عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الأحد، ٨ شباط ٢٠٠٩

مبادئ عامة في النقد

                 أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

 

         يقول الشاعر أحمد شوقي : أساطين البيان أربعة : شاعر سار بيته , ومصور نطق زيته , ومثال ضحك حجره , وموسيقي شدا وتره , وهذا التعبير عن كل فن هو الأسلوب بمعناه العام .

     أما في الكتابة فهو الصورة اللفظية التي يتمثل فيها تفكير الكاتب وتعبيره , وعنصراه : تفكير , وتعبير .. وهو نوعان : علمي ,وأدبي .

     أما العلمي فهو لغة العقل .. وعنصراه : أفكار , وتعبير .. وأما الأدبي فهو لغة العاطفة .. وعناصره :أفكار , وصور,وتعبيرات.

        كما يختلف الأسلوب باختلاف صورة الأداء فهو شعر أو نثر, وباختلاف الاتجاه في معالجة الموضوع أو باختلاف وجهات النظر في القضية الواحدة ...وباختلاف الأدباء.. فهم ليسوا سواء , ولن يكونوا كذلك ...كما يختلف باختلاف الموضوع ,فما يقال في الغزل لا يقال في الرثاء ...ولا شك في أننا دائما بحاجة إلى هذا التنوع والتفاوت في الأساليب لا لأن الكتاب يختلفون في أساليبهم فحسب , ولكن لأن القراء والسامعين أيضا يختلفون في تقدير تلك الأساليب, والإستمتاع  بها ... ولعلنا جميعا نعلم أن الخيال وليد العاطفة , وهو الذي ينتج الصور الكثيرة التي تشيع الروعة في الأساليب الأدبية .

         ولعل من الضروري هنا أن نذكر أن لكل من الأدباء الكبار أسلوبه الذي يميزه عن سواه من الأدباء ...فطه حسين - مثلا - معروف لدى القراء والنقاد بالتكرار والترادف والتعليل والإيضاح .. والمقابلة والموازنة .. والتأنق والدقة في اختيار الألفاظ .. وبيسر العبارة وسهولتها .. وبالثقافة الواسعة .. والثقة بالنفس إلى أبعد الحدود .

     ونقول إن أبرز ما في أسلوب العقاد : عمق الفكرة ,وأثر المنطق , وسليقة المعلم , والضغط على المعنى ... وهكذا.

         وأرى من الضروري أيضا في هذا السياق أن أشير إلى  مكونات الشخصية الأدبية من موهبة , ورعاية ,وتمرس , ودراسة , وخبرة ثقافية مستمدة من تجارب الحياة ... وهذا يذكرنا بحقيقة أن الأديب الجيد هو من يختار معجمه اللغوي بعناية شديدة بحيث تكون له ثروة لغوية واسعة تمكنه من اختيار الكلمات المناسبة لموضوعاته بسهولة ويسر .. وتمكنه أيضا من إعادة صياغة الكلمات التي يستعملها الناس في حياتهم اليومية بطريقة لبقة تكسبها الجدة والطلاوة .. وتكسبه ثقة القراء واحترامهم وتقديرهم وتجاوبهم مع ما يكتب ... وتمكنه أخيرا من تجنب الغريب أو النادر المهجور المستقر منذ أمد في بطون كتب اللغة ومعاجمها .

         والأديب الجيد يدرك بفطرته وثقافته وتجربته وحسه الأدبي المرهف الصلة الوثيقة بين العاطفة والموسيقى ... وأن الموسيقى في الشعر أكثر وضوحا منها في النثر بسبب الوزن والقافية أولا ... وأما الإيقاع الموسيقي في النثر فأكثر تغيرا , وأكثر حرية ...ويأتي به الناثر الجيد , أو الكاتب الجيد من توقد الفكر , وعمق الثقافة إلى جانب العاطفة الصادقة الجياشة ... والكاتب الموهوب أيضا تمتزج في كتابته الأفكار المثقفة بالعاطفة الصادقة المؤثرة ضمن تجربة نفسية تكسبها تأثيرا موسيقيا رائعا تظهر فيها شخصيته .. ويبرز من خلالها طابعه ... فنعرف - نحن القراء - أننا نقرأ لفلان أو لفلانة من خلال الأسلوب , والمعجم اللغوي والمنهج الذي عرف به هذا الكاتب أو تلك الكاتبة ....

           لسنا بحاجة إلى طويل وقت كي نعلم أن هذا النص لابن المقفع لأننا نقرأ مواعظ وعظات واضحة مكثفة , ويعمد الكاتب إلى التشبيه يقوي به حجته , ويوضح فكرته ... ثم إننا نرى هذه المزاوجة وهذا التناسب بين الفقرات ... ولسنا بحاجة إلى إعمال الفكر كثيرا كي نحكم أن هذا النص للجاحظ الذي قام منهجه في الكتابة على السجع القليل غير المتعمد , وعلى الإفاضة والاستقصاء في الوصف .. والعبارة المكونة من جمل قصيرة يكثر فيها التوازن والازدواج ... وما يقال في هذين الأديبين يقال في غيرهما من أدباء العربية في كافة عصور الأدب العربي بدءا بعصر ما قبل الإسلام , ولا أقول انتهاء بأيامنا هذه ...فعلى امتداد خمسة عشر قرنا من الزمان كان الأدب ... وكان النقد... وكانت المعارك ... ولا تزال .

          ولعلنا جميعا ندرك أن الأسلوب الأدبي الخالص يختلف عن الأسلوب العلمي الخالص .. وهما يختلفان بدورهما عن الأسلوب العلمي المتأدب .. كما أننا ندرك - دون ريب - أن من أبرز فنون النثر العلمي المقالة , والمناظرة , والتأليف في شتى العلوم وبخاصة التاريخ ...وأن البحث العلمي يقوم على : المقدمة , والموضوع , والخاتمة .

         ولعل من الضروري أن نعلم - ونحن نستعرض مبادئ النقد الأدبي هذه - أن هدف الأسلوب العلمي هو الإيضاح , وإبراز الحقائق ..وهما مقياس جودته ... أما وسائله في ذلك فهي أن يكون الكاتب نفسه فاهما ما يريد .. مزودا بثروة لغوية مناسبة .. ذا قدرة على التصرف في التراكيب والعبارات .. ملما بنصيب كاف من العلم بالنحو والصرف .. مستعينا بالمصطلحات في غير إسراف

        وأن نعلم أيضا أن أساليب النثر تختلف باختلاف فنونه .. فما يناسب الرسالة العامة لا يناسب الخاصة .. وما يناسب هذه أو تلك لا يناسب المقال سواء كان علميا أو أدبيا أو صحافيا ... وأن للخطبة بأنواعها الدينية , والسياسية , والقضائية , والاجتماعية متطلبات خاصة  بها ... وكذلك الحديث الإذاعي الذي يجب أن يجمع فيه صاحبه بين بعض خصائص الخطابة والمقال والتحدث ...

كما أن من الضروري أن نعلم أن للقصة - بكل أنواعها - متطلبات تختلف عن متطلبات فنون النثر التي سبقت الإشارة إليها .

        ولا بد في هذا السياق من الإشارة السريعة إلى الشعر , وأسبقيته , وامتزاج الفكرة بالعاطفة في الأدب الحي .. وأن موسيقى الشعر تأتي من نظام وزنه وقوافيه ..ومن اختيار ألفاظه .. وأن هذه الموسيقى خارجية , وداخلية , وخفية وهي أصدق هذه الألوان , وأشدها أثرا لأنها تتمثل فيها بحق روح الشاعر وفنه ...إنها نتاج كافة العناصر الفنية المجتمعة في شعره من عواطف , وأفكار , وألفاظ , وصور , وأخيلة .... كل هذا يؤدي بنا إلى ما يمكن أن نسميه الشعر الخالد ... هذا الشعر ليس تصويرا لعواطف وانفعالات مجردة عن الأفكار ..إنه الشعر الذي يعمد فيه الشاعر إلى الأفكار فيذيبها في عاطفته ..ليحيلها من خلال وجدانه إلى إحساسات نفسية ... ويلونها بلون شعوره الخاص نافيا الذهنية المحضة عنها ... وبغير ذلك لايكون هناك شعر , بل نظم ليس له من خصائص الشعر إلا الوزن .

          وكما اتفقنا آنفا على أن أساليب النثر تختلف باختلاف فنونه .. فإنه ينبغي لنا أيضا أن نتفق على أن أساليب الشعر تختلف هي الأخرى باختلاف فنونه : فالشعر الغنائي  غير شعر الملاحم .. وهما غير الشعر التمثيلي أو المسرحي .. والمقطوعة غير القصيدة ...وبعد:

         فإنني أرجو أن أكون قد قدمت من خلال هذا العرض السريع لبعض مبادئ النقد العامة شيئا ذا بال للأخوات والأخوة الكرام .

         وبجدر بنا أن لا ننهي الحديث في هذا الموضوع الممتع قبل أن نستمع إلى تطبيق واحد على الأقل ... أما النص فهو قصيدة ميخائيل نعيمة  " أخي " وأما النقد فهو لواحد من كبار النقاد العرب  د. محمد مندور .

 

 

 

النص :         

         أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعمالهْ

         وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

           فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا

           بل اركع صـــامتا مثلي  بقلب خاشع دام

                                    لنبكي حظ موتانا

           أخي إن عاد بعد الحرب جندي لأوطانهْ

           وألقى جسمه المنهوك في أحضان خلانه

           فلا تطلب إذا ما عدت للأوطان خلانــــا

           لأن الجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهــــمْ

                                  سوى أشباح موتانا

          أخي إن عاد يحرث أرضه الفلاح أو يزرع

          ويبنـى بعد طـول الهــجر كوخا هده المــدفع

          فقد جفـت ســـــواقينـــا وهـد الــــذل مـأوانا

          ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضــــينا

                                 سوى أشباح موتانا

          أخي قد تــم مـــالو لـم نشـأه نـحن ما تما

          وقد عم البـلاء ولو أردنا نــحن ما عمــا

          فلا تندب فأذْن الغير لا تصـغي لشـكوانا

          بل اتبعني لنحفر خندقا بالرفش والمعولْ

                                 نواري فيه موتانا

          أي من نحن ؟ لا وطن ولا أهل ولا جار

          إذا نمنا , إذا قمنا , ردانا الخزي والعار

          لقد خمت بنا الدنيا كمــا خمـــت بموتانا

          فهات الرفش واتبعني لنحفر خـندقا آخرْ

                                 نواري فيه أحيانا

           لننظر في هذه القصيدة التي قيلت في أواخر الحرب العالمية الأولى .. هل هي مجرد وثيقة تاريخية أم هي أدب خالد دائم الحياة ؟

المقطوعة الأولى :

         نفس مرسل وموسيقى متصلة .. فالمقطوعة وحدة تمهد لخاتمتها وفي هذا ما يشبع النفس ... إذا ضج الغربي بأعماله , وقدس موتاه, وعظم أبطاله فلا تهزج للمنتصر .. ولا تشمت بالمنهزم لأنه لا فضل لك في هذا ولا ذاك .. وما أنت بشيء .. وأنت أحق بأن تحزن , وأجدر بأن يخشع قلبك .. فتركع صامتا لتبكي موتاك ...

        " أخي " فأنا إذن شريكه في الإنسانية .. وأنا قريب منه , وهو قريب مني أسمعه ويشجيني صوته الرقيق القوي المباشر .. وهو ينقل إلي قوة إحساسه بفضل قدرته على اختيار اللفظ الذي يستنفد الإحساس " إن ضج غربي بأعماله " والضجيج بالغ القوة لجرس حروفه , وقوة إيحائه , وهو يضج " بأعماله" لا " بالمبالغات الكاذبة " الغربي " يقدس ذكر من ماتوا " وهذه ألفاظ لينة جميلة مؤثرة غنية ..فيها قدسية الدين ..فيها نبل الوفاء .. فيها جلال الموت ... مشاعر شتى تجمع إلى النفس ثروة رائعة .. وهو " يعظم بطش أبطاله " أي قوة في تتابع هذه الحروف :ظاء ثم طاء وطاء .. أعد هذه الجملة على سمعك , ثم أنصت إلى قوتها التي تملأ فمك , كما تملأ الأذن .. ثم إن التعظيم غير التحية أو التبجيل .. والبطش غير الشجاعة أو الإقدام . البطش شيء يصعق ... وهو يدعوني إلى ألا أهزج  لمن سادوا ... والهزج غير الفرح .. الهزج غناء , والسيادة لفظ حبيب إلى النفس تهفو إليه .. ولذا فهو يحركها وله فيها أصداء مدوية " ولا تشمت بمن دانا " والشماتة شعور خسيس تركز في هذا اللفظ لكثرة مروره بنفوسنا جميعا , لفظ يحمل شحنة من الإحساس . وما أحقرها شماتة تلك التي نستشعرها لمن دان ! نعم ما أحقر أن نشمت بجثة هامدة ! ألم تقل العرب قديما : الشماتة لؤم ؟

        هذا هو الشعر الذي لا أعرف كيف أصفه .. فيه غنى صادر عما تحمل الألفاظ من إحساسات دقيقة صادقة قريبة من نفوسنا , أليفة إليها , إحساسات ركزناها منذ أجيال ..عزة العربي المجاهد الشجاع اليقظ لا الكاذب المنافق المراوغ التافه الجبان .. ثم آلمنا وقد أصبحنا لا نجد أمامنا سوى الركوع خاشعين .. والبكاء في صمت على إخواننا المهدورين .

المقطوعة الثانية :

        ها نحن من جديد نشهد الجندي يعود إلى أوطانه .. ومن اغترب يعرف معنى هذه العودة .. فما بالك إذا كانت عودة تستنقذك من مخالب الموت ؟ هذا الجندي يعود مكللا بعزة النصر فيلقي جسمه المنهوك في " أحضان خلانه " لست أدري ما مصدر التأثير في هذا البيت , أهو في هذه المدات الثلاث :

  " منهوك / أحضان / خلان " التي توحي بالتأسي والراحة والحنان .. أم هو في إلقاء المنهوك جسمه بين أحضان خلانه ؟ أي صدق في العبارة ؟ أي صدق في التأثير ؟ ثم أي تجسيم للصورة التي نكاد نراها ؟ وأما نحن فسنعود من الحرب منهوكين ..ولكننا لن نلقى خلانا .. وأنى لنا ذلك والجوع لم يترك لنا صحبا نناجيهم سوى أشباح موتانا ؟ أبعد هذا نختلف في حقيقة الشعر , ونروح نهذي بفحولة العبارة , وجدة المعنى , وإشراق الديباجة؟ ونروح نطلق الألقاب ,ونوزع النياشين هكذا دون أدنى احتكام لأبسط " مبادئ النقد" وأبسط موازين القيم الأدبية المتوارثة ؟!

المقطوعة الثالثة :

       أية بساطة في التصوير ؟ وأي قرب من واقع الحياة .. حياة الفلاح الذي يحرث ويزرع بعد أن يبني كوخه من جديد .. وأما نحن فقد جفت سواقينا ..سواقينا التي ألفناها .. سواقينا التي خلفها لنا الآباء . ولقد " هد الذل مأوانا " ثلاثة ألفاظ قوية نافذة لا تستطيع أن تستبدل بأي منها غيره دون أن تفسد الشعر وتذهب بقوته "هد الذل مأوانا " فهو لم يهدمه .. والهدم شيء مبتذل .. "هد" لفظ موجز موح مصور ... وهو قد هد مأوانا لا بيتنا ولا دارنا ولا منزلنا ولا قريتنا ...بل هد مأوانا الذي نحتمي به , ونستتر خلف جدرانه ونستر خلفها آلامنا ... ثم ما الذي هد هذا المأوى ؟ ليست الحرب وإلا لبنيناه من جديد كما سيبني فلاح الغرب كوخه (هده الذل ) لفظ دال ثقيل .. ثقيل كالصخر ... ولم يترك لنا الأعداء غرسا في أراضينا غير أجياف موتانا .. وما آلمه من غرس ! تلك الجثث الهامدة التي ترقد في غير مجد ولا عزاء .

المقطوعة الرابعة :

       دع عنك ما في قوله "قد تم ما لو لم نشأه" فهذه أربعة أو خمسة مقاطع متلاصقة منفصلة كثيرة الميمات صعبة النطق في انسجام ..وانظر إلى مادون ذلك "فالبلاء قد عم" ألفاظ قوية تعبر عن إحساس قوي , وما ينبغي لنا أن نندب, وإلا أضفنا الحمق إلى الألم ..ومتى أنصتت أذن الغير إلى شكوى الناس, وبخاصة إذا كان هؤلاء الناس ممن لا يعنيهم أمرنا ؟ وإذا فليس لي إلا أن آخذ الرفش والمعول , وأن أتبع أخي الذي يدعوني في أسى إلى أن نواري موتانا.

         من منا لا يرى هذه الصورة المحزنة؟ من منا لا يحس بدعوة الأخ لأخيه كي يتبعه, وقد سار إلى الجثث الملقاة في العراء في خطى متثاقلة, معوله على كتفه وأخوه من خلفه واجم النفس حزين الفؤاد؟ .. والشاعر لا يكتفي بالأموات, بل يهم بضم الأحياء إليهم ..وقد تهيأ الجو, وحميت الأنفاس فإذا به في القمة .. وتأتي القصيدة وحدة موسيقية نفسية تنتظم مقطوعات موحدة لا يزال بعضها يكمل بعضا .. وتنمو بنمو الإحساس المتصاعد إلى الأشباح كي تستقر نفس الشاعر في

المقطوعة الأخيرة :

       هذه المقطوعة التي بلغت غاية الألم .. ولكنني أحس فيها إثارة لهمتي, وتحريكا لمعاني العزة في نفسي .. فأنا لا أومن بأن الدنيا قد خمت بنا كما خمت بموتانا .. وأنا لا أرضى بأن أوارى التراب حيا ... إن في هذه النغمات ما يلهب وطنيتي بل إنسانيتي ... وهكذا تنتهي هذه القصيدة إلى هذا الدرس النبيل .. والشاعر لم يعظ ولم يشر إلى الوطنية .. ولا دعا إلى شيء من تلك المعاني الضخمة التي رددها ... وإنما أشعرني ببؤسي و "مالي وطن ولا أهل ولا جار" لقد هم الشاعر بأن يدفنني حيا .. فنفرت عزتي, وهاجت شجوني .. إنني أقوى نفسا, وأعز جانبا ,وأحمى شجاعة .. وإن كنت قد أدركت بؤسي .... والآن أليس هذا هو الشعر الذي نهتز لنغماته, والذي نحسه خارجا من أعماق نفس ذات نغمات حارة ... فهو غير الخطابة التي تغلب على الشعر وتفسده , وتبعد به عن النفس, وعن الصدق ..بل هو إحساس بتأثير عناصر اللغة .. واستخدام تلك العناصر في تحريك النفوس وشفائها ... هذه العناصر الإنسانية في الشعر كفيلة بأن تضمن له الخلود بين الناس كافة .

     لقد أبدع مندور - والحق يقال -  في شرح هذه القصيدة, وفي تحليلها , والتعليق عليها .. وكان عمله هذا إسهاما في خلودها إضافة إلى ما اشتملت عليه من مقومات النص الأدبي الخالد وبما أسبغه عليها شاعرنا العظيم "نعيمة" من حشاشة روحه, وعصارة فنه.

     والآن .. وفي نهاية هذا العرض النقدي السريع .. ما رأي الأخوات والأخوة في أن يشاركوا جميعا في نقد هذه القصيدة لشاعر معاصر ؟ :

 

خلق الدولار عرشا     واستوي فوق الوجودْ

قال للناس اعبدوني     فأنا رب ودودْ

إن ناري تتلظى         مالها بعد خمودْ

فاسمعوا مني عظاتي     تدخلوا دار الخلودْ

 

         * * * * * * * * * * * * * *

أنا يا عبدي لئيم              أجتبي كل لئيمْ

يمنع الخير عن الناس     عتل وزنيمْ

فك يا عبدي لئيما          كارها كل كريمْ

تدخل الرحمة عندي       في جنان ونعيمْ

 

        * * * * * * ** * * * * * * *

لا تكن عبدي محبا        لشعارات الفضيلهْ

أملأ الأرض فسادا        واجعل الشر سبيله

واقترف كل المعاصي    وازرع الشوك خميله

أملي ألقاك عبدي          بين أحضان الرذيله

 

       * * * * * * * * * * * * * * *

لا تكن عبدي أمينا        مستقيما طيبا

بل فكن لصا خبيثا        مشمخرا أغلبا

يسلب النور عيونا        تحت أستار الدجى

تحظ بالقرب جواري     وتنل مني الرضى

 

       * * * * * * * * * * * * * * *

 

أنا جبار عنيد             فتحكم وتجبرْ

واقهر اللهوف واهدم    كل ما شاد وعمرْ

وأملأ الغابة أوخاما      وقل : الله قدرْ

واحرق الأعشاب فيها   يابسا كان وأخضرْ

 

        * * * * * * * * * * * * * *

شرعتي في الأرض قهر    ونكال وعذابْ

أحشر الأغنام فيها           بين قطعان الذئابْ

أقلب الباطل حقا             أجعل الماء" سراب"

فأتني يوم لقائي              مدلهما كالغرابْ

 

         * * * * * * * * * * * * * *

 أنا حصن الظلم والقهر و تاج العنصريهْ

أشرب الأحرار قسرا كل أكواب المنيهْ

أحكم الأقدار في الخلق وأعطي القدسيهْ

فالدنا ملك يميني وحياتي سرمديهْ !!.

 

8-2-2009

 

     

 

    

      

 

 

ليست هناك تعليقات: