متابعات
حرب السويس في ذكراها الخامسة والخمسين
أ.عدنان السمان
www.samman.co.nr
في عام ثمانية وأربعين وتسعمئة وألف تمكنت الحركة الصهيونية بمساعدة بريطانيا وغيرها من دول الغرب والشرق من إقامة الدولة اليهودية على قرابة ثمانين بالمئة من أرض فلسـطين ، وتشريد الغالبية العظمى من أهلها العرب.. لقد كان اليهود غاضبين لأن "بلفور" وعدهم "بوطن" في فلسطين، ولم يعدهم بفلسطين كلها كما جاء على لسان "بن غوريون" – أول رئيس وزراء في إسرائيل – حيث وجه نقدًا شديدًا لصيغة ذلك الوعد.. وعليه فقد ظل اليهود يعملون للاستيلاء على ما تبقى من أرض فلسطين..
وبعد أن بذلت المملكة المتحدة كل هذه الجهود لإقامة هذه "الدولة" كان من الطبيعي أن تعمل على حمايتها، وتزويدها بكل أسباب القوة والتفوق العسكري على العرب مجتمعين.. بل لقد ذهبت بريطانيا – صاحبة الأيادي البيضاء على العرب – إلى ما هو أبعد من ذلك حيث خاضت الحروب إلى جانبها ومن أجلها .. فقامت مع فرنسا آنذاك بضرب المد القومي العربي المتصاعد في تلك الفترة..لا لشيء إلا لقيام الثورة المصرية (ثورة 23 تموز 1952)، بتخليص مصر من الاحتلال البريطاني الذي جثم على صدرها منذ عام 1882، وبعد معارك فدائية حقيقية في منطقة القناة تم توقيع اتفاقية الجلاء في تشرين الأول من عام 1954، ولقد خرج آخر جندي بريطاني من مصر طبقًا لهذه الاتفاقية في يوم 18/6/1956.. ومن (أسباب) ذلك أيضًا الدور الذي قامت به مصر في إنجاح كثير من المؤتمرات التي كان لها الأثر الكبير في محاربة الاستعمار مثل مؤتمر باندونغ عام 1955، ومؤتمر بريوني عام 1956، وكذلك كسر احتكار السلاح عام 1955، والاعتراف بالصين الشعبية في أيار 1956، ومساندة ثورة الجزائر (1954-1962) .. وفي 26/7/1956 أعلن جمال عبد الناصر القانون رقم (285) لسنة 1956 بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية، الأمر الذي أزعج الغرب، وأفقده صوابه.. فراح يعد العدة للانتقام، وراح يعد العدة للعدوان بهدف احتلال قناة السويس من جديد، وضمان مرور السفن الإسرائيلية، بل وحماية إسرائيل نفسها من الخطر الذي بات يشكّله نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر عليها...
فقد قامت بريطانيا وفرنسا إلى جانب ربيبتهما وحليفتهما إسرائيل "بشن العدوان الثلاثي على مصر في يوم الثلاثاء الموافق للتاسع والعشرين من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف (29/10/1956).. عندما قامت إسرائيل قبيل غروب شمس ذلك اليوم ببدء عملياتها الحربية ضد مصر، حيث أذاع راديو إسرائيل بلاغًا حربيًّا أعلن فيه أن القوات الإسرائيلية قامت باحتلال ثلاثة مواقع مصرية هي "الكونتلا" و"رأس النقب" و"نخل" وكان معنى ذلك أن إسرائيل (بقيادة عساف سمحوني) قد بدأت عدوانها من جنوب سيناء على أن تستمر في هجومها غربًا حتى تصل إلى السويس.. ومن جهة أخرى تعزل القوات المصرية في المنطقة الشمالية من سيناء قريبًا من قطاع غزة.. لقد قامت إسرائيل بعملية إنزال جوي في سدر الحيطان، واجتازت تلك القوة الكونتلا مسوّغة هجومها على تلك المنطقة بأنها كانت "وكراً" لنشاط الفدائيين المصريين، وبالإضافة إلى هذه القوة الاستكشافية كانت قوة إسرائيلية ثانية تحاول الاستيلاء على "القسيمة"، فأم قطف، فأبو عجيلة.. ثم تتقدم غربًا على طريق(أبو عجيلة – الإسماعيلية) للوصول إلى ضفة القناة عند الإسماعيلية بينما تتحرك قوة ثالثة على محور رفح– العريش – القنطـرة بهـدف احتـلال رفـح والعريـش، وبـعد احتلالهما تتحرك قوة رابعة للاستيلاء على قطاع غزة.. وتقوم قوة خامسة بالتحرك من بئر السبع إلى "إيلات" للاستيلاء على "رأس نصراني" وشرم الشيخ.
وفي الوقت الذي كانت فيه المعارك البرية والبحرية والجوية دائرة بين القوات المصرية والإسرائيلية المعتدية، وبعد مناورات سياسية غربية تمهد للتدخل العسكري، وفي 31/10 أعلنت وزارتا الدفاع في بريطانيا وفرنسا أن عملياتهما الحربية في منطقة قناة السويس قد بُدئت في ساعة متأخرة من ليلة أمس تحت قيادة بريطانية فرنسية مشتركة يتولاها الجنرال "كيتلي" القائد العام للقوات البريطانية في منطقة شرق البحر المتوسط بالاشتراك مع قائد فرنسي برتبة "أميرال"، كما أعلنت القيادة المشتركة لهذه القوات من مقرها في قبرص أن قاذفات القنابل بدأت منذ الساعة السادسة والنصف من مساء 31/10 بمهاجمة الأهداف العسكرية في مصر، وقالت وزارة الدفاع الفرنسية إن هذه الغارات الجوية هي بداية العمليات الحربية المشتركة في منطقة القناة.
وأمر " أنتوني إيدن" رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، قواته بالنزول في مدن قناة السويس، وفي مدينة بور سعيد على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى الشرق من الإسكندرية.. وغير بعيد من العلمين.. بينما كانت القوات البرية البريطانية الفرنسية الإسرائيلية تتقدم في سيناء على الساحل الشرقي لخليج السويس.. لقد قررت القوات الغازية التي أرسلها البريطاني أنتوني إيدن، والفرنسي جي موليه لنصرة "بن غوريون" في تل أبيب إسقاط نظام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة الذي أصبح يقف على رأس نظام عربي قومي وحدوي تقدمي لا يهادن، ولا يساوم.. ويصرّ كل الإصرار على استعادة الحقوق كل الحقوق.. وتحرير الأوطان والإنسان.. وإقامة المشروع العربي الواحد الموحد على كل أرض العرب.
ولا ينسى المواطنون في هذه الديار ما فعله الإسرائيليون في اليوم الأول للعدوان الثلاثي (29/10/1956) بأهالي بلدة كفر قاسم في المثلث الجنوبي، والمجزرة الرهيبة التي اقترفتها أيديهم هناك بهدف إرهاب الأهالي، وقمعهم لضمان عدم تحركهم في أثناء العدوان على مصر.
ولا يمكن لمواطن في هذه الديار أيضًا أن ينسى ما قام به الإسرائيليون في قلقيلية قبل ذلك بأيام، وتحديدًا في ليل الخميس الموافق للعاشر من تشرين الأول من عام ستة وخمسين وتسعمئة وألف.. تلك الليلة التي دمر فيها الإسرائيليون مركز الشرطة ( حيث أقيمت على أرضه في وقت لاحق حديقة الحيوانات في المدينة ) وقتلوا من فيه، ومن كان حوله في الخنادق من أفراد "الحرس الوطني" آنذاك .. واجتاحوا البلدة.. وقتلوا كثيرًا من شبابها وشباب القرى المجاورة.. حيث بلغ عدد من قتلهم الإسرائيليون في تلك الليلة بقيادة "شارون" مئات الشهداء.. ولا يزال قبر الجندي المجهول الذي ضم كثيرًا من جثث الشهداء، وأشلائهم بعد معارك السلاح الأبيض في وادي عزّون، ماثلاً قائمًا أمام مصنع تشميع الحمضيات (المغلق) شرقي المدينة على جانب الشارع المؤدي إلى مدينة نابلس.. يضاف إلى هذا، وكثير غيره، ما فعله الإسرائيليون في تلك الفترة في قبية، وغرندل، وحوسان، ولاحقًا في السموع، وكثير غيرها منذ قيام "دولتهم".... وما يفعلونه اليوم من تمزيق وتقطيع لأوصال هذا الوطن بهدف السيطرة المطلقة عليه، وتشريد سكانه من جديد.. وما الأهداف "الحقيقية" من بناء جدار الفصل العازل بخافية على أحد: فمن ناحية ينهبون أكثر من نصف مساحة الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام سبعة وستين.. ومن ناحية ثانية يعزلون سائر المدن والقرى والمخيمات (أو ما يسميه المراقبون بالمعازل والكانتونات العربية ) عن بلاد العرب حيث يحيط هذا الجدار (وما يرافقه من مستوطنات يهودية داخلة فيه، وخارجة عنه في شتى الاتجاهات) بما تبقى للعرب الفلسطينيين – شكلاً – من هذه الديار.. ومن ناحية ثالثة سيُرغمون – بمرور الوقت – أكثر من سبعين ألفًا من الفلسطينيين (جعلهم الجدار في الجانب "الإسرائيلي ") على الهجرة من أراضيهم، وسيعزلون في الوقت نفسه نحو مئة ألف من العرب المقدسيين عن مدينتهم ممن جعلهم الجدار خارجها، وسوف يجرّدونهم لاحقًا من هوياتهم "الزرقاء" التي تثبت أنهم مقدسيون الأمر الذي سيلحق نكبة حقيقية بالقدس والمقدسيين في المستقبل القريب، وسيضع حدًّا لوهم الدولة الفلسطينية المنشودة التي تكون القدس عاصمة لها!!! ومن ناحية رابعة فقد ضمن الإسرائيليون تقطيع أوصال هذه المعازل والكانتونات الفلسطينية، وعدم وجود أي تواصل جغرافي بينها.. وهذا معناه القضاء المبرم على الحركة الزراعية، والصناعية، والتجارية، وهذا يعني باختصار إنهاء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمستقبلية لهذا الشعب تمهيدًا لتهجيره إلى أي خارج!! ومن ناحية خامسة يضمن هذا الجدار ضم غالبية المستوطنين (600.000) ستمئة ألف مستوطن إلى إسرائيل أو على الأصح توسيع حدود إسرائيل لتضم إليها هؤلاء المستوطنين، ومعهم بالطبع ما غنموه من أراضي العرب الفلسطينيين وممتلكاتهم!!
بعد مرور اربعة وتسعين عامًا على وعد بلفور ،وأكثر من ثلاثة وستين عامًا على قيام ( إسرائيل) يجد نصف الفلسطينيين أنفسهم لاجئين بعيدين عن وطنهم، ويجد نصفهم الآخر نفسه غريبًا مضطهدًا جائعًا على أرض وطنه!! بينما تمتد أنظار الإسرائيليين بعيدًا في أعماق الأرض العربية لأنهم يرون أنهم السادة الجدد لهذا " الشرق الأوسط" الجديد!!
إن الأمة العربية الماجدة في كل ديار العروبة والإسلام، ومعها كل الشرفاء الأحرار في هذا العالم، قد قالت كلمتها في كل أعدائها الذين ظلموا البشرية، وظلموا أنفسهم بجشعهم وطمعهم وكذبهم وافترائهم وعدوانهم .. وسيندم هؤلاء، ولكن لات حين مندم، ولن يكون مصيرهما بأفضل من مصير إيدن، وحليفه الفرنسي موليه قبل خمسة وخمسين عامًا عندما هُزما شر هزيمة في حرب السويس التي فرضاها على شعب مصر لإذلاله، والعودة به إلى عصور الإقطاع والتبعيّة والاستعمار.
وإن الأمة العربية ، وهي تعيش ذكرى حرب السويس في هذه الأيام ، لَتؤكّد بما لا يدع مجالاً لأدنى شك أنها قد عرفت طريقها ، وأنها قد قررت حماية أوطانها ، وتوحيد بلدانها ، وإعلاء بنيانها ... وما ذلك على الله بعزيز.
29/10/2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق