عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الأحد، ١٦ تشرين الأول ٢٠١١

في تمزيق الممزَّق .. وتفتيت المفتّت

متابعات
في تمزيق الممزَّق .. وتفتيت المفتّت
أ.عدنان السمان
www.samman.co.nr
    لم يكتف الغرب بما فعله في كل ديار العروبة والإسلام، منذ عهد الثورة الصناعية في أوروبا، واختلال موازين القوى بين الغرب والشرق العربي الإسلامي  من غزو مسلح لكثير من أقطار العروبة ، ولكثير من بلدان المسلمين ، ولم يكتف بتجريد الدولة العثمانية من كثير من أملاكها وممتلكاتها في أوروبا وإفريقيا وآسيا ، ولم يكتف بالسيطرة المسلحة على كل هذه الأقطار التي سيطر عليها حتى راح يغزوها فكريًّا وثقافيًّا ، ويعبث بعقائدها ومعتقداتها ومناهجها المدرسية ، بل راح يعد العدة لإعلان حرب عالمية شاملة على الدولة العثمانية ، بهدف تقاسم ما تبقى من ممتلكاتها بين تلك الدول الغازية من غرب الدنيا وشرقها ، وبهدف إسقاط نظام الخلافة الإسلامية ، وغزو تركيا العثمانية في عقر دارها ، حتى إذا ما تم له ذلك ، راح يحكم سيطرته على تركيا العلمانية الجديدة التي ربطها بعجلته ، وجعل منها بلدًا تابعًا يسير في فلكه ، وراح يحكم سيطرته على ماجاورها من أقطار، ويقيم فيها كثيرًا من الدول والدويلات وأشباه الدول ليسهل عليه حكمها ، وليسهل عليه التحكم بمواطنيها ، بعد أن تقاسمتها دول الغرب فيما بينها بحسب ما جاء في اتفاق سايكس- بيكو .. لقد أصبح كثيرٌ من أقطار العالم العربي الإسلامي مستعمرات غربيًّة منذ البدايات الأولى للقرن الثامن عشر ، ثم  تبعتها أقطارٌ عربية وإسلامية أخرى على امتداد القرن التاسع عشر ، وبحلول القرن العشرين وسّع الغرب من دائرة سيطرته وعدوانه ، فكان احتلال العراق وبلاد الشام وغيرهما من أقطار العروبة ، وكانت المقدمات الأولى التي مهدت لوضع وعد بلفور موضع التنفيذ ، وإقامة الدولة العبرية على الجزء الأكبر من أرض فلسطين بعد انتداب بريطاني دام أكثر من ثمانية وعشرين عامًا على هذه الديار.
   ولئن تكمن الغرب من إخضاع الوطن العربي لسيطرته، على الرغم من الثورات الكثيرة التي فجرتها الشعوب ضده في كل أقطار العروبة والإسلام ، وعلى الرغم من أعمال العنف والعنف المضاد التي طبعت الحياة اليومية بطابعها في كثير من الأقطار .. ولئن تمكن الغرب من تمزيق هذا العالم العربي الإسلامي شر ممزّق على امتداد القرن الماضي ، ولئن تمكن الغرب على امتداد العقود الكثيرة الماضية من نهب ثروات هذا العالم العربي الإسلامي أيضًا ، وبسط سيطرته المطلقة ، أو شبه المطلقة على الغالبية الساحقة من الأقطار في ديار العروبة والإسلام ، ولئن تمكن من إقامة أنظمة حكم موالية له في معظم هذه الأقطار إلا أن المحاولات للانقضاض على أتباعه وأزلامه في كثير من ديار العروبه لم تتوقف ، والمحاولات الجادة للخلاص من نفوذه وسيطرته وتحكمه وعبثه ونهبه وسلبه وعدوانه على البلاد والعباد في كثير من هذه البلاد لم تتوقف هي الأخرى ، والمحاولات الجادة لتشكيل الأحزاب والجمعيات والجماعات والحركات والاتحادات واللجان والهياكل والأجسام الشعبية ، وكافة الأسماء والمسميات والعناوين الكبيرة والصغيرة ، والفلسفات والأفكار المتمردة على كل أشكال العدوان والاستعمار والامبريالية قد استمرت في عناد وإصرار منذ أن وضع الغربيون أرجلهم على ثرى العروبة ، ولقد أتيح لبعضها أن ينجح ، ولقد أتيح لبعضها أن يقيم دولاً حرّة في بعض أقطار العروبة ، ولقد أتيح لبعضها الآخر أن يعلن هذا الشكل أو ذاك من أشكال الوحدة بين بعض أقطار العروبة قبل أن يتحرك الغرب لإحباط مثل هذه المشاريع العربية لإقامة دولة العرب الواحدة الموحدة على كل أرض العرب.
   ولئن تناوب الغرب على غزو هذا العالم العربي الإسلامي منذ عهد الثورة الصناعية في أوروبا بعد موجات الحروب الصليبية التي غزت ديارنا في القرون الوسطى ، ولئن لعبت جمهورية نابليون بونابرت دورًا لا يمكن لآثاره أن تمحى في مصر ولبنان وسوريا والجزائر والمغرب وتونس ، وفي كثير ن أقطار إفريقيا ، ولئن كانت فرنسا حتى اليوم تحاول استعادة شيء من " أمجاد" الامبراطورية الفرنسية تلك .. ولئن كانت بريطانيا هي سيدة الموقف في معظم أقطار العالم العربي الإسلامي ، والامبراطورية التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها على امتداد قرنين متتاليين من الزمان ، فإن خروج الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة من الحرب العالمية الثانية بُعيد إلقائها القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي في السادس والتاسع من آب  خمسة  وأربعين قد شكل بداية وجودها الثقافي والسياسي الفاعل ، ثم وجودها العسكري في كثير من أقطار العروبة .. لقد تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية  من تعقب بريطانيا في كثير من أقطار هذا الشرق العربي الإسلامي ، وتمكنت من هزيمتها في كثير من هذه الأقطار ، الأمر الذي أقنع بريطانيا ومعها فرنسا وبعض دول أوروبا بضرورة العمل تحت لواء الولايات المتحدة الأمريكية في هذا العالم العربي ، لأن شيئًا خيرٌ من لا شيء ، ولأن هذه هي طبيعة المعسكر الراسمالي الغربي منذ أن كان ، وحتى يومنا هذا .
   الولايات المتحدة الأمريكية التي تقربت من الشعوب ، وحاولت إرضاءها  وهي تدخل هذه المنطقة من العالم في منتصف القرن الماضي، والولايات المتحدة الأمريكية التي حاولت جاهدًة أن تقف موقفُا وسطًا من الصراع العربي الإسرائيلي عند قيام الدولة العبرية، وبُعيد قيامها، والولايات المتحدة الأمريكية التي حاولت التقرب من الشعب العربي الفلسطيني في أثناء نكبته ، وخلال الأعوام التي تلت عام النكبة ، وقدمت له كثيرًا من المساعدات التموينية والغذائية والدوائية والصحية والمالية ، وقدمت كثيرًا من هذه  المساعدات أيضًا لكثير من شعوب هذه المنطقة هي نفسها الولايات المتحدة التي أدركت أن عليها أن تستبدل الجزرة بالعصا في مرحلة لاحقة ، وأن عليها أن تثبت وجودها - كما ينبغي – في هذه المنطقة ، وهي تتصدى للاتحاد السوفياتي ، ولليسار العربي المتحالف معه ، وللمد الإسلامي المتصاعد بعد ذلك في كثير من ديار العروبة والإسلام .. ولئن تمكنت الولايات المتحدة من احتواء هذا المد الإسلامي في البدايات الأولى لتناميه في هذه المنطقة من العالم ، ولئن تمكنت من تسخير المشاعر الدينية لخدمة أهدافها وغاياتها في حربها ضد الاتحاد السوفياتي ، وفي حربها على اليسار العربي منذ منتصف القرن الماضي ، وضد المد الشيوعي في بعض ديار الإسلام ، وفي حربها على الحكم الشيوعي في بعض ديار المسلمين ، إلا أن الولايات المتحدة قد ألفت نفسها أمام قوًى  وتيارات فكرية عربية إسلامية أنضجتها التجارب ، وعركتها الأيام بعد تمرسها بالعمل العسكري ، وممارساتها السياسية الثقافية النقابية الفكرية التي ارتفعت بها إلى مصافّ كثير من الأنظمة الحاكمة في شرق الدنيا ، وإلى مصافّ كثير  من الأنظمة في هذا العالم ، لقد أدركت الولايات المتحدة عندها أن السحر قد انقلب على الساحر ، وكان عليها آنذاك أن تكتفي بانهيار الاتحاد السوفياتي ، وانحسار مد اليسار العربي ، وأن تاخد العبر والدروس المستفادة من التاريخ ، وأن تدرس الوقائع والأحداث والتطورات  في العالم العربي الإسلامي على ضوء الواقع ، وعلى ضوء الرؤية التاريخية ، وضوء مصباحها  الذي لا ينطفئ ، وعلى ضوء فلسفة الرئيس الأمريكي الأسبق آيزنهاور وهو يشرح نظريته في ملء الفراغ .. وبدلاً من ذلك ، وبدلاً من استخلاص الدروس والعبر ، وبدلاً من التوجّه إلى هذا العالم العربي الإسلامي الواسع بروح جديدة ، ورغبة صادقة في بناء علاقات استراتيجية مع شعوبه وأممه ودوله تقوم على التعاون المثمر ، وتبادل المنافع والخبرات ، وتنمية الأوطان والإنسان ، والعمل على التطوير وتحقيق الرِّفاء والتقدم ومكافحة الفقر والجهل والمرض ،  ومحاربة اليأس والقنوط والتخلف والكسل ، ونشر ثقافة العمل والأمل ، وبدلاً من الجهود المشتركة لبناء عالم جديد خال من كل أسباب التوتر والحروب والخلافات والمنازعات ، وبدلاً من العمل المشترك لمكافحة الظلم والتشرد والجريمة ، ومناصرة الحق والعدل ، ونشر رايات السلام العادل الدائم الشريف المقنع فوق ربوع هذا العالم .. إنه ، وبدلاً من هذا ، وكثير غيره مما يمكن فعله من أجل خير البشرية وسعادتها وهدوئها وأمنها وأمانها واستقرارها ، وبدلا من التوجه لصنع مستقبل مشرق سعيد لكل الناس في هذا العالم رأينا الولايات المتحدة تعرض عن هذا كله لتعيد إلى الأذهان " أمجاد " الامبراطورية الفرنسية ، وأمجاد الامبراطورية التي لا تغرب الشمس عن ممتلكاتها ، وأمجاد الغرب الأوروبي الذي لم يرحم في يوم من الأيام حجرًا أو شجرًا أو بشرًا ، ولم يتورع عن ممارسة أبشع ألوان القصف الجويّ والبريّ والبحريّ ، وعن ممارسة أبشع أنواع المجازر ضد الناس في كثير من ديار العروبة والإسلام ، ولم يتورع عن قتل المدنيين من نساء وأطفال وشيوخ ومرضى في سبيل تحقيق أهدافه وغاياته في فرض سيطرته ، ورفع راياته على أشلاء رايات العروبة ، وعلى أشلاء رايات الإسلام .. وعلى أشلاء رايات الحق والعدل والسلام ، مزهوًّا بقوته العسكرية ، وامتلاكه آلات القتل والدمار التي مكنته من امتلاكها ثورته الصناعية التي كانت في كثير من أشكالها وصورها وتطبيقاتها العملية على الأرض وبالاً على البشرية ، ودمارًا شاملاً حل بكثير من أقطار هذا الكون .
    رأينا الولايات المتحدة الأمريكية - مع  بالغ الأسف – تجتاح أفغانستان .. وتجتاح العراق .. ورأينا الولايات المتحدة الأمريكية تناصب العرب العداء ، وتقلب ظهر المجن لكل قضاياهم العادلة ، وتتنكر بشكل غير مسبوق لكل آمالهم وتطلعاتهم في الحرية والتحرر والتقدم والنهوض ، وتحكم السيطرة على أوطانهم وثروات بلادهم .. ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، ولم تكتف الولايات المتحده بكل هذا ، ولم تكتف بالخروج على كثير من مبادئ العدل والحق التي تضمنها الدستور الأمريكي ، ولم تكتف بكل هذه المخالفات الصريحة  لمبادئها  ، ولكل هذه المخالفات الصريحة لكثير من القيم والمثاليات والجماليات التي حاولت إبرازها في أدبياتها ، وفي خطابها للشعوب منذ منتصف القرن الماضي ، وفي مسلكياتها وتظاهرها بالحرص الشديد على  مشاعر الشعوب ، وهي تدخل بلادها كي " تساعدها " على الخلاص من وحشية الاستعمار القديم ، والدخول  في عهد السلام والأمن الدوليين برعاية الولايات المتحدة الأمريكية " صديقة  " الشعوب ، وضمانتها لتحقيق غد أفضل، وحياة  مثلى ، واستقرار يمكنها من تحقيق أهدافها وطموحاتها وعيشها الكريم ! ! ولو أن الولايات المتحدة اكتفت بما فعلته في بلاد الأفغان ، وبما فعلته في العراق العربي ، ولو أنها اعترفت بخطئها ، ولو أنها حاولت إصلاح هذا الخطأ ، بل هذه الأخطاء ، ولو أنها اعتذرت وخرجت ، ودفعت التعويضات ، وتركت الناس وشأنهم ، وتفرغت لحل مشكلاتها ، وانصرفت لشأنها الداخلي ، ومدت يد العون والمساعدة للناس الراغبين في ذلك ، وللشعوب التي تطلب العون والمساعدة ، ولو أنها غيرت نهج العدوان ، واستبدلته بنهج  قائم على المحبة والتعاون والشراكة الحقيقية القائمة على خير الشعوب في علاقاتها الخارجية مع شعوب هذا العالم ودوله ، لو أنها فعلت هذا لقال كثير من الناس إن أمريكا  قد أخطأت ، وإنها قد اعتذرت ، وإن خير الخطائين التوابون !! وقد يعفو الله عما سلف ... ولكن أمريكا لم تفعل ذلك  ، ولم تفكر بفعل ذلك ، بما إنها على العكس من ذلك راحت تمعن في سياستها العدوانية التي تثبت بما لا يدع أدنى مجال للشك أنها أسوأ سياسة  قد تتبعُ ، وأنها أسوأ خلف لأسوأ سلف ، فإذا كانت السياسة البريطانية قد احتلت العراق ، ثم خرجت منه راغمةً بعد نيّف وثلاثين عامًا فإن الولايات المتحدة قد احتلت العراق ، ودمرت العراق ، وهجّرت كفاءات العراق ، ونهبت نفط العراق ، وهدمت حضارة العراق ، وقتلت علماء العراق ، ونهبت آثار العراق ، ونسفت جسور العراق ، وخربت مزارع العراق ، وهدمت مساجد العراق ومدارسه وجامعاته وداراته الجميلة ، وقسّمت العراق ، ومزّقت وحدته الوطنية ، وأبادت من شعبه كثيرًا من الأبرياء ، وأذلت العراقيين والعراقيات بشكل غير مسبوق ، وعليه فإن أمريكا قد فعلت ما لم تفعله سابقتها ، بل سابقوها ، وإن أمريكا قد فعلت  في بلاد الأفغان مالم يفعله سابقوها ، ولو أن أمريكا قد أخذت العبرة لما كررت ما كرروه ، ولو أنها رأت بعين اليقين هزيمة بريطانيا وهي تتجرع كوؤس الهزيمة والمذلة والهوان هناك في بلاد الأفغان بعد تسعة وتسعين عامًا من القتال لما كررت أخطاء غيرها ، وحماقات غيرها ، ولما تمادت في عدوانها ، ولما فعلت مافعلته في بلاد الأفغان .
   لم يتوقف الأمر  عند ذلك،  ولم تتوقف أمريكا عند هذا كله ، بل إنها على العكس من ذلك تمامًا تجري اليوم وراء مغامرات جديدة  ، وتبحث عن بلاد جديدة  تمارس فيها بطشها وعدوانها ، وتستعرض عليها عضلاتها ، وكأنها صاحبة الوصاية على هذا الكون ، وكأنها الذي يعز من يشاء ، ويذل من يشاء  ، وكأنها الذي ينصّب الملوك  ، ويعين الرؤساء ، وكانها صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في كل بلدان هذا الكون ، فهي التي صنعت صندوق الانتخاب ، وهي التي فرضته على الأمم ، وهي التي فرضت على هذه الأمم والشعوب أن تاتي عن طريقه بمن تريد هي ، لا بمن تريد الأمم والشعوب أن تاتي بهم .. صندوق الانتخاب يجب أن يأتي بمن تريدهم الولايات المتحدة ، لا بمن تريد الشعوب أن تأتي بهم .. فإن جاء صندوق  الانتخاب  بمن لا تريدهم أمريكا فالانتخابات باطلة ، وإن صندوق الانتخاب قد أصبح أداةً في يد الإرهاب و الإرهابيين !! وعلى صندوق الانتخاب أن يتراجع عن ذلك ، وأن يأتي بمن تريدهم أمريكا حتى تأكل الشعوب لقمة الخبز ، وحتى تحصل الشعوب على حبة الدواء !! وإن من لا يمتثل لرغبة أمريكا ومشيئتها فسوف يدفع الثمن .. سوف تغري به أمريكا أتباعها وسفهاءها ومؤيدي سياستها ، ومحبي ثقافتها ، وأعوانها ، وأدواتها من أهل البلد ، وسوف ترغمه -عن كل هذه الطرق - على تنفيذ ما تريد ، وسوف تغري به أمريكا كافة المتحالفين معها من جيرانه  وأقربائه  وبني جلدته  وسوف تفتح عليه أمريكا أبواب الجحيم ، وعليه أن يدافع عن نفسه ، وعليه أن يدفع هذا العدوان الأمريكي الأوروبي، وعدوان المتحالفين معه من كل أعداء العروبة ،إن استطاع !! .
    فبلاد الشام التي كانت ولايةً في جسد دولة الخلافة العثمانية ، وتبلغ مساحتها إن لم تخني الذاكرة  (315409) كم مربع قد انتُزعت من خاصرتها اليمنى ( 10400) كم مربع هي مساحة لبنان ،    و( 27009) كم مربع هي مساحة فلسطين التاريخية ، و( 98000) كم مربع هي مساحة الأردن ، والباقي وهو( 180000) كم مربع وهو سوريا ، أو الجمهورية العربية السورية ، مرشح اليوم ليصبح أربع دول بعد حرب أهلية ضروس نُسجت خيوطها خارج هذا البلد ، لأن أمريكا تريد ذلك ، ولأن أمريكا تريد اليوم أن تمزّق الممزَّق وتفتّت المفتّت ، ولأن أمريكا اليوم تريد لهذا البلد أن يوافق على الحل الأمريكي ، وأن ينحّي جانبًا سياسة الممانعة والمقاومة ، ووضع العصي في الدواليب ، والتحريض على الحلول الأمريكية لكل قضايا العروبة ، وعلى رأسها قضية فلسطين التي كانت قضية العرب الأولى .. فإن لم تفعل سوريا ذلك ، وإن لم تتنازل عن هذه السياسة التي تتبناها ، وإن لم تنقد لمشيئة الولايات المتحدة ، فإن على الرئيس أن يتنازل عن الرئاسة ، وإن عليه أن يترك المجال واسعًا أمام " الثوار "  كي يُحكموا قبضتهم على البلد ، ولكي ينفذوا السياسات التي تجعل البلد أكثر انسجامًا مع محيطه ، وأكثر انسجامًا مع أصدقاء الغرب وأتباعه وأعوانه من حوله .. وكأن أمريكا لا تعلم أن الوضع في سوريا مختلف ، لأن الحكم فيها ليس بيد فرد أو أسرة ، بل هو حكم حزب  عمره أكثر من خمسة وستين عامًا ، يشاركه في الحكم ستة أحزاب سورية ، وتؤازره كل المؤازرة قوًى كثيرة ، وفلسطينيون كثر داخل سوريا وخارجها ، ولبنانيون عروبيون داخل سوريا وخارجها ، وأردنيون نشامى داخل سوريا وخارجها ، وعراقيون شرفاء داخل سوريا وخارجها ، ومسيحيون عرب داخل سوريا وخارجها ، وباختصار فإن الحكم في سوريا قويٌّ بشكل يكفي لاستمراره ، ثم إن ما يحلم به الغرب بشقيه من استصدار قرار من مجلس الأمن للتدخل المباشر فيه ، أو للقيام بأعمال عسكرية غربية مباشرة ضده ، أو لفرض منطقة حظر جوي عليه هو أمر غير ممكن ، لأنه يصطدم بالفيتو الروسي ، وبالفيتو الصيني ، وبإرادة الشعب السوري صاحب المصلحة الحقيقية في الاستقرار ، وصاحب المصلحة الحقيقية في استمرار سوريا بهذا الدور القيادي الريادي في الوطن العربي .. ثم إن النظام السوري المدعم بكثير من القوى والقبائل والطوائف والعائلات والتوجهات السياسية والحزبية والشعبية والثقافية قادرٌ على التصدي لكل هذه المحاولات التي تستهدفه ، أما في حال إقدام الغرب على مغامرة عسكرية فإن ما رشح عبر وسائل الاعلام حول ما قاله الرئيس السوري لوزير الخارجية التركي يكفي أن يكون ردًّا مقنعًا لكل من يفكر بالإقدام على مغامرة كهذه .
      إن ما تحلم به الولايات المتحدة ، وبعض المتحالفين معها من إمكانية إقامة أربع دول داخل الجمهورية العربية السورية لطوائف وقوًى واتجاهات يعرفونها داخل البلد إن لم تمكن السيطرة على سوريا كلها فهذه أيضًا مغامرةً من الصعب أن تنجح ، لأن السوريين ليسوا كما يتوهم بعض الغربيين ، ولأن السوريين لا يمكن أن يضحوا ببلادهم بهذه البساطة ، وعليه فإن كافة الاحتمالات المشار إليها خيالية ، وصعبة التنفيذ ،  وكل ما في الأمر أن هذه الفتنة الكبرى التي أريدَ لها أن تسقط النظام ، وأن تحدث التغيير المطلوب غربيًّا ،قد يكون لها دورٌ تدميريّ، وأثر تخريبيّ على الوطن السوري الذي سرعان ما يعيد بناء ما خربته هذه الحرب الأهلية عندما يتمكن البلد من الخروج منتصرًا على كل عناصر الفتنة ، وعندما يتمكن البلد من الخروج منتصرًا على كل عوامل الضعف الذاتي الذي واكب مسيرته منذ عشرات السنين ، وعندما يتمكن البلد من بناء نفسه بشكل يستعصي على إثارة الفتن ، ويستعصي على كل محاولات  الاختراق ، وصنع الخلايا النائمة داخل البلد ، وهذا أمر ممكن بمزيد من الصبر والثبات ، ومزيد من النجاحات الاقتصادية ، ومزيد من التخطيط السليم ، والحكم النزيه الرشيد القويم .
    أما ما تحلم به أمريكا من توجيه ضربة عسكرية لإيران لتدمير مفاعلاته النووية  والقضاء على كثير من منشآته ومصادر قوته بهدف إرهابه وإضعافه ، فإن عزل سوريا هو الهدف الحقيقي من مغامرة عسكرية أمريكية كهذه ،وإنه حلم قد تستفيق منه أمريكا مذعورة فزعة لأن إيران ليست هدفًا بهذه السهولة ، ولأن كثيرًا من الدول في هذا العالم لن تسمح بذلك ، ولأن شعب الولايات المتحدة الذي يكاد أن يكون خليطًا من شعوب العالم كله  لن يسمح هو الآخر بذلك ، إلاّ أن تكون مثل هذه الضربة المفترضة مفروضة على أمريكا فرضًا لأسباب لا تخفى على فهم مراقب ، أو حكمة خبير متتبع لسير الحوادث والأحداث في هذه المنطقة المشحونة المتوترة من هذا العالم ، وهنا ستجري الرياح " يقينًا " بغير ما تشتهي تلك السفن .
    إن بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون صديقًا حقيقيًّا للشعوب ، وبإمكانها أن تحقق كثيرًا من الأهداف السامية ، والغايات النبيلة ، وإن بإمكانها أن تكون عونًا للشعوب ، وعونًا لأنظمة الحكم ، وعونًا للحق والعدل والتقدم والرّفاء والسلام إن هي أرادت ، وإن هي تخلت عن سياسة الهيمنة والغطرسة ، وعن سياسة الأحلاف ، وعن مؤازرة الظلم والتسلط  والطغيان والعدوان على الناس ، وإن هي رفضت أن تكون كما كانت منذ عقود  عصًا في يد قوة طامعة في السيطرة على هذا العالم من خلالها ، وإن هي أرادت  أن تمتلك قلوب الشعوب ، وقلوب كل الفقراء في هذا العالم ، وقلوب مواطنيها أيضًا بالمعروف .
 
16/10/2011
 

ليست هناك تعليقات: