متابعات
لا.. يا شيخَنا..!!
أ/ عدنان السمان
www.samman.co.nr
عرفناك طالبًا جادًّا متفوقًّا، وإنسانًا عصاميًّا شق طريقه في هذه الحياة بقوة وثقةٍ وإصرار.. عرفناك مثقّفًا يهوى المعرفة، ومدرِّسًا ومعلمًا ناجحًا، وعالمًا عاملاً أفنى عمره في خدمة الأجيال.. عرفنا فيك كل هذه المزايا فأكبرناك.. وعرفنا فيك غيرتك وحرصك على هذه الأمة، وعلى هذا الدين فاحترمنا فيك هذه الغيرة، وأكبرنا فيك هذا الحرص.. وكنت سندًا ونصيرًا لقضايا العروبة والإسلام، ولمبادئ الحق والخير والعدل، ففزت بمحبة العرب والمسلمين، وأصبحت رمزًا من رموز هذه الأمة، وقلعةً حصينةً من قلاعها، وكنت صوتًا مجلجلاً يدعو إلى الله بإذنه، وينادي هذه الأمة ويستنهضها لتستفيق من غفلتها، وتنهض من مرقدها، وتصحو من سباتها، فكان لك في قلوبنا وعقولنا موقعٌ وأي موقع، وكان لك، مع صحبك، في قلوبنا مكانةٌ لا تدانيها مكانة، ولا عجب، فعامة الناس، والمنصفون منهم، يعرفون لذوي الفضل فضلهم، وعامة الناس، والمنصفون منهم، لا ينسوْن بل يذكرون.. وعامة الناس أيضًا يغفرون ويسامحون ويغمضون العيون على القذى.. ولكنهم يحاسبون بعد ذلك، وقد يكون الحساب يسيرًا، وقد لا يكون.. وعامة الناس تقول كلمتها في العالِم الذي تكثر أخطاؤه أو تقل إلى أن يتراجع عنها، ويعود إليه رشده وتوازنه واتزانه، كما تقول كلمتها في السلطان الجائر حتى يعود إلى جادة الحق والعدل والصواب.. وعامة الناس، أو القاعدة الشعبية في مصطلح هذا الزمان هي التي تحاسب الحكام، وهي التي تحاسب العلماء إن لم يحاسبوا الحكام، وإن لم يلزموهم بالاستقامة والنزاهة في الحكم، والشفافية التي تميز العلاقة بين الراعي والرعية.. وعامة الناس، أو القاعدة الشعبية ممثلةً فيما يسمى اليوم "مجلس الشعب" أو غير ذلك من الأسماء والمسميات هي صوت الأمة، وهي سوطها الذي تجلد به ظهور خصوم الحق والعدل من حكام الأمة، ومن علمائها الذين يهادنونهم ويمالئونهم ويساعدونهم على باطلهم، ويسوغون لهم ارتكاب الآثام والمعاصي، واقتراف الذنوب، وممارسة الأخطاء والخطايا بحق الأمة، مهما كان شكل هذه الأخطاء، وحجم هذه الخطايا.. فالسلطة في الإسلام للشعب، والسيادة فيه للشرع، وأنتم أدرى بهذا كله من غيركم يا شيخنا.
حج هشام بن عبد الملك، فقال ائتوني بصحابيٍ أو تابعي، فأتوه بطاووس اليماني.. دخل طاووس، وجلس إلى جانب الخليفة الأموي الذي ظهر عليه الغضب، ثم نظر إلى طاووس معاتبًا، وهو يقول: لقد خلعت نعليك بحاشية بساطي، ولم تسلّم علي بأمير المؤمنين، ولم تكنّني، بل قلت كيف أنت يا هشام.. قال طاووس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أردتم أن تروا رجلاً من أهل النار فانظروا إلى رجلٍ جالس، وحوله قومٌ قيام".. وأما خلع نعليَّ بحاشية بساطك، فإنني أخلعهما بين يدي رب العزة يوميًّا خمس مرات، ولا يغضب مني، ولا يعاتبني!! وأما قولك إنني لم أسلم عليك بأمير المؤمنين، فليس كل المؤمنين راضيًا عن إمارتك، وقولك: "لم تكنّني، فإن الله تعالى كنّى أعداءه، ونادى رسله بأسمائهم... فبكى هشام، وقال: عِظني يا طاووس!! فقال طاووس: إنني سمعت عليّاً بن أبي طالب يقول: إن في جهنم حيّاتٍ وعقارب كالجمال تلدغ كل راعٍ لا يعدل في رعيته... هذا ملخص ما جرى بين هشام الخليفة الأموي وطاووس اليماني، وليعذرني القارئ إن وجد شيئًا من خلافٍ في النص، وفي الحوار الذي جرى بين الرجلين، فالعبرة في المعنى، والعبرة في إبراز الجرأة التي تحلى بها طاووس، والعبرة في مواقف علماء السلف الصالح من الحكام، وكيف كانوا سيوفًا مشرعةً على رقابهم، لا سياطًا وسيوفًا في أيديهم يجلدون بها الرعية، ويجِزّون بها رؤوس من يخالفهم الرأي من الناس.. وإذا كان هذا ملخص ما جرى هنا، فإن تاريخ هذه الأمة حافلٌ بالمواقف التي تشهد لأولئك العلماء بالنزاهة والاستقامة والجرأة والحرص على قول كلمة الحق عند السلطان الجائر.. وإن تاريخ هذه الأمة يشهد على حرص علمائها على قول كلمة الحق.. وتاريخها يشهد على أن فترات الضعف والمذلة والهوان التي كانت تنتاب هذه الأمة من حينٍ لآخر كانت بسبب انحراف الحكام، وتقصير العلماء، واستكانة الأمة.
من المؤلم - يا شيخنا- أن يحل بهذه الأمة في هذه الأيام كل هذا الهوان، وكل هذا الضعف والتشرذم والانقسام.. ومن المؤلم – يا شيخنا- أن تحل بهذه الأمة في هذه الأيام كل هذه المآسي، وأن تجري أنهار الدماء في ساحاتها وأحيائها، وفي مدنها وقراها ومضارب خيامها، ومن المؤلم – يا شيخنا- أن يكون في هذه الأمة كل هؤلاء الفقراء والجياع والمرضى والأميين والمشردين والمنحرفين الضالين الأشقياء الهائمين على وجوههم في مهامه الجهل والجهالة والضلالة والبطالة والضياع، ومن المؤلم – يا شيخنا- أن تعصف بهذه الأمة في مختلف أقطارها وأمصارها هذه الطبقية البغيضة، وأن تتجمع الثروة في كل بلاد العرب في يد قلة قليلة لا تحسن استعمالها، ومن المؤلم – يا شيخنا- أن نجد الغالبية الساحقة من أقطار العروبة والإسلام رازحةً تحت نير الاستعمار والاستعباد والتبعية لكل أعداء هذه الأمة الوالغين في دماء أبنائها، ومن أكثر من مؤلم – يا شيخنا- أن يهادن كثيرٌ من علماء هذه الأمة قادة هذه الأقطار ممن يفتحون بلادهم بدون أدنى تحفظ أو تردد أمام الشركات الأجنبية، والاستثمارات الأجنبية، والنفوذ الأجنبي، وكافة أشكال التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي العربي، وفي الشأن الخارجي العربي، وفي الشأن العربي العربي بكل أبعاده وأشكاله ومضامينه، حتى غدا هؤلاء الأجانب وكأنهم أصحاب البلاد الشرعيون، فهم الذين يقررون سياساتها، ويرسمون هذه السياسات في كافة المجالات والاتجاهات والتوجهات، ومن المؤلم – ياشيخنا- أن تتركز جهود هؤلاء السياسيين في كثيرٍ من أقطار العروبة على شن الحرب الظالمة على بعض أقطار العروبة ممن تعرفون ونعرف ويعرف العالم بأسره أنها – على علاتها- أفضل بكثير من هذه الأقطار التي تناصبها العداء، وتشُنُّ عليها كل هذه الحرب الظالمة المدمرة.. من المؤلم – يا شيخنا- أن يقف كثيرٌ من علماء المسلمين إلى جانب هؤلاء الحكام الفاسدين المفسدين، وإلى جانب أجهزة الإعلام الكاذبة التي تروج لتوجهات هؤلاء الحكام في عدوانهم وتجنيهم وافتراءاتهم وممارساتهم التي لا تخدم إلا ألدّ أعداء العروبة، وألدّ أعداء الإسلام، وألدّ أعداء لبنان وفلسطين والعراق.. من المؤلم – يا شيخنا- أن يقف بعض علماء المسلمين إلى جانب هذه الفتنة الكبرى التي تستهدف بلدًا عربيًّا يدعم المقاومة ويدعم الممانعة، ويعلم كل أبناء العرب المقيمين على أرضه تعليمًا مجانيًّا حتى الحصول على الدكتوراة، ويعالج كل العرب المقيمين فيه مجانًا حتى زراعة الأعضاء.. من المؤلم – يا شيخنا- أن نسمع كل ما نسمع عن تغذية كل هذه الفتن الطائفية والمذهبية التي ستحرق الأخضر واليابس في كل بلاد العرب إن هي انفلتت من عقالها، وإن لم يبادر العقلاء من أبناء هذه الأمة، ومن علمائها، ومن قادتها إلى لجمها ووأدها، وإن لم تبادر هذه الأمة إلى ردع هؤلاء المعتدين، والضرب على أيديهم للكف عن فسادهم وإفسادهم وتآمرهم على هذه الأمة.
كنا ننتظر منكم، يا شيخنا، ولا نزال، أن تقفوا إلى جانب الحق والعدل، وإلى جانب كافة القوى العربية المساندة للعروبيين الشرفاء المطالبين بالوحدة العربية، وبالتحرر العربي، وبالمحافظة على أقطار هذا الوطن العربي من طمع الطامعين، وعبث العابثين، وعدوان المعتدين.. كنا ننتظر منكم – يا شيخنا- أن تقفوا إلى جانب الحق العربي في فلسطين، وإلى جانب كل العاملين من أجل نصرة الأقصى والقدس، ومن أجل ثوابت الفلسطينيين، ووضعها موضع التنفيذ، وكنا ننتظر منكم أن تؤازروا كل العاملين في لبنان من أجل عزة هذا القطر العربي الذي لا يمكن أن تكون له حياة إذا فصل عن أمه، ولا يمكن أن يحميه من أطماع الطامعين وعبث العابثين إلا التصاقه العضوي بالأم التي فصلوه عنها ذات يوم!! إن هذا البلد الذي تحاربونه يا شيخنا هو البلد العربي الوحيد الذي يقف إلى جانب لبنان، ويقف إلى جانب فلسطين، وأنتم تعرفون هذا جيدًا يا شيخنا.. فلماذا الانحياز، ولماذا التحامل، ولماذا الوقوف في صفوف المعتدين على حقنا العربي في فلسطين؟ ولماذا الوقوف في صفوف المعتدين على لبنان والطامعين فيه؟ لماذا كل هذه الفتاوى التي لن تجرَّ على هذا الوطن العربي سوى مزيدٍ من الويلات والكوارث والانقسامات وشلالات الدماء والحروب الأهلية؟ لماذا هذه الفتاوى التي نحن في غنًى عنها، لأننا لا نريد مزيدًا من الانقسام، ولا نريد مزيدًا من الحروب الأهلية، ولا نريد مزيدًا من التمزق والتفتت والتشرذم، ولا نريد مزيدًا من التبعية للأجنبي.. لماذا هذه الفتاوى التي ليس لها أدنى سند من كتابٍ أو سُنة؟؟ وليس لها أدنى سند من فكرٍ قويم، أو عقلٍ سليم، أو أدنى تدبرٍ في عواقب الأمور؟؟
كنا ننتظر منكم، يا شيخنا، ولا نزال أن تسارعوا إلى عقد راية الصلح والإصلاح بين كل الأشقاء المحتربين على الساحة العربية، وكل الأشقاء المقتتلين على الساحة الإسلامية.. كنا، ولا نزال، ننتظر منكم أن تقفوا إلى جانب وحدة الصف، ووحدة الهدف، وأن تقفوا إلى جانب التقريب بين وجهات النظر بهدف احتواء الأزمات، وإطفاء الحرائق، وتجنيب البلاد والعباد حروبًا طاحنةً قد لا تبقي، وقد لا تذر.. ليس من مصلحة أحدٍ في هذه الديار العزف على وتر سني وشيعي، فهذه نغمة نشاز مجها الذوق العربي، وكرهها المسلمون الشرفاء الذين يدعون إلى وحدة المسلمين، وإلى قوتهم، وإلى خلاصهم من ربقة الأجنبي، ومن احتلاله وتدخلاته في الشأن الإسلامي، وفي الشأن العربي.. فهل بعد ذلك كله نسمع في هذا الوطن من يدعو إلى إذكاء نار الفتنة؟ وهل نسمع بعد كل هذا من يعزف على نغمة سني وشيعي؟ لا يا شيخنا.. فليس من هذه الأمة من يعمل على هلاكها، وبيعها للأجنبي.. كلنا عرب، وكلنا مسلمون، وكلنا مواطنون صالحون أحرار وحدويون مقاومون في كل ديار العروبة والإسلام.
21/3/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق