طول المراس وذكاء المبدع اجتمعا
في إصدار عدنان السمان الجديد
د. حسن عبد الله
لا تحتاج إلى كثير من الجهد لتكتشف حينما تقرأ إصدار الكاتب عدنان السمان الجديد الذي حمل عنوان "زمن التيه" أنك في حضرة كاتب جمع بين تجربة حياتية غنية وقلم صقله المراس، وبين تميز في التقاط اللحظة الإبداعية وتوظيفها بذكاء مدهش . فالتجربة وحدها كما يقول الروائي الكبير حنا مينه لا تصنع كاتبًا أو أديبًا، ومراس الكتابة يصبح صنعة، إذا لم ترعه موهبة تشكل حاضنة للإبداع.
لقد جمع السمان بين دفتي كتابه الصادر عن دار الفاروق، تجربة حياتية فيها كثير من المعاناة والألم، وفيها كثير أيضًا من الحلم الذي لا يقف عند حدود مرحلة معينة من العمر، وبخاصة عندما يحلق هذا الحلم على جناحي الإبداع في عالم الكاتب، وفي عالمِ شعبه، ليتداخل العالمان، ليتمازجا، ويتحدا، ليصبحا عالمًا واحدًا متكاملاً، حيث يتغذى الخاص من شريان العام وبالتالي يغذيه ، في إطار جدلية الحياة التي هي مصدر ولادة إبداعية مستمرة . لأن عالم الكاتب إذا ما تم عزله بين جدران الذات، يحصر الكتابة في مذكرات شخصية قد تعنينا أو لا تعنينا، أما إذا انفتحت الذات انفتاحًا منتجًا على الواقع الموضوعي، يغدو الإبداع متألقًا يلبس تاج التميز، محميًّا بذاكرة المبدع التي هي جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية الشعبية.
كتاب اختزنت صفحاته الـ (215) حياة، ومراحل تاريخية حفرت في ضمير الكاتب ، ليعبر عنها من خلال نصوص تشبه نابلس وهي تعاني من الحصار وانسداد الأفق الاقتصادي، وتتماهى مع رام الله حين تحاول رفع رأسها أعلى من ضجيج الحياة، وتعبق حواري القدس القديمة برائحة الزعتر البلدي ، وتشرب حتى الثمالة من التمر هندي المصنع بأيد مقدسية خبيرة. كل هذا تستطيع أن تستشفه من قراءتك الأولى، لكنك تحتاج إلى قراءة ثانية للكتاب، وإن بادرت إلى ذلك، فإنك بالطبع ستخرج من دائرة الانطباعات الأولية التي هي في كل الأحوال صحيحة، إلى الدائرة المهنية ، بمعنى التعرف على الأساليب والتوجهات الكتابية التي استعملها ووظفها الكاتب في خدمة قضيته العادلة بشكل مباشر تارة، وعن طريق الإيحاء تارة أخرى ، حيث تستوقفك اللغة، بقوتها ودلالاتها، ورشاقتها حينما يتطلب النص امتطاء حصان العدو، حيث تنطلق الكلمات على سجيتها دون تكلف أو افتعال، إنها لغة قادرة على التعبير بسلاسة كما الكتّاب الكبار الذين لا يجهدون أنفسهم وهم يلهثون خلف الكلمات، وقد بحت أصواتهم، وتقطعت حبالهم الصوتية.
تفرحك لغة السمان وتشعرك بالسعادة، لأنك تكتشف أنه ما زال يعيش بيننا أناس مؤتمنون على اللغة العربية، التي هي كل واحد منا، كما قال الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش " أنا لغتي" لذا كانت لغة "زمن التيه" تساوي مساحات مهمة في شخصية السمان.
أما ما يلفتك بعد اللغة ذلك التنوع في العناوين والمعالجات، ما بين سياسة وأدب ونقد اجتماعي، ما بين وجع الذات ووجع الوطن، وبالتالي وجع النصوص، فهل تكرار ألم الوجع فيه نوع من المبالغة؟ الجواب بالنفي، لا سيما إذا كان كل شيء يتوجع على أرض هذا الوطن، فالوجع هو الإطار العام الجامع، واللاوجع هو الاستثناء.
السمان ، ما إن صدر كتابه حتى حمله إلى رام الله وبيت لحم، وإلى مدن وبلدات فلسطينية أخرى، يهديه لكل من يقرأ ويحترم الكتاب لا ينتظر ثمنًا أو مكافأة أو مديحًا، بقدْر ما سعى إلى إيصال فكره وعصارة تجربته، أملاً أن يقدم فائدة لمن يتطلع إلى ذلك.
فهل سيجد السمان ما يصبو إليه؟
أطمئنه أنه أصاب ما أراد، ويكفيه هذا، ما يجعلني أتجرأ وأقترح على التربية والتعليم أن تنصح المدارس والطلبة باقتناء الكتاب، لكي يتعرف المعلمون والطلبة على تجربة كتابية تؤكد أن الكاتب الملتزم يظل معطاءً حتى اللحظات الأخيرة من العمر، ما دام قادرًا على الإبحار بقارب إبداعه في بحر الحياة حتى لو كان البحر مضطربًا والموج صاخبًا مجافيًا للإبحار، وحتى لو اعترضت مسيرته قوارب أخرى أبحرت من باب الفضول أو تزجية الوقت، أو من أجل خلط الحابل بالنابل على خريطة الإبحار، لكن عبثًا ، فالقارب الأَصيل المصنَّع جيِّدًا يوصل ربانه إلى بر الأمان، أما القوارب الركيكة الدخيلة فستظل تصارع دوار البحر إلى أن يبتلعها.
5/1/2008
Need to know now? Get instant answers with Windows Live Messenger. IM on your terms.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق