عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ٢٣ تموز ٢٠١١

في ذكرى ثورة يوليو

 متابعات
في ذكرى ثورة يوليو
مهداة إلى الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل))
عدنان السمّان 
   ليس غريبًا أن يثور الإنسان عندما تُنتهك كرامته، وعندما يُعتدى على وطنه، أو قيمه، ومثله العليا، ومعتقداته، ومقدساته، وعندما يغتصب أحدٌ أو جهة أو هيئة أو دولة حقًّا من حقوقه الشخصية ، أو حقًّا من حقوق شعبه، أو أمته، ليس غريبًا أن يثور الإنسان عندما يحدث شيء من هذا، أو شيء شبيه بهذا، وعندما يحدث هذا كله، وكثير غيره، بل الغريب أن لا يثور، وأن لا يغضب، وأن يستكين، ويرضى بالضيم والذل والهوان، وكأن الأمر لا يعنيه..وليس غريبًا أيضًا أن تجد هذه الثورة صداها في قلوب كثير من الناس، فتنطلق عند ذلك من عقالها، ومن صدور مفجريها، وحَمَلة ألويتها، لتصبح تيارًا مطلبيًّا عامًّا، وصوتًا شعبيًّا مدوِّيًا، ورأيًا عامًّا يعكس آمال الأمة وآلامها ورغباتِها الملحّةَ في التغيير والتطوير والتحرير والخلاص من الظلم والاستبداد، والانعتاق من قيود العدوان والتبعية والاستعباد، إلى آفاق العدل والعدالة والاستقلال، والانطلاق بعد ذلك في معارج التطور والتقدم والبناء، إحقاقًا للحق، وإزهاقًا للباطل.. إن الباطل كان زهوقًا .
   وليس غريبًا أن تتصدى كافة القوى والتكتلات المعادية لرغبات الأمم والشعوب، وتطلعاتها نحو الاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي لمثل هذه الثورة ، وليس غريبًا أن يتعرض الأحرار والحرائر لكافة أشكال الضغط والحصار والعدوان، ولكافة أشكال التحريض والتزوير والتهديد، وقلب الحقائق، والإشاعات الخبيثة، والافتراءات التي تحمّل هؤلاء الأحرار مسئولية ما تعانيه الأمة على يد هذه القوى والتكتلات المعادية .. وليس غريبًا أن تلجأ هذه القوى والتكتلات إلى شراء الضمائر والذمم في كل مكان ، وعلى كافة المستويات، ولا سيما بين ذوي الرتب العليا في قيادة القوات المسلحة، والإنفاق بسخاء على كل من يؤيد نهجها، أو يغض النظر عن ممارساتها في أوساط المثقفين والمفكرين وموجهي الرأي العام، مستهدفةً بذلك عزل هؤلاء الأحرار عن القاعدة الشعبية التي يعتمدون عليها، ويلجأون إليها في مواجهة تلك القوى الأجنبية المعادية، ومستهدفة بذلك أيضًا خلق الفتنة، وضرب وحدة الأمة، وعزل الأحرار كلما كان ذلك ممكنًا، وكلما كان ذلك ضروريٍّا لتنفيذ الخطط والمخططات التي تستهدف الأمة في أسمى أهدافها، وفي أعز غاياتها وتطلعاتها وتوجهاتها وأمانيها.
   وإذا كانت هذه- باختصار شديد - هي صورة ما جرى ، وما يجري في هذا الكون مذ كانت المجتمعات والتجمعات ، ومذ كانت التكتلات والكيانات الاقتصادية والسياسية ، ومذ كانت الأمم والشعوب، ومذ كان اليمين واليسار، وقوى الثورة ، والثورة المضادة، ومذ كانت الانقلابات والاختراقات ، ومذ كانت الخيانة والوطنية، ومذ كان العدل والظلم، والصدق والكذب، والخير والشر، ومذ كان البناء والهدم، والقوة والضعف، والكرامة والمذلة، ومذ كانت كافة التناقضات في الأنظمة السياسية، والاجتماعية والاقتصادية في هذا الكون.. فإن ما جرى، وما يجري على الساحة العربية منذ مطلع تاريخ العرب الحديث يشير بوضوح إلى وجود كثير من هذه التناقضات، وكثير من العلل والآفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية على الأرض العربية، وحتى لا نضيع في متاهات الوطن العربي، وفي مجاهله، فإنه يجدر بنا أن نتوقف هنا عند قطرٍ عربي بعينه، ليكون مدارًا للبحث، ومحورًا للحديث، ونموذجًا من الممكن أن يشار إليه، ويعتمد عليه عند البحث والتنقيب في ماضي الأمة، وعند التخطيط لمستقبلها ومستقبل أجيالها على كل الأرض العربية ، كيف لا؟ ومصر هي مصر منذ الفتح الإسلامي، وحتى يومنا هذا، ومصر أيضًا هي مصر منذ بدء الخليقة وحتى الفتح الإسلامي.. مصر هي مصر على الرغم من تأخر دورها النسبي ، وتأثير هذا الدور في السياسة العربية الإسلامية ، وفي الحياة العربية الإسلامية، والثقافة العربية الإسلامية منذ الفتح، وحتى يومنا هذا.. فما الذي يستطيع المرء أن يقوله – بإيجاز شديد – في تاريخ مصر الحديث، وفي الحياة السياسية المصرية، ونحن نعيش اليوم الذكرى التاسعة والخمسين لثورة يوليو التي أطلق شرارتها الأولى الضابطان المصريان الثائران محمد نجيب، وجمال عبد الناصر في اليوم الثالث والعشرين من شهر يوليو تموز من العام (1952) الثاني والخمسين من القرن الماضي.. ما الذي يمكن أن يقوله الباحث والمؤرخ، وما الذي يمكن أن يستخلصه من طبيعة تلك الثورة ، والصعاب التي واجهتها، والمصير الذي آلت إليه، ولماذا؟ وكيف بُعثت وتجددت بعد ذلك في صور أخرى، وأين يقف النظام السياسي العربي اليوم، وما الذي يمكن أن يفعله العرب كي يحافظوا على وجودهم ، وكي يصبحوا قوة فاعلة في التاريخ، وهل يمكن تعميم ما جرى في مصر على سائر أقطار العروبة ، وإلى أي حد ؟.
لقد رفعت تلك الثورة في مصر شعارات التحرر والتحرير ، وشعارات بناء الدولة العربية الحديثة في مصر ، وفي سائر بلاد العرب من المحيط إلى الخليج، وكان من الطبيعي أن تصطدم تلك الثورة بكثير من رموز الإقطاع ، وسيطرة رأس المال ، وقيادات الثورة المضادة وقواها، وأن تصطدم بكثير من دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة ، وبريطانيا، وفرنسا، وكان من الطبيعي أيضًا أن تصطدم تلك الثورة اصطدامًا مباشَرًا بإسرائيل التي تمكنت من غزو مصر بعد أربع سنوات من قيام تلك الثورة المصرية وسنتين من صفقة الأسلحة التشيكية عندما استطاع بن غوريون إقناع حليفيه في لندن وباريس السير أنطوني إيدن، وجي موليه بضرورة إسقاط نظام حكم عبد الناصر في القاهرة، لأنه بات يشكل تهديدًا لأمن إسرائيل ووجودها!! ولأنه بات يشكل تحديًا واضحًا لنفوذ بريطانيا وفرنسا والغرب كله في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وسائر بلاد العرب وأقطار العالم الإسلامي، ودول عدم الانحياز،ولأنه بات يشكل تهديدًا واضحًا للأنظمة العربية المعتدلة، ولأنه بات يفجر الشعور القومي العربي تمهيدًا لقيام الدولة العربية الواحدة الموحدة على كل أرض العرب.                              
وكان العدوان الثلاثي على مصر في التاسع والعشرين من تشرين الأول من العام ستة وخمسين، وكان الرد المصري على ذلك العدوان الثلاثي، وكان تلاحم المقاومة الشعبية في مدن القناة مع القوات المسلحة المصرية، وكان الثبات الأسطوري لقطاع غزة، وكان موقف الاتحاد السوفياتي المؤيد لمصر، ولجيش مصر، ولشعب مصر، وكان الموقف الأمريكي المؤيد لقرار مجلس الأمن بانسحاب القوات المعتدية من أرض مصر، وكان الانسحاب، وكان خروج نظام حكم جمال عبد الناصر من تلك الحرب أشد قوة على الرغم من بعض المكاسب التي حققها ذلك العدوان، والمتمثلة في القوات الدولية التي أصبحت ترابط في مضائق تيران، وحق كافة السفن في المرور عبر قناة السويس.. أما القوات الدولية فقد أمر جمال عبد الناصر بخروجها من المضائق وشرم الشيخ في أواخر شهر أيار من العام سبعة وستين، وأما قناة السويس فقد أُغلقت في وجه كافة السفن بعد أن تعطلت فيها الملاحة بسبب حرب الخامس من حزيران التي أعاد فيها الغرب وحليفته إسرائيل غزو مصر، واحتلال سيناء، وقطاع غزة، والضفة الغربية، وأجزاء من الجولان.. وكانت الاستقالة، وكان التنحي، وكان خروج الأمة العربية في يومي التاسع والعاشر من حزيران، وكانت قمة الخرطوم، ولاءات الخرطوم، وإصرار الأمة العربية على الثبات، وإصرارها على التحرير، وكانت حرب الاستنزاف بعد إعادة تسليح الجيش المصري، وكانت الانتصارات التي حققها هذا الجيش، وكانت الخطط الرامية لاقتحام قناة السويس، وتحطيم خط بارليف الحصين، والوصول إلى سيناء لتحريرها شبرًا شبرًا كما كان عبد الناصر يؤكد في كل خطاباته التي كان يؤكد فيها أيضًا على أن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة... ولكن عبد الناصر يودع هذه الدنيا، ويلفظ آخر أنفاسه (مسمومًا) في الثامن والعشرين من أيلول من العام (1970) لتدخل مصر، وتدخل معها المنطقة العربية كلها، وتدخل معها القضية الفلسطينية مرحلة جديدة هي مرحلة ما بعد عبد الناصر. لقد أحسّ العرب جميعًا في كافة أقطارهم وأمصارهم بالحزن والفجيعة والضَّياع، وانبرى الغرب وحلفاؤه في بلاد العرب لتشكيك الأمة العربية بكل ثوابتها، وبكل مبادئها، وبكل معتقداتها، وبكل مقدس وعزيز وغال لديها، وتوالت الهزات، وتتابعت الصدمات، وكثرت الانهيارات، وتنوعت المؤامرات، وتعددت أشكالها وصورها، وخسرت الأمة كثيرًا من وزنها، وكثيرًا من نضارتها وألقها وتألقها، وخسرت كثيرًا من مواقعها التي بنتها الشعوب العربية في كثير من أقطارها بالعرق والدموع والدماء.. ومع هذا كله، وعلى الرغم من كل هذه الهزات والصدمات والانهيارات إلا أن هذه الأمة لم تفقد الثقة بالمستقبل، ولم تفقد الثقة بالنفس، ولم تفقد الثقة بقدرتها على تجاوز الصعاب، والنفاذ منها إلى تحقيق الأهداف والغايات مهما اشتدت الظلمات، ومهما اشتدت الهجمات، وكثرت الخطط والمخططات والمؤامرات التي استهدفت هذه الأمة في كبريائها، وفي أبسط حقوقها في العيش باحترام في أوطانها.
أما أمريكا، فقد أيقنت أن النظام السياسي في مصر لا يقترب منها إلا بالقدْر الذي يحقق معه أهدافه، فراحت (بعد كثير من التردد، وضبط النفس، وإجراء الدراسات والاختبارات) تناصبه العداء.. وراحت تسلح إسرائيل، وتمدها بأحدث ما في ترسانتها من وسائل هجومية.. وراحت تغدق على إسرائيل من أموال أمريكا ومساعداتها غير المستردة.. وراحت مصر تقترب أكثر من السوفيات، وتستورد أحدث ما في ترسانته من سلاح، بل لقد استقدمت مصر الخبراء السوفيات لحماية العمق المصري من الهجمات الإسرائيلية، والغارات الإسرائيلية خلال حرب الاستنزاف التي أثبتت فيها طلائع القوات المسلحة المصرية وجودها، وكفاءتها القتالية العالية، لقد أقام المصريون حائط الصواريخ للتصدي للطائرات الإسرائيلية المغيرة، ولقد أثبتت كل هذه الإعدادات والاستعدادات جدواها، وآتت أكلها خلال تلك الفترة من حرب الاستنزاف، وخلال عملية عبور الجيش المصري قناة السويس فيما بعد، والسيطرة بالتالي على الضفة الشرقية للقناة، والانطلاق منها نحو سيناء.. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تقود الحرب ضد مصر، وأصبح الفيتو الأمريكي أكبر غطاء لإسرائيل في المحافل الدولية، وفي مجلس الأمن بالذات، وأصبحت إسرائيل في حِلٍّ من الانسحاب، وأصبحت في حِلٍّ من الإدانة، وأصبحت فوق القانون، وفوق إرادة المجتمع الدولي، وفوق رغبة العرب في السلام العادل الدائم الشامل الشريف الذي يعيد إليهم أرضهم المحتلة، وفوق رغبة الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، ورغبتهم في حل قضيتهم حلاًّ عادلاً يعيد إليهم حقوقهم الوطنية الثابتة في بلادهم فلسطين... لقد انتهجت أمريكا هذه السياسة المعادية لمصر، والمعادية للعرب ولطموحاتهم بعد أن رأت في ذلك تحقيقًا لمصالحها، وخدمةً لحليفتها إسرائيل، وخدمةً للأنظمة العربية المعتدلة، وإمعانًا منها في عزل السوفيات، وإلحاق الهزائم بهم على الحلبة الدولية، ومنعهم من الوصول إلى المياه الدافئة، وإمعانًا في إحراج عبد الناصر، وقوى اليسار العربي، والعمل بكل الوسائل من أجل إضعاف هذه القوى، وضرب التيار الوحدوي العربي الناصري في كل بلاد العرب، ومقاومة المشروع العربي على كل الأرض العربية، خدمةً للمشروع الصهيوني المتحالف مع الرغبة الأمريكية الجامحة في السيطرة على هذه الأرض العربية، وإذا كان هذا كله بحاجة إلى دليل، فإن بقاء الاحتلال الإسرائيلي في القدس والضفة الغربية منذ سنة 67 هو الدليل، وإن حصار غزة هو الدليل، وإن الإمعان في تهويد الضفة الغربية والقدس العربية، والإمعان في بناء المستوطنات، ومصادرة الأرض، وتغيير معالمها هو الدليل، وإن التنكر لكافة الحقوق العربية في فلسطين، والإمعان في هدم البيوت العربية في القدس ونابلس والخليل، والمضي في تقطيع أوصال المدن العربية والقرى العربية في هذه الديار هو الدليل، والمضي في رفض قرارات المجتمع الدولي بشان القضية الفلسطينية، والإصرار على السيطرة المطلقة على فلسطين كل فلسطين هو الدليل!!
إنه، وعلى الرغم من شعور العرب في كافة أقطارهم بالمرارة نظرًا لكل هذا الذي حدث، ونظرًا لكل هذه الغطرسة، ولكل هذا الاستعلاء والاستكبار، ولكل هذا الإصرار على إذلال أمة العروبة، وأمة الإسلام، فقد بدأ هذا التحول الكبير في كثير من أقطار العروبة، ورفعَ كثير من العرب شعار "الإسلام هو الحل"، وهكذا بدأ المراقبون يشهدون صحوة إسلامية، ومدًّا إسلاميًّا يستطيع العرب من خلاله حماية وجودهم على أرضهم، والتصدي للمخططات التي تستهدف هذا الوجود... حتى أن السادات رفع شعار دولة العلم والإيمان رغبة منه في وضع نهاية حزينة لأيديولوجية مصر في عهد عبد الناصر، ورغبة منه في تعزيز علاقة مصر بالولايات المتحدة، ورغبة منه في أن تكون حرب أكتوبر آخر الحروب في المنطقة، ورغبة منه في إحلال "السلام" وحل القضية الفلسطينية بعد أن أنهى علاقة مصر بالاتحاد السوفياتي، وأخرج الخبراء السوفيات من مصر، ونفّذ جانبًا من الخطة التي رسمتها القيادة المصرية في حينه لتحرير سيناء... ولكن هذا لم يُقنع المصريين، ولم يُقنع الإسلاميين في مصر وغير مصر بصدق توجّه الرجل، وصدق نواياه، وصحة أفعاله وصدق أقواله فكان ما كان، ولا زال الإسلاميون في مصر وغير مصر من بلاد العروبة في حال من التناقض الشديد مع تلك الأنظمة التي ارتأت أن تعزز علاقتها بالغرب شأنها في ذلك شأن القوى اليسارية، وقوى التحرر العربي، والفكر القومي العربي، وسائر العروبيين، والوحدويين العرب في كل هذه الديار.. ليس غريبًا أن يحدث هذا، وليس غريبًا أن نجد هذه الوحدة الوطنية وقد فرضت نفسها على أعداء الأمس ليكونوا اليوم صفًّا واحدًا موحَّدًا، وليكونوا في خندق واحد ضد عدوٍّ واحد مشترك يهدد وجودهم، ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور إن لم يعطوه الولاء، وإن لم يستسلموا لرغباته، وينصاعوا لأوامره وتعليماته.
وأما الشارع العربي، وأما قوى الثورة العربية، وأما الأحرار العرب، والوحدويون العرب فقد باتوا يؤمنون أن عبد الناصر الذي حمل لواء العروبة، وقضى وهو يحمل ذلك اللواء لا بد أن يُبعث من جديد، ولا بد أن يتكرر في هذه الصورة أو تلك، إنها مشاعر دفينة في العقل الباطن لهذه الأمة تقفز من أعماق اللاشعور لتطغى على بؤرة الشعور، وتطفو عليها فارضةً نفسها على السلوك العام، وفارضةً نفسها على تطلعات الأمة، وعلى تحركاتها.. لقد أدرك الشارع العربي أنه لا بد من العودة إلى التصدي، ولا بد من العودة إلى التحدي، ولا بد من سلوك سبيل المقاومة، وسبيل الممانعة، ولا بد من قول "لا" لكل صور التسلط والتحكم والتدخل في الشأن العربي.. وكان صدام حسين في العراق، وكان حافظ الأسد في سوريا، وكان التحرك السوري الهادئ نحو إيران، ونحو تركيا، وكانت القطيعة أيضًا بين نظامي البعث العربي الاشتراكي في العراق وسوريا.. وكانت الهجمات الإسرائيلية الشرسة على لبنان، وعلى المقاومة الفلسطينية، وكانت الحرب الأهلية في لبنان عام خمسة وسبعين، وعملية الليطاني في العام ثمانية وسبعين، وكان الاجتياح الكبير في العام اثنين وثمانين، وإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، وإقامة الحكم العسكري الإسرائيلي في الجنوب، وتحويل لبنان إلى محمية إسرائيلية، والتفكير الجدي في إنشاء المستوطنات في الجنوب اللبناني كما في الشمال الفلسطيني، وكما في الضفة الغربية!! وكان ميلاد المقاومة اللبنانية، وميلاد حزب الله اللبناني، وبروز نجم حسن نصر الله، وكانت التحالفات السياسية الجديدة في لبنان، وكان المد القومي العربي، والمد الإسلامي أيضًا في هذا البلد الصغير، وكان التحالف بين هذين المدَّين، وكان التحالف الإسلامي المسيحي الذي أتى في طريقه على كل من يناصب لبنان العداء من كافة سكانه، ومن كافة مواطنيه، ومن كافة مسلميه، وكافة مسيحييه.. وكان انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان قبل إحدى عشرة سنة، وكان إغلاق المفوضية الإسرائيلية في بيروت قبل ذلك، وكانت المعارك الشرسة الدامية بين الإسرائيليين وهذه المقاومة اللبنانية.. وكانت الانتخابات في الضفة وغزة، وكانت نتائجها، وكان ما كان من سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على القطاع، وكانت الحرب الإسرائيلية على غزة، وكان الحصار قبل ذلك، وبعده، وبالتزامن معه، وكان عرض (ليبرمان) بتخلي إسرائيل عن القطاع، وقطع صلتها به، وعلاقاتها معه، والمطالبة بوضعه تحت الإشراف الدولي.. هذا العرض الذي كان من الممكن أن يكون مقبولاً لو أنه ضمن استقلالية الطريق، وفتحها بين غزة والضفة، ورفع أيدي الإسرائيليين عنها، ولو أنه التزم بتخلي إسرائيل عن الضفة أيضًا، لا عن القطاع وحده.
وأما سوريا التي ربطتها مع مصر منذ فجر التاريخ أوثق الصلات وأقواها، وربطتها مع مصر في عهد عبد الناصر وحدة اندماجية دامت نحو ثلاث سنوات، فهي ماضية على طريق تعزيز العلاقة بإيران، وتعزيزها بتركيا لولا ما يحدث اليوم على الحدود السورية التركية، ولولا هذه الفتنة الكبرى التي تعصف منذ أشهر بسوريا، وتعزيزها دائمًا بلبنان الذي يرفض مواطنوه أن ينفصلوا عن سوريا مهما كانت الذرائع، ومهما كانت العلل والأسباب والمسوغات، وبتعزيزها أيضًا بالأردن والأردنيين، وبفلسطين والفلسطينيين.. لقد حاول هؤلاء وأولئك في الماضي القريب أن يعزلوا سوريا، فعزلتهم سوريا، ثم عاد بعضهم اليوم يطلب من سوريا أن تعيده إلى حظيرة العروبة، وأن ترفع عنه العزلة التي فرضها على نفسه، وفرضتها عليه سوريا بناءً على مواقفه وتوجهاته.. وهي ماضية أيضًا على طريق تعزيز العلاقة بالعراق، وبالمقاومة العراقية، وبالقوى العراقية المطالبة بوحدة أرض العراق، ووحدة شعب العراق، وعودة العراق العربي قُطرًا عربيًّا سيدًا ماجدًا كما كان.. وهكذا فإن سوريا اليوم هي القُطر المحوري في هذا التحالف الجديد الذي يضم كل دول المنطقة ذات القوة والتأثير، وكل شعوبها الطامحة إلى الوحدة والحرية والتحرر والاستقلال، والطامحة أيضًا إلى حياة البناء والإعمار، على الرغم من كل هذا التجييش الإعلامي ضدها، وعلى الرغم من كل هذه الفتن التي تستهدفها لكل ما ذُكِر من أسباب.. وبعد،
فإن هذا بعض ما يمكن أن يقوله المراقب المتتبع لسير الحوادث والأحداث في هذه المنطقة من العالم في مناسبة غالية كهذه التي نحياها في هذه الأيام، بعيدًا عن التعصب، وبعيدًا عن التشنج، وبعيدًا عن كثير من الاعتبارات التي عفا عليها الزمن، ولا تصلح تحت أي اعتبار أن تكون أساسًا لعمل مشترك، أو وحدة وطنية تفعل فعلها في سير الأمور والأحداث والحوادث في هذه المنطقة من العالم.. وبغض النظر عن كل ما قيل على امتداد العقود الستة في هذه المناسبة التي نحياها اليوم، فإننا نعيش واحدة من أبرز المحطات على تاريخ هذه الأمة العربية منذ فجر التاريخ العربي، وحتى أيامنا هذه.. لقد قال بعضهم في ثورة الثالث والعشرين من يوليو تموز إنها ثورة، وقال بعضهم إنه انقلاب.. وقال قائل منهم إنها حركة مصرية لفرض الوحدة العربية على كل أرض العرب، وقال آخرون إن هذه الحركة قد جاءت قبل موعدها ففشلت، وقال غيرهم إنها قد جاءت متأخرة فقضت عليها إسرائيل.. وقال هؤلاء إن عددًا من أولئك الضباط "الأحرار" لم يكن على المستوى المطلوب، ولم يكن من المعدن المطلوب، وقال أولئك إنهم قد تغيروا لتغير الظروف والأحوال، فالعيب فيهم، وليس في منطلقات هذه المجموعة من الضباط الذين تمردوا على الفساد، وثاروا على التفريط والاستسلام.. وبغض النظر عن كل ذلك، وبصرف النظر عن كثير مما جرى على امتداد العقود الستة الماضية، وبصرف النظر أيضًا عن كل سلبيات هذه الحركة وأخطائها إلا أنها كانت التعبير عن تطلعات الأمة، وكانت التعبير عن آمالها.. ومما لا شك فيه أن هذه الحركة لم تمت، وأن قادتها الحقيقيين لم يموتوا: فاللواء محمد نجيب لا زال حيًّا يُرزق، ولا زال رمزًا لملايين المصريين، ولملايين العرب والمسلمين على كل أرض العرب، وعلى كل أرض المسلمين، والعقيد الرئيس جمال عبد الناصر لا زال حيًّا يُرزق، ولا زال يفجّر كثيرًا من الثورات، وكثيرًا من الحركات الشعبية والرسمية على كل أرض العرب من المحيط إلى الخليج، وما ثورة الخامس والعشرين من يناير إلا الدليل القاطع على صحة هذا القول، وما حرص الغرب وأعوانه على إحباط هذه الثورة، والالتفاف عليها إلا الدليل  أيضًا على إصرار هذا الغرب على عدائه لمصر الثورة، مصر عبد الناصر، مصر الثالث والعشرين من يوليو، مصر الخامس والعشرين من يناير، مصر العمال والفلاحين والطلبة والمثقفين والمبدعين من المصريين الأحرار العروبيين.. أمجاد يا عرب أمجاد.. إن شعب مصر العربي قادر دون أدنى شك على حسم الأمور لصالح مصر العربية الحرة الأبيَّة صانعة تاريخ العرب الحديث.
 
23\7\2011

ليست هناك تعليقات: