عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الأحد، ٥ شباط ٢٠١٢

الفلسطيني خليل حمد .. كاتبًا وباحثًا

الفلسطيني خليل حمد .. كاتبًا وباحثًا
 
( رأيت من حق خليل أن يقدم نفسه إلى قرائنا ، ورأيت أن يكون ذلك بالطريقة التي أرادها ، وبأسلوب الحوار الهادئ الذي آمن به وسيلة لنشر الفكر ، والوصول إلى الحقيقة، وكسب الأنصار والمؤيدين لفكرته ، بعيدًا عن الانفعال والتوتر ، ومحاولة فرض الآراء على الآخرين ، فكان له ما أراد) .
]عدنان السمان [
 
*   لقد صدر لك كتاب قبل أيام بعنوان " الأيتام مشاريع العظماء " ، وسبقه كتاب آخر بعنوان" فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين: فما هي طبيعة هذين الكتابين؟ وكيف يكون الأيتام مشاريع العظماء؟
نعم.. الكتاب الثاني يَبحث في موضوع مرتبط بدراستي الجامعية ، حيث كنت قد وضعت رسالة ماجستير حول العلاقة بين الإبداع واليتم، وقد لقي الطرح في رسالة الماجستير القبول على الأقل من قبل اللجنة المشرفة في حينه ، فأصبحت صاحب نظرية تقول بأن هناك علاقة بين اليتم والإبداع في أعلى حالاته  العبقرية ، بالدليل التحليلي... وفي محاولة مني لإثبات صحة هذه النظرية إحصائيًّا، قمت بإجراء دراسة بحثية على عينة بحث محددة ومحايدة وهم " الخالدون المائة " الواردة أسماؤهم في كتاب الأمريكي مايكل هارت ، وعددهم مائة طبعًا، وقد أكدت نتائج الدراسة على تلك العلاقة المفترضة بين اليتم والعبقرية والخلود، وبنسبة تتعدى عامل المصادفة وهي 53%...وعليه ومن واقع تلك النتائج، خرجت باستنتاج أن كل يتيم هو مشروع عظيم! ومن هنا جاء هذا الكتاب "الأيتام مشاريع العظماء" الذي يعالج الأمر بكافة تفصيلاته : كيف؟ وأين؟ ومتى؟ وماذا؟ وما إلى ذلك.
 
أما الكتاب الأول فهو عبارة عن مجموعة مقالات ومقولات تشكل في مجملها ما أطلقت عليه إعادة كتابة للتاريخ ، حيث بدا لي بأن هناك حاجة لإعادة كتابة التاريخ بناءً على معطيات نظريتي في تفسير الطاقة الإبداعية...فمثلاً تشرح إحدى المقالات في الكتاب سر بقاء المتنبي وخلوده بناءً على معطيات نظرية تفسير الطاقة الإبداعية. ومقال آخر يوضح بأن الأيتام يكتسبون أحيانًا قداسة تجعلهم أقرب إلى الأصنام في عيون مريديهم وأتباعهم ، ومن هنا جاءت التسمية.
·    متى نشأت فكرة أطروحتكم حول اليتم وعلاقته بالإبداع .. وكيف تطورت ؟ وهل عشتم أنتم ، اليتم ؟
 
 في الواقع عندما كنت في السادسة عشرة من العمر تقريبًا، كنت أقرأ عن سيرة حياة الروائي الروسي الكبير توليستوي، فوجدت أنه يتيم الأم ، وأنه فقدها وعمره سنتان، ولم يشاهد صورة لها، ووجدت أن تجربته في الفقد هي تجربتي نفسها ، فأنا فقدت أمي وعمري سنتان ، ولم أشاهد صورةً لها..وحيث أنني كنت في تلك السن أخط بعض المحاولات الشعرية، ومنكبًّأ على المطالعة ، ومندفعًا إلى الثقافة والمعرفة والبحث عن الحقيقة، أحسست أن هناك علاقة بين اليتم والإبداع، ومن يومها وأنا أبحث في الموضوع ، منقّّبًا في سير حياة العظماء بشكل عام ، والأدباء بشكل خاص ، محاولاً استكشاف تلك العلاقة ، وتقديم أدلة مقنعة ومقبولة علميًّا وبحثيًّا لدعم الافتراض. وقد ساعدتني  دراستي الجامعية في مجال الأدب الإنجليزي على الاستمرار في البحث والتنقيب والاستقصاء ، بل والتوسع في ذلك، وحينما وصلت إلى مرحلة الماجستير ترسخت القناعة لدي بصحة الافتراض كنتيجة لما توافر لدي من معلومات وانطباع، وقد جازفت حينما اخترت أن أكتب رسالة ماجستير حول الموضوع، فلم أكن أعرف إن كنت سأنجح في إظهار تلك العلاقة أم لا بشكل مقنع طبعًا، لكنني فعلت حيث أنجزت رسالة ماجستير بعنوان "الإبداع والبحث عن الاكتمال" creativity and the search for fulfillment  عالجت الموضوع بصورة تحليلية، وقد تم اعتمادها عام 1983 في جامعة San Diego  في كاليفورنيا، ولكنني لم أتوقف عن البحث عن مزيدٍ من الأدلة ، وبخاصة الإحصائية منها حتى هذا التاريخ.
·    هل سبقكم أحد إلى دراسة هذه الظاهرة من خلال بحث أو مقال أو إشارة ؟
 
     منذ فجر التاريخ كانت هناك محاولات لتقديم تفسير لسر الطاقة الإبداعية ، وتحديد مصدرها،  ونجد أن الفلاسفة الإغريق حاولوا تقديم تفسير للإبداع، ولكن النظريات المهمة حول مصدر الإبداع جاءت بعد التطور الذي حدث على علم الفيزياء ، وولادة قانون الطاقة. سيجموند فرويد كان أول من قدم نظرية تعتبر أن الإبداع طاقة لا تفنى ، ولا تُستحدَث ، ولكنها تتحول من حالة إلى أخرى. ولكن فرويد اعتبر أن الإبداع ناتج عن إحباط جنسي، وكبت لمواقف مؤلمة يخرج لاحقًا على شكل طاقات إبداعية ، وأحيانًا يظهر على شكل جنون، ولذلك اعتبر فرويد أن الإبداع والجنون يولدان من المصدر نفسه . بمعنى أن موت الأب أو الأم لم يكن له قيمة عند فرويد إلا من المنظور الجنسي .
 
   جاء بعده تلميذه أدلر Adler الذي اعتبر أن الإبداع عبارة عن تعويض ، حيث وضع نظرية بذلك، أسماها نظرية التعويض   compensation theoryونالت نظريته شعبية كبيرة، لكنه ركز في نظريته على فقدان الحواس كمسبب للإبداع ، ولم يتحدث عن اليتم. أيضًا طرح كارل يونغ نظريته التي أسماها أركيتابس Archtypes بتزامن مع نظرية أدلر، وافترض فيها أن الإبداع يتم توارثه عبر حجرات وراثية تحتوي التجربة الإنسانية، وهي مصدر الإبداع...فقد كان الرأي السائد أن الإبداع أمر وراثي.
     
     ونجد أن هناك كثيرًا من الأبحاث ، وبخاصة الأجنبية منها، التي حاولت تقديم تفسير لسمة الإبداع منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وبعضها اعتبر أن اليتم له أهمية العامل الوراثي بناءً على تحليل عينات من المبدعين كان يتمّ اختيارها بصورة عشوائية، لكن لم يتوصل أحد لنتائج تربط بين اليتم والإبداع في أعلى حالاته بشكل حاسم ، وذلك لسبب بسيط وهو الخطأ الذي كان يحدث دائمًا في اختيار العينة البحثية. لذلك أستطيع أن أقول بأن طرحي الذي يشير إلى العلاقة بين اليتم والإبداع في أعلى حالاته هو غير مسبوق من حيث النتائج ، لأنه تعامل مع الشريحة البحثية ( عينة البحث ) بطريقة غير مسبوقة أيضًا ، وتوصل إلى نتائج حاسمة.
  وأذكر أنني خلال دراستي الماجستير كنت قد أجريت بحثًا مسهبًا من خلال وسائل البحث الحديثة في حينه في جامعة ساندياغو، وعبر الشبكة المحوسبة التي كانت تربط المكتبات في كل أنحاء الولايات المتحدة، ولم أجد أبدًا من سبقني إلى طرح الموضوع، فلذلك أستطيع أن أقول بكل بثقة إنني أول من وضع نظرية تربط بين اليتم والطاقة الإبداعية في أعلى حالاتها ، وقدم نظرية متكاملة لشرح ذلك، وكان ذلك في العام 1983.
·    كيف تلافيت أنت الخطأ في اختيار العينة البحثية كما تقول؟
 
             الأمر كان مصادفةً ...كنت دائمًا غير قادر على تحديد أو اختيار عينة بحثية محايدة ومقبولة، وفي أحد الأيام وقع بين يدي كتاب مايكل هارت الذي ترجمه إلى العربية الكاتب الكبير المرحوم أنيس منصور، فشعرت أن الأسماء المشمولة في الكتاب تمثل عينة بحثية مناسبة كونها متجانسة ، ويربط بين أفرادها صفات مهمة هي صفات العبقرية والشهرة والخلود، ومن هنا جاء وصفهم بـ "الخالدون المائة"، وهي حتمًا محايدة وضعها شخصٌ محايد، ولقد وضع الكتاب لأغراض أخرى غير البحث في سر الإبداع لديهم. وعندما قمت على دراسة هذه العينة تبين لي أن عدد الأيتام من بين أفرادها وصل إلى 53%، وأما الباقون فطفولتهم غير معروفة، مما يشير إلى احتمال أنهم قد جربوا اليتم، ، فيما عدا اثنين فقط .
     بينما كانت مشكلة من حاول قبلي تحديد أهمية اليتم كعامل مسبب للإبداع أنهم كانوا يختارون عينة البحث بصورة عشوائية غير متجانسة، أي يتمّ اختيار 600 مبدع من مختلف المستويات الإبداعية، ولذلك لم تكن نسبة عامل اليتم حاسمة، ولو أنها كانت تتعدى عامل المصادفة عند بعض تلك الدراسات...وهو ما يشير إلى أن للإبداع والطاقة الإبداعية مصادر متعددة، ولا يمكن الحديث عن سبب واحد، لكن ما بين يدينا من دراسة، يؤكد على أن اليتم يؤدي إلى العبقرية، أي الإبداع في أعلى حالاته...وهو ما أدى إلى استنتاج آخر مهم هو أن السر يكمن في الألم والصدمة والفجيعة التي تؤدي إلى دفق الكيماوي في الدماغ، وهو المسبب لولادة الطاقة الإبداعية..ولما كان اليتم هو أعظم مسبب لمثل ذلك الألم فإنه يؤدي إلى أعلى نشاط ذهني، وبالتالي إلى أعظم إنتاج إبداعي، يكون عبقريًّا وخالدًا، إذا ما توافرت الظروف المناسبة طبعًا لليتيم حامل ذلك الألم.
 
·    تقول إنك بدأت هذا البحث في سن ّ السادسة عشرة ... هل نستطيع أن نعرف أولى نجاحاتك في هذه الدراسة ؟  وكيف استرسلت بـعـُمق؟
     أول نجاحٍ جاء بعد أن تمكنت من إقناع لجنة الماجستير في جامعة ساندياغو بأطروحتي حول العلاقة بين يتم كل من الأدباء سلفيا بلاث، ورالف ألسون، وبابلونيرودا وإبداعاتهم، وقد استخدمت  لذلك تحليل بعض ما قالوه ، وما كتبوه من خلال إنتاجهم الأدبي للتدليل على تلك العلاقة، والتي غالبًا ما تكون غير واعية، لكن يمكن للدارس ملاحظة أثرها في المخرجات الإبداعية، أحيانًا بوضوح، وأحيانًا من خلال تعابير رمزية، وإشارات ضبابيّة.
     أما كيف استرسلت، فأنا لم أتوقف أبدًا عن البحث في سير حياة العظماء والمبدعين، وقد جمعت أسماء ما يزيد على ألف مبدع يتيم حتى الآن، أصبحت تشكل نواة موسوعة للأيتام أعمل على إطلاقها ضمن كتاب، وموقع إلكتروني.. كما عملت على إجراء بعض الدراسات بهدف دعم نظريتي بأدلة إحصائية ، ومن خلال استخدام هذه البيانات الإحصائية في دراسات تحليلية إضافية تؤكد على صحة الطرح أو نفيه ، وكل النتائج حتى الآن تشير إلى أن اليتم هو حتمًا أهم العوامل أثرًا في التغير الذي يمكن أن يحصل على كيمياء الدماغ ، فيؤدي إلى ولادة الطاقة التي تنهل منها المخرجات الإبداعية، لكنه ليس الوحيد حتمًا.
·    لماذا نعزو النجاح إلى اليتم في حد ذاته؟ لماذا لا نرى جانبًا آخر، وهو أن من يقوم برعاية اليتيم فيما بعد هو من يصنع جزءًا من نجاحه على الأقل؟
 
    يبدو أن صدمة اليتم، وما يرتبط بها من ألم يؤدي إلى تولد طاقة هائلة في دماغ اليتيم ، وربما أن ذلك يحدث من خلال تغير في كيمياء الدماغ، حيث يؤدي ذلك التغير الكيماوي -كما أتصور- إلى تولد طاقة البوزييترون positron، وإذا ما استثمرت هذه الطاقة بشكل إيجابي، فأنها تخرج على شكل مخرجات إبداعية فذة وعبقرية، وهنا يأتي دور رعاية اليتيم وكفالته، فهو حتمًا بالغ الأهمية، وإن غابت الرعاية والتأهيل والاهتمام فالأغلب أن ذلك سيؤدي إلى مخرجات سلبية، فيتحول مشروع المبدع العبقري إلى مجرم، أو مجنون ، أو منتحر، وهو ما يؤكد في تقديري على أهمية دور من يقوم بالرعاية والكفالة والتأهيل. صحيح أن الطاقة المتفجرة في ذهن اليتيم والتي تؤدي على - ما يبدو- إلى زيادة في نشاط الدماغ هي الأساس ، لكن لا بد من توافر البيئة الداعمة والمساندة حتى تخرج هذه الطاقة بصورة إيجابية.
·    هل يقتصر الأثر على اليتم الفعلي ، أو الحقيقي (فقدان الأم أو الأب)، أم يشاركه اليتم الشعوري والمعنوي؟
     لطالما قلت إن السر في اليتم ليس في الفجيعة بحد ذاتها، وإنما في الأثر الذي يحدثه اليتم على كيمياء الدماغ على ما يبدو! ولذلك لا يمكن حصر الإبداع باليتم الحقيقي فقط ، وربما أن هناك من عاش ( يتيمًا) وأبواه إلى جانبه، وربما أن أبًا مدمنًا، عنيفًا على شاكلة والد ستالين مثلاً يكون وجوده أشد قسوة وأثرًا على كيمياء الدماغ من موته الجسدي... حتى أن أحداثًا أخرى ( بعيدة عن الموت) يمكن أن تقع فيكون لها تأثيرٌ مهولٌ على كيمياء دماغ الطفل، وهو في طور النمو، وتحدث أثرًا مشابهًا، ولكنني أربط العبقرية والخلود باليتم في حديثي، لأنني وبعد دراسة عينات من العباقرة الخالدين وجدت أنهم أيتام (يتم واقعي في سن أقل من 21 عامًا دائمًا،  وهنا أشير إلى عينة (الخالدون المائة) حيث كان اليتم قد وقع حقيقةً. وقد يكون لوقوع اليتم فعلاً أثرٌ أعظم بكثير من الحالات التي تشبه اليتم في الأثر، وهي حتمًا فجائع ، أو مآسٍ ، قد تحدث تغيرًا في كيمياء الدماغ هي أيضًا.
    وقد وجدت أن خلود العمل الإبداعي ، وطول بقائه هو انعكاس لوزن الأثر الناتج عن الفجائع...ولا شك في أن مئات الشعراء مثلاً عاشوا في زمن المتنبي ، لكنهم بادوا ، ولم يبق لهم أثر مع مرور الزمن ليظل المتنبي بيننا، وهو ما يشير إلى عبقرية ما كان يقوله ، وتلك العبقرية هي في الواقع ما تحتويه أشعار المتنبي من طاقة تدفقت في ثنايا دماغه على أثر حدّة فجائعه وكثافتها في الطفولة المبكرة ، وذلك لا ينفي أن أشعار الآخرين قد تكون عبقرية هي أيضًا ، لكنها أقل ديمومةً ، لأنها نتاج أحداث أقل أثرًا في النفس .
 
 
·    هل هذا يعني أن اليتم والموت والمآسي هي المسبب الوحيد للإبداع؟
      ربما كنت في بدايات بحثي أطرح أن اليتم هو السبب الوحيد للإبداع، وذلك كنتيجة لملاحظة أن عددًا كبيرًا من المبدعين العباقرة والقادة الأفذاذ الخالدين هم أيتام، ولكن مع تعمقي في البحث، اتضح أن اليتم ليس السبب الوحيد حتمًا ، وإنما يمثل أهم سبب على الإطلاق لحدوث دفق هائل في كيمياء الدماغ ينتج عنه طاقة هائلة، (أتصور أنها طاقة البوزيترون)، وتكون في أعلى حالاتها عند الأيتام ، وهي الفئة التي أمكن رصدها إحصائيًّا من خلال عينة " الخالدون المائة" ، ولذلك يمكن القول إن أعظم المبدعين والعباقرة والقادة الخالدين هم من الأيتام حصرًا. لكنْ هناك حتمًا عدد هائل من الأسباب الأخرى التي لها أثر ووقع مشابه على الدماغ، وتتسبب في حدوث دفق في كيميائه ، وبالتالي تتولد الطاقة البوزيترونية، والتي تجعل الدماغ يعمل بصورة فوق عادية ، فتتشكل المخرجات الإبداعية، وتقل كمية الطاقة المتولدة كلما قل وزن الحدث أو الصدمة أو الفجيعة المسببة لدفق الطاقة في الدماغ. بمعنى لو أننا لو تخيلنا أن لدينا سلّمًا مكونًا من عشر درجات لقياس وزن الأثر الناتج ، فإننا سوف نجد أن اليتم يقع في أعلى السلم من حيث الوزن، ويؤدي إلى أعلى نسبة من الطاقة ، أي أن العلاقة طردية هنا، لكن موت الجد مثلاً ربما يأتي في النقطة 9 ، وموت الأخ أو الأخت في النقطة 8 ، وموت رفيق الصف في المدرسة في النقطة 7 ، ومشاهدة الموت في النقطة 6،  وموت الهرة في النقطة 5 ، والإعاقة الجسدية (نظرية التعويض في النقطة 4) وهكذا، إلا أن يكون ذلك ما مر به مبدع كعنتره مدفوعا بما يمكن  أن نسميه ( مركب النقص ) حيث كان سواده واسترقاقه لأبيه وراء تفجر عبقريته، لقد كان هذا في قوة اليتم بل قد أدى إلى ما لم يودِّ إليه اليتم في بعض الأحيان، ولكن هذا لا يعتبر تعميما أو شبه تعميم، وإنما هو حالة خاصة لا يقاس عليها، ولا تتعارض مع طبيعة البحث المطروح.
    وربما أن الوعي بذاته، وقدرة الإنسان على التخيل والتفكير، وما ينتج عن الإدراك من قلق يقع في أدنى درجات سلم الأوزان الافتراضي هذا، فالقلق مثلاً هو السبب الذي يعتقد أصحاب الفلسفة الوجودية بأنه محرك الطاقة الإبداعية ومفجرها، ولكنني عندما درست سيرة حياة نيتشه وسارتر وجدت أنهما يتيمان أيضًا، وفي ذلك ما يشير إلى أن أصحاب الفلسفة الوجودية قد أقاموا فلسفتهم على افتراضات خاطئة، فالقلق نتيجةٌ، وليس سببًا. لذلك أقول إن اليتم هو أهم الأسباب، وليس السبب الوحيد..وقد يكون لأحداث وتراكمات مأساوية مثل: الفقر، وبيوت الصفيح، والتشرد، والفيضان وقع عظيم مشابه في توليد تلك الطاقة البوزيترونية المفترضة، والتي تتولد في ثنايا الدماغ، وينهل منها الإبداع، وتكون سبب المخرجات الإبداعية العبقرية.
* هل تفترض بناءً على ذلك أن كل يتيم مبدع ؟ وأن كل مبدع يتيم ؟
    ربما يكون هناك كثير من المبدعين الذين لم يمروا بتجربة اليتم ، لكن ذلك لا يعني أنهم لم يمروا حتمًا بصدمات ومآسٍ تركت أثرًا مهولاً على أدمغتهم في طفولتهم وقبل سن البلوغ.
     إن مقولة "ليس كل مبدع يتيمًا " هي مقولة صحيحة، لكن ذلك أيضًا لا يدحض أن العباقرة من المبدعين والذين خَلُدتْ أعمالهم هم أيتام حتمًا ، وذلك بالدليل الإحصائي، هذا من ناحية. ومن الناحية الأخرى، من الطبيعي القول بأنه لا يمكن حصر المسبب في دفق كيمياء الدماغ في تجربة اليتم فقط، فقد يكون المبدع قد مر بتجربة موت قريب مثلاً (جد أو أخ أو زميل دراسة أو حتى فقد حيوان أليف)، وقد يكون فقد أحد الحواس، وقد تفعل زيارة لمستشفى فعلها في تشكل ذلك الدفق الكيماوي في الدماغ، وقد يحدث الخلل الكيماوي في الدماغ لأسباب طبيعية وبيولوجية أخرى ليس لها علاقة بالصدمات أو المآسي. 
 
   ولا شك في أن هناك قائمة طويلة من المسببات لحدوث دفق كيمياء الدماغ، وبالتالي تَشكّل القدرة على الإبداع، لكن الأدلة التي بين يدينا تشير إلى أن موت الأقارب من الدرجة الأولى هو أهم عامل من العوامل التي تؤدي إلى أعلى نسبة من دفق كيمياء الدماغ، وينتج عن ذلك عظماء وعباقرة في الحد الأعلى من العبقرية والخلود، وقد نجد من بين كل مئة ، أو ربما ألف ، أو حتى عشرة آلاف شاعر، نجد أن من بينهم شاعرًا واحدًا يكتب قصائد على شاكلة المتنبي مثلاً...وذلك لا يعني أن الآخرين ليسوا مبدعين، ولكن مستوى المخرجات الإبداعية وقيمتها ووزنها تكون أقل عندهم ، ويبدو أن العلاقة بين الأمرين هي علاقة طردية، بمعنى أنه كلما زادت المآسي والفجائع كثافةً، وتكرارًا، زاد دفق كيمياء الدماغ وأصبحت الاحتمالات بأن يصبح المصاب بمثل تلك الفجائع عبقريًّا فذًّا أكثر احتمالاً.
 
   وقد يكون لتوقيت وقوع المآسي والبيئة، والتعليم والقدوة، وأحيانًا المصادفة دور مهم في بروز طاقات عند هذا الفرد او ذاك ، لكن ذلك لا يعني بأن الآخرين من العائلة نفسها لا يمتلكون طاقات مهولة ، وتكون ربما معادِلة لتلك التي امتلكها الشاعر المذكور، لكنها قد تكون مكبوتة ، أو أنها تخرج على أشكال وأنماط أخرى.
·     يبدو أن كل ما هو مطروح هنا يقوم على افتراضات نظرية! فهل هناك أية أدلة علمية تؤكد على هذا الطرح ، وبخاصة فيما يتعلق بما يجري في ثنايا الدماغ ، وما تسميه طاقة البوزيترون؟
     نعم هي نظرية تقوم على افتراضات ، ثم تأتي الجهود لمحاولة تقديم أدلة علمية. حتى الآن ما لدينا هو ملاحظات وأدلة إحصائية وتحليلية ، وهي في مجال البحث العلمي أمر مقبول. 
   لكن من الطبيعي أن يتم السعي من أجل التأكد من صحة هذه الافتراضات في المختبر. صحيح أن هناك بعض الأدلة العلمية التي تشير مثلاً إلى أن دماغ الطفل الجنين يتأثر بالعوامل الخارجية وبخاصة الصدمات ، أو الفجائع ، حتى وهو في رحم أمه ، وذلك كما جاء في فيلم وثائقي بثته البي بي سي قبل أشهر، وقد تم تسجيل ذلك الأثر على الأجهزة المعدة لمثل تلك المهمة. لكن هناك حاجة للتأكد مما هو مطروح هنا علميًّا ومخبريًّا، وبخاصة في مجال طبيعة تلك الطاقة التي تتولد في الدماغ ، فالمطروح هنا ثوري وجديد وغير مسبوق ، ولا بد من التأكد منه علميًّا ، ولا أستبعد أن يكون ما يحدث في الدماغ أمر آخر تمامًا، لكن ما يهمني كباحث هو أن العلاقة بين اليتم والعبقرية في أعلى حالاتها أصبح مؤكدًا ،وبالدليل الإحصائي.
·    هل لك أن تحدثنا عن الآلية الافتراضية التي تتولد فيها تلك الطاقة التي تسميها البوزيترونية؟
    أمّا بخصوص آلية ما يحدث في الدماغ، فيمكن وصفه بالشكل التالي: عندما يقع السبب الذي يؤدي إلى صدمة مثلاً ( اليتم ) يتشكل في الدماغ دفق هائل من كيمياء الدماغ، ولكنه نسبي، وتكون علاقته طردية مع وزن المسبب، هذه الوفرة في كيمياء الدماغ توفر الإمكانية، وتؤدي إلى حدوث ارتطام بين المادة ونقيضها (قرينها) في فضاء الدماغ، فيما يشبه الانفجار البوزيتروني الذي يتحدث عنه الفيزيائيون في المختبر استنادًا إلى معادلة الإلكترون التي جاء بها عالم الفيزياء بول ديراك ، والتي أكدها عالم فيزياء آخر اسمه كارل ديفيد اندرسون، والتي أثبتت أن الكون مكون من عالم المادة (الإلكترون) وعالم نظير المادة              ( البوزيترون) أي أن التناظر يرجع إلى البناء المقلوب للذرة.  طبعًا لا بد من التأكيد هنا بأن افتراضي أن انفجار بوزيتروني هو الذي يحدث في الدماغ، ويولد تلك الطاقة المهولة واللامحدودة، هو طرح افتراضي، ويحتاج أن يتم تأكيده مخبريًّا، لكن لا شك في أن لدينا ما يكفي من الأدلة الظرفية التي تشير إلى أن ذلك ما يحدث فعلاً، وذلك بناء على ما يطرحه الدكتور خالص جلبي في وصفه لأحدث تكنيك يستخدمه الأطباء في الكشف عن الأمراض الخبيثة، ومقدرات الدماغ، والجملة العصبية ككل في كتابه "الثورة العلمية الحديثة والإيمان"، حيث يقول" إن الأطباء يستخدمون تكنولوجيا البوزيترون في هذا المضمار، حيث يقوم الطبيب بحقن السكر الذي يحمل ذرة الكربون المشعة، فيتعرض نظير المادة إلى التحلل وإطلاق  ( البوزيترون ) الإلكترون الموجب، الذي يفاجأ بغريمه وظله المقابل الذي يتربص به الدوائر، فيحدث ارتطام يندثر على أثره الاثنان في صدام موحش، ومن تألق هذا الاصطدام يمكن تحديد أمكنة الأورام والاضطرابات المرضية".
     إنني أرى في هذا الحديث ما يشير إلى أن طاقة لامحدودة تنتج عن اصطدام المادة بقرينها في ثنايا الدماغ ...فلماذا لا يكون ذلك ما يحدث في حالة تشكل دفق هائل من كيمياء الدماغ؟
    وبالطبع فأن ما يحدد نسبة الطاقة المتولدة هو قوة الارتطام بين المادة ونظيرها ( قرينها ) والناتج أيضا عن وفرة كيمياء الدماغ ، وتكون مهولة لا محدودة عند الأيتام.  ويمكن لنا أن نتخيل هذه القوة البوزيترونية إذا ما قارناها بقوة الانفجار الذي يحصل كنتيجة لارتطام 0.147 من المادة مع قرينها من عالم اللامادة كما يصفها د. خالص جلبي في كتابه المذكور آنفًا، فيقول إن مثل ذلك الانفجار يعادل انفجار 100 قنبلة هيدروجينية.
 
    ولا بد من التشديد هنا على أن هذا الطرح يظل نظريًّا إلى أن يتم إثباته في المختبر، ولكن يظل هذا التفسير هو التفسير الأكثر إقناعًا لما يتوصل إليه العقل البشري في محاولته لتفسير سر العبقرية في ظل هذا التقدم التكنولوجي والعلمي المهول.
·     من هو خيل حمد ؟
    ولدت  في بلدة كفل حارس في العام 1954، في السنة الثانية بعد ولادتي تيتمت ، حيث فقدت أمي ، لكنني لم أعرف أنني يتيم الأم إلا في سن السابعة تقريبًا، حيث عرفت فجأة أن المرأة التي كنت أناديها "أمي" هي في الواقع خالتي، وهي أخت أمي، وزوجة أبي بعد وفاة أمي التي لم أعرف لها أية ملامح ، لأنها انتقلت إلى رحمة الله دون أن تترك صورة، ولا شك في أنها كانت طفولة صعبة للغاية ، فلك أن تتخيل ما كانت عليه الحياة في الريف الفلسطيني في ذلك الزمن.
 
   وفي سن الثالثة عشرة كان الاحتلال، وشاهدت حينها أول طبق طائر يحوم في سماء القرية، حيث كانت تلك طائرة "هيلوكبتر" ضخمة تطير على ارتفاع منخفض تبث الرعب في المكان. أكملت دراستي الثانوية في مدرسة القرية ، وفي ظل الحراب والخوف، ثم انتقلت إلى مدينة بيت لحم، حيث درست في جامعتها الأدب الإنجليزي، وبعد تخرجي عام 1978 سافرت إلى الكويت للعمل هناك ، وعملت فعلاً لمدة عام في بنك برقان، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراستي، حيث حصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن. وهناك في جامعة San Diego State University أنجزت رسالة الماجستير التي ضمنتها نظريتي حول "تفسير الطاقة الإبداعية" والعلاقة بين اليتم والإبداع،  وكانت بعنوان"الإبداع والبحث عن الاكتمال" . عدت بعدها للعمل في الكويت ، ثم إلى الأردن بعد أزمة الخليج ، وعدت في العام 1996 إلى فلسطين ، ومازلت ، حيث أعمل موظفًأ في كبرى شركات البلاد.
·    ما الذي تأمُل أن يحققه كتابك " الأيتام مشاريع العظماء"؟
   أقول كما جاء في مقدمة الكتاب...لعل هذا الكتاب يكون صرخة تدوي في أرجاء الكون تنبه إلى هذا الكشف، وتلفت الانتباه إلى الإمكانات الضخمة والمهولة واللامحدودة الكامنة في أذهان الأيتام وعقولهم، وإن مثل هذه العقول هي في الواقع مناجم غنية لأجمل اللآليء، وأثمنها على الإطلاق. وعليه أملي أن تتم إعادة النظر في كل ما يتعلق بموضوع الأيتام من ناحية النظرة لهذه الشريحة المجتمعية، ومن نواحي المعاملة والعناية والتربية والتعليم والصحة والكفالة والرعاية ، وما إلى ذلك..فلا يجوز أبدًا التعامل مع الأيتام بداعي الشفقة ، وعلى أساس أنهم أيتام بالمعنى التقليدي للكلمة، أو أنهم عالة على المجتمع ، أو أن يكون أساس التعامل معهم الإحسان أو المسايرة أو القهر أو الاستغلال ، ولا بد من إدراك أهمية هذه الشريحة في المجتمع، وأهمية الدور الذي لعبته ،وما تزال، وسوف تظل تلعبه في التطور الحضاري الإنساني ككل، لأن عقول الأيتام أرض خصبة تحتاج لمن يرعاها ،ويستثمر فيها، حتى تؤتي أكلها. لا بد من البدء بالتعامل مع الأيتام على أساس أنهم مشاريع عظماء، وعلى أساس أن من بينهم يأتي القادة الأفذاذ والمفكرون، والفلاسفة، والعلماء،  والأدباء، والمكتشفون، والمخترعون العباقرة. لا بد من البدء بالتعامل معهم انطلاقًا من الوعي بما يمتلكونه من إمكانات وطاقات، والتي من الممكن إذا ما أحسن استثمارها وتوجيهها أن تحقق إنجازات إبداعية إعجازية لا مجال لتخيلها.
 
5/2/2012
 

ليست هناك تعليقات: