عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ١١ تشرين الثاني ٢٠٠٨

الأسرى الفِلَسطينيون

الأسرى الفِلَسطينيون

 

    لا نريد أن يتحول يوم السابع عشر من نيسان إلى مناسبة مزمنة كهذه المناسبات الكثيرة التي تضيق بها ذاكرة الإنسان الفلسطيني.. والتي تفوق في مجموعها عدد أيام العام التي يشتمل كثير منها على أكثر من مناسبة واثنتين، والعدد مرشح للارتفاع في كل عام.. ولا نريد أن يتحول هذا اليوم إلى مجرد منبر نقف فيه على الأطلال باكين منتحبين نلطم الخدود، ونشق الجيوب، ونتبارى في تعداد مناقب أسرى الحرية الذين يرسفون في السلاسل والأغلال في زنازينهم ومراكز اعتقالهم.. يخضعون لأبشع ألوان التعذيب النفسي، والتفتيش العاري، والتجويع، والاضطهاد، والإذلال.. ولا نريد أيضًا أن نتخذ من هذا اليوم مناسبة لجمع فتات الموائد من هنا وهناك كي نقدمها لأسرانا في معتقلاتهم بعد أن أصبح ذووهم عاجزين عن الإنفاق عليهم في هذه السجون والمعتقلات التي تباع فيها ضروريات العيش وأساسياته للأسرى بأسعار خيالية دونها الأسعار في الفنادق الفخمة، والمنتجعات السياحية.. فأسرانا أكبر من ذلك، ومنزلة أسرى الحرية ومكانتهم ترفض هذا وتأباه...

    نريد أن تعرف الدنيا كلها حقيقة ما يجري في هذه الديار من ملاحقة للناس، واعتداء عليهم، وترويع لكبارهم وصغارهم، ومصادرة للأرض وتغيير لمعالمها، وتضييق على الناس، وتقييد لحريتهم في الحركة والتنقّل وكسب الرزق، وممارسة حياتهم اليومية .. نريد أن تعرف الدنيا ما يجري يوميًّا في هذا الوطن من مداهمات، واجتياحات، ومصادمات واعتداءات واعتقالات يرتفع معها في كل يوم عدد الأسرى والمعتقلين من أبناء هذا الشعب وبناته، وفتيانه وفتياته، وأصحائه ومرضاه.. نريد أن تعرف الدنيا أن عدد أسرى الحرية في هذه الديار قد تضاعف ثلاثًا وثلاثين مرة بعد توقيع اتفاقات السلام في أوسلو عام أربعة وتسعين وتسعمئة وألف، حيث كان عدد الأسرى (367) ثلاثمئة وسبعة وستين أسيرًا، أما اليوم فقد ارتفع إلى ثلاثة عشر ألفًا، والعدد في ازدياد.. ونريد أن تعرف الدنيا أن أكثر من (700.000) سبعمئة ألف فلسطيني قد مروا بتجربة الاعتقال منذ بداية احتلال سبعة وستين وحتى يومنا هذا...

    نريد تحركًا فلسطينيًًّا رسميًّا وشعبيًّا يطالب المجتمع الدولي بضرورة التحرك السريع للإفراج عن هؤلاء الأسرى الذين كان عددهم في العام الماضي (2006) عشرة آلاف أسير، وارتفع في هذه الأيام بحسب بعض المصادر إلى ثلاثة عشر ألفًا، وإلى ما هو أكثر من ذلك.. بحسب بعضها الآخر.. نريد تدخلاً دوليًّا سريعًا يكشف أولاً عن العدد الحقيقي لهؤلاء الأسرى، معلنًا أسماءهم، وفئاتهم العمرية، وأوضاعهم الصحية كي يطلع الناس في هذه الديار على تفصيلات هذه الحقيقة كاملة!!

    نريد تحرّكًا فلسطينيًّا شعبيًّا مكثّفًا في يوم الأسير الفلسطيني، وعلى امتداد أسبوع الفعاليات والاحتجاجات والاعتصامات المعلَنة بهدف الضغط على كل من يعنيهم الأمر للعمل الجاد من أجل تحرير الأسرى الفلسطينيين أولاً وقبل كل شيء، وربط أي تحرك سياسي بإغلاق هذا الملف... مطالبين كل من يعنيهم الأمر في هذه الديار بضرورة التحرك في هذا الاتجاه بكل الجدية التي تتماهى وخطورة هذا الملف الأخلاقي الإنساني السياسي الاجتماعي الساخن، وترتفع إلى جوهر ما تشتمل عليه أوضاع أسرانا من صبغة كارثية ينبغي لها أن تتوقف كي تتوقف معاناة شعب الأسرى، وكي يتفرغ هذا الشعب بعد ذلك للبحث الجاد في القضايا السياسية العالقة مع كل من يعنيهم الأمر في هذا العالم بهدف التوصل إلى الحلول المنصفة العادلة المقنعة لسائر القضايا التي تعترض سبيل تحقيق السلام العادل في هذه الديار.

    ونريد تحرّكًا فلسطينيًّا رسميًّا على كل المستويات يؤازر التحرك الشعبي ويتناغم معه، ويترجم نبض الشارع، وارتفاع درجة حرارته إلى خطاب سياسي موجَّه إلى المحافل الدولية، والرأي العام العالمي يهدف إلى ممارسة الضغوط الجادّة من أجل الإفراج عن الأسرى بدءًا بشيخ الأسرى سعيد العتبة الذي مضى على اعتقاله اليوم (السابع عشر من نيسان 2007) ثلاثون عامًا، ومرورًا بحسام  خضر النائب الذي اختطفوه من بيته بعد مداهمة مروّعة للمخيم والبيت، ولا أقول انتهاءً بعزيز دويك رئيس مجلس النواب الشرعي المنتخب لأن كثيرًا من أسرى هذا الوطن وأسيراته قد اعتقلوا بعد اعتقال هذا الشيخ الأكاديمي الجليل.. والاعتقالات ما زالت مستمرة!! نعم.. لا بد من الإفراج عن الأسرى، وإغلاق هذا الملف، وتحريم الاعتقال السياسي تحريمًا قاطعًا، وحماية شعبنا العربي الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وضمان سير الحياة اليومية العادية للمواطنين، وانتشالهم مما هم فيه من تخبط واضطراب وفوضى تنذر بكارثة جديدة على غرار كارثة الهجرة والتهجير عام ثمانية وأربعين.

    نريد تحرّكًا عربيًّا دوليًّا مشتركًا يحمي شعبنا من هذه المخاطر التي تهدد وجوده في وطنه وفوق أرضه، وتضع حدًّا لكل مظاهر العدوان التي يتعرض لها هذا الشعب، وتحميه من كافة الاعتداءات، ومختلف أشكال الممارسات المخجلة التي تستهدف بقاءه على أرضه عن طريق تدمير حياته الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وعن طريق محاصرته، وتضييق الخناق عليه، وضرب حياته اليومية، وحرمانه من أبسط حقوقه المشروعة في العلم والمعرفة والعلاج والمأكل والمسكن والحياة المستقرة الهادئة الآمنة الحرة بعيدًا عن إزعاج المواطنين، وإرهابهم، وترويعهم، وإجبارهم على مغادرة منازلهم، واحتجاز الأعداد الكبيرة منهم في الغرف المغلقة، أو الشقق الضيقة دون مسوِّغ أو سبب، ودون أدنى اعتبار لإنسانيتهم وخصوصياتهم، ودون أدنى اكتراث بالطفولة ومتطلباتها، وبالشيخوخة ومقتضياتها، وبالحرية الشخصية ومستلزماتها... ألا يمكن اعتبار هؤلاء الذين يُحتجزون بهذه الأساليب المرعبة جزءًا من الحركة الأسيرة؟ ألا يمكن إضافتهم إلى الأسرى بشكل أو بآخر؟ ألا يمكن اعتبار سائر الممنوعين من السفر عند الحواجز والمعابر أسرى يضافون إلى أسرانا في معتقلاتهم؟ ألا يمكن اعتبار هذا الشعب برمته شعبًا أسيرًا؟

    نريد أن نحيا سادةً كرامًا في بلادنا بعيدًا عن المنغصات، وكافة مظاهر التوتر والعداوة والخصام والعدوان.. نريد الحرية لأسرانا في يومهم هذا، وفي أسبوعهم هذا الذي نرجو – مخلصين- أن تُتََوَّج فعالياته، ونداءاته، ودعوات الناس المظلومين فيه بالقبول والاستجابة، فيتحرر الأسرى ويغلق هذا الملف بكوابيسه وأحزانه ومعاناته إلى الأبد... نريد أن نحيا سادةً كرامًا في بلادنا بعيدًا عن الظلم والعدوان والاضطهاد.. نريد للأطفال أن يتعلموا، وللشباب أن يعملوا، وللفلاحين أن يزرعوا ويحصدوا، وللصنّاع أن يصنعوا، وللمرضى أن يعالَجوا، وللعدالة أن تأخذ مجراها في كافة المجالات، وعلى كل المستويات، وللحق أن ينتصر ويسود، وللغائب الحائر الملهوف أن يعود... نريد أن نحيا سادةً كرامًا في بلادنا بعيدًا عن الاحتقان والغليان، وكل مظاهر الاضطراب والفوضى والفلتان.. نريد الأمن والأمان، وسلامة الأوطان والأبدان والأديان... نريد العيش بكرامة.. نريد أن يكفّ هؤلاء وأولئك أيديهم عنا.. سائلين المولى أن يظهرنا عليهم. وأن يؤيدنا بنصر من عنده نقوى فيه على أنفسنا، فنردعها عن غيها وضلالها، ولا نسمع من القول إلا أحسنه، ولا نأتي من الأفعال إلا خيرها، وأن تكون مساعينا وأعمالنا خالصةً لوجهه  الكريم.. إنه سميع قدير، وبالإجابة جدير.

 

إليهم في غياهب التّيه!!

 

    لا يسع الإنسان المنصف المحايد في هذا الكون إلاّ أن يقف إجلالاً وإكبارًا لتضحيات هذا الشعب الذي يتعرض منذ مطلع القرن الماضي لواحدة من أكبر المؤامرات التي يمكن تلخيصها بكلمتين اثنتين هما: الإقصاء والإحلال... فبعد صدور وعد بلفور، وانهيار الدولة العثمانية، ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني.. راحت الحركة الصهيونية العالمية تساندها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية تعمل جاهدة من أجل وضع وعد بلفور موضع التنفيذ إلى أن تسنّى لها ذلك.. وكان من الطبيعي أن لا تكتفي هذه الحركة بإقامة الدولة العبرية عام ثمانية وأربعين على معظم مساحة فلسطين تاركة بعضًا منها تحت الإدارة المصرية، وبعضها الآخر مندمجًا مع الأردن.. فلقد راحت تعد العدة للتوسع حتى تمكنت من السيطرة على ما تبقّى من فلسطين في حرب الخامس من حزيران عام سبعة وستين مضافًا إليه مساحات واسعة من  أرض العرب في الجنوب والشمال والشرق.

    إنه، وعند قيام الدولة العبرية في الخامس عشر من أيار من عام ثمانية وأربعين قد تم إقصاء ثمانمئة ألف عربي فلسطيني من ديارهم وأراضيهم لتُحلّ محلهم هذه الحركة مستوطنيها الذين أتت بهم من كافة أقطار العالم.. وإنه، وعندما تم وضع اليد على ما تبقى من أرض فلسطين بعد حرب الخامس من حزيران من عام سبعة وستين، فقد باشرت هذه الدولة في الحال إجراءاتها في تهويد هذه الأرض بالطريقة التي اتبعتها في تهويد ما احتلته في عام ثمانية وأربعين مع شيء من الفوارق أحيانًا... وكان من الطبيعي أن يدفع هذا الشعب ثمن ذلك دماءً ودموعًا وشهداء وأسرى ومبعدين ومعاناة ليس عليها من مزيد.. وكان من الطبيعي أيضًا أن لا يتعرض الاحتلال في البداية إلا لمن يمارس ضده العمل المسلح.. ولما فرغوا من تلك المرحلة انتقلوا لمعاقبة كافة مظاهر المقاومة السلبية، والاحتجاج، والاعتصام، والمطالبة بالحقوق.. ومن ثم لمعاقبة من يتكلم بطريقة لا ترضيهم.. فالكلام هو  أيضًا ممنوع إلا في مناسبات معينة، ومواسم خاصة به... بل إنه وإلى جانب الشهداء والمبعدين وأسرى العمل العسكري المسلح نجد أن المعتقلات والسجون ومراكز التحقيق أصبحت تغص بالآلاف من المواطنين الذين لم يمارسوا أي فعل مهما كان.. ولم يتفوهوا بأي قول .. وكل ما في الأمر أن محاسبتهم قد جاءت على افتراض وجود نوايا سيئة لديهم يحتفظون بها في نفوسهم.. والمطلوب معرفة هذه النوايا.. أو القضاء عليها في نفوس أصحابها لتصبح صدورهم مقابر لآمالهم وطموحاتهم.. ونواياهم السيئة أيضًا!!!

    من حق الأجيال أن تعرف هذا .. ومن حق الناس في هذه الدنيا أن تفهم طبيعة هذا الذي يجري ويدور في هذه الديار من ممارسات غريبة ضد هذا الشعب ينبغي وضع حد لها أولاً وقبل كل شيء... ومن حق كافة المحافل الدولية، وسائر منظمات حقوق الإنسان، وكل من يعنيهم الأمر في هذه الدنيا أن يعلموا جيِّدًا أن نصف هذا الشعب يعيش في المنافي والشتات حزينًا هائمًا في تيه الغربة يمزقه الحنين إلى وطنه.. وأن نصفه الآخر يعيش في هذا الوطن حياة الهوان والمذلة، والجوع، والخوف، والمواطنة المنقوصة أو المعدومة.. والحواجز، والجدران، وقطع الأرزاق والأعناق.. وغياهب تيه الأسر، والاعتقال العشوائي والإداري.. وما إلى ذلك من أسماء ومسميات ما أنزل الله بها من سلطان!!

    من حق الأجيال في هذه الديار، ومن حقها في ديار العروبة أيضًا أن تعرف الحقيقة: حقيقة ما كان، وحقيقة ما يجري الآن... الحقيقة كما هي لا أكثر ولا أقل... أقول هذا  من واقع ما أسمعه وأشاهده في بعض صحف العالم العربي، وهي تتحدث عن القضية الفلسطينية، والتاريخ الفلسطيني الحديث من أخطاء... أشعر بكثير من المرارة عندما أجد أن كثيرًا من الكتّاب يخطئون وهم يتكلمون عن عام النكبة.. ويخطئون وهم يتكلمون عن التقسيم.. وحق العودة.. ووعد بلفور.. وكثير غير ذلك... هذه الأخطاء التي تتعلق تارة بالأرقام والتواريخ.. وطورًا بالحقائق والمعلومات وسير الوقائع والأحداث.. إن تصحيح هذا كله من واجب صحافة هذه الديار وكتّابها وسياسييها ومثقفيها ومفكريها...

    وبعد

   فإنه، وبعد أن تخلى من تخلى عن هذا الشعب، ونفض يده من نفض من قضاياه الوطنية والمصيرية والإنسانية وحتى المعيشية اليومية المتعلقة بحبة الدواء ورغيف الخبز.. وبعد أن وصلت أحوال هذا الشعب إلى ما وصلت إليه من سوء ومذلة وهوان.. وبعد أن أصبح صاحب الحق في عرف كثير من الناس معتديًا والمعتدي صاحب حق.. وبعد أن تنكر كثير من الناس في هذه الدنيا لأبسط حقوق هذا الشعب في الحرية والاستقلال والعودة والقدس والعيش بأمن وسلام.. وبعد أن تحولت هذه الديار إلى سجن كبير.. وبعد أن أصبحت معتقلاتهم وسجونهم ومراكز توقيفهم تضيق بمن فيها من شباب وشيوخ وأطفال ونساء ومرضى.. وسياسيين وممثلين شرعيين منتخبين لم تمارس غالبيتهم العظمى أكثر من حق القول والكلام العادي المباح في كافة شرائع هذا الكون ودساتيره وأعرافه وأدبياته.. إنه، وبعد هذا كله.. لا يسع المرء إلا أن يطالب بالحرية لأسرى الحرية.. وبالخلاص الفوري من غياهب هذا التيه الذي يهيم في ظلامه أكثر من اثني عشر ألف أسير هم طلائع شعب التيه البالغ تعداده اليوم عشرة ملايين يعيشون حياة التشرد والتيه والضياع في ديارهم، وفي سائر أرجاء هذا العالم... فإليهم في غياهب هذا التيه، وفي هذه الذكـرى الكارثـة النكبة بل أم النكبات.. خالص التحية، وأصدق الدعاء بحدوث المعجزة التي تضع حدًّا لحياة التيه والتشرد والضَّياع.


 

2006 ...عام الأسير الفلسطيني

 

    طالبَ النائب الأسير حسام خضر في "القدس" المقدسية كافة القوى السياسية الوطنية والإسلامية، وكافة مؤسسات العمل "الجماهيري" والمدني باعتبار العام (2006) عام الأسير الفلسطيني، والاستمرار في حملة التضامن الشعبية والدولية مع أسرى الحرية.. محذِّرًا من تجزئة هذا الملف... مطالبًا بضرورة العمل من أجل الإفراج عن سائر أسرى الحرية دون استثناء.

    وقال عيسى قراقع رئيس نادي الأسير الفلسطيني في الضفة الغربية إنّ التجربة الطويلة ومنذ عام 1967 أثبتت عجز المؤسسات الرسمية الدولية وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة، وتقصيرها في إجبار حكومات الاحتلال الإسرائيلي وإلزامها باحترام قرارات الأمم المتحدة، ومبادىء القانون الدولي الإنساني.. مشيرًا إلى مئات القرارات والإدانات، وعشرات النصوص الواردة في المواثيق الدولية والتي تدين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ضد الأسرى... ولكنَّ هذه الإدانات لم تصل إلى مستوى الإلزام، والضغط الحقيقي الجدي على إسرائيل لحملها على تطبيق مبادىء حقوق الإنسان بحق الأسرى الفلسطينيين...

    ولقد دعا عيسى قراقع إلى تحريك الرأي العام الدولي والمؤسسات الشعبية والمجتمعات المدنية، ووضعها أمام ضميرها وإنسانيتها ومسئوليتها تجاه ما يجري في السجون... مبيّنًا في الوقت نفسه أن سبب استمرار معاناة الأسرى بهذا الشكل الفظيع هو موافقة القيادة السياسية على نزع البعد الدولي والقانوني عن قضية الأسرى في كافة الاتفاقات واللقاءات مع الجانب الإسرائيلي.

    ومن الجدير بالذكر أنّ عدد الأسرى خلال مسيرة الحركة الأسيرة منذ العام 1967 وحتى أيامنا هذه قد بلغ سبعمئة ألف أسير يشكِّلْون قرابة عشرين بالمئة من عدد السكان.. كما تفيد الإحصاءات أن خسائر الحركة الأسيرة خلال هذه المدة قد بلغت مئة وواحدًا وثمانين شهيدًا.. أما عدد الشهداء داخل السجون والمعتقلات خلال انتفاضة الأقصى فقد بلغ ستّين شهيدًا.

    وتفيد التقارير أن عدد الأسرى قد بلغ منذ مطلع العام (2005) وحتى منتصف شهر أيلول من العام نفسه ثمانية آلاف وستمئة أسير (8600) موزعين على ثمانية وعشرين (28) سجنًا ومعتقلاً ومركز توقيف... وهنالك (369) أسيرًا يقبعون في المعتقلات قبل شهر أيار من العام 1994... إضافة إلى (211) أسيرًا اعتقلوا بعد اتفاق أوسلو وقبل انتفاضة الأقصى ليصل مجموع الأسرى قبل انتفاضة الأقصى إلى (580) أسيرًا.

    كما تفيد هذه التقارير أن عدد الأسيرات خلال انتفاضة الأقصى قد بلغ أربعمئة أسيرة... وأن مئة وخمس عشرة منهنّ ما زلن رهن الاعتقال... أما عدد الأسرى من الأطفال فقد بلغ أكثر من ثلاثة آلاف وخمسـمئة طفـل (3500) منــذ بـداية انتفاضة الأقصى... وهنالك مئتان وثمانية وثمانون طفلاً (288) ما زالوا في الأسر حتى الآن.

    أما الأسرى القدامى والبالغ عددهم ثلاثمئة وتسعة وستين (369) أسيرًا فمنهم اثنان وثلاثون أسيرًا مضى على أسرهم أكثر من عشرين عامًا. وهنالك ستة أسرى مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن وهم:

1. سعيد العتبة منذ العام 1977

2، 3. نائل وفخري البرغوثي منذ العام 1978

4. سمير قنطار منذ العام 1979

5. أكرم منصور منذ العام 1979

6. محمد (أبو علي) منذ العام 1980.

    وتفيد مصادر نادي الأسير الفلسطيني في نابلس أن عدد المعتقلين في المحافظة يبلغ (1450) أسيرًا وأسيرة. وأنّ عدد المعتقلين والمعتقلات في المحافظة خلال العام 2005 فقط هو (300) أسير وأسيرة.

وأنّ عدد الأطفال الأسرى هو ستون (60) طفلاً.

وأنّ عدد النساء الأسيرات هو اثنتان وثلاثون (32) أسيرة.

وأنّ عدد المرضى أكثر من خمسين (50) مريضًا.

ويشار إلى أن الأسرى بشكل عام يشكون من:

1. الإجراءات القمعية والمعاناة النفسية والصحية.

2. العقوبات الجماعية الاستفزازية.

3. الإهمال الطبي.

4. سوء الطعام.

5. سوء المعاملة واستفزازات الإدارة.

6. الحرمان من الزيارة.

7. التفتيش العاري.

8. الضرب الوحشي خلال الاعتقال.

9. اكتظاظ السجون والمعتقلات بالأسرى.

10.يضاف إلى كل ما سبق من ألوان المعاناة والعذاب ما تتعرض له الأسيرة إيرينا سراحنة حرم الأسير

إبراهيم سراحنة من محاولة الإبعاد إلى روسيا علمًا بأن إيرينا قد حُكمت بالسجن ثلاث سنوات في أعقاب اعتقالها في 28/5/2003 بعد أن رفضت منذ 6بداية اعتقالها عرض الإبعاد...ويضاف إلى هذا أيضــًا محــاولات إبعــاد كثير من المعتقلين الإداريين إلى خارج البلاد لفترات معينة، ورفض المعتقلين المطلق لهذه المحاولات.

    إن الشارع الفلسطيني يقف بكل قواه إلى جانب الأسرى.. ويؤيد بكل قوة دعوة حسام خضر إلى اعتبار العام القادم (2006) عام الأسير الفلسطيني بهدف الإفراج عن الأسرى، وإغلاق هذا الملف إلى الأبد.

    الشعب العربي الفلسطيني، ومعه كل أحرار العالم، وكافة المؤسسات الحقوقية والإنسانية والقوى المؤيدة للعدل والسلام والحرية يطالب بضرورة الإفراج الفوري عن كافة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين والعرب مؤكدًا في الوقت نفسه على أن الاستمرار في احتجازهم يشكل اعتداءً صارخًا على حقهم الطبيعي المشروع في الحرية والحياة الكريمة... ويشكل عائقًا من عوائق تحقيق السلام العادل المقنع في هذه المنطقة من العالم.

    وإذا كان السلام الحقيقي العادل الشامل الدائم لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس إعادة الحقوق إلى أصحابها فإن على رأس هذه الحقوق جميعًا حق الأسرى في الحرية والتحرر والعودة الكريمة إلى بيوتهم وعائلاتهم التي طال شوقها للقائهم.

    إننا ومن منطلق حرصنا الشديد على السلام وإيماننا الراسخ به وبضرورة تحقيقه فإننا – أيضًا – نطالب باعتبار العام القادم (2006) عامًا نعمل فيه جميعًا بكل الوسائل المتاحة والممكنة من أجل تحرير الأسرى دون استثناء... ونطالب المجتمع الدولي أن يقف إلى جانبنا في هذه المهمة التي نرجو لها أن تتكلل بالنجاح لتزول بذلك عقبة كأداء من العقبات التي تعترض إرساء قواعد السلام الحقيقي العادل الشامل في هذه الديار.

 

وصلتني رسالتك يا حسام...

       لست وحدك يا حسام من يدفع ثمن الحرية... ولستم وحدكم يا كلَّ أسرى الحرية من يفعل ذلك... فشعب الأضاحي هذا الذي أدمن الكبرياء، واغتذى لبان العزة والشموخ، وأدرك بذكائه الفطري... وحسه الوطني... أبعاد ما يُراد به منذ البدايات الأولى لنشأة قضيته، فرفض الضيم والجور، وتمرد على الظلم والهوان والطغيان، ورفع راية الثورة في كافة المجالات، وشتى الميادين... شعب الأضاحي هذا الذي تنتمون جميعًا إليه يا كلَّ أسرى الحرية مازال على عهد الإصرار والوفاء في كل معازله ومنافيه هنا على أرض الوطن، وهناك في كل ديار الغربة والشتات يصارع الباطل، ويقاوم العدوان، ويتصدى للطامعين... ويحارب بضراوة على كل جبهات الفقر، والقهر، والجوع، والحصار، والمصادرات، والمداهمات، والاعتقالات، والاستيطان، وتمزيق الوطن، وفرض الحقائق الجديدة على الأرض في كل يوم، وتغيير معالم هذه الأرض، وتدمير حياة الإنسان .... وشعب الأضاحي هذا الذي تنتمون إليه يتصدى في الوقت نفسه لكل مظاهر الفساد والإفساد، والفوضى بكل أشكالها... كما يتصدى لهذه الطبقية الكريهة البغيضة المرعبة التي أخذت تعصف به، وتدمر حياة الفقراء الشرفاء من أبنائه في غياب المساءلة والمحاسبة وسيادة القانون... كل ذلك في محاولات يائسة محمومة لتركيع الناس وتيئيسهم، وإكراههم على التنازل عن كل شيء.. وتجريدهم من كل شيء.

    لست وحدك يا حسام... ولستم وحدكم يا كلَّ أسرى الحرية من يدفع الثمن؛ فشعبنا كله معكم

في هذا... ومخطئ من يظن أن هذا الشعب قد يتخلى عن خيرة أبنائه.. ومخطئ من يظن أن من الممكن أن يكون هنالك حل أي حل بدون الإفراج عن الأسرى كافة وبدون أي استثناء.. ومخطئ أيضًا من يظن أن في هذا الشعب الصابر المرابط المتمرس بركوب الأهوال من يتنازل عن ثوابته ومسلّماته التي يحفظها كل أبنائه عن ظهر قلب.. وجدّ مخطئ من يظن أن أكبر قوة في العالم قادرة على قلب الحقائق، أو تغيير المفاهيم، أو الالتفاف على قرارات المجتمع الدولي.. كل ما يمكن أن تفعله مثل تلك القوى بسلوكها العدواني  المنحاز هذا أنها تؤسس دائمًا لصراع جديد، وحروب جديدة، لأن الحل - أي حل- لا يمكن أن يفرض،ولا يمكن أن يدوم طويلاً إن لم يكن منصفًا مقنعًا تعود معه الحقوق إلى أصحابها.

    وصلتني رسالتك يا حسام فقرأتها، وقرأتها... ورأيتك في كل كلمة من كلماتها، وفي كل سطر من سطورها... رأيتك - كما عرفتك دائمًا - ذلك الشاب الواثق اليقظ النشيط المتوقد الذي لا يحابي، ولا يجامل، ولا يخشى في الحق لومة لائم...رأيتك في سطور الرسالة يقينًا يبدّد ظلام الشك.. ونورًا يحيل سواد الليل نهارًا مبصرًا.. وأملاً يهزم جيوش اليأس... رأيتك إصرارًا وقوةً وأملاً مشرقًا، ولسان صدق يا حسام... رأيتك ممثلاً حقيقيًّا من ممثلي هذا الشعب العربي الفلسطيني الماجد... رأيتك - كما أنت، وكما كنت دائمًا، وستكون- حسامًا مقاتلاً في سبيل حق العودة مدافعًا أبدًا عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين...رأيتك مواطنًا شهمًا جوادًا... وأبًا حنونًا، وابنًا بارًّا، ومعلّمًا أتقن الفعل والقول على حدٍّ سواء.

    وصلتني رسالتك يا حسام... وها أنا أكتب رسالتي إليك على الفور مؤكدًا على أنكم ملء العين والسمع والفؤاد، وسأرسلها إلى " القدس " التي نفخر بها ونفاخر "تكرم عينك يا حسام" ولن يكون لك إلا ما تريد...

    أريد أن تكون رســالتــك إلى "أمـــاني" كرســائل جواهر لال نــهرو إلى ابنتــه " إنديرا" لا أريد أن ترعبها وتخيفها أكثر مما ينبغي؛ فالدنيا بخير، ولن تكون "أماني" وشقيقتها وشقيقها إلا في العيون، وفي حبات العيون يا أبا أحمد؛ فاهدأ وقرَّ عينًا ولا تحزن...

    الأهل جميعًا بخير.. والإخوان أيضًا بخير.. هم جميعًا يهدونكم السلام.. ويصرّون على ترشيحكم لعضوية المجلس التشريعي.. وإلى أن يجعل الله لكم من بعد العسر يسرًا.. ومن بعد الشدة فرجًا.. ومن أمركم هذا مخرجًا في ظل سلام عادل دائم مشرّف يعيد الحقوق إلى أصحابها، وينعم الناس في رحابه بالأمن والأمان والحرية والاستقرار لكم صافي مودتي، وخالص محبتي، وعظيم تحيتي.

 

 

 

ثلاثة أسرى فقط لا غير ... !

 

 

    في أعقاب أسر الجنديين الإسرائيليين على الحدود اللبنانية، والجندي الإسرائيلي في غزة كتبتُ أقول:

    "العالم كله يشهد حالة استنفار لم يشهد لها مثيلاً منذ عقود .. والقمة العربية التي لم تعقد في القاهرة بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني وجدت لها تعبيرًا في مؤتمر روما الذي أسند إليه "ولاة الأمور" مهمة وضع الحلول "المناسبة" لكل هذه البراكين المتفجرة التي تضرب المنطقة، والتي باتت تهدد ما تبقى من أوجه الحياة على الساحتين اللبنانية والفلسطينية بعد أن أعلن الأمين العام للجامعة العربية وفاة عملية السلام، وبعد أن أبدى الأمين العام للمنظمة الدولية عجزه الكامل عن فعل أي شيء ، أو قول كلمة واحدة بشأن هذا العدوان الصارخ على الناس في أرواحهم وممتلكاتهم وسائر أمور حياتهم.

    غزة تحترق .. ولبنان يحترق .. وكل شيء في هذه الديار يحترق، أو سيحترق.. لاشيء في هذه المنطقة من العالم سوى القتل والدمار والموت جوعًا وعطشًا وخوفًا ورعبًا.. لاشيء في هذه المنطقة المحترقة من هذا العالم سوى دوي القذائف، وهدير الدبابات، وعربدة الطائرات التي أتت قذائفها على كل شيء؛ فهدمت الجسور، ودكت الشوارع والطرقات، وهدمت المصانع والمعامل والمنشآت  والمؤسسات.. ودمرت المرافق الحيوية، والبنى التحتية، وكثيرًا من المنازل والمزارع والبساتين .. وشردت كثيرًا من الناس الذين باتوا يهيمون على وجوههم في العراء .. والسعيد منهم من أسعفه الحظ فتمكن من الوصول إلى مدرسة أو مأوى على مقربة من قدور الميسورين التي أطعمتهم بعد جوع ، وآمنتهم بعد خوف. !!

    الرئيس الأمريكي بوش يرفض إدانة العدوان على لبنان، ويصر على إعطاء الإسرائيليين مزيدًا من الوقت كي يحققوا أهدافهم .. وأهدافهم المعلنة هي تطبيق القرار1559، ونزع سلاح حزب الله، وإبعاده إلى ما وراء  نهر الليطاني، ونشر الجيش اللبناني في الجنوب، واستعادة الأسيرين من حزب الله.

    وزيرة الخارجيــة رايس هي الأخــرى مبتهجة لكل ما فعلته وتفعله آلة الحرب الإسرائيلية من دمار بلبنان، وتقتيل وتشريد للبنانيين، وفتك بهم .. وهي تؤجل زيارتها لهذه المنطقة المحترقة مرة تلو أخرى كي تعطي الإسرائيليين وقتًا إضافيًّا لتحقيق الإنجازات والأهداف المشتركة.. وفي غمرة شعورها بالسعادة والبهجة وصفت رايس وزيرة خارجية أمريكا ماتفعله آلة الحرب الإسرائيلية بلبنان واللبنانيين على أنه المخاض الذي يسبق ولادة الشرق الأوسط الجديد!!

    دول الاتحاد الأوروبي منقسمة على نفسها بسبب تباين مواقفها مما يحدث في لبنـــان، وفي قطاع غزة، والضفة الغربية أيضًا... ومع ذلك يُعقد المؤتمر الدولي الذي أنيطت به مهمة إيجاد الحلول  "المناسبة" لما يحدث في لبنان وفلسطين، يُعقد هذا المؤتمر في العاصمة الإيطالية روما لأسباب منها عدم التسبب بمزيد من الإحراج للقادة العرب، وعدم التمادي في استفزاز الشارع العربي الذي بدأ يستفيق من هذه الغيبوبة التي غشيته منذ أمد بعيد ... ومؤتمر روما في تقدير المراقبين والمحللين السياسيين المحايدين يراد منه اتخاذ القرارات المؤيدة للمخططات الأمريكية، والحلول الأمريكية، وخرائط الطرق الأمريكية لأقطار العالمين العربي والإسلامي،أو بتسمية وزيرة خارجية أمريكا" الشرق الأوسط الجديد " أي المسالم المستكين الموالي للولايات المتحدة وحلفائها .. الرافض لكل أشكال العنف والإرهاب ..  المتسامح الذي لا يبدي أدنى ممانعة في التخلي عن كافة المعتقدات البالية، والعادات والتقاليد المهترئة .. ولا يبدي أدنى ممانعة في تناول ما تقدمه إليه أمريكا وحلفاؤها من زاد ثقافي وفكري واجتماعي يمكّنه من اللحاق بركب الحضارة الإنسانية ، والانتماء للعالم الحر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية!!!

    إنه، وبعد هذا القصف الجوي الرهيب الذي استمر تباعًا طيلة أحدَ عشرَ يومًا يحاول الإسرائيليون (مدعومين بكل جديد في ترسانة الحرب الأمريكية) خوض المعارك البرية التي وصفوها – مسبقًا – بأنها محدودة حتى لا يقال بأنهم طامعون، وحتى لا يقال بأنهم عاجزون إن هم فشلوا في تحقيق أي إنجاز يذكر أمام إصرار المقاومة اللبنانية على التصدي، أما إذا تمكنوا من التقدم ولو بخسائر كبيرة (وسط هذا التعتيم الإعلامي الذي يفرضونه منذ الأيام الأولى لهذه الحرب المفتوحة) فإنهم سيواصلون هذا التقدم حتى نهر الليطاني حيث يعلنون بعد ذلك أنهم لن يسلموا هذه المنطقة إلا للجيش اللبناني، وأنهم على استعداد لتبادل الأسرى، ولكن بالإفراج عن الأسرى الجدد الذين يكونون قد احتجزوهم من الأهالي خلال العمليات العسكرية في الجنوب !! وهذه هي الخطوة الأولى – في اعتقادهم – لضرب المقاومة اللبنانية، ونزع سلاح حزب الله،وإقصائه إلى ما وراء الليطاني تمهيدًا لتحويله إلى حزب سياسي في المستقبل.

    المقاومة اللبنانية بدورها تَعدُ بأن تكون الحرب البرية شرسة وطاحنة،وتتعهد بأن لا يحقق الإسرائيليون أي تقدم إلا على جثث المقاومين الذين يبدون بسالة واستماتة منقطعتي النظير منذ بدء هذه الحرب المفتوحة.. وما من شك في أن الإسرائيليين أنفسهم يثقون بصدق المقاومة اللبنانية، وبمقدرتها الخارقة على التصدي .. وما من شك أيضًا في أن كثيرًا من الإسرائيليين يعتقدون بأنه كان من الممكن إجراء صفقة لتبادل الأسرى بدلاً من كل هذا التصعيد، وبدلاً من كل هذه الخسائر الجسيمة التي تكبدتها سائر الأطراف، و لا تزال.

    إن كل ما حدث ويحدث وما سيحدث في هذه المنطقة من دمار ومآس وويلات وكوارث طالت جميع الأطراف دون استثناء .. وكل هذا الاستنفار الذي تشهده الساحة الدولية .. وكل هذه التحركات الأمريكية التي تستهدف تغيير وجه الأرض في العالم الإسلامي الذي تسميه وزيرة خارجية أمريكا الشرق الأوسط الجديد .. وكل هذه المؤتمرات والمشاورات والمداولات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي كان بسبب وقوع ثلاثة جنود إسرائيليين في الأسر.

    ثلاثة أسرى فقط لا غير كانوا السبب المباشر في كل هذا الذي حدث، وفي كل ذاك الذي سيحدث .. ولِم لا ؟؟ أما الأسرى الفلسطينيون والعرب البالغ تعدادهم "رسميًّا" أكثر من عشرة آلاف أسير بينهم مئات الأطفال، والنساء والشيوخ .. وبينهم آلاف المرضى فلا أحد في هذا الكون يكترث بهم ... ولم لا أيضا ؟؟ وعندما تُقدم المقاومة في غزة على أسر جندي إسرائيلي لمبادلته بأسرى فلسطينيين تقوم القيامة... وعندما تُقدِم المقاومة في لبنان أيضًا على أسر جنديين لمبادلتهما بأسرى لبنانيين وغير لبنانيين فإن أبواب الجحيم كلها تفتح على لبنان، ونساء لبنان، وشيوخ لبنان، وشباب لبنان أيضًا... ألا ترون أن هذا الأمر هو من الأمور التي يصعب تصديقها، وأن هذا الأمر خارجٌ من كل حدود المعقول داخلٌ في عمق أعماق اللامعقول؟!!

     لقد كان حريًّا بالإسرائيليين – كما يقول كثير منهم – أن يروا في الأمر فرصة للإفراج عن كافة الأسرى المحتجزين في سجونهم ومعتقلاتهم، وأن يستعيدوا أسراهم .. كان حريًّا بهم أن يعيدوا النظر في كافة أفعالهم، وتصرفاتهم، ومواقفهم من العرب الفلسطينيين وغير الفلسطينيين .. فهم يعيشون في هذه المنطقة العربية، وبين أبناء هذه الأمة العربية الإسلامية .. كان حريًّا بهم أن يعلموا أن العيش مع العرب أمر ممكن إذا عرف كلٌّ حده فوقف عنده، وإذا أعيدت الحقوق إلى أصحابها، وكفّ المعتدي عن عدوانه، وتخلى عن غروره وغطرسته واستعلائه وطغيانه ...

    ولكنها المخططات.. والإعداد المسبق للحروب حتى لو لم يُخطَف هؤلاء الجنود الذين عجّل اختطافهم بشنِّ هذه الحرب!! إن بدعة الشرق الأوسط الكبير، أو الجديد هي كبدعة العولمة التي تستهدف تجريد هذا الشرق العربي الإسلامي من خصائص شخصيته، ومقومات هويته سواء بسواء ... هذه البدعة ومعها تلك، وكل البدع غير قابلة للتطبيق على الأرض .. هي ليست أكثر من وهم في رؤوس أصحابها من الخير لهم ولغيرهم من حلفائهم أن يتحرروا منه .. وهي ليست أكثر من دليل على الطمع والجشع والعدوانية وحب السيطرة على الشعوب ونهب خيراتها واحتلال أوطانها ... إنها المستحيل بعينه".

 

الأسرى.. مِفتاح الحل

 

    الحروب والصراعات والمنازعات تؤدي – في العادة – إلى وقوع القتلى والجرحى والأسرى في ساحاتها وميادينها المختلفة .. أما القتلى فيرحمهم الله.. وأما الجرحى فتتولى أمورهم ملائكة الرحمة.. وأما الأسرى فتُحل قضاياهم ويُفترض أن يعودوا إلى ذويهم خلال المعارك والحروب في بعض الأحيان، وبُعيد توقفها في بعضها الآخر، وبعد انتهائها في كثير من الأحيان... إن قضية الأسرى – في الغالب – تنتهي، ويُقفل ملفّها بعد توقف المعارك، وبعد أن تضع الحرب أوزارها.. فيعود الأسرى ضمن عمليات منتظمة بإشراف دولي إلى أسرهم وذويهم بسلام.

    وقد تتجدد الحروب والمعارك، وقد تستمر الصراعات والمنازعات دون حلولٍ مددًا طويلةً من الزمن.. وقد تحدث اجتياحات، واحتلالات، ثم تتعثر الحلول لاختلاف وجهات النظر، أو لتعنت هذا الطرف، وتشدده، وتمسكه بشروطه ومواقفه.. ويطول الزمن، وتنشط المقاومة، وتنشط أيضًا محاولات قمعها من قبل المحتلين.. وتكثر بالتالي عمليات الاعتقال بهدف وقف المقاومة أو إضعافها.. فيرتفع عدد الأسرى والمعتقلين، ويرتفع كذلك عدد الموقوفين إداريًّا.. وتزداد معاناة الناس، وتحرص كثير من قيادات المقاومة على إحداث اختراق هنا أو هناك بهدف إرغام ذاك الطرف على عقد صفقة لتبادل الأسرى تخفف قليلاً أو كثيرًا من معاناة الأمهات، وترفع كثيرًا أو قليلاً من تلك الهمم والعزائم والمعنويات.. وبين حرص هذا الفريق، ورغبته الجامحة في تحقيق هذا الهدف، وتمنّع ذاك الطرف ولجوئه إلى المراوغة، وممارسة الضغوط، وسياسة الإملاءات والتهديد، والبحث عن وسيلة هنا، ووسيلة هناك، وإصراره على عدم تكرار ما قد سلف تُبذل جهود ومساع للخروج من هذه "الأزمة"، وإغلاق ملف هؤلاء المخطوفين دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى ملف أولئك الأسرى الذين مضى على أسر بعضهم واحد وثلاثون عامًا.. في الوقت الذي بلغ فيه عددهم أكثر من عشرة آلاف أسير يضاف إليه في كل يوم كثير من الأسرى الجدد، ولا سيما خلال العام الماضي (الذي أطلق عليه حسام خضر عام الأسرى) وحتى يومنا هذا من عامنا هذا.. ولا ندري يقينًا كم بلغ عددهم اليوم، وإن كنا نكتفي بالقول إنه أكثر من عشرة آلاف بما في ذلك كثير من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى.

    وإذا كان الصراع في هذه المنطقة من العالم وفي هذه الديار بالذات صراعًا مختلفًا في أشكاله، ومضامينه، وتداعياته، وأسبابه، وطبيعة أطرافه.. وإذا كان هذا الصراع مرشحًا للاستمرار سنوات طويلة أخرى فإن المراقبين والمحللين السياسيين يبحثون في هذه القضية الشائكة ، بل القضايا الشائكة، عن طرف الخيط الذي قد يوصل إلى الفرج أو الانفراج، والتخفيف من شدة التأزم والاحتقان الذي يغشى البيت والشارع وكل مكان في هذه الديار.. فلا تكاد عيونهم ترتفع عن هذا الملف، ولا يكاد اهتمامهم يتوقف عن التفكير بهؤلاء الأسرى نظرًا للأبعاد الكثيرة التي تنطوي عليها قضيتهم لتجعل منها مِفتاح الحل الذي يحلم به كثير من الآباء، وكثير من الأمهات، وكثير من الأخوات، وكثير من الإخوة  في كل بيت وبيت من بيوت هذا الوطن الغارق في الحزن والعتمة حتى أذنيه.

    كثير من المراقبين والمحللين السياسيين يرون أنه قد بات من الضروري والملحّ أن توجَّه الجهود كل الجهود في هذه الأيام لإحداث انطلاقة تعيد إلى الناس في هذه الديار شيئًا من الأمل والتفاؤل والثقة.. وإنني أرى أن هذه الانطلاقة لا بد أن تكون هنا في هذا الملف الذي آن له أن يُغلق.. فملف الأسرى أولاً، وملف الأسرى ثانيًا، وملف الأسرى قبل كل اعتبار.. لأنه – في تقديري – سيفتح الباب أمام مزيد من العمل، ومزيد من النجاح في سبيل حل هذه القضية حلاًّ عادلاً.. إن النجاح غالبًا ما يؤدي إلى النجاح.. وإن التفاؤل يقود إلى مزيد من التفاؤل.. وإن الثقة بالمستقبل تولّد مزيدًا من الثقة، ومزيدًا من الإصرار على تخطي العقبات، وتجاوز الصعاب والعثرات والنكبات...

    إن الإفراج عن الأسرى جميعًا من شأنه أن يفتح المجال واسعًا أمام حل هذه القضية.. ومن شأنه أن يعيد الحقوق إلى أصحابها.. ومن شأنه أن يسفر في نهاية المطاف عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.. ومن شأنه أن يسفر في النهاية عن عودة اللاجئين الفلسطينيين.. وباختصار فإن قضية الأسرى هي في الحقيقة مفتاح الحل إذا نحن أحسنّا استعمال هذا المفتاح.. وإذا نحن تحلينا بقليل من الحكمة والشجاعة وحسن التصرف... وإلى غلاة المتشددين الذين يريدون لأنفسهم كل شيء، ولا يعترفون لغيرهم بشيء نقول: إنكم مخطئون، وإنكم واهمون إذا كنتم تعتقدون أن بإمكانكم تحقيق كل هذه المطالب والأهداف التي تداعب خيالكم.. والتاريخ أكبر شاهد على صحة ما نقول.. إن من يريد أن يعيش في هذه الديار، بل في هذه المنطقة من العالم عليه أن يعلم أن أهل هذه الديار لا يمكن أن يخضعوا للضغوط والإملاءات والشروط المذلة، ولا  يمكن أن يستجيبوا إلا لسلطان العدل والعقل والحق والضمير...

    إن سياسة التجويع، والإمعان في تجريد هذا الشعب من حقوقه ، ومقومات شخصيته لا يمكن أن تكون أساسًا لصنع السلام الذي تطمح إليه شعوب هذه المنطقة... وأخيرًا فإننا نرجو أن يكون هذا العام هو عام الأسرى.. عام إغلاق هذا الملف إلى الأبد.. وإننا في الوقت ذاته نقول إن في هذه الديار متسعًا لكل أبنائها.. وإنَّ العقلاء لا يمكن أن يعدموا الوسيلة للتوصل إلى الحلول، والخروج من الأزمات، والعيش بمحبة وتقدم واحترام.

 

في سقوط الباستيل

 

    في الرابع عشر من تموز من عام تسعة وثمانين وسبعمئة وألف خرجت جموع الشعب الفرنسي الغاضب معلنةً الثورة ضد الطغيان والاستبداد والظلم.. واتجهت هذه الجموع الهادرة نحو حصن الباستيل في باريس، وكان هذا الحصن قد تحول في تلك الفترة إلى أكبر معتقل للسياسيين الأحرار من أبناء فرنسا.. وقد تمكنت تلك الجموع الثائرة من اقتحام ذلك الحصن، وتحرير كافة المعتقلين والمسجونين.. وتدمير ذلك السجن الرهيب الذي كان يومئذ رمزًا لطغيان النظام واستبداده وتسلطه على رقاب الناس، وتنكيله بالأحرار والمثقفين والمفكرين من أبناء فرنسا المطالبين بوضع حد لطغيان لويس الرابع عشر، وتحرير الشعب من تسلطه وغطرسته واستبداده.. لقد سقط الباستيل، وانتصرت الثورة الفرنســية، وانتصرت مبادؤها الشهيرة في الحرية والإخاء والمساواة.. وأصبح هذا اليوم عيدًا قوميًّا تحتفل

به فرنسا كل عام.

    وإذا كان من دروس وعبر يمكن استخلاصها في يوم كهذا، فإن على رأس هذه الدروس أن الظلم في حد ذاته ليس كفيلاً بتفجير الثورات، ووضع أمور الشعوب في نصابها الصحيح.. إن هناك شعوبًا قد تستمرئ الظلم، وتهوى الاضطهاد، وتعشق الركوع، وتتهافت على تقبيل أيدي الظَّلمة المستبدين وأقدامهم.. بل إن هناك شعوبًا قد تحب الغزاة والمحتلين، وتتفانى في خدمتهم، وتقبيل أعتابهم!!! إن الظلم في حد ذاته لم يكن في يوم من الأيام سببًا في تمردٍ، أو عصيانٍ، أو انتفاضة، أو ثورة.. ولكن الشعور بالظلم هو الذي كان، ولا يزال، وسيبقى سبب هذا كله أو بعضه.. والشعور بالظلم يعني الإحساس به، وإدراك مدى بشاعته، والنفور منه، ورفضه، والتمرد عليه، ومقاومته، ومحاربة أسبابه كبيرها وصغيرها.. ظاهرها وباطنها.. قريبها وبعيدها... نعم.. إن الشعور بالظلم هو الذي يفجر الثورات.. إن الكرامة الجريحة، والوطن الذبيح المستباح كفيلان بتفجير بركان الغضب في النفوس الشريفة الأبية التي تأخذ دورها دائمًا في تعبئة الجموع، وتهيئتها للغضب، وتحريضها عليه.. ومن ثم قيادتها نحو الثورة التي تصنع النصر، وتحقق أهداف الأفراد والجماعات في الحرية والتحرر والاستقلال والتقدم والعدل والعدالة والمساواة انطلاقًا من الشعور بالظلم، والإحساس بجرح الكرامة النازف، واستجابةً لنداء الأرض المتعطشة للمطر، والإنسان الظاميء للعدل والحب والحياة والحرية.

    لو رضي الفرنسيون بالظلم والمذلة والهوان، ولو تعايشوا مع الاستبداد والطغيان لما كانت الثورة والجمهورية وسقوط الباستيل.. ولما كانت مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.. ولو لم يظهر في  فرنسا مفكرون، ومثقفون، وأدباء، وفلاسفة كتبوا للشعب، وثقّفوه، وقادوه، واقتحموا به ومعه سجن الباستيل وخرّبوه لما كانت هذه الثورة الفرنسية التي كان لها فعلها الكبير على الأرض الفرنسية، وكان لها أصداؤها الواسعة في أوروبا كلها، بل وفي أقطار شتى من هذا العالم.

    ولو استكان الفرنسيون للاحتلال النازي.. ولو لم تكن المقاومة الفرنسية التي قادها الجنرال ديغول، ولو لم يكن ذلك الإصرار الفرنسي على تطهير كامل تراب فرنسا من دنس الغزاة لكانت الحال غير الحال، ولكانت فرنسا شيئًا مختلفًا عما هي عليه اليوم.. صحيح أن الجنرال ديغول الذي قاد المقاومة الفرنسية كان مقاتلاً فذًّا، وصاحب تجارب وخبرات واسعة في هذا المجال.. وصحيح أنه كان إلى جانبه في تلك الأثناء نخبة من القياديين الفرنسيين الشجعان.. ولكن صحيح أيضًا أن تلك القيادة لم تكن وحدها على أرض فرنسا.. بل كان من ورائها شعب يتصدى للغزاة بكل قواه، وبكل فئاته ومستوياته.. شعب يريد لبلاده أن تتحرر من النازيين... ومما يُروى في هذا السياق أن فتاة فرنسية كانت تقترب من معسكر للجيش الألماني قريب من قريتها، وهي تحمل سلة بيض.. وعندما أسرع إليها بعض الجنود فرحين لاستلام غذاءٍ هم في أمسّ الحاجة إليه ألقت الفتاة بالسلة أرضًا، وراحت تدوس البيض بقدميها بهمة وعناد وهي تقول: لن  تجدوا في فرنسا من يقدم لكم لقمةً تأكلونها.. من الخير لكم أن تعودوا من حيث أتيتم.. وهكذا تحررت فرنسا.. وهكذا خرج الغزاة منها يجررون أذيال الهزيمة والخيبة والعار.

    إننــا، ونحــن نشـــارك شـعب فرنسا أفراحه بهذه المناسبة، لَنشير في أسى ومرارة إلى هذه السجون

ومراكز التوقيف والاعتقال الكثيرة المنتشرة في كافة أرجاء هذه الديار، والتي تضيق بمن فيها من الأسرى والمعتقلين من أبناء هذا الشعب الذي لا يطالب بأكثر من حقه المشروع في الحرية والعيش الكريم في بلاده... فمتى سيتحرر أسرانا؟ ومتى سيعودون لممارسة حقهم الطبيعي المشروع في الحرية؟ ومتى سيُغلق هذا الملف، وتنتهي حكاية هذه "الباستيلات" الكثيرة المنتشرة هنا وهناك على طول هذا الوطن وعرضه، وكأنها قبور للأحياء من أبناء شعبنا حُشروا فيها ظلمًا وعدوانًا دون أن يتحرك أحد في هذا الكون لنجدتهم، وانتشالهم من هذه القبور التي وئدوا فيها دون ذنب أو سبب!! لقد دخل شيخ الأسرى سعيد العتبة عامه الحادي والثلاثين على التوالي في الأسر، وهو يقف اليوم على رأس جيش الأسرى والمعتقلين من أبناء شعبنا الذين يزيد عددهم اليوم عن عشرة آلاف أسير ومعتقل وموقوف ومحكوم بينهم عدد كبير من النساء والشيوخ والأطفال والمرضى... وبينهم هذه المجموعة الكبيرة من نواب هذا الشعب ومفكريه وممثليه الشرعيين المنتخبين دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى اقتراب موعد عودة هؤلاء الأسرى إلى بيوتهم وعائلاتهم وأعمالهم التي أُرغموا على مفارقتها والابتعاد عنها دون وجه حق... ومما يجدر ذكره أن عدد من مرّ من أبناء هذا الشعب بتجربة الاعتقال والأسر يزيد عن سبعمئة ألف معتقل وسجين وموقوف منذ بداية احتلال عام سبعة وستين وحتى هذه الأيام.. فمتى يستفيق هذا العالم مـن سباتــه.. ومتى يصحـو الضمير؟؟

    لقد سقط الباستيل في فرنسا عام 1789، وسقطت قبله، كما سقطت بعده "باستيلات" كثيرة في هذا العالم.. ولكنّ المؤلم أن "الباستيلات" التي افتُتحت وتُفتتح هي أكثر بكثير من  تلك التي أُغلقت... وما نبأ "أبو غريب" و"غوانتنامو" وغيرهما من عجائب هذا الزمان وغرائبه عنا ببعيد... وما نبأ هذه القبور الكثيرة التي "تملأ الرحب من عهد عاد" والتي يحفرها هؤلاء وأولئك للأحياء من أبناء العالم الرابع عن منظمات حقوق الإنسان، وجمعيات الرفق بالحيوان أيضًا ببعيد.. وفي ذكرى سقوط الباستيل لا نملك إلاّ أن نقول: كل عام وشعب فرنسا، بخير.. وساركوزي أيضًا بخير!! وأمجاد.. يا عرب أمجاد!!!

    نعم والله.. أمجاد يا عرب أمجاد.. ورحم الله أيام زمان! ورحم الله صوت العرب.. وبرامج صوت العرب.. وثورية صوت العرب في تلك المرحلة التي شهدت أعنف مد قومي عربي تقدمي تحرري في تاريخ العرب الحديث.. لقد عاش العرب تلك الأيام الحلوة بالطول والعرض كما يقولون.. ودخلوا السجون والمعتقلات طائعين مختارين.. بل فرحين مفاخرين مبتهجين يرددون في شموخ وعزة وكبرياء: من أجل عينيكِ يا فلسطين.. وفي سبيلكِ يا جزائر!!

    لو حقق العرب شيئًا من نصر في تلك الأيام لقالوا إن ذلك لم يكن إلا بفضل رموز تلك الفترة ومنهم السيدة أم كلثوم التي تمثّل نصف قواتنا المسلحة!! إنها الحماسة واندفاعات الشباب والبساطة والنقاء والارتجال الذي لم يقف في يوم من الأيام في وجه الخطط والمخططات المُحكمة وآلة الحرب التي لم تَدَعْ سببًا من أسباب النصر إلا وضعته في حسابها.. لقد كان الفارق الحضاري كبيرًا فكانت الهزيمة كبيرة.. وكانت الصدمة كبيرة.. لستُ أدري لماذا جمح بي الخيال، وأعادني إلى تلك الفترة المبكرة من زمن الشباب الذي مضى وانقضى ولن يعود.. ولست أدري لماذا أشعر الآن بأنني أسيرٌ بين هذه الجدران التي تضيق، وتبالغ في الضيق حتى أحس إحساسًا يكاد يكون حقيقيًّا بالاختناق والتلاشي... ولست أدري لماذا يتجمع حولي في هذه اللحظات آلاف الأسرى وهم يهزجون أهازيج الأمل والجذل والحياة والحرية والحب.. فتشرق في دجى الليل شموس الحق والخير والجمال.. وتضيء الكون من حولي مشاعل هذا الشعب.. شعب القدس والأسرى والعودة وفلسطين، وهو يسير بثقة وعزيمة وإصرار نحو هذه السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق والإذلال والموت فيقتحمها ويحرر أسرى الحرية.. ويحتفل كل الناس في هذا التيه بإحراق كل هذه "الباستيلات" التي لم تنل من عزائم الأبطال.. وهمم الشيوخ والنساء والرجال والأطفال.

    ما أحوجنا اليوم لكل ما في الدنيا من قوة وجرأة ووفاء وإقدام وصدق فنتوجه إلى كافة السجون والمعتقلات ومراكز التوقيف والاعتقال والإذلال متضامنين مع أسرانا أسرى الحرية.. معلنين للدنيا كلها إصرارنا على تحريرهم وإعادتهم إلى بيوتهم وذويهم سالمين رافعي الرؤوس موفوري الكرامة.. مطالبين المجتمع الدولي بالوقوف إلى جانبنا في هذا المطلب الذي يجب أن يتحقق رحمةً بكل القابعين في تلك الســجون والمعتقلات من بناتنا وأبنائنا وأطفالنا ومرضانا وأصحائنا أيضًا... هذا هو الواجب، بل هذا هو

أبسط الواجبات تجاههم أن نعمل ليل نهار من أجل تحريرهم..

    إنه لمن المؤلم والله أن يسعى الأسرى اليوم لتحرير الطلقاء.. وأن تخرج المبادرات من داخل المعتقلات لفك قيود هذا الوطن ومواطنيه.. عجبًا! والله ما نحن بالطلقاء، ولا هم بالأسرى... إنهم الطلقاء لأنهم تحرروا من الخوف.. ونحن الأسرى لأننا بتنا مسكونين بالخوف والرعب والعجز...

    وإنه لمن المؤلم أكثر أن يحاول بعض المتسلقين من اللاعبين على الحبال جميعها استغلال قضية الأسرى والاتّجار بها لعقد الصفقات، وبذل مزيد من التنازلات على هذا الصعيد أو ذاك... ألا فليعلم هؤلاء وأولئك أن تحرير الأسرى يأتي من باب رفع الظلم عنهم لا من باب الاتّجار بمعاناتهم ومعاناة أُسرهم وذويهم.. تحرير الأسرى بداية وليس نهاية.. إنه بداية لتحرير هذا الوطن من كل القيود، وتخليص هذا الوطن من كل أسباب الهزائم والمذلة والهوان.

 

(تيه2)

من كتاب زمن التيه

تأليف:عدنان السمان

يطلب من الناشر : مكتبة النصر التجارية

هاتف: 1700112112(أبو حسام)

نابلس

 

 

 


ليست هناك تعليقات: