عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ١٢ تموز ٢٠٠٨

الإمام الشافعي

من أعلام الإسلام

الإمام الشافعي

عدنان السمان

مولده ونسبه :

   هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف ، ولد في غزه بفلسطين سنة مئة وخمسين للهجرة سنة وفاة أبي حنيفة ، وكان أبوه قد خرج إليها في بعض شأنه ، ومات فيها بعد مولد ولده هذا بزمن قليل ( كما حدث قبل ذلك أن مات فيها جد الرسول الأعظم هاشم بن عبد مناف) فتوجهت به أمه إلى عسقلان ، ومن ثم إلى مكة حتى لا يضيع نسبه ،  وحقه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى، وكان آنذاك ابن عامين ، وقد قيل إن اسمها فاطمة، وأنها من نسل علي (كرم الله وجهه)ويلتقي الشافعي بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في جده التاسع الذي هو الجد الثالث للرسول الكريم ، وقد تزوج جده هاشم بن المطلب بن عبد مناف "الشفا" بنت عمه هاشم بن عبد مناف ، فولدت له عبد يزيد، وهكذا كان الهاشمان جدين للشافعي، وكان الشافعي ابن عم النبي ,وابن عمته أيضًا ، ولقي شافع بن السائب النبي أيضًا وهو مترعرع ، وإلى شافع ينسب محمد بن إدريس ، فيقال:الشافعي؛ فهذان جدان له صحابيّان ، ولقد كانت أم السائب أيضًا من قريش ؛فهي الشفا بنتُ الأرقم بن هاشم بن عبد مناف . وأمها خليدة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف..وأم علي بن أبي طالب هي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف؛ولهذا كان الشافعي يقول :علي ابن عمي، وابن خالتي ، ولقد تزوج الشافعي حميدة حفيدة عثمان بن عفان (حميدة بنت نافع بن عيينة بن عمرو بن عثمان بن عفان).

   أظهر الشافعي نبوغًا مبكرًا ، وأُدخل الكتّاب في مكة ، وكان فقير الحال لا يقوى على دفع أجرة المعلم ، ومع ذلك فقد تعلم القرآن كله ، وجوّده ، وهو في السابعة من عمره .. ولازم المسجد الحرام يسمع، ويفهم، ويتعلم، ويحفظ، ويدوّن، ويهتم بالقرآن والسنة غاية الاهتمام، ويأخذ عن مفتي المسجد الحرام عبد الله بن عباس علمه وفقهه،كما كان يأخذ عن غيره حتى أحاط بعلوم مكة كلها ، وحتى أصبح محط أنظار أهلها ، وموضع تقدير علمائها واحترامهم ، حتى إذا ما بلغ الثالثة عشرة من عمره أصبح له في المسجد الحرام شأن وأي شأن، فكان قارئًا مجيدًا للقرآن، وشارحًا ومفسرًا لآياته البينات ، وإمامًا للمصلين فيه إذ كان أقرأهم وأحفظهم لكتاب الله، ولكنه - مع ذلك- لم يقبل بممارسة الإفتاء بعد أن أذن له مسلم بذلك، ولم يكن قد بلغ العشرين ، وفضل أن يظل طالب علم يتفقه في الدين، ويتفقه في لغة العرب،ويتقن آدابها وصرفها ونحوها ، يقول حفيده محمد (ابن ابنته): أقام الشافعي على تعلّم العربية وأيام الناس عشرين سنة، وقال إنه لم يرد بذلك إلا الاستعانة على الفقه.

   حفظ الشافعي في أثناء إقامته في هذيل عشرة آلاف بيت من الشعر بإعرابها ومعانيها وألفاظها وغريبها عندما كان شابًّا في مقتبل العمر، يقول الأصمعي:"قرأتُ ديوان الهذليين على شاب من شبان قريش يقال له محمد بن إدريس الشافعي . هكذا تمكن الشافعي من العربية كل التمكن، وهكذا كانت العربية عجينة طيّعة في يده نفَّذ من خلالها مشروعه الفقهي الضخم ، بل وسخّرها في خدمة كتاب الله ، وسنة نبيه محمد عليه السلام.        

أخلاقه وفروسيته وفصاحته:

   كان الشافعي زوجًا مخلصًا ، وأبًا حانيًا ، وكان كريمًا سخيًّا شهمًا جوادًا، وكان صادقًا فارسًا مقدامًا ثابت الجنان وسيمًا ضامرًا يحب ركوب الخيل ، وكان راميًا عالما يقول أبو عبد الله :"وكانت همتي في شيئين الرمي والعلم . فصرت في الرمي بحيث أُصيب من عشرة عشرةً ، ثم سكت عما صار إليه في العلم، فقالوا : أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي . وقال:" كنت ألزم الرمي حتى كان الطبيب يقول لي أخاف أن يصيبك السل من كثرة وقوفك في الحر". وكان الشافعي رياضيًّا يحارب البدانة قال : "ما أفلح سمين إلا محمد بن الحسن،وذلك لأن العاقل لا بد أن يهتم لمعاده أو لمعاشة. وشدة الاهتمام مانعة من السمن " وقال:" ما شبعت من سبع عشرة سنة إلا شبعة طرحتها لساعتي وقال:" ما كذبتُ، وما حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا ، وما شبعت منذ عشرين سنة ". ومن أقواله:" الكرم والتقوى إذا اجتمعا في شخص فهو حر". ومنها:"أرفع الناس قدْرًا من لا يرى قدْره ، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله". ومنها:" من لا يحب العلم فلا خير فيه ، ولا ينبغي أن يكون بينك وبينه معرفة". ومنها :"لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح ". ومنها:"من برّك فقد أوثقك ، ومن جفاك فقد أطلقك ".و"ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته "و" من لم تنفعك صداقته  فلا تهتم بعداوته " و"لا تقصر في حق أخيك اعتمادًا على مودته". " ومن أقواله :" ليس إلى السلامة من الناس سبيل ؛فانظر ما فيه صلاح نفسك، ودع الناس وما هم فيه". و "لا ينفعك من جار السوء التوقي ". وقوله:" من عف أمن, ومن شرهت نفسه طال همه.. وأظلم الظالمين لنفسه الذي إذا ارتفع جفا أقاربه ، وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف، وتكبر على ذوي الفضل" وقوله :" إذا أيسر الرجل بعد الإفقار شرهت نفسه إلى أربع : ينتفي من ولي نعمته ، ويتسرى على امرأته ، ويهدم داره، ويبني غيرها" . و" من كتم سره كانت الخيرة في يده " . وقوله: " ليس العاقل الذي يختار بين الشر والخير فيختار؛ إنما العاقل الذي يقع بين الشرَّين فيختار أيسرهما" . وقوله: " أربعة أشياء قليلها كثير : العلة ، والفقر ، والعداوة ، والنار" و" مَن نمَّ لك نمَّ بك ؛ ومن نقل إليك نقل عنك ، وإذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك ، وإذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك " و" إن قبول السعاية أضر من السعاية" ومنها شعرًا :

"إذا هبت رياحك فاغتنمها                           فعقبى كل خافقة سكونُ

   ولا تغفل عن الإحسان فيها                        فلا تدري السكون متى يكونُ

ولم يكن الشافعي ليغفل الحديث في الأفاكيه مثل قوله : " كان لرجل ابن أبله ,فبعثه يومًا يشتري حبلاً طوله ثلاثون ذراعًا فقال الابن لأبيه:في عرض كم؟ قال الأب: في عرض مصيبتي فيك ".

بين يدي الرشيد:

        كتب إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد أحد قُواده في اليمن يحذره من بعض العلويين بينهم رجل يقال له " محمد بن إدريس الشافعي" فأمر الرشيد أن يُحملوا إليه وكان يومها في الرقة بسوريا ، وكان يتردد عليها ويقيم فيها بين حين وآخر، ومع أن الرشيد كان من أعظم خلفاء الإسلام ، وأكثرهم تسامحًا وورعًا وعلمًا وشجاعة ، ومن أشدهم اهتمامًا بالسياسة والفنون والآداب والعلوم .. ومع أنه الخليفة الذي كان يغزو عامًا ويحج عامًا إلا أنه كان فاتكًا كاسرًا عندما يتعلق الأمر بدولته وأمنها ، وسلامتها داخليًّا وخارجيًّا وعلى كل صعيد ... وهكذا سيق الشافعي - في قيوده- مع تسعة من العلويين , وكان يومها في الرابعة والثلاثين" سنة 184 هجرية" وقد روى الشافعي حكاية المحاكمة فقال: " وضُربت أعناقهم واحدًا واحدًا إلى أن بقي حدث علوي من أهل المدينة وأنا فقال للعلوي : أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا أصلح للخلافة؟ فقال العلوي : لن أدعي ذلك ،أو أقوله . فأمر بضرب عنقه . ويضيف الشافعي : " ثم قدمت ،ومحمد بن الحسن جالس معه ، فقال لي مثل ما قال للفتى . فقلت : يا أمير المؤمنين لستُ بطالبي ولا علوي ،وإنما أُدخلت في القوم بغيًا عليّ ، وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف بن قصي ، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه . والقاضي " محمد بن الحسن يعرف ذلك " وأنا محمد بن إدريس بن عثمان بن شافع بن السائب ... بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف " . فقال له : أأنت محمد بن إدريس ؟ لم يذكرك لي محمد بن الحسن ، ثم التفت إلى محمد قائلاً : ما يقول هذا ؟ قال محمد : هو كما يقول ، وله من العلم محل كبير ، وليس الذي رُفع عليه من شأنه ...وهكذا نجا الشافعي من القتل في موقف رهيب كان له أكبر الأثر في حياته ، وإن لم يشر إليه فيما بعد إلا نادرًا ، وهكذا أقنع الشافعي الرشيد ببراءته مما نسب إليه بعد أن ضمن القاضي إلى جانبه، وبعد أن وضّح للرشيد أن نسبه الذي يتناهى إلى عبد مناف كنسب الرشيد ، وكان المطلب جد الشافعي , وهاشم جد الرشيد أخوين متناصرين قبل الإسلام، كما كان أخواهما الآخران نوفل وعبد شمس- جد بني أميه أعداء بني العباس- أخوين متناصرين قبل الإسلام ، وتكفل المطلب بابن أخيه عبد المطلب بعد إذ مات أبوه هاشم. والرشيد يعلم جيدًا أن جدود الشافعي كانوا دائمًا أنصار جدوده ، وأنهم كانوا معهم حربًا على جدود بني أميه و... وهكذا ثبتت البراءة ، وأمر الرشيد له بعطاء قدره خمسون ألفًا ، فأخذها الشافعي لأنها من أموال المسلمين يعيد الخليفة توزيعها عليهم .. ولكنه رفض هدية "هرثمة بن أعين " وهو من كبار قادة الرشيد قائلاً : إني لا آخذ الهدية ممن هو دوني !! وهكذا أيضًا ردت هذه الصدمة والتجربة القاسية الشافعيّ إلى البيت العتيق ليخدم كتاب الله، وسنة نبيه عليه السلام.

     

أسفاره :

    عاش الشافعي أيام يفاعه بمكة والبادية بعد أن كانت أمه قد حملته من غزة التي وُلد فيها إلى عسقلان ، ومنها  إلى مكة ، ومن ثم توجه إلى المدينة ، وقرأ موطـَّأ مالك بن أنس ، وأقام نحو عشر سنوات يستمع إلى شروح أستاذه الذي قال فيه : ما أتاني قُرشيّ أفهم من هذا الفتى (يقصد الشافعي)  وبهذا أضاف علم أساتذته الستة بالمدينة إلى علم أساتذته الخمسة الذين روى عنهم بمكة .. ومع كل المؤهلات التي اجتمعت في الشافعي إلا أنه لم يجلس للإفتاء في المدينة أو في مكة بعد إذ مات مالك بن أنس ، ولكنه راح يجمع إلى علم الحجاز علم اليمن ، وعلم الشام ، وعلم مصر عن طريق اثنين من الأربعة الذين روى عنهم من اليمن ، ويقرر الشافعي بعد هذا كله أن يضع يده على فقه العراق ، فيكون له ذلك.

    ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الشافعي قد عمل في اليمن مع الوالي الذي أسند إليه القيام بأعمال كثيرة في نجران ، وقد حصل بسبب ذلك على مال وفير ، وفي هذا يقول أحد تلاميذه : قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار ، فضرب خباءه خارجـًا من مكة ، فكان الناس يأتونه فيعطيهم ، فما برح حتى فني الذهب..ولم يكن لديه يوم سيق إلى الرشيد إلا خمسون دينارًا.

     لقد وضع الشافعي يده على فقه العراق وكتبه .. لقد تمكن من فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النُعمان، بعد أن تمكن من فقه الإمام مالك بن أنس في الحجاز، الأمر الذي لم يُتـَح لأحد من قبل "لقد صار في الرابعة والثلاثين من حياته  - يقول الأستاذ عبد الحليم الجندي - وفي يده كل علم العراق ، وهو شأو لم يبلغه أستاذه مالك ، كما لم يكن عند مدرسة العراق وأساتذتها سنن الحجاز كلها من مكة والمدينة ، وقد تجاوز في هذا أبا حنيفة .. وهكذا بلغ أعظم مبلغ من الدراسة لنفسه قبل أن يتصدى للتدريس للناس .. بل هو قد طاولهما وساجلهما فسبقهما في حلبة اللغة . والسبق بها ضرورة للاجتهاد. والسبق فيها ذروة تسمو به إلى معارج أعلى لإدراك القرآن والسنة".

  ويعود الشافعي إلى مكة بعد أسفار كثيرة شاقة مكـّنته من علوم الحجاز والعراق واليمن والشام ومصر.. وهكذا وضع الشافعي حجارة الأساس لاستنباط الفقه الإسلامي من القرآن والسنـّة على منهاجه الذي دوّنه بمكة ، وأذاعه في العراق ، واتخذ مصر قاعدة لنشره في العالم.

    وهناك في فناء زمزم بمكة المباركة رئس محمد بن إدريس الشافعي حلقة كانت في انتظاره منذ بضعة عشر عامًا ، لم تشهد لها مكة مثيلاً  منذ عهد عبد الله بن عباس.  يقول عبد الحليم الجندي في كتابه " الإمام الشافعي .. ناصر السنـّة .. وواضع الأصول" : إن الشافعي كان أقدر الأئمة في تفسير القرآن ، وأوضحهم حجة فيما فسّر معتمدًا على الأخبار الثابتة ، والبرهان الذي يؤدي إليه اللسان العربي ، مزوَّدًا بأشعار العرب ، وآثار السلف من الصحابة والتابعين .. وكانت في حوزته كتب العراقيين ، فعكف على مراجعتها  وتفنيد ما يستحق التفنيد منها .. وبدأت تأخذ الطريق إلى الظهور مدرسة جديدة في الفقه . إنها المدرسة التي جمعت كل ما سبقها من فقه الإسلام والمسلمين ، وفقه لغة العرب ، وأشعارهم وثقافتهم .. إنها مدرسة الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه.

 

الشافعي فقيهـًا :

  لئن شرط العلماء في المُفسر شروطـًا كثيرة منها العلم باللغة ، والنحو ، والصرف ، والاشتقاق ، والمعاني ، والبديع ، والقراءات ، والأصول ، وأسباب النزول ،والناسخ والمنسوخ ، والحديث ، والفقه ، فإن الشافعي قد درس ذلك كله ، كما درس كل علم وجده ، ووقعت عليه يداه ، أو سمعه ، أو بصره شيعيّـًا كان كمقاتل بن سليمان أو معتزليّـًا كإبراهيم بن أبي يحيى ، أو حنفيًّـًا كمحمد بن الحسن ... لقد اجتمعت كل هذه الثقافات ، والتقت كل هذه العبقريات في هذا الإمام الذي كان يقول : (من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك ، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة ، ومن أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان الذي مات بالبصرة سنة مئة وخمسين للهجرة بعد أن وضع عددًا من المؤلفات منها : التفسير الكبير : كتاب الناسخ والمنسوخ ، تفسير الخمسمئة آية ، كتاب متشابه القرآن ، كتاب نوادر التفسير ، كتاب الجوابات في القرآن ، كتاب الوجوه والنظائر ، كتاب الرد على القدرية ، كتاب الأقسام أو اللغات ، كتاب التقديم والتأخير ، كتاب الآيات المتشابهات !!

    ومما قاله فيه عارفوه : كان إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل ، وذكروا أنه قال : نظرتُ بين دفتي المصحف ، فعرفت مراد الله تعالى من جميع ما فيه إلا حرفين أشكلا عليّ (ونسي الراوي الحرف الأول ، وتذكـّر أن الثاني كلمة " دسـّاها" في قوله تعالى " وقد خاب من دسـّاها" فإني لم أجده في كلام العرب . ثم قرأت لمـُقاتل بن سليمان أنه لغة السودان وإن دسـّاها أغواها.  كان الشافعي يرى الإمامة في قريش كما يراها الجمهور ، وأبو حنيفة ، ومالك ، وابن حنبل .. حذّث الشافعي في الأم " أن قتادة بن النعمان وقع بقريش فكأنه نال منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مهـلاً يا قتادة ، لا تشتم  قريشـًا ، فإنك لعلك ترى منها رجالاً ، أو يأتي منها رجال ، تحتقر عملك مع أعمالهم ، وفعلك مع أفعالهم ، وتغبطهم إذا رأيتهم ..لولا أن تطغى قريش لأخبرتـُها بالذي لها عند الله ".

   قال رجل في مجلسه : ما نفر الناس من علي إلا لأنه كان لا يبالي بأحد . فقال الشافعي :

كان فيه أربع خصال مااجتمعت خصلة واحدة لإنسان إلا ويحق له ألا يبالي بأحد : كان زاهدًا والزاهد لا يبالي بالدنيا وأهلها . وكان عالمـًا والعالم لا يبالي بأحد . وكان شجاعـًا والشجاع لا يبالي بأحد . وكان شريفـًا والشريف لا يبالي بأحد.

    لقد أحب الشافعي آل البيت ، وفي هذا يقول :

      إن كان رفضـًا حبُّ آل ِ محمدٍ         فليشهد الثقلان أني رافضي

     يقول الشافعي : " رأيت وأنا باليمن في المنام كأني جالس في  سواء الطواف ، إذ قيل هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقمتُ إليه ، وسلمتُ عليه ،وصافحته ، وعانقته . فخلع خاتمه من إصبعه ، فجعله في إصبعي ، فلما أصبحتُ قلت ..جئني  بالمعبر..فقال : أبشر ..أما رؤيتك عليـًّا في المسجد الحرام فإنها النجاه من النار ، وأما مصافحتك إياه فالأمان يوم الحساب ، وأما نقله الخاتم في إصبعك فسيبلغ اسمك في الدنيا حيث يبلغ اسم علي بن أبي طالب" .

    كان الإمام  أحمد بن حنبل يجلـّه كل التجلـّة ، ويحضر حلقات درسه ، ويعجبه في نقاشه احتجاجه بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بينما يحتج غيره- أحيانًا – بأقوال الفقهاء ، وكان يجادل بنصوص الكتاب ، وبنصوص الأحاديث والسنن .. وكان اسحق بن راهويه يجلـّه – بعد أن أخطأ بحقه – ويقول : "لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث " . وكان يقول أيضـًا : " كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع ، حتى رأينا الشافعي ، فكان أفقه الناس في كتاب الله وسنة رسول الله " .

    وفي فناء زمزم جاءه كتاب عبد الرحمن بن مهدي بن حسـّان شيخ المحدثين بالعراق يلتمس أن يضع كتابـًا يذكر فيه معاني القرآن ، وشروط قبول الأخبار ، وحجة الإجماع ، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرأن والسنـّة ، فوضع له كتابـًا سمي فيما بعد " الرسالة" وضع فيها منهاجه في أصول الفقه لاستنباط الأحكام من القرأن . وما تزال حتى اليوم كما وضعها الشافعي  لم يزد عليها الفقهاء شيئـًا مذكورًا.

12\6\2008

 

 



Need to know now? Get instant answers with Windows Live Messenger. IM on your terms.

ليست هناك تعليقات: