإيثار، وإغاثة المستغيث، والحث على كل هذه المبادئ والقيم والمثل العليا التي جاء بها الإسلام، وراحت المساجد تبُثها وتنشرها وتنادي بها؟... لقد قامت المساجد في الماضي، وفي الحاضر، وسوف تقوم في المستقبل أيضًا بدور عظيم في نشر مبادئ الإسلام ومعتقداته وأفكاره، كما قامت وتقوم وسوف تقوم بالتقريب بين وجهات النظر المتباعدة في محاولات جادّة لتضييق شقة الخلاف بين أصحاب العقائد والمبادئ والديانات في هذا العالم، للخروج بالقواسم المشتركة التي تتيح للناس جميعًا في هذا الكون -الذي غدا قرية صغيرة- أن يتفاهموا، وأن يتعاونوا، وأن يتخلصوا من خلافاتهم، وأن يضعوا حدًّا لمشكلات كثيرة تؤرق كثيرًا من الأمم والشعوب في هذا العالم، بعيدًا عن التسلط والتجبر والغطرسة والاستعلاء، وبعيدًا عن الأنانية والغرور والجشع الذي يعمي صاحبه عن رؤية الآخرين وحقوقهم، ويصمّ أذنيه عن سماع أقوالهم وحججهم التي لو سمعها لعاد إليه رشده وصوابه، ولوفّر على نفسه، وعلى غيره كثيرًا من العنت والجهد، وكثيرًا من العداوة والخصام والمنازعات الساخنة والباردة التي تعمّق العداوة وتجذّرها بين الناس، في الوقت الذي ينبغي أن يتوجه فيه الناس للحوار الهادئ المسئول البنّاء من أجل حل مشكلاتهم، ووضع حد لخلافاتهم على أسس العدل، والحق، وفي الوقت الذي ينبغي أن يعمل فيه الناس جميعًا في هذا العالم من أجل سلام عالمي شامل يضع النقاط على الحروف، ويزيل كل أسباب التوتر والعداوة والحروب... هذه هي المساجد في الإسلام، وهذه هي منطلقاتها، وهذه هي رسالتها، وهذه هي فلسفتها، ولقد أحسن الرئيس الأمريكي صنعًا عندما وقف إلى جانب بناء المسجد والمركز الثقافي الإسلامي في مانهاتن، ولقد أحسن صنعًا بوقوفه في وجه التعصب الأعمى، وفي وجه التطرف والعنصرية، كما أحسن صنعًا بالوقوف إلى جانب الدستور الأمريكي نفسه، وإلى جانب الجالية المسلمة في أمريكا، هذه الجالية التي تتعرض لكثير من الظلم منذ مدة طويلة؛ فهل يكون هذا الموقف نقطة تحول في نظرة من يحاربون المساجد، ويمنعون بناءها في بعض بلدان هذا العالم، وهل يكف المسيئون الذين يعرقلون بناء المساجد عن إساءاتهم؟ وهل يعودون إلى رشدهم وصوابهم؟ نرجو ذلك.              

19/8/2010