عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ٢٤ شباط ٢٠٠٩

ناشر كتابات الأديب العربي الفلسطيني عدنان السمان يقدم :

(حكايات من زمن التيه)

هذا هو القسم الثاني من كتاب " زمن التيه" ويشتمل على أربعين عنوانًا تشكل القسم الثاني من هذا الكتاب:

21.  عائدة       

 

                                              بقلم :عدنان السمان

 

www.samman.co.nr

عائدة

 

    عرفتها عندما كانت في المرحلة الثانوية، فتاة صارخة الذكاء والجمال...تتفجر قوة ونشاطًا وحيوية...تشارك في مختلف أوجه النشاط المدرسي...ولا سيما النشاط الأدبي، حيث امتلكت مقدرة خارقة على حفظ الشعر، وإلقائه...حتى كان يُخيل إلي أنها كانت تحفظ معظم الأشعار التي قيلت في مأساة عام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف...

    لا أذكر كيف انقطعت صلتها بالمدرسة فجأة...سألت عنها إحدى زميلاتها من "بنات المخيم" فقالت باسمة: لقد تزوجت...قلت: هكذا قبل أن تنهي دراستها الثانوية على الأقل؟ قالت: إنه النصيب يا أستاذ. ومنذ ذلك الحين انقطعت أخبارها تمامًا. على أنني أذكر أنني رأيتها عن بُعد – وهي ترتدي ثيابًا سوداء- في أعقاب حرب الخامس من حزيران سنة سبع وستين وتسعمائة وألف في أحد شوارع نابلس غير بعيد عن المخيم، ليلفّها النسيان بعد ذلك فيما لف من أشياء.

    منذ أيام، كنت أشق طريقي بصعوبة في قلب المدينة، وسط ضجيج السيارات والباعة الذين ضاقت بهم الأرصفة، وجوانب الشوارع، فلم يجدوا غضاضة في أن يحتلوا أجزاء واسعة من الشوارع التي ضاقت بمن فيها من سابلة، وبما فيها من مركبات سد بعضها ما تبقى من المسالك والشوارع، فتوقفت الحركة أو كادت.

    وسط هذا الركام، وفي جو هذا الزحام كنت أحاول الوصول إلى أقرب رصيف تحجب عنه بنايةٌ عاليةٌ أشعةَ الشمس الحارقة في ذلك الصباح الملتهب... وهناك على الرصيف وقع بصري على سيدة في "منتصف" العمر، ومن حولها وقف شاب وصبيتان لم تبلغ كبراهما عامها الثلاثين من عمرها، وعلى الرصيف إلى جانبهن بعض حقائب السفر...

    تقدمت المرأة قليلاً إلى الأمام، ومدت يدها لتصافحني، وهي تتمتم بكلمات لم أفهم منها شيئًا...إنها هي "عائدة" تلك الفتاة التي كانت بالأمس تتفجر قوة ونشاطًا وجمالاً وحيوية...مددت يدي مصافحًا...عرّفتني على ابنتيها "فلسطين" و"يافا"، وعلى ابنها "ناصر".

    قلت: لن نتمكن من الحديث في هذا المكان يا عائدة.

    قالت: كلنا في شوق لأحاديثك...ولكن يبدو أن لقاءنا قد جاء متأخرًا جدًّا.

    قلت: لا عليك، فما زلنا قادرين على التحكم النسبي بأمورنا الخاصة...ما زلنا موجودين يا عائدة... يجب أن تؤجلي هذا السفر أولاً.

    قالت: لا أستطيع.

    قلت: لماذا؟

    قالـت (وقـد ازداد وجهـها شـحوبـًا): يجب أن تلتحق هاتان الزوجتان بزوجيهما اللَّذََين سبقاهما

منذ مدة...علينا أن نكون جميعًا في المطار بعد ثلاث ساعات فقط.

    قلت: سندخل جميعًا هذا البيت القريب... إنه بيت صديق لي... وسيوصلكم إلى المطار بسيارته في أقل من ساعة.

    وهناك في بيت صديقي "أبو المنتصر" قلت لعائدة: أريد أن أسمع، قولي كل شيء...إني أريد سماع كل شيء...لقد عرفتك طالبة في السادسة عشرة من عمرها، وأنت الآن في السادسة والأربعين –إن لم أكن مُخطئًا- حدثيني عن تفصيلات هذه الرحلة الطويلة.

قالت: لستَ مُخطئًا، إنني فعلاً في السادسة والأربعين الآن، وسأحدثك عن تفصيلات هذه الرحلة...بل وعن كثير من التفصيلات التي سبقتها، فعمري –كما ترى- مرتبط بالنكبة، ولكنني بحاجة لأسئلتك، فاسأل كما تريد، وسأجيب عن أسئلتك جميعها.

    قلت: لن أتناول الأمور الخاصة في أسئلتي...كل ما يعنيني الآن سؤال واحد: لماذا تغادرين البلاد في الوقت الذي نرى فيه كثيرًا من أبنائها يعودون إليها...وفي الوقت الذي يستعد فيه الفلسطينيون لبناء أنفسهم ودولتهم على أرض وطنهم؟ أليست هذه هي الفرصة التي انتظرناها طوال سنين كثيرة؟

    قالت: يبدو أنك قد تغيرت كثيرًا...أما أنا فلم أتغير...سأسافر، سأرحل لأنني لم أعُد أُطيق البقاء...ولأن أخي الأمريكي "سعيد" قد تمكن من تقديم خدمة العمر لنا بدخول الولايات المتحدة، ولن نضيع هذه الفرصة أبدًا... وما دامت أمريكا هي التي تصنع مصائر البشر، وتتحكم في مقدّراتهم تحكُّمًا تامًّا، فلنصبح أمريكيين – إن استطعنا- إن وضعي سيختلف تمامًا عندما أكون أمريكية – ولو من أصل فلسطيني- لا شك في أن وضعي سيتحسن كثيرًا... ولن أعود تلك المرأة اللاجئة التي كُتب عليها أن تعيش في المخيم منذ ستة وأربعين عامًا...ولا تعرف يقينًا ما الذي ستأتي به الأيام من مفاجآت.

    قلت: والوطن يا عائدة؟

    قالت: العالم صغير اليوم، وبإمكان الإنسان أن يحيط به من أقصاه إلى أقصاه في ساعات.

    قلت: ومستقبل شعبنا؟

    قالت: اصنعوه كما تريدون...أو فليصنعوه كما يريدون...الغالبية العظمى من شعبنا تعيش في الشتات على أي حال، وليس لها خيار في كل ما حدث...وما دام الأمريكيون هم صانعو القرار في هذا العالم، فلأكُن أمريكية...فربما استطعت أن أفعل شيئًا.

    قلت: تستطيعين أن تفعلي أكثر وأنت هنا على أرض فلسطين.

    قالت: فعلاً، لقد عملت هنا كثيرًا في مطاعم الإسرائيليين، وفنادقهم لأقوم بتربية أولادي...ولأدفع الغرامات التي قصمت ظهري عن ولدي هذا الذي تراه أمامك...ولأنفق على علاجه من عرق جبيني...لقد عملت كثيرًا، ووصلت الليل بالنهار مُتعبة خائرة القوى، محطمة الأعصاب كي تواصل ابنتاي "فلسطين" و "يافا" دراستهما الجامعية... انني لم أُعلمهما كي يحصلا على عمل...بل علمتهما حُبًّا في العلم – كما تقولون أيها المعلمون- ولكن... أليس من حقهما أن يعملا؟ لا أعتقد أن من عملن أو عملوا أحق منهما بالعمل...وتقول لي إنني أستطيع أن أفعل أكثر وأنا هنا على أرض الوطن!!

    قلت: فهمت من حديثك أنهما متزوجتان.

    قالت: نعم... زوَّجتهما من قريبين لنا أمريكيين من أصل فلسطيني.

    قلت: بإمكانهما أن يسافرا...وبإمكانك أن تبقي هنا...إن "ناصر" في سن الزواج...زوجيه هنا، وأقيمي إلى جانبه.

    قالت: ناصر يُصر على السفر...وأنا كذلك.

    قلت: ما مصدر هذا الإصرار؟

    قالت: من حقنا بعد رحلة العذاب الطويلة هذه أن نعيش باستقرار وهدوء...من حقي شخصيًّا أن أهدأ، وأستقر إلى جانب أبنائي وشقيقي...ومن حق ولدي هذا أن يبني نفسه ومستقبله بعيدًا عن كل أشكال المنغصات والمهالك التي تتهددنا في كل ساعة...ثم إن أخي الآخر يعيش في كندا بعد أن غادر مخيم "عين الحلوة" منذ سنوات طويلة، وهو اليوم كندي، ومتزوج من كندية...أما شقيقتي الأردنية فتعيش في "مخيم الوحدات" منذ تأسيسه، ولم أرها طوال هذا العمر إلا في بعض المناسبات...فما الذي يربطني بهذا المكان؟ هل تربطني فيه ذكرى شقيقتي "رائدة" التي قضت في ليلة من ليالي الشتاء الباردة الماطرة عند أول عهدنا بالمخيم؟ أم ذكرى شقيقي "عائد" الذي سقط في بئر قريبة من المخيم، ومات؟ أم ذكرى والدي ووالدتي اللّذَين قضيا حسرة وألماً لرحيلهما، وفراق فردوسهما السليب؟ أم في ذكرى زوجي الذي اختفت آثاره، ولم أعُد أسمع عنه شيئًا منذ الخامس الأسود من حزيران عام سبعة وستين وتسعمائة وألف؟ أم ذكرى المداهمات والاعتداءات والانتهاكات التي تعرضنا لها جميعًا...ولا نزال نعاني من آثارها ونتائجها، وسنبقى كذلك لسنوات طويلة قادمة؟ أهذا هو المكان الذي تريدني أن أقضي فيه ما تبقى لي من أيام، أهذه هي الذكريات التي تريدني أن "أعيش عليها" أيام ضعفي القادمة؟

    قلت: أمواتك الذين تحدثتِ عنهم لهم قبور في هذه المساحة الضيقة من أرض الوطن...عليك أن تزوريها.

    قالت: لقد زرتها كثيرًا حتى دَرَسَت وبَلِيَتْ...ثم إن العالم كله هو مقبرة جماعية للفلسطينيين أجسادًا وطموحات!! وكل قبر من تلك القبور الكثيرة هو قبر أب أو أم، أو عزيز...وعندما أحن إلى لطم الخدود، وشق الجيوب فإن بإمكاني التوجه إلى أقرب قبر من قبور الفلسطينيين الكثيرة... وبإمكاني أيضًا أن أفعل ذلك دون التوجه إلى القبور فهي ماثلة في الذاكرة لن تُمحى ما دام في جسدي عرق ينبض بالحياة.

    قلت: يا عائدة...دعي التشاؤم...وتفاءلي...فإن مع العسر يُسرًا.

    قالت: لست متشائمة... أنا مقتنعة بأنني قمت بواجبي...واليوم أنا حرة في تقرير مصيري.

    قلت: ستندمين كثيرًا عندما تجدين نفسك في العالم الجديد.

    قالت: إذا حصل هذا فإنني سأعود.

    قلت: سيحصل هذا... فمثلك لن تطيب لها إقامة خارج حدود الوطن.

    قالت: أعود إذن؟

    قلت: فلماذا السفر؟

    قالت: دعني أُجرّب.

    قلت: تجربة محكوم عليها بالفشل.

    قالت: لن تكون أسوأ من تجارب الذين هربوا منذ الأيام الأولى لحرب سبعة وستين وتسعمائة وألف... بدون سبب. ثم عادوا اليوم - والعود أحمد - بعد أن دخل شعبنا مرحلة جديدة من نضالـه السـياسـي - كما تقول- .

    قلت: هل أنت من المعارضين يا عائدة؟

    قالت: "على بال مين" معارضتي أو عدمها؟

    قلت: المسألة في غاية الخطورة...ويجب أن يكون لك رأي واضح محدد في هذه المسألة.

    قالت: "افرض" أن لي رأيًا.

    قلت: رأيك هذا هو الذي يقرر نوعية السلوك، وطبيعة المواقف من كل ما يحدث.

    قالت: "إفرض" أنني أعارض كل ما جرى... فماذا بإمكاني أن أفعل؟

    قلت: بإمكانك أن تنضمي إلى صفوف المعارضة...وأن تعملي من داخلها... وأن تكون معارضتك بنّاءة صادقة مهذبة "منطقية".

    قالت: وإن لم يكن لي رأي في كل ما حدث؟

    قلت: كوني مواطنة عادية، ومارسي حياتك - بقدْر المستطاع- وتابعي الأحداث...وحاولي دائمًا دفع الأمور في الاتجاه الصحيح.

    قالت: هل أنت من المؤيدين؟

    قلت: إن ما يحدث في غزة اليوم، رغم الضيق والفقر والبطالة والقيود، ورغم بعض الأمور المؤسفة إلا أنه يختلف كثيرًا عن الأيام السابقة التي كان الاسرائيليون يقصفون فيها البيوت بالصواريخ، ونيران الدبابات... وهو قطعًا يختلف عما كان الاسرائيليون يبيتونه لقطاع غزة... ربما كانوا يبيتون التهجير... أو التخلي عن القطاع من جانب واحد مع الاحتفاظ بحصاره.. وضربه يوميًّا، وكلما دعت الضرورة!! وعلى أي حال فهذا ما حدث، وعلينا أن نبذل كل الجهود للارتقاء به، كي نحقق الحد الأدنى من طموحاتنا على الأقل، وهذا ممكن إذا تضافرت الجهود، وحصل إجماع وطني على النهوض بالبلد، وضرورة بنائه، وتطويره، ليأخذ تدريجيًّا شكل الدولة.

    قالت: ربما كان الإسرائيليون يبيّتون لغزة وغيرها أكثر مما قلت...ولكن لماذا قدَّمنا لهم خشبة النجاة؟ لماذا تحملنا مسئولية ما كانوا سيتحملونه أمام الرأي العام العالمي، والضمير العالمي؟ ثم ما الذي يضمن أن لا يقصف الإسرائيليون غزة أو غيرها بالصواريخ ونيران الدبابات والطائرات غدًا أو بعد غد؟ وما الذي يضمن قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف؟ ثم أين تقع قضية اللاجئين الفلسطينيين -  أصل القضية وجوهرها - من كافة الاتفاقات التي أبرمت؟ وقضية القدس ماذا تقول الاتفاقات بشأنها؟ وماذا تعني الممارسات والإجراءات الإسرائيلية المطبقة عمليًّا على الأرض بحقها؟ والخليل، والحرم الإبراهيمي ما وضعهما النهائي؟ والمستوطنات؟ ما هو مصيرها؟ وتحركات المواطنين الفلسطينيين وغير الفلسطينيين من هم الذين يتحكمون فيها؟ وبنازير بوتو هل استطاعت الوصول إلى غزة؟ وماذا قال رابين بحقها؟ وهل استطاع تلقينها درسًا في الأخلاق -  كما قال- ؟

    قلت: ما الذي تريدين قوله بعد أن تجاهلت كل الإيجابيات، وبالغت أيما مبالغة في تضخيم الأخطاء والسلبيات، وحكمت على الأمور قبل أن تصل غايتها؟

    قالت: أُريد أن أرتحل إلى العالم الجديد...وعندما يصبح بإمكاني أن أعود إلى بلدي فإنني سأفعل.

    قلت: نحن الطرف الضعيف يا عائدة، وعليك أن لا تنسي ذلك...وليس أمامنا إلا العمل كي نحوّل الضعف قوة، والتخلف تقدمًا، والهزيمة نصرًا.

    قالت: قل لي لماذا قبلتم اليوم بهذه الحلول التي لا تحقق الحد الأدنى من طموحاتنا أولاً، ولا سند لها إلا حسن النوايا الإسرائيلية، ولا ضمان لها إلا ما يراه الإسرائيليون أولاً وأخيرًا، في الوقت الذي كلتم فيه التهم والشتائم لكل الفلسطينيين الذين تحدثوا بشيء من المرونة منذ الساعات الأولى لصدور قرار التقسيم سنة 1947م؟ ولا أرى ضرورة لتقديم الأمثلة المؤسفة التي حدثت آنذاك...وماذا فعلنا بالحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية عندما زار هذه البلاد سنة 1964م عارضًا علينا قبول قرار التقسيم؟ ثم ماذا قالوا في كثير من الكتّاب والصحافيين الذين أظهروا شيئًا من المرونة في أعقاب هزيمة حزيران 1967م، وطالبوا بإحياء قرار التقسيم رقم 181، ووضعه موضع التنفيذ؟ لا أنسى أنني قرأت لك عددًا من المقالات قبل سبعة وعشرين عامًا كانت تدور حول إحياء قرار التقسيم...فماذا قالوا عنك؟ وكيف عاملوك؟ ومع أي فئة صنفوك، ولا يزالون؟ على الرغم من قناعتي الكاملة بأن ما كتبتَه، وكتبه غيرك آنذاك كان من باب التكتيك، والمناورة لا أكثر، فلا أنتم بالقادرين على إحياء ذلك القرار... ولا الإسرائيليون على استعداد لسماعكم...وإنما هي محاولة لإظهار الإنسان الفلسطيني في صورة مغايرة لتلك الصورة التي رسمتها له الدعاية الإسرائيلية الصهيونية في الغرب وغير الغرب... ماذا كانت نتيجة ذلك؟ ثم ماذا حصل بعد ذلك؟ وما هذا الذي يوافق عليه اليوم من كانوا يُعارضون حلاًّ يضمن لهم دولة مستقلة في نصف مساحة فلسطين خالية من التدخل الخارجي والمستوطنات، وتعقيدات القدس، ومشكلات الخليل، ومسألة اللاجئين، والتحكم الإسرائيلي في كل أمر من الأمور الأمنية وغير الأمنية، ومسئولية الإسرائيليين عن كافة القضايا الخارجية؟؟ ومع كل هذا هل فكر أحد منهم في إعادة النظر في "المواقف والاعتبارات التي مورست بحق كثير من المثقفين والكُتّاب والصحافيين المشار إليهم؟ وهل فكر أحد في إنصاف هؤلاء، ورد الاعتبار إليهم بعد أن أثبتت الأيام بعد نظرهم، وفهمهم المبكر للأمور؟

    قلت: لقد كان الرافضون آنذاك على حق، كما كان المطالبون على حق...أما الرافضون آنذاك –وكثير  منهم من أركان الحل الجديد- فقد كانوا يراهنون على الاتحاد السوفياتي، ودول المنظومة الاشتراكية، ومجموعة الدول العربية والإسلامية، وفجأة تغير كل شيء...فماذا يفعلون؟ لقد قبلوا مُكرهين بهذا بعد كل هذه المتغيرات...أما المواقف والاعتبارات التي أشرتِ إليها فلم أسمع بهذا من قبل، ولم أشعر به، بل إنني أعتقد تماماً أن العلاقات بين القيادة ومثقفيها وكتّابها وصحافييها كانت، ولا تزال، علاقات حميمة مميزة.. وإن حصل غير ذلك أحيانًا فإنه لم يخرج يومًا عن دائرة الاجتهاد بالرأي، والعلاقات العادية المألوفة في حدود الأُسرة الواحدة.

    قالت: هذا حسن، ولكن بخصوص المتغيرات التي تتحدث عنها، والتي أدت إلى هذا الوضع الجديد أقول: أين كانت الدول العربية والإسلامية، والاتحاد السوفياتي، ودول المنظومة الاشتراكية عندما قامت إسرائيل عام 1948؟ وأين هي الدولة التي عارضت قيام إسرائيل عمليًّا آنذاك؟ ألم يكن الاتحاد السوفياتي الدولة الثانية التي اعترفت بإسرائيل بعد الولايات المتحدة الأمريكية؟ فما الذي تقوله؟ هل أنت مقتنع بما تقول؟ ثم ما الذي كان "ممكنًا" في ظل تلك المراهنات؟ هل كان الاتحاد السوفياتي نفسه يُطالب بأكثر من حدود الرابع من حزيران 1967 في أحسن الظروف؟!

    قلت: ماذا تريدين يا عائدة؟

    قالت: لا شيء.

    قلت: فالزمي بيتك...وحاولي إصلاحه من الداخل.

    قالت: قلت لك إن دوري هنا قد انتهى... سأسافر علّني أستطيع فعل شيء هناك في البلاد التي تحترم حياة المواطن وحريته، وفكره، وعقله، ورأيه وحقه في العمل، والعيش بكرامة... لماذا لا أُصبح في يوم من الأيام عضوًا في الكونغرس الأمريكي، أو عضوًا في مجلس الأمن القومي الأمريكي؟ لماذا لا أكون موجهة للرأي العام هناك، فأدفع به في الاتجاه الصحيح؟ لماذا لا أخدم قضيتي على كافة المستويات هناك؟ لماذا لا أنجح مع غيري من أبناء هذا الشعب فيما فشلت فيه الديبلوماسية العربية؟ دعني أُجرّب... ولن نخسر شيئًا... إنني لاجئة سواء كنت في مخيمات نابلس أو الخليل أو غزة... ولاجئة في الولايات المتحدة الأمريكية... ولكنني سأبقى محتفظة بولائي وانتمائي لقضيتي ووطني بالطريقة التي أفهمها، وسأكون عونًا مباشرًا، أو غير مباشر لكل فلسطيني هنا على أرض فلسطين، أو خارجها... فنحن جميعًا فلسطينيون في النهاية...وأعتقد أن هدفنا واحد هو إعادة الحقوق إلى أصحابها، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وضمان حق العودة للفلسطينيين.

    قلت: قولي ما تريدين، ولكنني لن أتنازل عن رأيي في أن هذا الذي تفعلينه، ويفعله غيرك – مع الأسف – تفريغ للوطن من مواطنيه...وهو هجرة لا نقرها، وندينها مهما كانت أسبابها وحوافزها...لقد أدان العقلاء الهجرة في أسوأ الظروف، فكيف يبيحونها اليوم، والناس يعودون إلى أرض الوطن؟ هذا الوطن الذي لن تبنيه سوى سواعد أبنائه وفتياته مهما كانت الأخطاء.

    قالت: إني راحلة.

    قلت (مخاطبًا أبناءها): وأنتم؟

    قالوا: لقد قالت أُمنُّا: إنها راحلة! ولقد تعلمنا أن لا نخالف لها قولاً.

    قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله...أيها القابضون على الجمر، أيها النازفون في ليل الهزيمة والانحسار، أيها الصارخون في وجه الجريمة والظلم، أيها المناضلون من أجل مستقبل الأجيال على أرض فلسطين...يا أحباب فلسطين...يا أبناءها وقادتها الذين تتدفق في عروقكم دماء الحب الفلسطيني، والعشق الفلسطيني، والرقص الفلسطيني على الشفرات والآسال ورؤوس الحراب والخناجر أفيقوا...أدركونا...اتقوا الله في أوطانكم وأديانكم وإنسانكم...فحكاية "عائدة" قد تتكرر كل يوم.

 

(1994)


ليست هناك تعليقات: