التقرير...
أ.عدنان السمان
ليس المقصود بالتقرير هنا رائعة محمد الماغوط التي أضحكت العالم العربي وأبكته في أواخر القرن الماضي ، وإنما المقصود هنا ما كتبه الزميلان وليد أبو سرحان وعزيز العصا عن البلدة القديمة من مدينة الخليل ، وما يعانيه أهلها من شظف العيش ، واعتداءات المعتدين الذين فرضوا أنفسهم بشكل رسمي على هذه البلدة وسكانها منذ العام (1980) ثمانين وتسعمئة وألف ، حيث وضعوا أيديهم على مبنى الدبوية والمستوصف بدعوى ملكيتهم لهذه الأماكن ، وإن كانوا قبل ذلك يترددون على هذه المنطقة يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع .. ومما زاد الطين بلة صدور القرار العسكري بإغلاق البلدة القديمة في وجه أهلها ، وإغلاق محالهم التجارية ، وإزالة بسطاتهم ، ومنع سياراتهم من الحركة ، وبمعنى آخر فرض منع تجوال كامل ودائم على هذه البلدة القديمة منذ أن نفـّذ ( جولدشتاين) مجزرته فجر الخامس عشر من شباط من العام أربعة وتسعين وتسعمئة وألف .. ولا يزال هذا القرار ساريـًا حتى اليوم ... لقد وصف هذا التقرير الذي نشر في " القدس" مؤخرًا كثيرًا من آلام أهل هذه البلدة القديمة من مدينة الخليل ، وتحدث عن معاناتهم ، وفقرهم ، والمخاطر المحدقة بهم ، والاعتداءات التي يتعرضون لها ، كما تطرّق التقرير لكثير من أشكال المضايقات ، والاستفزازات والإهانات التي يتعرض لها أولئك المواطنون على أيدي نفر من المستوطنين (500 مستوطن) ومن ورائهم جيش الاحتلال الذي يساندهم ، ويؤازرهم ، ويحمي كل تحركاتهم ، ووجودهم غير الشرعي في هذه البلدة ، وفي غيرها من كل مدن هذا الوطن ومخيماته وقراه .
لستُ هنا لألخص ما جاء في هذا التقرير ، أو لأعيد شيئـًا مما جاء فيه ، ولكنني هنا - وقد صدمني الواقع المرير الذي تحدث عنه التقرير بسبب عدم زيارتي للخليل منذ مدة طويلة - أرغب في تسجيل بعض الحقائق التي تلحُّ عليّ ، وتحرّك القلم بين أصابعي ليكتب بملء الثقة والإصرار :
لقد كان كثير من الناس يتوقعون أن يفعل المحتلون أفاعيلهم بالخليل عندما كانوا في طريقهم إليها في الساعات الأولى لحرب الخامس من حزيران 67 ، ولكن شيئـًا من هذا لم يحدث بفضل الله تعالى أولاً وقبل كل شيء ، وللحكمة التي تحلى بها سماحة الشيخ محمد علي الجعبري رئيس البلدية آنذاك .. وهكذا مرت تلك الأيام العصيبة وقد تساوت فيها الخليل مع غيرها من مدن الضفة الغربية التي احتـُلَّت يومها ، بل إن الاحتلال كان أشدَّ وقعـًا على قلقيلية التي شُرَّد عنها أهلها بالكامل ، وهدمت معظم بيوتها ، ولم يعد إليها بعض أهلها إلا بعد جهود جبارة بذلها عدد من وجهاء البلاد لدى السفارة الأمريكية وغيرها أذكر منهم المرحوم الشيخ سعيد صبري قاضي القدس الشرعي ، والمرحوم حمدي كنعان رئيس بلدية نابلس ، والمرحوم الحاج حسين صبري رئيس بلدية قلقيلية آنذاك ، والمرحوم يوسف رضا مدير مكتب وكالة الغوث في نابلس ، والكاهن صدقة كاهن الطائفة السامرية في نابلس ، والمرحوم الشيخ هاشم صبري الذي اتخذ من عزون (شرقي قلقيلية) مقرًّا لإقامته التي كان يشرف فيها على توزيع المواد التموينية على الأهالي هناك ، كما كان يعلن في إصرار : (لن نرضى عن قلقيلية بديـلاً ) عندما كان المحتلون يومها يعرضون على الناس أن يوطّنوهم في تلك المنطقة القريبة من قلقيلية .. وهكذا عادت نسبة كبيرة من أهالي المدينة إليها .. كما عاد آخرون من الأردن عبر وادي الأردن تسلـّلاً .. وضمن عمليات جمع الشمل فيما بعد ... بل إن مأساة قلقيلية لم تكن شيئـًا مذكورًا بجانب مأساة عمواس وقرى اللطرون التي دمرت ، ولم يعد أهلها إليها حتى اليوم !!!
لقد استحدث المحتلون في الخليل مكتبًا للعمل ، وفتحوا المجال لاحقـًا للعمال على مصراعيه للعمل في الداخل ، وهكذا أخذت أحوال الناس المادية تتحسن ، وقد استحدث المحتلون مكاتب للعمل في سائر مدن الضفة الغربية على غرار مكتب الخليل ، وما يقال في الحركة العمالية هناك يقال أيضـًا في سائر مدن الضفة الغربية ، وقطاع غزة .
لا أحد من أهل هذه البلاد ينسى أن المحتلين ومنذ الأيام الأولى لعدوان حزيران قد ضموا القدس الشرقية إلى الغربية التي احتلوها عام 48 ، وأعلنوا القدس الموحدة عاصمة لهم ، ولا يزالون متمسكين بهذا حتى اليوم .. ولا أحد من أهل هذه البلاد ينسى أن شهية المحتلين للاستيطان ، وبناء المستوطنات قد تفتّحت منذ سنيّ الاحتلال الأولى .. فأخذوا يصادرون الأراضي ، ويقيمون المستوطنات على رؤوس الجبال أولاً ، ثم على سفوحها ، ثم على جوانب الشوارع ، ثم قاموا باستحداث شوارع جديدة واسعة وعصرية تربط مستوطناتهم بعضها ببعضها الآخر ، وتحاول عزل القرى العربية بعضها عن بعضها الآخر ، وتعزلها عن مدنها كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً .. وفي الوقت نفسه أخذت ببناء الأحياء الاستيطانية في القدس الشرقية ، فأقامتها في الشمال ، وفي الشرق ، ثم في الجنوب ، ثم في شرق الشرق حتى أصبحت القدس الكبرى تمتدّ من موديعين غربًا لتلامس مياه نهر الأردن شرقًا، ومن غوش عتصيون جنوبًا إلى شيلو(قرب اللبّن الشرقية) شمالاً!! إضافة إلى ما يراه الرائي يوميّـًا من هذا التوسع الرهيب في مستوطنة جبل أبو غنيم ، ومستوطنات بيت لحم ، والخليل، ونابلس ، وقلقيلية ، والأغوار ... ولقد تنبّه المحتلون إلى ضرورة الاستيطان داخل الخليل كي يصنعوا منها – مع الأيام – مدينة مختلطة ، مثل القدس ، وكان لهم ذلك قبل نحو ثلاثين عامًا ... وهكذا وضعوا إسفينهم في الخليل ، كما وضعوا أسافينهم من قبل في القدس ، وكما وضعوا أسافينهم وبواباتهم ومعابرهم بين المدن المختلفة ، ففصلوا القدس عن محيطها العربي ، وعن قراها التي كانت حتى عهد قريب ضواحي لا تنفصل عنها ، وفصلوا القدس عن الرام ، وعن رام الله ، كما فصلوا القدس عن بيت لحم ، وعن الخليل ، وكما فصلوا نابلس عن كل ما ذُكر !! وفصلوا قلقيلية وطولكرم عن نابلس ، وفصلوا كل ما ذُكر عن جنين !!! لقد أصبحت المستوطنات هي الأصل ، وأصبحت المدن العربية ، والقرى العربية هي الاستثناء !!!
ومع كل هذا ، فقد كان المحتلون يخوضون صراعًا داميًا عنيفـًا مع الأهالي في الضفة الغربية وقطاع غزة .. لا يصادرون قطعة أرض إلا وتقوم قيامة الناس هنا وهناك .. ولا يشرعون في بناء مستوطنة إلاّ وتضطرب البلاد من أقصاها إلى أقصاها .. ولا يعتدون على مواطن في رفح أو خانيونس أو غزة إلا وتهيج لذلك كل مدن الضفة وقراها ومخيماتها .. ولا يعتقلون مواطنـًا في جنين أو قباطية أو طوباس إلا وسارت مظاهرات الغضب والاحتجاج في كل مدن البلاد .. ولا يفرضون ضريبة إلا كانت الإضرابات، والإغلاقات ، وأعمال الاحتجاج من أقصى الوطن إلى أقصاه ... ومَن من الناس ينسى ما قامت به بلدية نابلس وعلى رأسها بسام الشكعة التي انتخبها الناس في 12/نيسان/1976 من مقاومة عنيفة للاحتلال والاستيطان ؟ ومن من الناس ينسى مواقف أمين النصر في قلقيلية ، وكريم خلف في رام الله ، والطويل في البيرة وغيرهم في كل مدن الوطن ؟ لقد كانت المقاومة الشعبية هي الرد على مطامع المحتلين والمستوطنين .. ولعل الانتفاضة الأولى كانت أبلغ رد على مطامع المحتلين .. لقد تمرد هذا الشعب الأعزل على الاحتلال حتى كاد أن يحقق الانتصار !!
لابد من القول إن أمر حماية المواطنين ، وحماية ممتلكاتهم ومحالّهم التجارية في البلدة القديمة من الخليل، وفي غيرها من بلدات الوطن ومدنه وقراه تقع على عاتق السلطة الفلسطينية ، ولا بد من القول إن هذه السلطة هي المسئولة عن أمن المواطن وأمانه ، و إن المفاوض الفلسطيني هو المسئول عن كل ما يجري في هذه البلدة القديمة من الخليل وفي غيرها من مدن القدس ونابلس وبيت لحم ، وكل مدن هذا الوطن ومخيماته وقراه .. السلطة الفلسطينية والحكومة الفلسطينية ، والمفاوض الفلسطيني ، ومنظمة التحرير الفلسطينية كل هؤلاء مسئولون رسميًّا عن كل ما جرى منذ العام أربعة وتسعين وتسعمئة وألف ، وحتى يومنا هذا .. وكل هؤلاء مسئولون أيضـًا عن كل ما يجري ، وعن كل ما سيجري في الخليل وفي القدس ونابلس ، وفي كل مدن الوطن وقراه ومخيماته ، وهم جميعًا مسئولون عن ملف الأسرى ، وملف اللاجئين ، وكافة الملفات الساخنة على أرض هذا الوطن .. إنهم المسئولون عن أمن الوطن وسلامته ، وعن أمن المواطن وأمانه ، وسائر حقوقه في العيش بحرية وكرامة فوق تراب وطنه فلسطين .
13/6/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق