عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الاثنين، ٢٣ آذار ٢٠٠٩

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

29حليمة 

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

 

حليمـــة

 

    وقف "عبد الجبار –بشاربيه المتهدلين الأبيضين الضاربين إلى الصفرة،، وبعينيه السوداوين اللتين لا تنفكّان ترمشان بما تبقى حولهما من أهداب، وبثيابه الرثة...وقدميه الحافيتين- يحملق في "زوجته" "حليمة" وهو يصرخ: ماذا أحضرتِ لنا؟ ما هذا؟ بقول..بقول..بقول! ألم تشبعي من البقول؟ ألم تكرهي البقول؟ لقد كرهتها...كرهتها...أريد تفاحة يا حليمة..تفاحة يا امرأة...ألا تفهمين؟ أريد شيئًا نأكله غير هذه البقول، وغير "المؤن"  التي تقدمها لنا وكالة الغوث..أريد شيئًا ذا معنى..ذا طعم..ذا نكهة...أريد أن آكل شيئًا مما يأكله الآدميون يا حليمة، لا مما ترعاه البهائم...لقد سئمت..سئمت..كرهتُ الدنيا..كرهتك يا حليمة!

    استمر "عبد الجبار" يصب جام سخطه وغضبه على رأس زوجه "حليمة"، وهي واقفة ساكنة لا تتحرك كتمثال قديم أبلاه وأتى على معالم وجهه تعاقب السنين...وقد تجمدت يداها المعروقتان على صدرها، وهما يضمان باقة يانعة محكمة التنسيق، لكنها ليست باقة من ورد، إنما هي من "البقلة" التي أكثرت "حليمة" في الفترة الأخيرة –كغيرها من الناس- من طبخها بما توافر لديها من بصل، وبما تبقى في صفيحة زيت "المازولا" التي حصلت عليها منذ مدة عندما حضرت إلى هذا الطرف القصيّ المنسيّ من المخيم سيارة كانت تحمل "المؤن" خلال فترة منع تجوال استمرت عشرة أيام.

    لم يكن صوت عبد الجبار أمرًا جديدًا، أو مفاجئًا لجيرانه، فلقد أصبح منذ زمن شيئًا من حياتهم اليومية على الرغم من كونه أمرًا مؤسفًا ومؤلمًا.. وما أكثر الأمور المؤلمة التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية – نحن الفلسطينيين- خارج فلسطين وداخلها....كنت أسمع صوت عبد الجبار من بيت شقيقتي "هاجر"...نظرتُ إلى شقيقتي التي أدركت فورًا ما أريد، فقالت باسمة: إنهما –كما ترى- مذ سكنا هذا المخيم.

    قلت: هل عرفتِ عنهما شيئًا؟

    قالت: نعم.

    قلت: سأدخل بيتهما لأعمل على تهدئة الموقف.

    قالت: وما شأنك أنت؟ إنك ضيف، وهما لا يعرفانك...ثم إن نظام منع التجوال قد فُرض منذ دقائق، بعد أن رُفع بضع دقائق!!اسمع أصوات الأعيرة والقذائف...إنهم يفرّقون الفتيان ويلاحقونهم...والموقف ليس بحاجة إلى تهدئة...سيهدأ عبد الجبار، وسينام أيضًا بعد قليل.

    قلت: لا عليك، سأزورهما الآن.

    حملت دفتري، وأخذت معي شيئًا مما تحتفظ به شقيقتي في بيتها من فاكهة وخُضَر لمواجهة الأزمات المستمرة المتتالية منذ مدة....تأكدت من نظافة الطريق..وسرت صوب بيت "عبد الجبار"...طرقتُ الباب بهدوء..سمعته يقول بأعلى صوته: لقد جاءوا..لقد جاءوا يا حليمة..لا تخرجي..انتبهي...بينما فتحت "حليمة" بابًا خشبيًّا متآكلاً كثير الشقوق والثغرات، وقالت بصوت خفيض، وبوجه يخلو من التعبير: تفضل..أأنت شقيق جارتنا هاجر؟ قلت: نعم. ودخلتُ بينما كان عبد الجبار بعيدًا يلوّح بعصاه، ويصرخ: اتركوها..دعونا وشأننا..ماذا يريدون يا حليمة؟

    قلت لحليمة: أهو فاقد البصر؟

    قالت: تقريبًا.

    قلت: وماذا عن بقية الحواس؟

    قالت: إنه يحيرني...ستعرفه جيِّدًا الآن.

    وصلت مع "حليمة" باب "الغرفة" حيث يقف "عبد الجبار"، وقالت له "حليمة" هامسة: أسكت، هذا ضيف محترم أتى لزيارتنا...تغير عبد الجبار، وألقى بالعصا التي كان يلوح بها، وقال وهو يحدق بي، ويبتسم، ويمد يده لمصافحتي: أهلاً وسهلاً بالضيف المحترم..

    قلت – وأنا أصافحه، وأتأمل ملامحه وهيئته- : أهلاً بك يا عبد الجبار...

    وقطب الرجل حاجبيه قائلاً: كيف عرفت اسمي؟

    قلت: وهل هو سر؟

    قال: نعم...إنه سر.

    قلت: سمعت حليمة تناديك بهذا الاسم.

    قال: حليمة؟ إنها دائمًا هكذا تكشف أسراري...إنني لا أسيء الظن بها...ولكنها هكذا دائمًا تتصرف ببساطة وجهل!

    وتدخلت "حليمة" قائلة "لعبد الجبار": أتريد أن يظل ضيفك واقفًا هكذا؟ واعتذر "عبد الجبار" بسرعة قائلاً: تفضل، تفضل بالدخول...ودخلنا الغرفة المتواضعة: سرير قديم أشبه بأسرة الجيش البريطاني في فترة الانتداب على فلسطين..يرتفع قليلاً عن الأرض، عليه غطاء رث يقبع عند الزاوية اليمنى لمدخل الغرفة..وستة كراسي قديمة من الخيزران منتشرة على أرض الغرفة في غير نظام رتبتها "حليمة" قبيل دخولنا بأن وضعتها على امتداد الواجهة المقابلة للباب في صدر الغرفة...ويرى الداخل على يسراه شيئًا يشبه خزانة خشبية صغيرة طُليت بدهان أسود تتفشى فيه بقع مختلفة الأشكال والأحجام، ذات ألوان مختلفة أبرزها اللون الأبيض...جلستُ لدى وصولي أول كرسي، وجلس "عبد الجبار" إلى يميني...بينما انسلت حليمة من الغرفة قائلة إنها ستحضر لنا الشاي...وسادت الغرفة لحظات من الصمت كان كل منا يتفحص فيها صاحبه...ويلملم أوراقه، ويرتبها كما يقولون...وأدركتُ

أن أمامي مجالاً خصبًا للحديث، (والأخذ والعطاء) إذا حافظ "عبد الجبار" على هدوئه.

    دخلت "حليمة" تحمل الشاي، وجلست قبالتنا على السرير واضعة راحتيها على خديها، بينما تركز نظرها على أرض الغرفة. وبدأ "عبد الجبار" الحديث قائلاً: ألا تعرِّفني على نفسك أيها الضيف المحترم؟

    قلت: أنا جار لكم، وأعمل في إحدى الصحف.

    قال: يعني "صحفي".

    قلت: نعم.

    قال: هل معك "كاميرا" لتصوّرني؟

    قلت: لا، فأنا لا أحب التصوير، ولا أعمل مصورًا صِحافيًّا.

    قال: لا تحب التصوير أم أنك تخبئ "الكاميرا" بعد أن صورت بها "أهل" المخيم؟ على أي حال أنت لم تصورني، بل لم تحضر "الكاميرا" معك بعد أن عرفت أنني أكسر كل "كاميرا" أراها، وأتصدى لكل "صحفي" يحاول تصويري.

    قالت حليمة "مقاطعة": يا عبد الجبار، قلت لك إن ضيفك محترم، هل نسيت؟ إنني أعرفه جيِّدًا، وهو يعمل لخدمة سكان المخيم، وغيرهم من أهل بلادنا...

    قال: تقولين أهل بلادنا؟ هل يصورهم ضيفنا أيضًا؟ ويرسل صورهم إلى الأجانب لنظل "فُرجة" للناس في هذه الدنيا؟

    قالت: لا، لا يصور ضيفنا أحدًا من أهل بلادنا.

    قال: أيها الضيف المحترم، قل لي من تعرف من أهل بلادنا؟

    قلت: أعرف كثيرًا من الناس.

    قال: مثل من؟

    قلت: السيد عبد الجبار، والسيدة حليمة..

    ارتعش "عبد الجبار" قليلاً، وقال: ومن أيضًا؟

    قلت: أتعرف أنت أحدًا من أهل بلادنا؟

    قال: أنا؟ وضحك ضحكة عالية..طبعًا، أعرف كل الناس.

    قلت: مثل من؟

    قال: هذه أسرار. أتظن أنني أبوح بها بسهولة؟ أتريد أن تعرف كل شيء بهذه البساطة أيها المحترم؟ تقول حليمة إن عمري أصبح خمسًا وسبعين سنة...وأنا لا أصدقها، فهي لا تعرف شيئًا... عمري الآن اثنتان وثلاثون سنة...وأولادي محمد، وعلي، وأحمد، وخالد...وزوجتي حليمة بنت المختار سعيد..وبيارتي من أكبر بيارات المنطقة، وهي لشدة اهتمامي بها تعتبر أفضل بيارة في المنطقة كلها...

    قلت – مقاطعًا- : تريد أن تقول في منطقة يافا كلها...

    قال: نعم، نعم...لكن كيف عرفت؟

    قلت – بسرعة - : وهل تخفى لهجة أهالي يافا؟ إنها حلوة يا أخي حلاوة برتقال يافا...

    ابتسم عبد الجبار، وقال: بعد أن نبيع في الأسواق المحلية ما نبيع..تعودنا أن نصدر كثيرًا من إنتاجنا إلى أوروبا...هل تعلم أنني وعمي المختار والد حليمة هذه، وجارنا الشيخ عثمان، والشيخ محمد، ويوسف أفندي نستطيع أن ننشط الحركة في الميناء، شهراً كاملاً و...و...وتغيرت لهجة الرجل، وأخذ يصرخ: ماذا قلت؟ هل قلت الميناء..نعم..الميناء.."مينة يافا"..المينا..أيوه المينا..لا..لا..ليس صحيحًا..لم أفعل شيئًا.. أنا لم أفعل شيئًا.. هم الذين اعتدوا علينا..لا..لا...وفي هذه الأثناء كانت "حليمة" قد أتت بالدواء...وبقوة لم أرها في كثير من الرجال تمكنت من السيطرة على "عبد الجبار"، ومن ثم تمكنت من إعطائه الدواء، وهو في حالة من الهياج..أعقبتها حالة من التشنج بعد أن وقع أرضًا... بينما تناثر الزبد من فمه، ليسيل من شدقيه، واستسلم بعد ذلك لنوم عميق...وألقت عليه "حليمة" غطاء بعد أن وضعت وسادة تحت رأسه...

    قلت لها: لو نقلناه إلى السرير.

    قالت: لا..دعه هكذا حتى يصحو من غيبوبته.

    قلت لحليمة: وهل تطول غيبوبته هذه؟

    قالت: لا..استرح أنت..فلقد ألِفتُ هذا من عبد الجبار..وليس في الأمر بالنسبة لي أي جديد.

    قلت: ما سبب ذلك؟ لماذا وصل عبد الجبار إلى هذه الحال؟ خبريني...هذا الرجل يخفي في أعماقه أسرارًا كثيرة..قولي يا حليمة من هو هذا الرجل؟ أين أولاده الذين تحدث عنهم قبل قليل؟

    قالت حليمة: سأروي لك كل شيء..دعني أحضر لك الآن كوبًا آخر من الشاي.

    قلت: لا مانع.

    أخذ عبد الجبار يتململ، ويتمطّى، ويتثاءب، وينطق بكلمات غير مفهومة...وتساقطت من جيب قميصه بعض الأوراق..أحسست برغبة شديدة في تفحص هذه الأوراق، وكدتُ أن أشبع فضولي بالاطلاع عليها لولا صوت سمعته، أو خيّل إليّ أنني سمعته...صوت من أعماقي صرخ بي: لا..لا تفعل، هذا ليس من حقك...لقد وعدتك حليمة أن تروي لك كل ما تريد عن هذا الرجل...وتساءلتُ: هل تعرف حليمة شيئًا عن هذه الأوراق؟ هل تحسن القراءة؟ هل سبق أن أُطّلعتْ عليها؟ ودخلت حليمة، ومعها الشاي..فأشرتُ إلى الأوراق..قالت حليمة –دون أن تمس أيًّا منها- : تلك كما ترى بطاقة هويته الشخصية، وهذه الأوراق "المجلتنة" شهادات ملكية بالأراضي والعقارات التي يملكها صادرة عن دائرة

تسجيل الأراضي، ودائرة المالية في يافا..وشهادة ميلاده..وبعض الأوراق الخاصة الأخرى.

    قلت: يبدو أنك مطّلعة عليها تمامًا.

    قالت: نعم...لقد قرأتها كلمة كلمة...باللغتين العربية والإنجليزية...

    نظرتُ إلى حليمة مشدوهًا وقلت: هل تحسنين قراءة الإنجليزية أيضًا؟

    قالت: نعم، وأتقنها كتابة ومحادثة.

    ازدادت دهشتي وقلت: كم تبلغ السيدة "حليمة" من العمر؟

    قالت: أكثر قليلاً من خمسين سنة.

    قلت: وهل أنت من مواليد يافا أيضًا؟

    قالت: ولماذا تقول أيضًا؟

    قلت: لأن عبد الجبار من مواليد يافا...أليس كذلك؟

    قالت: ليس الأمر كذلك..لقد عاش "عبد الجبار" سنوات طويلة من حياته في يافا..وكان من ذوي الأملاك فيها، كما كانت له بعض الأملاك في غزة...ولقد عاش فترة طويلة من حياته في سجون الإنجليز عندما ألقوا القبض عليه في ميناء يافا بتهمة قتل اثنين من جنودهم...ولقد ولد عبد الجبار في القدس لأبوين مقدسيين...تمكن من الهرب من سجن عكا عام 1946 قفزًا عن سور السجن حيث أصيب ببعض الكسور في الجمجمة..وأنقذه بعد ذلك عدد من شباب عكا...عولج في مخبأه بشكل جيد، واهتم به سماحة المفتي آنذاك، واستقدم بعض الأطباء للإشراف على علاجه...شارك "عبد الجبار" بشكل فعال في حرب عام 1948، في صفوف "الجهاد المقدس" حيث كان ضابط اتصال ممتازًا في الكتيبة الثانية... وأصيب بجراح بليغة في إحدى العمليات العسكرية التي نفذها تحت لواء الشهيد القائد عبد القادر الحسيني...وعولج ثانية بشكل مكثف... أصيب بصدمة في يوم استشهاد عبد القادر... وأصيب بصدمة كبيرة في أعقاب هزيمة عام 1948... رفض الخروج من البلاد بعد النكبة... وأمضى فترة من حياته بعد ذلك مختبئًا مطاردًا حزينًا...تعرض لمحاولة قتل بعد سنتين من النكبة، عندما تمكن ثلاثة مجهولين من الوصول إلى مخبأه بصحبة زوجه التي أقنعوها أنهم من أصدقائه القدامى، ويريدون الوصول إليه لأمر ما، وعند وصولهم أدركت الزوج المسكينة –حليمة- سوء نواياهم، فافتدته بروحها، وحالت بينهم وبينه..لقد استقرت ست رصاصات في جسدها، فقضت نحبها فورًا، ولاذوا بالفرار بعد أن ضربوه ضربة موجعة على رأسه أفقدته بصره تقريبًا، وأصابته بالإغماء، وفي هذه المرة أيضًا أنقذه بعض أهالي القرية التي كان يقيم فيها...وبعد ذلك قرر العيش في أحد المخيمات...فهو لاجيء من يافا التي يملك فيها بيتًا وأرضًا...وأغلب الظن أنه تمكن بمساعدة بعض الأصدقاء القدامى من "تزييف" شخصيته، وتغيير اسمه إلى "عبد الجبار"..وفي المخيم عاش معه أولاده محمد وعلي وأحمد وخالد..كانوا شبابًا من خيرة الشباب...ولما كانت الحياة في تلك السنوات غاية في الصعوبة فقد اندفع كثير من الشباب للعمل خارج البلاد، وبخاصة في الكويت، وبعض أقطار الخليج...وهكذا سافر أبناؤه الواحد تلو الآخر....وبقي عبد الجبار وحيدًا منذ أواخر الخمسينيات..فساءت حالُه الصحية والنفسية كثيرًا، وفقد ما كان قد تبقى من توازنه واتزانه....ولما كان الأطفال لا يرحمون، بل لا يعرفون من هو "عبد الجبار" فقد آذَوْه كثيرًا... وأصبح المسكين لعبة كثير من الأطفال والشباب، إلى أن تبنته أسرة محترمة من رام الله، ونقلته قسرًا من المخيم حيث أفردت له "سكنة" خاصة به، وخصصت له ممرضة محترمة تشرف على أحواله، وتقوم على خدمته ورعايته...وظل الأمر هكذا حتى استرد "عبد الجبار" شيئًا من عافيته، فعاد إلى حياة المخيم....أما أسرته فلم يكن على وفاق معها منذ البداية بسبب اختلاف المشارب والميول والأهواء....وأما أبناؤه فقد حاولوا مرارًا أن يقنعوه بالسفر، ولكن دون جدوى...فعبد الجبار لا يريد أن ينفصل عن هؤلاء اللاجئين الذين عاشوا في دمه، وتمكنوا من حالتي الوعي واللاّوعي لديه....وبقيت الأمور تسير على هذا النحو حتى عام 1968 عندما علم عبد الجبار أن أبناءه الأربعة يعملون قريبًا منا هناك خلف النهر مع آلاف الشباب من أبناء هذا الوطن مما أثلج صدر عبد الجبار..وأصبحت أحواله منذ ذلك الحين مرتبطة كل الارتباط بأحوالهم هناك....فكانت بين مد وجزر...إلى أن انقطعت أخبارهم ذات يوم....إنني لم أرَ إنسانًا كهذا الإنسان الذي ارتبطت حياته كلّـيًّا بأرضه، وأحوال شعبه.

    قلت: وأنت؟ ألستِ زوجًا له؟

    قالت: لا.

    قلت: لقد ذكرتِ أن مجهولين تمكنوا من خداع زوجه "حليمة" عندما أقنعوها أنهم من أصدقائه القدامى...حيث افتدته بروحها.

    قالت: نعم...إن حليمة "اليافاوية" هي زوجه...أما أنا فلست حليمة...لقد تسميت باسمها منذ بضع سنوات عندما كُلّفت بالإشراف على "عبد الجبار"، حيث كان في وضع صعب..فخدمته بإخلاص..وانتقلت به إلى هذا المخيم لأتمكن من الإشراف عليه –كما ترى- ولكي أكون قريبة من مكان سكني هناك في بيت الممرضات المتطوعات.

    قلت: هل بإمكاننا أن نتعارف؟

    قالت: من أنت؟

    قلت: كما قال عبد الجبار "صحفي".

    قالت: وأنا ممرضة ذات خبرة طويلة بالإشراف على الحالات الخاصة.

    قلت: أيمكنني النظر في بطاقتك الشخصية؟

    ابتسمت وقالت – وهي تناولني البطاقة- : تفضل.

    كان الاسم مغطى بقصاصة رقيقة من الورق..أما الجنسية فقد اتضح منها أن "حليمة" من رعايا إحدى الدول الأجنبية! يا لَلْهول! هل حقًّا ما أرى، أم أنني في حلم؟

    قلت: أراك تعرفين كل شيء عن عبد الجبار.

    قالت: هذا ما تستدعيه طبيعة عملي.

    قلت: ومنذ متى تقيمين في فلسطين؟

    قالت: منذ أمد طويل..إنها حكاية سأرويها على مسامعك في لقاء آخر.

    وأفاق عبد الجبار من إغفاءته..وأخذ يحدق بي، بينما راح يتمتم: إياك أن تصورني..لقد كسرت "الكاميرا" ذات يوم، وضربت "الصحفيين" الذين أرادوا تصويري...

    قلت: لن يحدث شيء من هذا أبدًا.

    اعتدل عبد الجبار في جلسته...ووضع رأسه بين يديه وهو يقول: صداع، صداع..أشعر بصداع شديد يا حليمة...أحضرت حليمة دواءً على وجه السرعة...شرب عبد الجبار الدواء، وقام في تثاقل، وأخذ مكانه حيث كان إلى يميني..وضع عبد الجبار رجله اليسرى على اليمنى، وأسند رأسه إلى الجدار من خلفه، وابتسم في هدوء غريب، وقال: أتريد أن تعرف شيئًا عني يا حضرة المحترم؟

    قلت: أقرأ في عينيك تاريخ شعب..وأرى في وجهك شمم الأقصى، ومنائر يافا..وأحسّ في قلبك الكبير دقات تنبيء بانبلاج فجر هذا الشعب العظيم الذي لن يخضع أبدًا... إنه شعب جدير بالحياة والحرية...

    وأنت يا حليمة...يا من تجسدين روح الإنسانية الحقة بوقفتك الرائعة الرائعة إلى جانب شعبنا في ساعات مخاضه...أنت يا حليمة خلقتِ فيّ إحساسًا عارمًا بأن المستقبل على هذه الأرض للشعوب...هذه الشعوب الطيبة المحبة للسلام والعدل والحرية.

    ودَّعتُ "حليمة" و"عبد الجبار"، وقفلتُ عائدًا إلى بيت "هاجر" لأسجل كل ما رأيت بنزاهة وتجرد.                    

 

(1988 )  


 

ليست هناك تعليقات: