عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


السبت، ١٥ تشرين الثاني ٢٠٠٨

 

كلام في العملية التربوية

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

    لا يخفى على أحد  أن الإنسان هو الثروة الحقيقية للأوطان والمجتمعات.. بصلاحه، ونجاحه، وإبداعه، وحسن تربيته وانتمائه تنمو المجتمعات، وتزدهر الأوطان، وتتقدم.. وبعلمه وعمله تنهض الشعوب، وتأخذ مكانتها اللائقة المشرّفة، وتحقق من خلاله أهدافها وطموحاتها في سعي دائب، وعمل  متواصل لا يلين نحو الكمال  المنشود . 

    وإذا كان الإنسان هو الثروة الحقيقية للمجتمعات كافة فإن دوره في المجتمعات الفقيرة، والمتخلفة، وحديثة العهد بالتحرر والاستقلال يتضاعف أضعافًا مضاعفة لضخامة الدور الملقى على  عاتقه، وجسامة المسئولية المناطة به.

    ولا يخفى على أحد أن مجتمعنا العربي الفلسطيني  الذي يتعرض  في  هذه الحقبة من تاريخه لواحدة من أشرس الهجمات التي  تستهدفه أرضًا وإنسانًا.. هذا المجتمع الذي ما خرج من مصيبة إلا ليقع في  مصيبة أشد وأدهى من سابقتها.. مجتمعنا هذا الذي يقاتل  منذ أكثر من مئة عام من أجل عزته وكرامته وإعمار وطنه، والحصول  على استقلاله، وبناء إنسانه بناءً اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وفكريًّا سليمًا هو في  أمسّ الحاجة إلى  الإنسان الواعي المثقف الملتزم بقضايا شعبه وأمته. 

    مجتمعنا العربي الفلسطيني يقوم (بعد سلسلة المصائب  والنكبات  التي  تعرّض  لها على امتداد القرن الماضي ولا يزال) على رقعة معينة من الأرض فقيرة بمواردها الطبيعية والغذائية والمائية .. هذا  المجتمع الصغير الرازح تحت كوابيس الماضي وجراحاته وآلامه وعذابه .. والذي يئن تحت وطأة الحاضر وحصاره، ودباباته، وطائراته، وجرافاته، وأسواره، وخنادقه، وحواجزه، ونيرانه، وجوعه، وعريه... هذا المجتمع الذي يحاولون الآن تجزئته إلى مئات المجتمعات والتجمعات، والذي ما عرف الأمن والهدوء والاستقرار منذ قرون هو أكثر شعوب العالم على الإطلاق حاجةً إلى الإنسان المؤمن القوي الواثق المتعلم الأمين الملتزم المعطاء. 

    ومما لا شك فيه أن شعبنا هذا  غنيّ بالشرفاء الأوفياء الأقوياء الأكفياء المخلصين من أبنائه... ولولا ذلك لاندثر منذ أمد بعيد، والتحق بمجموعة الشعوب البائدة، ودخل دائرة الأمم المنقرضة التي لا نرى لها وجودًا إلا في بطون كتب التاريخ، ودوائر المعارف الأجنبية... لولا صلابة عود هذا الشعب وتمرّسه بالصعاب والأهوال، ولولا أصالته، ونقاء معدنه لانقرض.. ولولا إيمان هذا الشعب، وعناده، وإصراره على نيل حقوقه كاملة غير منقوصة لما وقف - ولا يزال - في وجه أعتى العواصف والأعاصير  شامخًا عملاقًا متساميًا فوق كل الجراح.

    ومع هذا كله، ورغم ذلك كله فإن هذا الشعب الصابر المرابط تحت وطأة كل أنواع التنكيل والتقتيل، والتجويع، والتركيع، وكل محاولات الإبعاد والترحيل، وتحت كابوس الحواجز، وكل  أشكال الحصار، وتقطيع الأوصال، وأسوأ ألوان العزل، وكل محاولات التجهيل، وتخريب المدارس، والمؤسسات التعليمية، وهدمها ونهب محتوياتها... هذا الشعب بحاجة إلى حماية أطفاله وشبابه وطلبته، وإعادة بنائهم من جديد.. إنه بحاجة ماسة سريعة لعلاجهم مما هم فيه من عذاب وضيق واضطراب  وخوف، وبحاجة إلى استئناف حقهم المقدس في العلم والمعرفة.. إنه بحاجة إلى كل طفل وطفلة، وشاب وفتاة من شبابه وفتياته.. إنه بحاجة إلى الإنسان الذي يستوعب طبيعة المرحلة، ويتفاعل معها في معاركه التي لا تنتهي: معارك التحرير والتصدي للمعتدين وإفشال مخططاتهم.. ومعارك البناء والإعمار.. وإثبات الوجود والذات.. ومن هنا يبرز دور المدرسة في بناء الجيل القادر على مواصلة المسيرة، ومتابعة السير على الطريق القويم، والنهج السليم، وبناء الحضارة، وتحقيق الطموحات والأهداف.

    في هذه المرحلة، وفي كل مرحلة من مراحل نضالات هذا الشعب نريد لمدارسنا أن تكون منائر علم ومعرفة تنير للأجيال دروب الحق والنضال والعمل الجاد المثمر الدؤوب... نريد لمدارسنا أن تكون منابر  للحرية، وإعمال الفكر، وإبداء الرأي، والاجتهاد، وبناء شخصية الإنسان الفلسطيني العربي الحر السيد الخلوق الذي لا يخشى في الحق أحدًا... نريد لهذه المدارس أن تكون مصانع صبايا وشباب يحترمون أنفسهم، ويحافظون على كرامة وطنهم، ويحمون قوانين بلادهم، ويضعون المصلحة العامة فوق كل اعتبار... وباختصار فإن الدور الأشد خطورة ً في هذه المرحلة - وفي كل مرحلة - هو الدور الذي تقوم به المدرسة... إنها العملية التربوية التعليمية التي لا يمكن ان تكون كما يجب - في أي قطر من أقطار هذا العالم -  إلا بتوافر أركانها الخمسة: المعلم، والمتعلم، والمكان، والمنهاج، والإدارة. 

    أما المعلم: فيجب أن يكون كفيًّا قادرًا مؤمنًا معطاءً ملتزمًا يعطي كل وقته لطلبته، يصل الليل بالنهار من أجل القيام بواجبه المقدس نحو طلبته، وبيئته المحلية التي غالبًا ما تكون بيئة الطلبة أنفسهم في الحي الصغير، أو الكبير... إنه المعلم، والأب، والصديق، والمربي، والموجّه، والمرشد لطلبته جميعًا داخل أسوار المدرسة وخارجها أيضًا... يتفهم مشكلات طلبته ويعلمهم.. ويأخذ بأيديهم... يحل مشكلاتهم.. ويتفقد واجباتهم اليومية الصفيّة منها والبيتيّة بكل قوة وثقة، وبكل أمانة واقتدار.. يبني أقوى العلاقات وأمتنها مع أسرهم، وأولياء أمورهم، ويبقى على صلة دائمة مستمرة بمجالس الآباء، وأولياء الأمور، وممثلي الطلبة حتى لا يبقى في المدرسة طالب واحد لا يحبها.. وحتى لا يبقى داخل أسوار المدرسة أو خارجها طالب يفضّل بيته على مدرسته.. يجب أن يحب الطلبة مدارسهم.. وأن يقضوا فيها أغلب أوقاتهم وأسعدها، وأكثرها فائدة.. يجب أن يشعر الطالب أن أقرب الناس منه هو المعلم.. ويجب أن يشعر المعلم أن كل الطلبة دون استثناء هم أبناؤه وبناته، وهم إخوته وأخواته... المعلم الذي نريده في هذه المرحلة، وفي كل مرحلة، هو المعلم الذي يقيم أفضل العلاقات، وأقواها مع مدير المدرسة (الجيد الكفيّ) ومع إدارة التعليم (الكفيّة الناجحة) في منطقته وصولاً إلى خدمة الطلبة، والنهوض بالعملية التربوية.. إنه المعلم الذي يقيم أقوى الصلات مع المرشد الاجتماعي والنفسي، والطبيب المدرسي(!!) في سبيل حل مشكلات الطلبة.. ودون أدنى تأخير... 

    هــذا هــو المعلـم... إنه الإنسان المتفرغ تفرغًا تامًّا لمدرسته وطلبته.. وهو الإنسان المؤهل علميًّا وعمليًّا ومسـلكيًّا.. وصاحب الشخصية القوية الفذّة المرنة السمحة الواعية التي تصنع أجيال هذا الوطن، وقادته في سائر مجالات الحياة المقبلة.. أقول: هذا المعلم الذي نطالبه بكل هذه المسئوليات والأعباء، ونفترض فيه المثالية، وننظر إليه نظرتنا إلى القديسين والأنبياء أصحاب الرسالات النبيلة السامية.. له علينا حقوق يجب أن تؤدى دون نقصان، ومن أبرز حقوق هذا المعلم:

·     أن يحظى بمكانة اجتماعية محترمة تتناسب وخطورة رسالته، بحيث يكون فعلاً لا قولاً من رجال الصف الأول في بيئته المحلية، ومجتمعه الصغير والكبير.. وأن يكون له وجوده المميز.. فهو صانع الأطباء، والمهندسين، والصيادلة، والمحامين، ورجال السياسة والصحافة وموجّهي الرأي العام.. ورجال المال والاقتصاد والتجارة... إنه صانع العمال، والمزارعين، والمثقفين، والأدباء، والكتّاب...  إنه صانع الأجيال.. ومن حقه أن يتمتع بمكانة اجتماعية تتناسب وعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه.. وكلما نجحنا في ذلك نجح المعلم في عمله، واتجه الشعب (بالتالي) بسرعة قياسية نحو الأهداف المنشودة.

·     أن يحظى المعلم بمكانة اقتصادية توفر له العيش المحترم الكريم في مجتمعه، وتصرفه عن ممارسة أي عمل آخر حتى لا يكون ذلك على حساب قيامه بالواجب تجاه طلبته، وحتى لا يهتز وضعه الاجتماعي نتيجة لذلك.. بمعنى أن يعيش المعلم حياة لائقة به، وبقدسية رسالته بعيدًا عن الجوع والحرمان والديون والتقتير على أسرته وأبنائه... وهذا من أبسط حقوقه، بل من أبسط واجبات المجتمع نحوه؛ فالمعلم الذي يرزح تحت طائلة الديون لأن راتبه لا يوفر له ضروريات  العيش لا يمكن أن يقوم بواجبه مهما كان مثاليًّا.. ومهما كان ملتزمًا.. وحتى لو كان قديسًا زاهدًا في الدنيا... لأن هذا القديس الزاهد لم يعد يحيا في عالم الماضي ببساطته.. إنه يعيش في زمان وبلاد لا يمكن  لأسرة متوسطة فيها أن تعيش حياة عادية بأقل من ألف دينار في الشهر، وبغير ذلك فإن الأسرة تصبح فريسة سهلة للتناقضات الاجتماعية، والصراعات الطبقية البغيضة، والعوز والحاجة التي تصرف المعلم، والمواطن بعامة، وسائر الناس عن الأهداف السامية التي يجب أن يعملوا لتحقيقها. 

·     كي يقوم المعلم بالدور الريادي العظيم يجب أن لا نحمّله فوق طاقته من الحصص والمحاضرات اليومية.. بمعنى أن يكون نصابه من الحصص مخفَّضًا لا يرهقه، ولا يصرفه عن ممارسة دوره كأب وأخ وموجّه ومرشد، ومعلم حقيقي يتفقد طلبته جميعًا، ويتفقّد واجباتهم اليومية جميعها... المعلم مسئول عن أبنائه في الصف، وفي المدرسة من حيث العلم، والسلوك، والتربية، ومتابعة دراستهم، وواجباتهم الصفية والبيتية، ودراسة مستوياتهم العلمية، وقدراتهم، وإمكاناتهم... فيأخذ بيد "الضعيف" بعد أن يكتشف مواطن ضعفه.. ويستمر مع المتفوق دون أن يصرفه عنه شيء، ودون أن يشغله عنه شاغل... وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا في ظل نصاب مناسب من الحصص المدرسية بحيث لا يزيد ما يعطيه المعلم من حصص يوميًّا عن ثلاث حصص، وأن لا يقل عن حصتين، بمعنى أن يتراوح نصاب المعلم أسبوعيًّا ما بين اثنتي عشرة حصة، وثماني عشرة من الحصص بحسب المواد، والمرحلة الدراسية التي يدرّسها.. فمعلم اللغات لا يمكن أن يبدع، أو أن يقوم بواجبه كما يجب إذا طالبناه بتعليم أكثر من صفين، نظرًا لكثرة الواجبات المترتبة على طبيعة عمله: فلكل صف مجموعات من "دفاتر" الواجبات الصفية والبيتية كالتعبير، والتطبيقات، والإملاء، والخط، وغيرها  من أوجه النشاط  المنهجي وغير المنهجي... وعلى المعلم أن يصحح هذه الدفاتر ويدققها كلمة كلمة... وأن يلفت نظر كل طالب إلى أخطائه كي يتجنبها، ولا يقع فيها مستقبلاً... وإلا فما نفع العملية التعليمية؟؟

    فإذا افترضنا أن لكل صف أربع مجموعات فقط من الدفاتر، وإذا قلنا إن متوسط عدد الطلبة في الصف هو خمسة وأربعون طالبا أو طالبة، فإن معنى ذلك أن على المعلم أن يراجع وأن يدقق مئة وثمانين دفترًا للصف الواحد في الأسبوع الواحد، وثلاثمئة وستين دفترًا في الأسبوع لصفين اثنين.. هذا عدا التحضير، والشرح، والمناقشة، والمتابعة... والامتحانات اليومية، والشهرية، ونصف الفصلية، والفصلية التي يجب على المعلم أن يقوم بها خير قيام... وهذا معناه أن معلم اللغات لا يمكن أن يقوم بواجبه كما ينبغي إذا أسندنا إليه تدريس أكثر من صفين اثنين شريطة أن يكون عدد الطلبة معقولاً لا يتجاوز الثلاثين.. وكلما كان العدد أقل كانت النتيجة أفضل.

    وبكلمة فإن إرهاق المعلم، ومطالبته بتحمل ثلاثين حصة أسبوعيًّا، والقيام بتدريس عدد كبير من المواد التدريسية، وتشكيلة واسعة من الصفوف المدرسية.. هو من باب هدم العملية التربوية التعليمية، وكل من يقول خلاف ذلك مكابر، أو جاهل بأمور التربية والتعليم، أو "محايد" لا تعنيه العملية التربوية، ولا يعنيه مستقبل هذا الجيل في كثير أو قليل... وما يقال في النتائج السلبية الضارة المترتبة على إرهاق المعلم يقال أيضًا في هؤلاء الذين تعج بهم دوائر التربية والتعليم، ومؤسسات التعليم العالي وغير العالي من غير المؤهلين علميًّا وعمليًّا أو حتى مسلكيًّا لدخول المدارس والمؤسسات التعليمية والذين يتم استيعابهم بناءً على اعتبارات غريبة أبعد ما تكون عن التعليم، وأبعد ما تكون عن التربية.. وتكون نتيجة ذلك هدم ما تبقى في هذه الديار من مؤسسات التعليم العام والخاص على السواء!!!

·     أن يتم تعيين المعلم في أقرب مدرسة ممكنة من مكان سكنه، وأن يصار (في الحال) إلى نقل من يعملون بعيدًا عن أماكن سكنهم إلى هذه الأماكن لأسباب لا تخفى على أحد.. فبالإضافة إلى اختلاف اللهجات التي تقف في بعض الأحيان حائلاً دون نجاح العملية التربوية. (ونحن في غنًى عن الخوض فيها لما تنطوي عليه من حساسية عند بعض من لا يريدون أن يفهموا المعنى الصحيح لما يقال في هذا المجال).. ولما تنطوي عليه هذه المسألة أيضًا من نفقات المواصلات، وإضاعة الوقت في الطرق.. ثم عدم التمكن من وصول المدرسة أو مكان العمل كما يحدث منذ سنوات، حيث نرى بأم أعيننا كيف أن كثيرًا من الدوائر والمؤسسات التعليمية وغير التعليمية هي مؤسسات مغلقة أو شبه مغلقة، أو أنها تعمل (إن عملت) بشكل يثير أكثر من الرثاء، ولطم الخدود وشق الجيوب!!!

·         أن لا يزيد عدد طلبة الصف الواحد عن خمسة وعشرين إلى ثلاثين طالبًا أو طالبـة للأسبـاب المشار

إليها.. هذه الأسباب التي يعرفها كل التربويين في أرجاء المعمورة، ولا يستطيع أحد أن يشكك في صحتها.

·         مساواة رواتب معلمي المدارس برواتب نظرائهم في سائر مؤسسات التعليم العالي في البلاد، ومدارس

·     وكالة الغوث... مع الأخذ  بعين الاعتبار أن رواتب كثير من العاملين في البلاد هي رواتب متدنية (باستثناء فئة معروفة لكل الناس في هذا الوطن) ولا بد من العمل السريع لرفع رواتب العاملين، وإصلاح الخلل، بحيث تصبح الرواتب متناسبة ومستوى المعيشة في هذه الديار، وبحيث نتخلص ولو جزئيًّا من كوابيس الاتفاقات الاقتصادية الجائرة التي يئن المواطن الفلسطيني تحت وطأتها منذ أمد.. والتي حولت الغالبية العظمى من الفلسطينيين في هذه الديار إلى شرائح مقموعة من الشحاذين والفقراء والمتسولين والمحرومين والحاقدين واليائسين واللصوص الذين يصرون على كسب قوتهم بالطرق غير المشروعة في غياب الطرق المشروعة!!!

·     فتْح المجال واسعًا – عندما تسمح الظروف بذلك – أمام المعلمين في المدارس الحكومية من أجل متابعة تحصيلهم الجامعي.. وإيفادهم في بعثات دراسية للحصول على الدرجة العلمية الثانية(الماجستير) والدرجة الثالثة (الدكتوراة)... وهذا من أبسط حقوقهم، وهو أمر تتطلبه طبيعة عملهم التربوي... إضافة إلى ذلك لابد من إشراكهم في دورات محدودة - حسب متطلبات الأحوال - على أن تكون هذه الدورات جادة ومفيدة وملزمة، ويحاضر فيها مختصون وخبراء أكفياء بعيدًا عن التظاهرات الاستعراضية، والمزايدات الكلامية، والتوجهات الدعائية الإعلامية... دورات يشعر المعلمون معها أنهم يحققون نفعًا مادّيًّا ومعنويًّا ملموسًا دون أن تكون هذه الدورات مدعاة للانتقاص من كرامتهم، أو للتشكيك في قدراتهم، أو لجرح مشاعرهم، والإساءة اليهم، والاتجار بهم كما حصل كثيرًا في الماضي الذي لانحب أن نأتي عليه، ونتذكره؛ فالنسيان نعمة من الله على عباده في كثير من الأمور.

·     تكريم المعلمين وتقديم المكافآت والحوافز المادية والمعنوية لهم باستمرار... ومساواتهم بزملائهم في الجامعات من حيث الامتيازات الممنوحة للعاملين وأبنائهم في هذه الجامعات؛ فالمعلم هو المعلم،  وسيان عندي معلم يعمل في مدرسة أساسية، أو ثانوية، أو في جامعة.. فكلهم معلمون... وكلهم عاملون.. وكلهم وطنيون فلسطينيون شرفاء يقومون بواجب مقدس في مواقع عملهم... وإذا كان لابد من التصنيفات، ومنح العلاوات والامتيازات فلتكن أولاً لمعلمي المرحلة الأساسية ومعلماتها نظرًا للمجهود الهائل الذي يبذلونه، أو يجب أن يبذلوه في إعداد الناشئة للحياة المقبلة.

·         تحسين نظام التأمين الصحي للمعلم بحيث يوفر له كافة أنواع العلاج والرعاية الصحية، وبحيث

لا يُلغى أبناؤه من تأمينه عند بلوغ سن الثامنة عشرة!نحن لا نطالب أن يظل الأبناء مشتركين في تأمين والدهم أو والدتهم إلى مالا نهاية .. ولكننا نطالب بأن يظلوا مشمولين بهذا التأمين إلى أن يستقلوا فعلاً عن آبائهم وأمهاتهم ،وهذا موضوع من الممكن معالجته بطريقة أكثر عقلانيةً وإنصافًا من الوضع القائم حاليًّا.. لاشك في أن التأمين الصحي حق طبيعي لكل إنسان في كل مجتمع، ولاشك أيضًا في أن من أراد تطبيق هذه القاعدة الذهبية عليه أن يوفر العيادات، والمراكز الصحية، والمشافي، والطواقم الكفيّة الفاعلة من الأطباء والطبيبات، والممرضات والممرضين، والعاملين والفنيين وغير الفنيين، كما أن عليه أن يوفر الأدوية والتجهيزات الطبية المناسبة لعلاج كل المواطنين... لا أن تعالَجَ "الشخصيات المهمة" في آخر الدنيا مهما كلف ذلك.. في الوقت الذي لاتجد فيه غالبية الناس حبة دواء أو زاوية مهما كانت ضيقة ومهملة في مشفى أو عيادة أو مركز صحي!!! وفي الوقت الذي كانت فيه كل الدول المانحة على أتم الاستعداد لبناء المشافي والعيادات والمراكز الطبية، وتزويدها بالتجهيزات والعاملين الأكفياء وبكافة الاختصاصات والتخصصات في كل مدينة وقرية من مدن هذا الوطن وقراه... وكانت تلك الدول أيضًا على أتم الاستعداد لبناء المدارس النموذجية الحديثة التي تفتقر إليها هذه البلاد افتقارها للمؤسسات الصحية وغير الصحية... ولكننا لم نفعل.. وآثرنا على ذلك أمورًا يعرفها جيّدًا كل المواطنين في هذه الديار!!!!

·     يجب أن يتمتع المعلم بسلسلة من الضمانات الاجتماعية المنصفة، كما يجب أن يعاد النظر في أوضاعه المهنية والمادية عاملاً كان أو متقاعدًا بحيث يعيش حياة كريمة في كافة مراحل حياته، وأن يموت أيضًا ميتة كريمة بعد أن يعلّم بناته وأبناءه... لا أن يموت قهرًا وكمدًا لأنه لم يستطع أن يفعل شيئـًا من أجل بناته وأبنائه!!! وهنا لا بد من التأكيد على حق المعلمين المطلق في أن تكون لهم نقابتهم الخاصة بهم.. هذا الحق الذي حُرموا منه في هذه الديار.. وأُوذوا في سبيله، ولا يزالون.

·      معاملة المعلم باحترام.. أوّلاً لأنه إنسان.. وثانيًا لأنه مسئول عن تعليم الأجيال، وتربيتها... فإذا فقد المعلم احترامه فقد كرامته، وفقد كيانه، وفقد وزنه... فكيف نطلب من هذا المعلم بعد ذلك أن يربي الأجيال على العزة والكرامة والاحترام مادام فاقد الشيء لا يعطيه؟؟؟

    لقد نصت كل الشرائع على ضرورة احترام المعلم،  ومنحته الشعوب والمجتمعات الواعية ما هو جدير به من احترام وتكريم... ولم تجد الدول التي قررت بناء نفسها في العصر الحديث بعد الدمار والخراب الذي تعرضت له بفعل الحروب التي شهدها العالم خلال النصف الأول من القرن الماضي سوى اللجوء إلى المعلم والمدرسة والكتاب وسيلةً لإعادة بناء نفسها من جديد... ولقد كان لها ما أرادت.. ولعل أكبر الشواهد على ذلك الدولة الألمانية، وبلاد اليابان حيث تعتبران بحق من الدول التي يشار إليها بالبنان في هذا العالم.. ولا ننسى في هذا السياق أن نشير إلى الصين وثورتها الثقافية بعد أن كانت من قبل مستعمرة للإمبراطورية التي غابت الشمس منذ حين عن ممتلكاتها، ولابد أن تغيب عنها وعن حليفتها وشريكتها في الإثم والطغيان والعدوان أيضًا... وما ذلك على الشعوب وإرادتها بعزيز!! إن تلك الدول العظيمة التي انتصبت عملاقة  بعد أن تجرعت مذلة الهزائم والإبادة بالسلاح الذري الأمريكي في اليابان ما كانت لتحقق هذه الإنجازات، وهذا الوجود المتميز الفاعل إلا بفضل المعلم الذي عرف كيف يبني الأجيال، ويعيد إليها ثقتها بنفسها بعد تلك الهزائم المدمرة.... وشتان ما بين معلم يبني ويصنع الأجيال، ويحظى بكل الثقة والدعم والمؤازرة والتأييد من حكومته وأمته، ومعلم يحاول بعضهم تقزيمه، وإحباطه، و تفريغه من محتواه بكل الوسائل والأساليب حتى لا يتمكن من صنع الجيل المطلوب!!

    هذا بعض ما يمكن قوله في بعض حقـوق المعلم أحد أركان العملية التربوية مـوضـوع الحـديــث.. أما

المتعلم والمكان والمنهاج.. فيمكن إجمال القول فيها كما يلي:

    المتعلم: وهو الطالب أو الطالبة.. ومادمنا متفقين على أنهم (أي الطلبة) "وهي الكلمة التي تطلق على الجنسين ذكورًا وإناثًا"، هم الثروة الحقيقية لهذا الوطن الذي لا يمتلك شيئًا من نِفط أو معادن، أو أية موارد تذكر، بل يمتلك الإنسان الذي إن أحسنا تعليمه وتربيته فإنه يصنع المعجزات لأمته ووطنه.. فإن من أبسط حقوق الطلبة:

·     أن يتعلموا في مدارس مناسبة، ومبان صحية تشتمل على الملاعب والساحات الكافية للحركة الحرة، وممارسة كافة الأنشطة الرياضية بحيث تكون بعيدة عن غرف التدريس حتى لا يؤثر ذلك على سير العملية التربوية.

·         أن تكون الأبنية المدرسية مجهزة بكافة متطلبات الحياة العصرية التي تكفُل للمتعلم جوًّا دراسيًّا مناسبًا ومعقولاً صيفًا وشتاءً.

·     أن تكون الأبنية المدرسية مجهزة بكافة التجهيزات المكتبية، والأثاث المناسب، والمختبرات، والمكتبات، والمشاغل التي لابد منها حتى تصبح دراستنا نظرية تطبيقية لا نظرية مجردة بعيدةً عن واقع الحياة العملية التي يعيشها الناس من حولنا.

·         أن تكون المدارس بعيدة كل البعد عن الضوضاء والضجيج كالأسواق، والشوارع الرئيسة، والأماكن العامة... حتى نوفر للطلبة جوًّا دراسيًّا هادئًا ومناسبًا.

·         أن يتمتع الطلبة بقسط وافر من الحرية الموجَّهة لتنمية شخصياتهم، فلا إبداع، ولا حياة  إلا في ظلال الحرية الموجَّهة العاقلة الرشيدة.

·     يجب أن يشعر الطلبة دائمًا أنهم محور رعايتنا، وعنايتنا، واهتمامنا... فمجالس الآباء وأولياء الأمور، ونوّاب الطلبة، ومجالس المعلمين كلها يجب أن تنسق فيما بينها باستمرار، وأن تعقد لقاءات دورية أسبوعية، أو نصف شهرية لمتابعة قضايا الطلبة، وحل مشكلاتهم... كل ذلك في إطار الأبوة الصادقة والبنوة البارة.. بعيدًا عن كافة أشكال التسلط، أو التمرد والعقوق.

·         أن يكون لكل مدرسة كبيرة طبيب وعيادة ومرشد اجتماعي ونفسي، ومثل ذلك لكل مجموعة من المدارس الصغيرة المتقاربة في الحي الواحد أو المنطقة الجغرافية الواحدة.

·     إحياء النشاطات اللامنهجية من أدبية ورياضية واجتماعية وثقـافية بعــد انتــهاء أوقــات الــدوام الرسمي حتى يكون تفاعل المدرسة مع البيئة المحلية أكبر... وحبذا لو شمل هذا النشاط تنظيم دورات مسائية لمحو الأمية في البلاد.

    إن واقع المدارس في هذه الديار هو واقع محزن: فنظام الفترتين نظام سيء لا يكاد يحقق شيئًا من الأهداف الحقيقية للعملية التربوية التعليمية... وتغيب المعلمين والمديرين عن المدارس جزئيًّا أو كلِّـيًّا بسبب الحصار، ومنع التجوال، وحالة الحرب المدمرة المستمرة التي أعلنها الغزاة على هذا الشعب منذ أمد بعيد... وكذلك بسبب الاجتماعات الكثيرة، والتغيب عن المدارس خلال الدوام المدرسي لأسباب لا تمت إلى التعليم والتربية بأدنى صلة... ثم تسيّب كثير من الطلبة، وتركهم المدارس وهم في كثير من الأحيان أطفال لم يتجاوزوا العاشرة من أعمارهم... كل هذا وكثير غيره مما لا يقال ألحقَ أبلغ الأضرار بالعملية التعليمية التربوية، وانحدر بها إلى هذا الواقع المحزن الذي لم تشهد له البلاد مثيلاً من قبل!!

    إن خسارة يوم دراسي واحد تعني أن طلبة هذا الوطن يخسرون خمسة ملايين حصة صفِّيَّة، ومعنى هذا أن مجموع خسائر الطلبة حتى منتصف شهر أيلول من العام ألفين واثنين مثلاً قد بلغ قرابة سبعين مليون حصة... وبقيت المدارس بعد ذلك مغلقة رغم ما أشيع عن افتتاح ذلك العام الدراسي في حينه، ورغم ما قاموا به آنذاك من تصوير طلبة مدرسة أو مدرستين وهم يداومون في مطلع ذلك الشهر في إحدى المدن، ويتسلمون الكتب التي لم يرها آنذاك معظم الطلبة في هذه الديار!! ومما كان يبعث في النفس أكثر من الألم والأسى منظر هؤلاء الأطفال الذين كان يراهم الرائي في أحياء مختلفة من مدينة نابلس - على سبيل المثال لا الحصر- وهم " يتسللون" إلى مخزن هنا، وبيت مهجور هناك كي يتلقوا العلم... ويفتتحوا عامهم الدراسي الأسود ذاك في الظلام حتى لا يراهم أحد!!

    المكان: وهو المدرسة التي يدرس فيها الطلبة .. وقد ورد معظم ما يجب توافره في هذه المدارس خلال الحديث عن المعلم والمتعلم ... وكل ما يمكن أن يضاف هنا – في الأحوال العادية بالطبع – مراعاة العدالة المطلقة في توزيع الطلبة على المدارس... بمعنى أن تكون المدرسة – على الأغلب - لسكان الحي القريب ... بحيث لا تستقبل مدرسة ما  طالبًا  أو طالبةً من حي آخر فيه مدرسة بدعوى أن هذه المدرسة تعمل بشكل أفضل .. أو أن تلك المدرسة لا تهتم بالطلبة .. إذ من" المفروض " أن تكون المدارس كلها على درجة ممتازة من حيث الأداء والمعاملة .. والهروب من مدرسة ما لسبب أو لآخر أمر مرفوض  لأن من واجب سكان الحي أن يسارعوا الى إصلاح الخلل في مدرسة حيِّهم بدلاً من الهروب الذي يعمق المشكلات ويجَذّرها .. ويخل بالتوازن بين المدارس من حيث أعداد الطلبة ، ويترك آثارًا سيئة في نفوس المعلمات والمعلمين الناجحين الذين لا يرغب بعض الأهالي في أن يتعلم أبناؤهم في المدارس التي يعملون فيها لسببٍ أو لآخر ... ولابد من الإشارة هنا إلى ضرورة التخلص من نظام الفترتين الدراسيتين في البناء المدرسي الواحد، أو ما يسمونه نظام الفترة المسائية لما ينطوي عليه هذا النظام من أخطاء وأخطار ... وعلاج ذلك هو توفير الأبنية المدرسية الكافية لاستيعاب كافة أبناء هذا الوطن ... نريد مدارس جديدة لمواجهة الزيادة الطبيعية في أعداد الطلبة .. ولتعويض ما هدمته أو أتلفته أو أغلقته جرافات الاحتلال ودباباته وأسواره وآلة حربه التي تدمر كافة أوجه الحياة في هذا الوطن عن قصد وسبق إصرار، وبشكل همجي متعمد مبرمج غير مسبوق.

    المنهاج : أعتقد أن الحديث في هذا الموضوع ليس من السهولة بحيث يتم علاجه في عجالة كهذه... فالمناهج المدرسية علم، وفن، وخبرة، ومتطلبات، واحتياجات، واختصاص، ودراسات مستفيضة حول البيئة ومتطلباتها واحتياجاتها ... والأجيال وما يناسبها، والتاريخ العام .. والخاص .. واللغة .. والتراث .. والدين .. والعلوم بكافة أشكالها وصورها ومضامينها .. وما يناسب، ومالا يناسب ... إن الأمر في غاية التعقيد والخطورة ... لقد بذل القائمون على  إعداد المناهج الجديدة جهودًا مضنية حتى تم لهم أخيرًا ما أرادوا، والآن وبعد أن تم وضع المناهج الدراسية لكافة الصفوف فإن المطلوب أن تبدأ عمليات المتابعة والتقييم، وأن تُعَدَّ الدراسات الواسعة المستفيضة حول هذه المناهج، وأن تُجرى الاختبارات المناسبة على الطلبة في كافة المراحل الدراسية للوقوف على مواطن القوة والضعف لاستخلاص العبر، ومن ثم إصلاح الخلل حيثما وجد ... وأعتقد أن هذه الأمور هي من صميم عمل المختصين من خبراء المناهج، وأهل الفكر والرأي في هذه  الديار ... صحيح أن كثيرًا من الأقلام قد تناولت بعض هذه المناهج في المطبوعات والصحف المحلية بالنقد والتحليل، وكان من الطبيعي أن يكون من تناولوا هذا الموضوع بين مادح وقادح .. إلا أن هذا لا يعني  نهاية المطاف .. بل يعني إجراء الدراسات والتقييمات والاختبارات بهدف إصلاح الخلل  حيثما  وجد، وإجراء التغييرات اللازمة كلما كان ذلك ضروريًّا في كل عام ... فالمناهج المدرسية كالمساقات والكتب الجامعية لا تعرف الجمود، ولا تتوقف على الإطلاق عند نقطة معينة أو وضع محدد ... وعليه فلابد من التعديل، والتهذيب، والتغيير، والتصحيح، والتجديد، والإضافات بين الحين والآخر، فالمناهج لا يمكن أن تتوقف عند حد، وإنما هي متغيرة  متجددة تجدد الحياة نفسها. مع الأخذ بعين الاعتبار دائمًا وأبدًا آراء المعلمين والمعلمات في هذا الموضوع البالغ الخطورة.

    هذه - باختصار - هي أبرز أركان العملية التربوية، يضاف إليها بطبيعة الحال بعض المؤثرات البيئية المحلية كالأسرة ، ومدى اهتمامها بالعلم والمعرفة، وانعكاس ذلك على الطلبة... وكذلك البيئة العامة الواسعة (المجتمع) ومقدار ما تتركه هذه البيئة من آثار في نفوسهم... أضف إلى ذلك الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة ، والتي يتأثر بها التعليم كثيرًا أو قليلاً بحسب حدتها أو فتورها... ثم هنالك الإجراءات الإدارية، وبواعثها ودوافعها! ومدى انسجامها حقيقة مع مصلحة المعلم والمتعلم... والعلاقات بين مديري المدارس ومديراتها من جهة، ومعلمي هذه المدارس ومعلماتها.. وعلاقة هؤلاء جميعًا بمديرية التربية، وبالتالي - وزارة التربية - ثم هنالك سياسة التعيينات المتبعة، ومدى انعكاسها سلبًا أو إيجابًا على نفوس الطلبة... فالمعلم الجيد المؤهل يترك آثارًا إيجابية في نفوس طلبته.. ويكون لهم الأب والقدوة والمرشد والموجه طوال حياته وحتى بعد مماته... والنوع الآخر من " المعلمين" يتركون آثارًا سلبية من الصعب أن تتخلص الأجيال من آثارها السيئة.

    وبعد،

    فإن المجتمعات التي تمكنت من تحقيق أهدافها في الحرية والاستقلال والسيادة على أرضها، وحفر بصماتها بقوة على جدار الزمن لم تحقق ذلك إلا بالعلم والمعرفة والمعلم والكتاب والمدرسة... أما المجتمع الذي لا تعرف الغالبية العظمى من رجاله ونسائه هل وصلت الكتب المدرسية إلى مدارسهم وأيدي أبنائهم أم لا ... ولا تعرف الغالبية العظمى منهم شيئًا عن معلمي أبنائهم  ومعلمات بناتهم... ولا يزورون هذه المدارس الا في المناسبات غير السعيدة - على الأغلب - والمجتمع الذي تسأل موظفاته وموظفوه، ومنتفعاته ومنتفعوه – وما أكثرهم !- عشرات المرات في اليوم عن سيارة "البنك" التي تحمل الفلوس (البريد) ولا تسأل مرة واحدة عن سيارة الكتب التي من المفروض أن تحضر معها كتب أبنائهم المدرسية... والمجتمع الذي يعرف كثير من أفراده (أو الغالبية العظمى منهم) عن الفيس  برسلي  أضعاف ما يعرفون عن السيد المسيح وأمه العذراء مريم ... وعن مشتقات "ماكس فاكتور" أضعاف ما يعرفون عن " المشتقات" في النحو العربي ..وعن أحمر الشفاه والأقلام التي تُزجَّج بها الحواجب، وتكحل العيون أضعاف ما يعرفون عن الأقلام التي يكتب بها أبناؤهم وبناتهم .. وعن هوليوود  ومواخيرها أضعاف ما يعرفون عن مكة  وشعابها، وبغداد وضواحيها، والقدس وشوارعها وأحيائها العتيقة ... وعن فقه الهزيمة، والتذلل، والخضوع، والخنوع، والكذب، والمال الحرام، والدماء المسفوحة، والحرائر المفضوحة قهرًا وإذلالاً واغتصابًا أضعاف  ما يعرفون عن فقه اللغة!! وفقه الأديان والتشريعات العادلة النظيفة التي أخرجت البشرية في يوم من الأيام من الظلمات إلى النور!! أقول إن مجتمعًا كهذا  لن يحقق شيئًا من الأهداف السامية التي ضحى شرفاؤه وما زالوا يضحون في سبيل  تحقيقها!! ولن يحصد إلا مزيدًا من الهزائم والكوارث  والمخازي  والنكبات... ولن يقف في يوم من الأيام في مصاف المجتمعات المحترمة في هذا العالم. 

    إن الطريق  أمام هذه الأمة  - إن هي قررت فعلاً أن تحقق  الأهداف السامية في التحرر والاستقلال  والخلاص من المذلة والهوان، وبناء الأوطان، والحفاظ على الأرض والإنسان - هي طريق معبدة واضحة المعالم تبدأ بالمعلم والكتاب والمدرسة وجموع الطلبة التي إن أمسكت الكتاب بيمينها هزت العالم بيسارها!!

    إننا في هذه الديار نعلق أكبر الآمال على الطلبة درع الأمة، وعدة المستقبل، وقادة الغد، ولا ننسى طلبة الجامعات .. هؤلاء الأحبة الذين يصارعون كل ألوان القهر والتعسف والظلم والقهر الاجتماعي والعسر الاقتصادي الذي لا يتمكنون معه من دفع هذه الأقساط الجامعية التي ما أنزل الله بها من سلطان!! إن الطلبة في العراق وسوريا ومصر وكثير من الأقطار العربية يدرسون حتى الحصول على درجة الدكتوراة مجانًا، وقد يحصل كثير منهم على مساعدات مادية إما لأنهم فلسطينيون، أو لأنهم متفوقون! وهنا لا بد أن يبيع المواطن شيئًا مما لم يقم ببيعه حتى الآن كي يسدد أقساط ابنه أو أبنائه في الجامعة!! وكأنه طوال فترة منع التجوال والحصار والاجتياح يطبع النقود، ويسك العملات، ويصوغ سبائك الذهب من عيار(24)!!

    إن هـذا كثيــر يا قوم!! فالمواطنون الذين لم يحصلوا على فلس واحد منذ أعوام ليسوا ملزمين بدفع

شيء لقاء دراسة أبنائهم في المدارس والمعاهد والجامعات... وإذا كان المجتمع الدولي وعلى رأسه أقطار العروبة والإسلام وما أكثرها ! لا يستطيع أن ينفق على أبنائنا طلبة الجامعات هنا في جامعاتهم فليعلنها صريحة مدوية على الملأ .. ليعلنها الأمين العام لجامعة الأقطار العربية، والأمين العام للمؤتمر الإسلامي،  والأمين العام لهيئة الأمم المتحدة أنهم لا يستطيعون تعليم أبناء هذه الديار المنكوبة  على حسابهم.. وعند ذلك فإننا نتنازل عن حق أبنائنا الطلبة في العلم .. ونغلق أفواهنا منتظرين حكم الله العادل  في كل من ظلم هذا الشعب، وحرم أبناءه وبناته حقهم الطبيعي المشــروع في العلــم، والغــذاء، والـدواء، والــعمل،  والسكن، وإثبات الذات تمامًا كغيرهم من أبناء هذه المنطقة من العالم!!! 

    لو كان دخل الإنسان في  هذه الديار (21.000 ) واحدًا وعشرين ألف دولار في العام (مثل هؤلاء وأولئك) لاختلف الأمر، وهان الخطب! ولكن شعبنا الذي يعيش منذ سنين بدون دخل يذكر، ويعتمد الحشائش والأعشاب في غذائه وكثير من دوائه، وتنازل منذ أمد بعيد عن الملبس... هذا الإنسان الذي يحمل صليبه في هذا الوطن المعذب والمكبّل والمقتّل والمصلوب كيف نطالبه بكل هذه النفقات التي تعجز عنها طبقة الأغنياء والموسرين؟؟ 

    نناشد المجتمع الدولي أن يقف إلى جانبنا  في أيامنا العصيبة هذه التي لا نطالب فيها بأكثر من زوال الاحتلال، والعيش باحترام كغيرنا من شعوب هذا العالم. 

    نسأله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة الصابرة من أمرها رشدًا، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم .. وأن يتوّج أعمالنا ومساعينا بالقبول... إنه أكرم مسئول. 

*  *   *  *

    لم يكتف كل أعداء هذا الشعب بما اقترفته أيديهم بحق أرضه وإنسانه من جرائم ونكبات وموبقات حتى راحوا يهيئون الجو كعادتهم لمزيد من الخصومة والصراع بين أبنائه... لقد أزعجهم، وأرَّقهم على امتداد عشرات السنين تماسك الهيئات التدريسية في هذه البلاد، وإجماعها على التضحية غير المحدودة من أجل النهوض بالعملية التربوية التعليمية، وإصرارها على خدمة طلبة هذه الديار مهما كلّف الأمر، وجلّت التضحيات.. لقد تحدى معلمو هذا الوطن ومعلماته كافة الصعاب والعقبات والعراقيل التي اعترضت سبيلهم على امتداد العقود الماضية.. ونهضوا بالعملية التربوية رغم أنف الماكرين المتربصين بنا الدوائر، ورغم أنف المراهنين على اختراق صفوف المعلمين الذين كانوا عند حسن ظن أمتهم بهم... إلى أن كان يوم تمكن فيه هؤلاء من تنفيذ الجريمة البشعة بحق هذا الشعب عندما أغلقوا مدارسه ومشافيه وكل دوائره ومرافقه الحيوية... كتبتُ في العشرين من تشرين الثاني من العام السابع بعد الألفين، وكان قد مضى خمسون يومًا على الأول من أيلول موعد افتتاح العام الدراسي دون أن يعود الطلبة إلى مدارسهم! قلت يومها إنني أعتقد أن تغيب الطلبة عن مدارسهم لن يستمر طويلاً.. إذ لا بد من عودة الأمور إلى طبيعتها في نهاية المطاف.. هذا "على الأقل "ما نرجوه جميعًا في هذه الديار.. وهذا ما نتمناه كذلك حتى لا تستمر معاناة الطلبة والمعلمين، وسائر الموظفين، وحتى لا تستمر أيضًا معاناة المواطنين جميعًا بسبب هذا الشلل الذي أصاب المدارس، والمشافي، وسائر الدوائر في هذا الــوطن، والـذي انـعكس

سلبًا على مختلف أوجه الحياة في هذه البلاد.

    لابد ( بعد استئناف العملية التربوية) من إثارة عدد من الملاحظات أضعها بين أيدي المعلمين والطلبة، وكل من يعنيهم الأمر على النحو التالي:

    الملاحظة الأولى: نســيان مــا حصل خلال فترة الإضراب من خلافات، وخصومات، واختلافات في وجهات النظر، وتباين في المواقف... وتغليب المصلحة العامة على سائر الاعتبارات الأخرى، والعودة إلى روح الزمالة والأخوّة، والمحبة، والتسامح حتى نستطيع طلبةً ومعلمين تحقيق الأهداف المرجوّة من العملية التربوية، وحتى نستطيع الارتقاء بجمهور الطلبة والمعلمين، وبجماهير الشعب كافة نحو الكمال المنشود إخوةً متحابّين متضامنين متكافلين عاملين من أجل هذا الوطن، وإنسان هذا الوطن بعزيمة لا تعرف الكلل، وإيمان بحتمية انتصار الحق لا يدانيه إيمان.. منطلقين من حقيقة أن الطلبة والمعلمين في سائر المجتمعات هم الطليعة التي تتقدم الصفوف، والشريحة القيادية التي تأخذ بيد المجتمع نحو شاطئ السلامة والكرامة والعزة ، وترتقي به صُعُدًا في معارج التقدم والتطور والشموخ.

    الملاحظة الثانية: إعادة النظر في العطلة الأسبوعية التي أصبحت يومين بدلاً من يوم واحد في الأسبوع اعتبارًا من مطلع هذا العام الدراسي.. ذلك أن أسبوع عمل من خمسة أيام يقضي أن يكون الدوام في هذه الأيام دوامًا مطوَّلاً الأمر الذي سيُلحق أضرارًا بالغة بأطفال الأمهات العاملات حيث سيقضي هؤلاء الأطفال نحو تسع ساعات في حضاناتهم، وفي الطرق من تلك الحضانات وإليها، وهذه المدة الزمنية مرهقة للكبار، فكيف سيكون تأثيرها على الصغار من سن بضعة أشهر وحتى سن الخامسة؟ وأين هي المربية العاملة في الحضانة ورياض الأطفال من الأم ؟ صحيح أن بعض هؤلاء العاملات خير من بعض الأمهات، ولكن صحيح أيضًا أن كثيرًا من هؤلاء العاملات لا يمكن أن يقمن بدور الأمهات كما يجب لأنهن لسن أمهات، أو لأنهن قد ينشغلن عن هذا الطفل أو ذاك لسبب أو لآخر... إننا في غنًى عن خوض مثل هذه التجربة الخطرة التي ستنعكس سلبًا على كثير من أطفالنا.

    ومن جهة ثانية فإن هذا الدوام المطوّل هو دوام مرهق للطلبة ومعلميهم على حد سواء ... لست بحاجة إلى من يحاول إقناعي بأن دوامًا كهذا سيعود بأدنى فائدة على المعلم أو المتعلم أو العملية التربوية لأنني لن أقتنع بشيء من هذا.. لن أقتنع بأن طفلاً في السادسة أو العاشرة من عمره يمكن أن يبقى في مدرسته، أو داخل صفه من الساعة السابعة صباحًا إلى ما بعد الثانية ظهرًا دون أن يكره نفسه ومدرسته ومعلميه وأبويه أيضًا!! لن أقتنع بأن دوامًا مطوّلاً كهذا لا ينطوي على اعتداءات مختلفة من الطلبة على بعضهم بعضًا، ومن الكبار على الصغار .. ومن الصغار على من هم أصغر منهم .. لن أقتنع بأن الطلبة في مدارسهم يَحظَون بالرعاية المطلوبة، والإشراف الكافي بحيث نتجنب هذه الاعتداءات التي يجنح إليها كثير من الطلبة لأسباب كثيرة على رأسها تفشي العنف في هذا المجتمع لأكثر من عشرين سببًا!!

    إن مدارسـنا غير مؤهلة لمثل هذا اليوم الدراسي المطوّل لا صيفًا ولا شتاءً! في الشتاء سيعاني الطلبة من البرد القارس وآثاره الضارة السيئة .. وفي أيام الحر سيعانون أيضًا، فلماذا هذا الإصرار على إلحاق الأذى

بالطلبة ومعلميهم؟ هل نسي من يعنيهم الأمر أن كثيرًا من مدارسنا أيضًا تفتقر إلى الساحات، والملاعب، والمكتبات، والمختبرات، والحدائق، وكافة أوجه الحياة العصرية ؟ فكيف نحشر فيها هؤلاء الطلبة حشرًا كل هذه الساعات دون أدنى وجه حق، ودون مسوّغ ؟ أنفعل ذلك ليقال إننا نعطّل يومين في الأسبوع هما الخميس والجمعة .. أما أولئك فيعطّلون الجمعة والسبت ؟؟ وهل أصبح لزامًا علينا أن نعطل يومين في الأسبوع ؟ ولماذا ؟ وما علاقة أسواق المال وغيرها من البدع بمدارسنا؟ هل نسي من يعنيهم الأمر أن هنالك فترة مسائية في كثير من الأبنية المدرسية؟ فكيف ستعمل هذه المدارس ذات الدوامين؟ ومتى سيعود طلبة الدوام المسائي إلى بيوتهم؟ أم أن الأمر متروك للطلبة يقررون فيه ما يريدون؟

    إن الأسبوع الدراسي في هذه البلاد مكوّن من ستة أيام - على الأغلب - منذ أن كانت المدارس، ومنذ أن كان التعليم .. وإذا كان لا بدّ من التجديد والتغيير فإنني أقترح أن تُخَصَّص ساعتان ( من التاسعة حتى الحادية عشرة) من صبيحة اليوم السابع (الجمعة) في كل مدارسنا للراغبين في خدمة الطلبة من المعلمين المتطوعين كي يعوّض الراغبون من الطلبة ما خسروه على امتداد السنوات الطويلة الماضية ... وكي نعيد إلى العملية التربوية قوتها وعنفوانها وتألقها الذي كان !!

    قد يقول قائل إن الجامعة تعطل يومي الخميس والجمعة ، فلماذا لا نفعل هكذا في المدارس ؟ وأقول إن الأمر هنا مختلــف .. وإذا جـاز هذا في الجامعة فإنه لا يجوز في المدارس إلا إذا كنا راغبين في فتح مزيد من الأبواب لمزيد من التسرب والتشرد والضياع. (علمتُ قبل الطبع أن العطلة الرسمية هنا أصبحت الجمعة والسبت!)

    الملاحظة الثالثة:  إعادة النظر في رواتب المعلمين العاملين والمتقاعدين، إذ ينبغي أن يعمل من يعنيهم الأمر على تحسينها، وصرفها في مواعيدها دون تأخير ... وإذا كان تحسين راتب المعلم العامل  حقًّا من حقوقه كي يستطيع الإنفاق على أسرته، وكي يحيا حياة كريمة، وكي يتفرغ لمدرسته وطلابه، وحتى لا يشغله شاغل عن عمله ... فإن تحسين راتب المعلم المتقاعد يأتي على قاعدة الوفاء لهذا المعلم الذي أعطى ما عنده على امتداد عشرات السنين حتى لم يعد قادرًا على فعل شيء !!ويأتي أيضًا على قاعدة أن رواتب الغالبية العظمى من المعلمين المتقاعدين هي رواتب هزيلة لا تكفي لسد الرمق، وتوفير شيء من ضروريات الحياة لهذا المتقاعد الذي يجب أن يعيش باحترام ... فإذا قال قائل إن هؤلاء المتقاعدين يتقاضون رواتب من جهة ثانية هي الأردن، فيصبح ما يتقاضونه من هنا وهناك مساويًا لرواتب المتقاعدين في هذه الأيام، وهي رواتب معقولة قد تبلغ خمسمئة دينار، أو أقل قليلاً من ذلك في الشهر، فإننا نقول لهذا القائل إن ما تقوله صحيح من حيث الأرقام التي أوردتها، ولكنّ هنالك متقاعدين لا يتقاضون شيئًا من الحكومة الأردنية لأنهم عملوا بعد عام سبعة وستين، وهؤلاء لم يشملهم قانون التقاعد الفلسطيني الجديد .. و إن معدل رواتبهم التقاعدية لا يتجاوز مئة وخمسين دينارًا، وإذا تعاملنا مع هذه الفئة بسخاء فإننا نقول إن رواتبها قد تصل مئتي دينار في الشهر ، وهذا مبلغ لا يمكن أن يوفر أساسيات الحياة وضروراتها لهؤلاء المتقاعدين الذين  باتوا يشكلون نسبة كبيرة من متقاعدي هذه البلاد... ونقول لهذا القائل أيضًا إن من حق المتقاعدين الذين يتقاضون رواتب تقاعدية من الأردن أن يطالبوا بتحسين رواتبهم كغيرهم ممن سبقت الإشارة إليهم لأن ما يتقاضونه من هناك هو من أبسط حقوقهم ، ولا يمكن أن يكون سببًا في أن تكون رواتبهم التقاعدية " محليًّا " نصف رواتب من يتقاعدون من طلبتهم وأبنائهم في هذه الأيام !!

    وباختصار فإن جميــع المتقاعدين من المعلمين في هذه الديار يجب أن يخضعوا لقانون تقـاعد واحد،

ويجب أن تكون الفوارق في رواتبهم التقاعدية مبنيّة على المؤهلات العلمية ، ويجب أن لا تكون هذه الفوارق كبيرة كي يتسنى للمتقاعدين جميعًا أن يعيشوا بكرامة واحترام .

    الملاحظة الرابعة: يُحسن من يعنيهم الأمر صنعًا إذا هم عملوا على تأمين الموارد المالية للجامعات في هذه البلاد بحيث يمكن إلغاء الأقساط الجامعية التي كسرت ظهور المواطنين على امتداد السنوات الطويلة الماضية ... وبحيث يصبح التعليم العالي وغير العالي في هذه الديار مجَّانيًّا كما في كثير من الأقطار العربية المجاورة.

    إن المواطنين في هذه الديار لا يستطيعون دفع هذه الأقساط الجامعية الخيالية التي تطالبهم بها هذه الجامعات ... فالعمال الذين خسروا أعمالهم (منذ مطلع هذا القرن) لم يعودوا قادرين على توفير لقمة العيش لأبنائهم، فكيف نطالبهم بدفع هذه الأقساط الخيالية ؟؟ والفلاحون الذين التهم الاستيطان، والجدار، والإغلاق، والمصادرات المختلفة أراضيهم، واقتلَعت الجرّافات أشجارهم وزروعهم، وعزلتهم هذه الإجراءات والممارسات في قراهم ومنافيهم الجديدة تحت الجدران، وخلفها، وأمامها.. هؤلاء الفلاحون لم يعودوا قادرين على دفع الأقساط الجامعية، ولا دفع الإعانات المدرسية، ورسوم التوجيهي .. وإن سائر فئات المجتمع اليوم تعاني بشكل غير مسبوق من سوء الأحوال المعيشية .. وهي حتمًا غير قادرة على دفع شيء من هذه الأقساط التي لا يقوى على دفعها إلا أولئك الذين يبلغ متوسط دخل الفرد عندهم أكثر من عشرين ألف دولار في العام !! فلماذا لا يتحرك من يعنيهم الأمر لإنقاذ هذا المجتمع، وإعفاء طلبته من هذه الأقساط التي ما أنزل الله بها من سلطان؟؟ ولماذا يصرّ من يعنيهم الأمر على ربط اقتصادنا باقتصاد أولئك؟؟؟

    الملاحظة الخامسة:  يُحسن من يعنيهم الأمر صنعًا كذلك إذا هم قاموا بتشكيل لجان " محايدة" من ذوي الاختصاص والكفاءة لمتابعة سير العملية التربوية في مدارس البلاد ، وإجراء الدراسات والبحوث الميدانية على المناهج الفلسطينية التي أتم قسم المناهج إنجازها في هذا العام .. يحسن بنا أن نجري الاختبارات على مختلف الصفوف لنعرف يقينًا مدى ملاءمة المناهج ، ومدى صلاحيتها ، ولنتعرف على مواطن القوة والضعف فيها .. وعليه فإن المعلمين جميعًا مدعوون لقول كلمتهم في هذا الموضوع الحيوي الذي يُبنى عليه مصير شعب، ومستقبل أمة.

*   *   *   *

    ولتوضيح ما ورد في الملاحظة الثالثة حول إعادة النظر في رواتب المعـلمين العــاملين والمتقاعدين يجدر

بنا أن نعلم أنه ومنذ نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، وقيام المملكة الأردنية الهاشمية على ضفتي نهر الأردن الشرقية والغربية أصبح المعلمون العاملون في المدارس الحكومية – كغيرهم من موظفي الحكومة – موظفين أردنيين يتقاضون رواتبهم من وزارة التربية والتعليم الأردنية... وبعد حرب عام سبعة وستين، ووقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال الإسرائيلي، وعودة الطلبة إلى مدارسهم بعد ذلك بقرار من المجالس البلدية والشخصيات الوطنية في منتصف شهر تشرين الثاني من ذلك العام عاد معظم المعلمين إلى العمل، وقامت مديريات التربية والتعليم في الضفة الغربية بتعيين الأعداد اللازمة من المعلمين لاستئناف العملية التربوية... ومنذ تلك الأيام أصبح المعلمون العاملون في مدارس الضفة الغربية فئتين اثنتين: فئة المعلمين القدامى التي تُسمى فئة الراتبين لأنها تتقاضى راتبًا من الحكومة الأردنية، وآخر من الحكم العسكري في الضفة الغربية.. وفئة المعلمين الجدد التي تتقاضى راتبًا من الحكم العسكري فقط... وهكذا أصبحت رواتب الفئة الأولى مِثلَي رواتب الفئة الثانية، أو على الأصح أصبحت رواتب الفئة الثانية نصف رواتب الفئة الأولى... ومنذ تلك الأيام أيضًا أصبحت أعداد الفئة الأولى في تناقص مستمر.. وأصبحت أعداد الفئة الثانية في ازدياد تقتضيه الزيادة الطبيعية في عدد الطلبة والمدارس والصفوف... ومما تجدر الإشارة إليه أن ضابط التعليم كان قد أجرى استفتاء خَطِّـيًّا في مدارس الضفة الغربية في العام ثمانية وستين يطلب فيه من  المعلمين أن يختاروا: إما تطبيق نظام الرواتب الأردني أو الإسرائيلي على مدارس الضفة الغربية، وعلى سائر دوائرها بطبيعة الحال.. وكانت نتيجة ذلك الاستفتاء إقرار نظام الرواتب الأردني بناءً على رغبة سائر المعلمين العاملين في هذه المدارس، وهكذا كان... وهكذا ظل المعلمون (الجدد) العاملون منذ ذلك العام يتقاضون نصف ما يتقاضاه زملاؤهم (القدامى) حتى اليوم بعد أن أحيل القدامى جميعًا إلى التقاعد... وإن من بقي على قيد الحياة من (الجدد) يتقاضى نصف من بقي على قيد الحياة من (القدامى) إلا إذا كان من "طويلي الأعمار" الذين كان لهم شرف الخدمة تحت راية السلطة الوطنية الفلسطينية التي أتاحت لهم جميعًا فرصة الحصول على الدرجة الأولى التي كانت محرّمة على المعلمين خلال فترة الحكم العسكري الإسرائيلي، والتي كانت تَمنع أي معلم من تجاوز الدرجة الرابعة في أحسن الأحوال.. هؤلاء المعلمون الذين عملوا منذ تعيينهم برواتب هزيلة أنصفتهم السلطة الوطنية عندما طبّقت عليهم قانون الخدمة المدنية الفلسطيني.. وأنصفتهم عندما عينت كثيرًا منهم في إداراتها الكثيرة المختلفة التي كانت بالطبع محرمة عليهم من قبل.. وأنصفتهم عندما أصبحت رواتبهم التقاعدية اليوم أفضل بكثير من الرواتب التقاعدية لمن بقي على قيد الحياة من فئة "الراتبين"، أو على الأصح فئة الراتب الواحد المجزوء إلى نصفين شرقي وغربي.. بدليل أن "الراتبين" موضوع الحديث لا يكادان يبلغان راتب موظف مماثل في دائرة الأوقاف، أو في وكالة غوث اللاجئين، الفلسطينيين أو في الجامعة ممن يحملون المؤهل العلمي نفسه، وممن أمضَوا سنوات متساوية في العمل... وإذا كان هذا صحيحًا – وهو صحيح – فإن جيلاً كاملاً من المعلمين الفلسطينيين الذين حملوا هموم التعليم وأعباءه في هذه الديار على عواتقهم ثلاثين عامًا أو أكثر قد عملوا طوال الوقت بنصف راتب.. وها هـم اليوم لا يكادون يحصلون على ما يوفر لهم شيئًا مذكورًا من تبعات الحياة في كبرهم وعجزهم وأيام ضعفهم... فلماذا يحدث هذا؟؟ لماذا لم يتقدم أحد حتى اليوم لإنصاف هذا الجيل الكامل من المعلمين؟؟

    لقد اشتكى هؤلاء المعلمون، ورفعوا أصواتهم مطالبين بالإنصاف على امتداد العقود الأربعة الماضية دون جدوى، ولقد أنشأوا اللجان، وعقدوا الندوات، وأقاموا المهرجانات، ونفذوا الاعتصامات، ومارسوا ألوانًا شتى من الاحتجاجات، وتقدموا بالمطالب دون أن يسمعهم أحد، أو يستجيب لمطالبهم العادلة مسئول!!

    أربعون عامًا من العذاب والحرمان و المعاناة عاشها هذا الجيل من المعلمين دون أن يرى أي ضوء مهما كان ضئيلاً في نهاية النفق، ودون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى نهاية رحلة العذاب الطويلة التي مشاها هؤلاء المعلمون سيرًا على الأقدام في أرض وعرة شائكة مزروعة بالألغام... فإلى متى ستستمر رحلة العذاب هذه؟ وهل يقوى هؤلاء على تحمل كل هذه المشاق في سنوات العمر العجاف هذه؟

    إذا كان هؤلاء المعلمون – موضوع الحديث هنا – فلسطينيين؛ فإن على السلطة الفلسطينية أن تنصفهم، وأن تساويهم بأبنائهم وزملائهم ممن يُحالون إلى التقاعد في هذه الأيام.. لا أن يكونوا من الفئات البائسة التي يقل دخلها الشهري عن 1837"شاقلاً".. كيف ترضى حكومة أن يكون معلموها المتقاعدون من الفئات الأشدّ فقرًا وحاجةً في المجتمع؟ وكيف ترضى حكومة أن يعاني 44.1% من مواطنيها من الفقر الشديد،و 56.8% من الفقر بحسب بيانات الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء؟؟ وإذا كان المعلمون جميعًا في هذه الديار فلسطينيين عملوا ويعملون في مدارس فلسطينية، وعلَّموا ويعلّمون طلبةً فلسطينيين.. وإذا كانوا جميعًا مؤهلين لممارسة التعليم مهنةً، وحمله والتبشير به رسالةً تصنع الأجيال، وتبني الأوطان.. وإذا كانوا جميعًا يعيشون في وطن واحد، ويخضعون لظروف معيشية واحدة، ووضع اقتصادي واحد، وغلاء واحد... فإن من الضروري، وإن من الواجب، وإن من العدل والإنصاف أن تُقلَّص الفوارق بينهم في الرواتب إلى حدّها الأدنى الذي يتيح لهم جميعًا أن يعيشوا بكرامة واحترام فوق ثرى وطنهم الذي افتدوه ويفتدونه بالمهج والأرواح، آملين أن يحظى هذا الجيل من المعلمين بالعدل والإنصاف ولو كان ذلك في خريف الحياة وأرذل العمر!!

*   *  *   *

    لا نريد أن يقوم أحد للمعلم، ولا نريد أن يثني عليه أحد، ولا أن يوجه إليه كتاب شكر، فلقد كره المعلم كل عبارات الثناء والمديح والتبجيل! كما كره كل الشعارات والأشعار التي تضعه في مراتب الأنبياء والرسل لأنها لم ترد إليه أبسط حقوقه، ولأنها عجزت عن توفير الحد الأدنى من احتياجاته المادية... ولأنها مجرد كلام لا يسمن، ولا يغني من جوع.

    نريد لهذا المعلم أن يعيش باحترام لأن هذا من حقه أولاً وقبل كل شيء.. ولأنه بعد ذلك المسئول عن تربية الأجيال وتعليمها، وهذه الأجيال – كما نعتقد- هي أعز ما يملك الوطن، وأغلى ما تمتلك الأمة.. إن كل الشعوب التي تحترم نفسها في هذا العالم تحترم معلميها، وتحرص على منحهم المكانة اللائقة بهم انطلاقًا من تقديرها خطورة رسالتهم في تربية  الأجيال القادمة وصنعها... وإن كل الغزاة، وكل أعداء الشعوب الذين لا يريدون لها إلا التخلف والتقهقر والضياع والاندثار إنما بدأوا بتحطيم المعلم بشتى الوسائل والأساليب وعلى رأسها تجويعه وامتهانه وقهره وصولاً إلى تحطيم هذه الشعوب... ومن هنا كان المعلم يخوض صراعًا عنيدًا ضد هؤلاء الأعداء الذين يستهدفون أمته بأسرها من خلاله.. والتاريخ حافل بالشواهد والأدلة على صحة إدعاءاتنا هذه!

    إننا لا ندعي أن المعلم وحده هو القادر على البناء والعطاء والتحدي... ولكننا ندعي – ونحن مطمئنون واثقون – أن كل عظماء الأمم، وكل قادتها، وعلمائها وأعلامها، وأبنائها الأوفياء، وجنودها أيضًا هم  من صنع هذا المعلم الذي لا يصلح المجتمع إلا بصلاحه، ولا يتطور ويتقدم إلا بجهاده وكفاحه... ولكي تظل الراية عالية تتوارثها الأجيــال في تواصل رائــع لا بــد لهذا المعلم أن يبقى حيث

تضعه قدسية رسالته وخطورتها.

    لم أكن بحاجة لقول كل ما قلت لولا هذه الأصوات الخافتة الصادرة عن معظم معلمات البلاد ومعلميها.. هذه الأصوات الخافتة التي لا يريد لها بعضهم أن ترتفع، لأنها تطالب بحق المعلم في العيش الكريم، ولأنها تطالب بالعدل والحق بعد أن حاربت من أجل هذا كله عشرات السنين!!

    عجبًا والله! أما آن لهذا الصراع التاريخي أن يتوقف؟ أما آن لهؤلاء المعلمين أن يعيشوا بكرامة؟ أما آن لهؤلاء الفرسان أن يترجلوا؟ وإلى متى ستستمر هذه الخصومات والمنازعات المعلنة حينًا والخفية المكبوتة المستترة أحيانًا كثيرة أخرى؟؟ ومتى سيهدأ روع المعلم لينصرف إلى القيام بواجبه، وليمارس حياته اليومية دون منغصات، ومثبطات وعراقيل؟؟

    لقد أعلن هؤلاء المعلمون منذ أمد بعيد مطالبهم العادلة المشروعة والمتلخصة بمضاعفة رواتبهم، ورفع القيود (التعسفية الظالمة التي فرضها الاحتلال) عن درجاتهم:

·     إذ لا يعقل أن يظل معلم أو معلمة في الدرجة الرابعة أو الخامسة بينما تقضي سنوات خدمته أن يكون حصل على الدرجة الأولى، ولا يعقل أن يظل سيف الدرجة مصلتًا على أعناق المعلمين والمعلمات لأسباب لا تمت إلى المهنة بأدنى صلة!!!

·     ولا يعقل أن يعطى المعلم راتبًا "شهريًّا" لا يكفي أسرته أكثر من عشرة أيام.. كما لا يُعقل أن يُعطى بعضهم عند التعيين راتبًا يبلغ ثلاثة أضعاف راتب من أمضى في العمل ثلاثين عامًا!!

·     ولا يعقل أن يضطر المعلم لشراء كثير من الأدوية بدعوى أنها غير موجودة في عيادات مديرية الصحة!! وكذلك لا يعقل أن يقوم بإجراء الفحوصات والتحاليل المخبرية في المختبرات الخاصة لعدم تمكنه من إجرائها في مختبرات دوائر الصحة على حساب التأمين الصحي الإلزامي الذي يحمله!!

·     ولا يعقل أن يظل المعلم رازحًا تحت طائـلة الــديون... ولا يليق به وبمكانته، وبقدسية رسالته أن يمارس أي عمل آخر، أو أن يسلك أي مسلك آخر للحصول على شيء من المال الذي يعينه على تحمل تبعات الحياة.

·         ولا يعقل أن نقيد المعلم، ونذله بكل هذه الأوامــر والنواهــي التي ما أنــزل الله بها من سلطان إلى

الحد الذي نمنعه فيه من استعمال هاتف المدرسة حتى لو كان الأمر متعلقًا بحياته، أو حياة أحد أفراد أسرته!!.

·         ولا يعقل أن نرهق المعلم بكثير من الأعمال الكتابية التي لا تمت إلى طبيعة عمله بأدنى صلة.

·     ولا يعقل أن يظل نصاب المعلم من الحصص بهذا الارتفاع الذي يرهقه، ويبدد قواه، ويحول بينه وبيـن إتقــان عمله مهما أوتي من القوة والإخلاص.. في الوقت الذي عين فيه أكثر من ثلاثة آلاف "معلم ومعلمة" في هذه الديار خلال الفترة القصيرة الماضية.

·         ولا يُعقل أن تظل الأمزجة، والأهواء، والعلاقات الخاصة، والاعتبارات التي لا صلة لها بالمعلم والتعليم هي القوانين التي تحكم العملية التربوية في معظم الأحوال!!

·     ولا يعقل أبدًا أن يكون راتب "المسئول" أضعاف راتب المعلم في الوقت الذي تتساوى فيه المؤهلات، بل في الوقت الذي يكون فيه المؤهل العلمي للمعلم أعلى من المؤهل العلمي لهذا المسئول الذي قد يكون بدون مؤهل علمي معتمد!!

 وبعد،

    فإن معظم السلع، والمواد الاستهلاكية تأتينا من "تل أبيب"... وهذا معناه أن الأسعار في أسواقنا لا تختلف كثيرًا عنها في أسواقهم... بل ربما كانت أسعار الكهرباء وعشرات السلع الأُخرى أعلى في نابلس منها في تل أبيب.. وعليه فما معنى أن لا تتجاوز رواتب المعلمين هنا ربع رواتبهم هناك؟؟

    ولماذا نمعن في ربط اقتصادنا باقتصادهم في الوقت الذي يبلغ فيه متوسط دخل الفرد هناك (14.000) أربعة عشر ألف دولار سنويًّا (ويبلغ اليوم في العام 2007، 21.000 واحدًا وعشرين ألف دولار سنويًّا) بينما لا يتجاوز متوسط الدخل (150) مئة وخمسين دولارًا سنويًّا للفرد هنا؟ وفي الوقت الذي لا تزيد فيه نسبة اقتصادنا إلى اقتصادهم عن اثنين بالمئة؟؟

    ولماذا نبالغ كل هذه المبالغة في مظاهر الترف والبذخ والإنفاق في الوقت الذي أصبح فيه أكثر من نصف مواطنينا يعانون من الجوع؟؟

    ولماذا تُفتح مجالات العمل والكسب، والدخول المنظورة، وغير المنظورة أمام قلة من أصحاب الشأن والنفوذ بينما تُنسى الغالبية العظمى من المواطنين، وتُحرم من أبسط حقوقها في الحياة؟؟ وبأي حق يحدث كل هذا؟؟ وما مدى آثاره المدمرة على مجتمعنا؟؟

    لا أحد ينكر أن (فترة البناء) صعبة، ولكن لا أحد ينكر في الوقت نفسه أن لكل مواطن كل الحق في أن يأخذ نصيبه كاملاً من الرغيف.

"القدس" 12/2/1996

 

*  *  *   *

    في عددها الصادر في الثاني عشر من نيسان من هذا العام السابع بعد الألفين خصصت "القدس" افتتاحيتها للحديث عن التعليم والمعلمين في هذه الديار.. مبينة أهمية التعليم في حياة الأمم والشعوب.. ومؤكدة على حق المعلمين الفلسطينيين بعامة، ومعلمي القدس بخاصة في العيش الكريم ليتنسى لهم النهوض بالعملية التربوية التي لا يمكن أن تنهض أمة بدونها...

    مــا مـن شـك في أن حصول المعلمين على رواتبهم في مواعيدها المحددة هو من أبسط حقوقهم، ثم إنه وسيلتهم لتحقيق العيش الكريم لهذه الأسر التي يعيلونها في القدس، وسائر أنحاء هذا الوطن في ظل هذا الغلاء الرهيب الذي يحاصر الناس في هذه الديــار.. وفي ظــل هــذه الأوضــاع الســياســية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي لم يسبق لعرب هذه البلاد أن عاشوا مثلها في تاريخهم الحديث.

    إنه وبعد كل هذه المشكلات والمتاعب والإغلاقات التي شهدتها مدارسنا في مطلع هذا العام الدراسي، والتي كادت أن تعصف به، وتأتي عليه، لولا تعقل من يعنيهم الأمر، واتفاق جميع الأطراف على استئناف العملية التربوية وإنقاذ هذا العام الدراسي من الضياع، وتعويض الطلبة – بقدر المستطاع – عما فاتهم من تحصيل خلال أشهر الإغلاق الطويلة... تعود الأمور في هذه الأيام للتأزم من جديد، ويعود المعلمون لإعلان الإضراب الجزئي عن العمل مهددين بالعودة إلى الإضراب العام إن لم تُستجب مطالبهم العادلة في الحصول على حقوقهم ورواتبهم كما تقضي بذلك الاتفاقات الموقعة مع المعنيين في وزارتي المالية والتعليم... وبدلاً من العمل معًا على إصلاح ما أفسدنا، وبدلاً من العمل معًا وبأقصى سرعة على تأمين الكتب التي لم تصل أيدي الطلبة حتى اليوم في الوقت الذي يقترب فيه العام الدراسي من نهايته، وبدلاً من مضاعفة الجهود وتكثيفها، ووصل الليل بالنهار من أجل التغلب على المشكلات والصعاب المتراكمة التي نجمت عن الإغلاقات السابقة، وبدلاً من وضع الخطط والدراسات للنهوض بالتعليم في السنوات القادمة.. بدلاً من هذا كله نجد أن الأمور تعود سريعًا بنا إلى الوراء منذرة بكارثة حقيقية تصيب هذا الوطن في فتيانه وفتياته، وتهدده في أعز ما يملك: مدارسه ومعاهده، وجامعاته... وإنسانه.

    لقد حرصت الأمم والشعوب التي فهمت معنى الحياة في هذا العالم على بناء نهضتها الحديثة بالعلم.. كما تمكنت الشعوب التي دمرتها الحروب في القرن الماضي من بناء نفسها، وتجاوز مصابها عن طريق العلم والمعرفة والمعلم والمنهاج والإدارة السليمة...  هذه هي اليابان التي ضُربت بقنبلتين ذريتين أبادتا كثيرًا من الناس في هيروشيما وناغازاكي في السادس والتاسع من شهر آب من عام خمسة وأربعين وتسعمئة وألف.. تقف في مصاف الدول الصناعية المتطورة في هذا العالم.. إنها من أكبر الشواهد على أن الإنسان قادر على تحقيق المعجزات بالعلم والإدارة والإصرار على النجاح.... وهذه هي ألمانيا التي هُزمت شر هزيمة في الحرب العالمية الثانية أيضًا، ومزقت شر ممزق آنذاك تعيد بناء نفسها، وتقف على رأس الدول الصناعية المتطورة في هذا الكون لأنها اتخذت من العلم والمعرفة والمعلم والمنهاج السليم طريقًا للنهضة والبناء والإعمار وتجاوز النكبات والخروج منها أشد أيدًا وقوةً واقتدارًا!! وهذا هو  ونستون تشرتشل يجمع مدراء الدوائر في لندن وهي تتعرض للهجمات الجوية الألمانية ليطمئن منهم على سير العمل في دوائرهم.. فيبدأ بتوجيه السؤال إلى مدير التعليم الذي أفاد بأن كل شيء يسير على ما يرام، وأن التعليم في المدينة لم يتأثر بما يحدث، وأنه يسير سيرًا طبيعيًّا بعد أن أمكن التغلب على مخاطر القصف الجوي الألماني... وبعد أن سمع تشرشل هذا القول، واطمأن على سير التعليم في البلد أنهى الاجتماع قائلاً إنه سمع ما كان يرغب في سماعه، مضيفًا أن بريطانيا بخير، وأنها ستخرج من الحرب منتصرة!! وهذه أيضًا فيتنام الشمالية وقصة انتصارها في الحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية.. والدور الذي لعبه الطلبة والمعلمون في تلك الحرب... وهذا هو دور المعلم والمنهاج والكتاب في ثورة الصين.. تلك الثورة التي قامت في العام تسعة وأربعين وتسعمئة وألف لتصبح الصين بعد اثني عشر عامًا فقط القوة الثالثة بعد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية.. بل القوة التي تحدّت في ذلك العام تلك القوتين... إن الحديث عن الدول والأمم والشعوب التي بنت نفسها بالعلم والمعرفة والمنهاج والكتاب، وحفرت بقوة بصماتها على جدار الزمن هو حديث يطول ويطول.. ولكن – وقبل إنهاء الحديث هنا – لابد من الإشارة السريعة أيضًا إلى التعليم في هذه الديار (بكل صراحة ووضوح وتجرد) خلال فترة الحكم الأردني (1949 – 1967) لأقول إن التعليم خلال تلك الفترة قد بلغ القمة... وكذلك لابد  من الإشارة السريعة إلى التعليم في هذه الديار بعد هزيمة حزيران من العام سبعة وستين لأقول إن المعلمين قد خاضوا حربًا شرسة من أجل الحفاظ على المدارس والمناهج وكل مكتسبات هذا الشعب في سائر المجالات، ولاسيما مجال التعليم حيث تمكن المعلمون والطلبة ومن يعنيهم أمر هذه الأمة في هذه الديار من حمايته من كل المؤامرات التي حيكت ضده... وهذه شهادة تقدير وضعتها الدنيا على صدر المعلم الفلسطيني الذي كان ولا يزال وسيبقى حامي هذه العملية التعليمية التربوية في هذه الديار بعونه تعالى.

    وبعد،

    فإن الناس في هذه الديار قد كرهوا حياة التخبط والفوضى والتراجع والهوان والاتجار بهم وبأوطانهم وأبنائهم ومكتسباتهم التي حققوها على مر السنين بالدم والعرق والدموع... وإن المواطنين في هذه الديار لا يطالبون بأكثر من حق أبنائهم وبناتهم في التحصيل العلمي المجاني، وحقهم الطبيعي في العلاج المجاني المتطور الذي يليق بإنسانية الإنسان، وتوفير فرص العمل لكل الخريجين والعمال، وتوفير حياة يومية عادية للناس لُحمتها العدل، وسداها المساواة لا يريدون أكثر من ذلك ولا أقل إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً.. ورحم الله امرءًا عرف حده فوقف عنده.. ورحم الله أمة تعلمت من تجاربها وتجارب الشعوب.. وإذا لم يكن بإمكانك أيها الإنسان أن تبني فلا تهدم.. وإذا لم يكن بإمكانك أن تزرع الورد، فلا تنثر الأشواك في الطريق.. وإذا لم يكن بإمكانك أن تفعل الخير، فلا أقل من الابتعاد عن الشرور والآثام والخطايا وتدمير حياة الناس.. أليس كذلك؟؟

*  *  *  *

    لستْ أدري لماذا لفت انتباهي هنا مقالٌ كتبتُه حول بعض ما كان يجري في مؤسسات التعليم العالي، ونشرتُه في "القدس" بتاريخ (26/7/1991) وهذا نصه:

    لعل من أبرز ما تميز به شـعبنا العربي الفلسطيني وبخاصة على امتـداد العقــود الخمـسة الماضية من

تاريخه حب العلم والمعرفة، وتعلقه بهما بشكل فاق كل تصور، وبلغ أقصى حدود الإصرار والتحدي، فعلى الرغم من الظروف والأوضاع الشاذة التي فُرضت على هذا الشعب منذ مطلع القرن الماضي، وعلى الرغم من بشاعة النكبة التي فُرضت عليه فرضًا، وأحالت جزءًا كبيرًا منه إلى مجموعات من اللاجئين الذين كُتب عليهم أن يتناثروا في كل بقاع الأرض..وعلى الرغم من مرارة الهزيمة التي تجرع مرارتها عام سبعة وستين وتسعمئة وألف، والتي كان من أبرز نتائجها وقوع ما كان قد تبقى من بلاده تحت الاحتلال منذ تلك الهزيمة وحتى يومنا هذا دون أن يكون له أدنى يد في كل ما حصل، ودون أن يرتكب من الذنوب والآثام ما يستحق بموجبه شيئًا مهما كان ضئيلاً من هذه الحياة الشاذة الغريبة التي فُرضت عليه، والتي لم يعشها شعب من الشعوب في التاريخ الحديث...أقول على الرغم من كل هذه التجارب الأليمة التي عاشها شعبنا ولا يزال، إلا أنه لم يهن، ولم يضعف، ولم تلن له قناة، بل تسلح دائمًا بالعلم والمعرفة، فكان معلمًا ورائدًا وبانيًا.. عرفت فضله ونبله ومقدرته وإخلاصه وشرف انتمائه الوطني والعربي والإنساني شعوب العرب في بلاد الشام، والعراق، وشبه الجزيرة، وأقطار الخليج، والمغرب العربي وبخاصة القطر الجزائري الشقيق، وشهدت له بالتفوق والنبوغ كل جامعات العالم،ومراكز أبحاثه وبحوثه، ومؤسساته الأكاديمية والاقتصادية والصحية بل والسياسية أيضًا.

    لا نقول هذا من باب التعصب العرقي، أو من قبيل المبالغة أو الغرور، أو كردّ فعل لهذا الواقع المرير الذي نحياه اليوم...ولكنها الحقيقة المجردة، والأرقام، والمعلومات الموثقة التي يعرفها القاصي والداني، ويقر بها العدوّ قبل الصديق..إنها حقيقة هذا الشعب الذي ما لانت له يومًا قناة، ولا زادته الصعاب إلا نضجًا ووعيًا وإدراكًا.

    على أن كل هذه المزايا والإيجابيات التي عرف بها شعبنا رغم الصعاب والعقبات يجب أن لا تصرفنا عن التعرض للسلبيات والممارسات الخاطئة التي بات شعبنا يعاني منها، بل على النقيض من ذلك تمامًا فإن الواجب الوطني، والحرص الشديد على سلامة المسيرة والمحافظة على كل الإنجازات والمكتسبات يدفعنا دفعًا للتنبيه والتحذير من هذه السلبيات والممارسات الخاطئة....وإذا كان المجال هنا لا يتسع للإحاطة بكل هذه السلبيات والأخطاء فليس أقل من التعرض لواحدة منها انسجامًا مع ما بدأت به رسالتي من حديث عن المواقع المتقدمة لشعبنا الفلسطيني في حقل العلم والمعرفة، هذه المواقع التي كانت على الدوام أكبر مصادر قوته ومنعته، وعنوان شموخه وإبائه وعزته...

    لنسأل أنفسنا- أيها الأحبة- سؤالاً واحدًا في مجال واحد من مجالات التعليم في بلادنا، ثم لنا بعد ذلك أن نعمم الإجابة على باقي مجالات التعليم وقطاعاته دون استثناء..وإذا أردتم فإن لكم أن تعمموها على باقي مجالات الحياة وأوجهها المختلفة في بلادنا بنسب مختلفة ترتفع حينًا، وقد تنخفض حينًا آخر، والأمر أولاً وأخيرًا متروك لتقدير المواطن وطريقة تفكيره، وكيفية تعامله مع الأحداث من حوله، ثم هو بعد ذلك أو قبل ذلك معروض للبحث والنقاش على كل الجهات والهيئات التي يعنيها ما يعنينا، ويهمها ما يهمنا..لنسأل أنفسنا: ما الذي يحدث اليوم في مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية؟ سؤال – لا شك- كبير كبير، ولكن لا بد من الإجابة عنه.. نعم لا بد.. ولكن.. هل نبدأ بالحديث عن بعض الجامعات المغلقة منذ أربع سنوات "بالتمام والكمال"؟ أم نبدأ بالحديث عن هذا التشابه المرعب في التخصصات القائمة في كافة الجامعات والكليات؟ هل نتحدث عن البِطالة بين الخريجين كثمرة مرة من ثمار هذا التشابه، أم أنّ هنالك أسبابًا أخرى وراء هذه الأزمة الحادة التي تجثم على صدور الخريجين وذويهم في هذا الوطن؟ أم نتحدث عن البِطالة المقنعة التي تأخذ بخناق معظم العاملين في مؤسساتنا التعليمية هذه، وتهدد أطفالهم وأسرهم بالجوع والمهانة؟ هل نتحدث عن التسيب في كثير من مؤسسات التعليم العالي بكل ما تشتمل عليه كلمة "التسيب" من عيب، وامتهان لكرامة العلم والمعلم والمتعلم والعاملين جميعًا في هذا الحقل الذي يجب أن يكون أخصب حقولنا، وأشدها خضرة، وأكثرها عطاءً ونماءً وخيرًا وبركة؟ ومن المسئول عن هذا التسيب؟ من المسئول عن رسم السياسة العامة الملزمة لكل مؤسسات التعليم العالي في البلد؟ من المسئول عن وضع فلسفة واضحة للتعليم تنبع من طبيعة مجتمعنا، وتأخذ في المقام الأول احتياجات هذا البلد، وتلبي طموحاته، وتخطو به ومعه، نحو تحقيق أهدافه؟

    من المسئول عن ضبط الأمور-كل الأمور- في كافة مؤسسات التعليم العالي؟؟ من المسئول عن الإشراف الكامل الذي لا يقبل جدلاً أو نقاشًا أو تأويلاً على كافة مؤسسات التعليم العالي في بلادنا؟ أسئلة كثيرة كثيرة من الصعب أن تنتهي.. بعضها يجيب عن نفسه بنفسه..وبعضها يثير كثيرًا من الأسئلة والتساؤلات..ويفرض نفسه مادّةً غنية لكثير من الدراسات والمقالات...

    ويعود السؤال الكبير يفرض نفسه من جديد: ما الذي يحدث اليوم في مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية؟؟ إن الذي يحدث – أيها الأحبة- أمر كبير كبر هذا السؤال، وإلى أن تقوم الجهة المسئولة ومعها كل الغيورين على المصلحة الحقيقية لهذا الشعب بالإشراف الكامل، والسيطرة المطلقة على أخطر مؤسسات هذا الشعب، وأعظم إنجازاته، ومصدر تميزه، وسر وجوده الفاعل على أرضه..أقول إلى أن تنهض هذه الجهة المسئولة عن التعليم العالي بواجباتها، وتضع كل النقاط على كل الحروف، وتحمي التعليم العالي من كل ما يتهدده حقيقة من أخطار، وتضع الأمور كلها في نصابها الصحيح، فتقدم بذلك أكبر خدمة لهذا الوطن وإنسان هذا الوطن..أقول إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي نرجو أن لا يكون بعيدًا فإن كل ما يمكنني قوله بكل وضوح هذه الكلمات التي أتوجه بها إلى الطلبة الأحباء (في كافة مؤسساتهم العلمية من جامعات وكليات جامعية) بحكم موقعي ورؤيتي وتجربتي ومحبتي: تحلّوا بالأخلاق الحميدة..حافظوا على مكتسباتكم ومؤسساتكم، حذار من الصراعات المدمرة، والنزاعات التي لا تعود عليكم إلا بالخسران..اتفقوا واختلفوا كما تريدون، ولكن حذار من التهور والفوضى والخصومة والاقتتال!!! مزيدًا من الانضباط أيها الأحبة..لا تسمحوا لفتنة أن ترفع رأسها بينكم..ابتعدوا عن المهاترات..حكّموا العقل في كل أموركم..عالجوا قضاياكم وخلافاتكم ومشكلاتكم بأساليب حضارية منطقية علمية.. كونوا جميعًا إخوة متحابين متكافلين متكاتفين متضامنين متعاونين مقبلين على العلم والمعرفة..واعلموا – طلبةَ اليوم- أنكم المربون والموجهون والمرشدون والآباء والأمهات والمعلمون والقادة لهذا الشعب في غده الذي نرجو أن يكون غدًا كريمًا عزيزًا بعون الله.

 

*  *  *  *

    ومن هذا الذي كان يدور في مؤسسات التعليم العالي في العام الحادي والتسعين من القرن الماضي إلى العام الدراسي الجديد في هذا العام، حيث قلتُ فيه في الحادي عشر من أيلول(2007) ما نصّه:

    في حياة الناس – شعوبًا وأفرادًا وجماعات – مبادئ سامية، وأهداف نبيلة. ومـثل علـيـا يحـرصـون عليها كل الحرص، ويحافظون عليها بكل ما أوتوا من قوة، ويرون في وجودها وجودهم، وفي ازدهارها ونمائها تحقيقًا لطموحاتهم، وتكريسًا لوجودهم الحضاري.

    ومما لا شك فيه أن المجتمعات والهيئات والشعوب تسلك من أجل تحقيق هذا شتى المسالك، وتبذل من أجل إبرازه ووضعه موضع التنفيذ كل قواها وإمكاناتها المادية والفكرية والنفسية وصولاً لصنع المجتمع الفاضل القوي الآخذ بأسباب المنعة والتقدم والرقي...

    إن تجارب الشعوب قديمًا وحديثًا أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأساس الذي تُبنى عليه عملية التحول الاجتماعي هو الإنسان القيادي الواعي المتعلم المؤهل فكريًّا ونفسيًّا لتحمّل أعباء البناء الاجتماعي الراسخ مرورًا بتبعات التحول بكل ما تنطوي عليه من مصاعب وعقبات، وبكل ما تتطلبه من صبر وثبات وتضحيات.

    إن أحدًا مهما بلغت به حالة – الجحود والنكران – لا يمكن أن ينكر هذا العدد الهائل من الأعلام الذين أنجبهم شعبنا – ولا يزال – على كافة الصعد، وفي مختلف المجالات الاقتصادية والفكرية والعلمية والإعلامية والسياسية... ومع هذا فنحن نطلب مزيدًا من هؤلاء الأعلام، ونحن نطلب أيضًا أن تُقلَّص الهوة بين هؤلاء الأعلام وبين عامة الناس في مجتمعنا.. بمعنى أن يرتفع القَدْر الأكبر من أبناء هذا المجتمع إلى المستوى الذي يقرّبهم من الرواد والأعلام، ويدنيهم من مستوى المعلمين والمرشدين في كافة فروع المعرفة، ومختلف أضرب الريادة، والقيادة، وأوجه الحياة المختلفة.

    إننا نؤمن إيمانًا عميقًا - لا يأتيه الشك من بين يديه ولا من خلفه - أن المدارس والجامعات وكافة مراكز التعليم هي القلاع الحصينة المؤهلة للقيام بهذا الدور، والقادرة حقيقة على إنجازه إذا عملت بشكل جاد في هذا الاتجاه، وإذا هي اعتمدت المنهاج والأسلوب بشكل يضمن تنشئة الفرد تنشئة علمية تربوية أخلاقية سليمة، وإذا هي فتحت أبوابها للمعلمين والرواد والأعلام من أبنائها المتميزين في كافة مجالات الحياة، ومسالكها المختلفة للاستفادة من تجاربهم وخبراتهم، والاستئناس بآرائهم وأفكارهم، والاهتداء بنظراتهم الصائبة في الإنسان والكون والحياة... نحن إذن نلتقي في أن بناء الفرد والمجتمع (إلى جانب التربية البيتية السليمة) لا يكون – على الأغلب- إلا عن طريق المدرسة الجادة الملتزمة بقضايا الناس وأهدافهم وطموحاتهم ومثلهم العليا، وأساس ذلك كله المدرسة المتميزة بمنهاجها ومبادئها وأسلوب عملها.. المدرسة المتميزة بعلاقاتها السليمة بين معلميها وطلبتها، وبين هؤلاء جميعًا ومجتمعهم المحلي الذي ينتمون إليه، وأمتهم التي ينتسبون إليها... المدرسة المتميزة بجرأتها في تبني قضايا الأمة، وطرح هذه القضايا طرحًا واعيًا مبصرًا حكيمًا ضمن منهاجها التربوي والتعليمي.

    نعم.. إن بناء الفرد والمجتمع لا يتأتَّى إلا بالعلم.. والعلم لا يتيسر للناس إلا عن طريق المدارس والمؤسسات التعليمية على اختلاف مستوياتها، وهذا يعني أولاً وقبل كل شيء أن نحترم هذه المدارس والمؤسسات، وأن نسعى بكل قوانا من أجل تطويرها، وتحسين مستوى أدائها، وتفعيل دورها في صنع الإنسان الجيد الواعي الملتزم حقًّا وصدقًا بقضايا مجتمعه ووطنه وأمته، وتجذير محبتها واحترامها في نفوس الناشئة وقلوبهم كي يحافظوا عليها محافظتهم على بيوتهم، وكي يصونوها كما تُصان أعز الممتلكات الشخصية، فهي جديرة بالمحبة والاحترام، جديرة أن تجل وأن تُصان.

    إننا، ونحن نقف اليوم على أبواب عام دراسي جديد، ليجدر بنا – معلمين ومتعلمين، آباء وأبناء – أن نحاسب أنفسنا على ما فات، وأن نضع خطة العمل الجاد الملزم لهذا العام الدراسي الجديد... يجب أن نضع خطة عمل نلتزم بها جميعًا، لأن الوطن لنا جميعًا، ولأن العلم من حقنا جميعًا، ولأننا جميعًا شركاء في المستقبل بكل ما يحمله لنا بين ثناياه... لا بدّ من خطة عمل تحظى بإجماع كافة فئات شعبنا وقطاعاته تضمن لكافة طلبة شعبنا حقهم في التعلُّم، وتوفر لكافة معلمي طلبتنا جوًّا تعليميًّا لا تشوبه شائبة، خطة عمل لا تفصل طلبتنا عن واقعهم أبدًا، ولكنها تنظم العلاقة وتحددها بشكل دقيق بين هذا الواقع من جهة، وحقهم في تلقي العلم، واكتساب المعرفة من جهة ثانية.. بحيث يكون التوازن والانسجام، وبحيث نضمن هذا الحق كاملاً غير منقوص.. لا بد أولاً وقبل كل شيء من العودة إلى كافة القرارات والتوصيات التي صدرت عن المؤتمرات "الجماهيرية"، والفعاليات الوطنية التي نصت صراحة وبشكل لا يقبل التأويل على احترام العملية التعليمية التربوية، وتخليصها من كافة الشوائب، وتجنيبها الأخطاء التي كادت أن تعصف بها ذات يوم.

·     ينبغي أن نضاعف جهودنا طلبةً ومعلمين من أجل النهوض بالعملية التربوية، ومن أجل تعويض الطلبة عما فاتهم بسبب الإغلاقات والإضرابات وتعثر العملية التربوية التعليمية لأسباب أخرى كثيرة خلال السنوات الماضية... إنه لمن المؤلم أن نرى كثيرًا من طلبة المراحل العليا في مدارسنا لا يحسنون القراءة والكتابة، ولا يعرفون شيئًا عن أبسط قواعد اللغة، ولا يحفظون بضعة أبيات من شعر العرب، ولا يكادون يعرفون شيئًا عن أمتهم وتاريخها، وعن شعبهم وقضيته، وعن بلادهم وجغرافيتها.. وإنه لمن المؤلم أن نرى كثيرًا من الفتيان والفتيات ممن لا يحسنون كتابة الأحرف الإنجليزية أو قراءة أبسط الكلمات بهذه اللغة... وإنه لمن المذهل أن نرى كثيرًا من الطلبة في سن العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة ممن لا يستطيعون إجراء أيٍّ من أبسط العمليات الحسابية من جمع وطرح وقسمة وضرب!!! لقد حاورتُ كثيرًا من طلبة المراحل المختلفة، واستمعتُ إلى شهادات كثير من الأصدقاء ممن أجرَوْا اختباراتهم على طلبة الصفوف الأساسية الدنيا في كافة الموضوعات... ومن المؤلم أن النتائج كانت مرعبة، وكانت مقلقةً، وكانت مخيبة للآمال... وأن نتائج الطلبة في مختلف الصفوف – بشكل عام – هي أكثر من مؤسفة كما يقول معلمو هذه الصفوف ومعلماتها.

    أعرف أنني لم آتِ بجديد هنا.. وأعـرف أن كل الناس في هذه الديار تعرف هذه الحقيقـة.. وأن كل

ما يقال بخلاف ذلك تزوير يرُاد به التقليل من خطر الأميّة التي تعصف بمجتمعنا، وتفتك بنسبة هائلة من طلبته في كافة مراحل الدراسة... ولكنني لا أعرف لماذا نصرّ على أن يكون الأسبوع المدرسي خمسة أيام بدلاً من ستة.. وأن تكون العطلة يومين بدلاً من يوم واحد!! ألسنا في أمسّ الحاجة لرفع مستوى الطلبة في كافة الموضوعات؟ ألسنا في أمسّ الحاجة لتعويضهم عما خسروه خلال سنوات وسنوات؟ ألا نؤمن بأن اليوم الدراسي المطوّل مرهق للطالب والمعلم.. مزعجٌ للأم للعاملة التي ستضطر لمفارقة بيتها وأطفالها معظم ساعات النهار، ولاسيما إذا كان مكان عملها خلف تلك الحواجز، أو في القرى النائية؟ ألا نعلم بأن مدارسنا غير مؤهلة لاستيعاب الطلبة ساعات طويلة في الصيف اللاهب، والبرد القارس؟ ألا نعلم أن اليوم  الدراسي المطوّل يزيد الوضع في فترات التدريس المسائي سوءًا على سوء؟؟

    إنني لا أرى نفعًا لأحد في أسبوع دراسي من خمسة أيام.. وإذا كان الأمر كذلك فإنني أقترح العودة إلى عطلة أسبوعية من يوم واحد كما كان الأمر مذ كان التعليم في هذه البلاد.. فإن كان الأمر صعبًا؛ فليس أقل من فتح المدارس لمن أراد أن يتعلم من الطلبة، ولمن يرغب في "تقويتهم" بشكل تطوعي من المعلمين العاملين والمتقاعدين دون أي أجر من أحد... والهدف فقط رفع مستوى الطلبة، وتعويضهم، وتأسيس الصغار المبتدئين منهم.. فالناس تحت وطأة هذا الغلاء وكابوس هذه البطالة ليسوا قادرين على إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المراكز التعليمية... وحتى لو كانوا قادرين فإن مدارسنا أَولى بأبنائنا وبناتنا... مدارسنا هي المسئولة عن تعليمهم وإعدادهم إعدادًا جيّدًا للمستقبل المأمول.

    إننا ونحن نقف اليوم على أبواب عام دراسي جديد يعود فيه إلى مقاعد الدراسة أعز ما نملك، وأغلى ما يملك هذا الوطن من بنين وبنات: هنا في رياض الأطفال، وهناك في المدارس بمراحلها التعليمية الثلاث، وهنالك في الكليات والجامعات لا نملك إلا أن ندعو من الأعماق لهم بالانتصار على الجهل والفقر والشر والتخلف والمرض... تحية إلى أبنائنا الطلبة وهم يشقون بخطًى ثابتة واثقة قوية طريقهم نحو النور... مع خالص التمنيات لهم بالخير والرشاد والسداد.

*  *  *  *

    وعلى الرغم من وفرة المقالات التي كتبتُها في موضوع التعليم وكثرتها خلال أكثر من أربعين عامًا إلا أنني أكتفي هنا في هذا الفصل من كلام في العملية التربوية بما كنت نشرتُة في "القدس" أيضًا في الثالث عشر من أيلول من عام سبعين وتسعمئة وألف في مستهل عام دراسي أيضًا.. وكان عامًا ساخنًا كما يبدو من ذلك المقال: مسئولية  ومعلمون.. وأمزجة!! وهذا نصه:

    لعل من أهم الصفات التي يجب أن تتوافر في شخصية الإنسان – المسئول- القوة، والذكاء، والصدق، وتقدير المصلحة العامة. ولكن الذي يلمسه جميع الناس هو أن بعض – المسئولين – في بلادنا لا يتصفون ولو بواحدة من هذه الصفات.

    وهذا – في اعتقادي – داء عضال ابتليت به أمتنا، وضرب بجذوره في أعماقها منذ مئات السنين، أيام كانت (الرؤوس الفارغة) هي التي تتحكم بمقدرات الناس ومصائرهم.. ويبدو أن أمتنا لم تتخلص بعد من هذا الداء.. ويبدو أنها لم تتخلص بعد من – الأخلاقية – التقليدية للمناصب والمكاتب... ويبدو أن هذه "الأخلاقية" هي التركة التي يخلفها السلف للخلف.. وهي التعاليم التي يلقّنها الأجداد للآباء والأبناء .. وهكذا لنظل نحن ندور في الفراغ.. ونظل هكذا أضحوكةَ الدنيا، وأعجوبةً للناس.

    إن مفهـوم (المسئولية) في بلادنا يختلف عنه في أي بلد متحضر، فهو في بلادنا يعني الظهور، وفرض الآراء، وإصدار الأوامر، وفرض العقوبات على المخالفين. هذا هو كل مفهوم المسئولية عند كثير من "المسئولين".. وهو داء طغى واستشرى فعم أذاه، وأتى على كل شيء.. حتى مدارسنا لم تسلم هي الأخرى  من بعض أشكال هذا الداء وصوره المتعددة.. لم تسلم هذه المدارس من بعض المسئولين الذين حسبوا المسئوليةَ رداءً يُلبس، وحذاءً يُنتعل، وجسرًا موصلاً إلى أسمى المراتب، وأنبل الألقاب.. فأصبحوا عبيد مناصبهم، وأسرى مكاتبهم، وضحايا هواجسهم وأحلامهم.

    هم يعتقدون أن تلك المكاتب العظيمة التي التصقت بأسافلهم حتى العظم ستفرُّ من تحتهم إلى الأبد، وتفر معها بقاياهم إذا هم لم يحسنوا المحافظة عليها والتشبث بها.. وهذا – كما يعتقدون- يتطلب منهم أولاً وقبل كل شيء الارتكاز على (أرضية صلبة) والاعتماد على قاعدة قوية، تتمثل في – البطانة – أقصد الفئة المختارة من – الحواريين- أو ما نسميهم نحن البسطاء- ماسحي الجوخ – الذين أتقنوا حديث المناسبات، والظهور بمظهر المجرب المحنك العليم بخفايا الأمور... وهم لضعفهم وخورهم "أتقنوا ابتسامة تائهة، يصطنعونها كلما  دعت الضرورة.. وما أكثر ما تدعو الضرورة! أما الصدق والصراحة فلا لزوم لهما – في عرف أولئك - لأن إثمهما أكبر من نفعهما!!

    ولقد يهون كل شيء، بل ويُقبَل أيضًا إلا أن يمسك الواحد منهم قلمه في نهاية العام الدراسي ليكتب تقاريره السرية عن مرؤوسيه، إذ هناك – الطامّة الكبرى – حيث تقلب الحقائق.. وتهون شهادات الزور، ويحل التآمر، ويحلو طعم – المقالب- ويذوق "المشاغبون" ثمار شغبهم المرة.. ويدفعون ثمن آرائهم، وشرف نفوسهم، واستقامتهم، وإخلاصهم.. نعم يدفعون ثمن كل ذلك جحودًا ونكرانًا، وتُهمًا باطلةً، وإبعادًا إلى مدرسة أخرى!!

    إنني أعتقد أن نقل المعلم يجب أن يتم – أولاً وقبل كل  شيء – بناء على نتائجه، وقيامه بواجبه، أما أن يكون المعلم تحت رحمة – الأمزجة الشخصية – لبعض المغرضين التافهين مهزوزي الشخصية.. فيقع ضحية ما يلفّقون ويفترون تجنّيًا وحسدًا وضيق أفق، فهذا أمر فيه غير قليل من الظلم.. وسوء تقدير الأمور.

 

جامعة القدس المفتوحة .. وقضية الكتب الجامعية

 

    لجامعة القدس المفتوحة في الضفة الغربية تسع مناطق تعليمية، وستة مراكز، ولها في قطــاع غزة خمس مناطق تعليمية.. وفي هذه المناطق والمراكز يتعلم - عن بعد - خمسة وخمسون ألف طالـب وطالبــة غالبيتـــــهم العظمى من الفئات المجتمعية الأكثر حاجة، والأشد فقرًا.. وكثير منهم انتسبوا إلى هذا المركـز أو تلك المنطـــقة التعليمية لأنهم لا يستطيعون الالتحاق بالجامعات الأخرى لأسباب خاصة بهم.. كما أن كثيرًا من الدارسات فــــي هذه الجامعة هنّ من الزوجات اللواتي يطمحن إلى تحسين أحوالهن الاقتصادية في ظل هذه البطالة الشرسة غير المسبوقة التي تعصف بمعظم فئات هذا المجتمع وشرائحه المختلفة بالعثور على فرصة عمل بعد التخرج.. ومن بين طلبة هذه الجامعة نسبة لابأس بها من الشقيقات والأشقاء الذين يدرسون في الكلية ذاتـــــها، وفي التخصص نفسه.. ويبلغ عدد الساعات المعتمدة للحصول على الليسانس مئة واثنتين وثلاثين (132) ساعة، ويـــــدفع الدارس مبلغ ثلاثة عشر دينارًا لكل ساعة من هذه الساعات الموزعة على ثمانية فصول دراسية، أو أربع سنوات دراسية في معظم الأحوال.

    لقد واكب انتشار هذه المناطق التعليمية في الضفة الغربية وقطاع غزة ظهور المكتبات التي تقدم خدماتـــها لطلبة هذه الجامعة كل في منطقته.. ومن بين هذه الخدمات تصوير الوثائق والمستندات، وأوراق البحث، والكتــب، وتوفير القرطاسية، وكافة اللوازم للطلبة... على أن أجلّ هذه الخدمات التي نهضت بها تلك المكتبات كانت تــوفير الكتب للطلبة بأثمان زهيدة.. وقد فتحت المجال أمام الطلبة أن يدفعوا مبلغًا زهيدًا مقابل استعمال الكتاب فصلاً كاملاً، ومن ثم إعادته إلى المكتبة، والحصول على غيره مقابل مبلغ زهيد أيضــــًا، وهكذا تتــم العملية طــوال السنوات الدراسية الأربع: يعيد الطالب كتب الفصل الذي انتهى، ويأخذ كتب الفصل الجديد، ويدفع دينارًا عن كل كتاب.. فإذا سلّم للمكتبة خمسة كتب، فإنه يأخذ خمسة كتب جديدة بعد أن يــدفع خمسة دنانير مقابــــل ذلك.. وهكذا حتى ينهي دراسته.

    هذا الأسلوب الذي اتبعته هذه المكتبات قــدّم خدمـــة كبيرة لكثير من الطلبة الراغبين في ذلك بسبب سوء الأوضاع المــــادية.. وفي الـوقت نفسه فــإن كثيرًا من الطلبة لم يتمكنوا مــن الحصول على الكتب خلال سنيّ  الدراسة على الرغم من كل هذه التسهيلات.. وكانوا يكتفون بــاستعارة الكتب من زملائهم للدراســـة والتقــــدم للامتحانات.. وكان النجاح حليف كثير منهم... كما أن كثيرًا مــن الطلبة قـــد احتفظوا بكتبهم، ولــم يستبدلوها بغيرها، بــل أصبحت لديهم نواة مكتبة بيتية.. لقـــد أضافــوا إليها كثيرًا مــــن الكتب في شتى التخصصـــات والتوجهات... وقد تحدثتُ إلى عدد من طلبة هذه الفئة.. وأحسست أنهم فرحون بمكتباتهم البيتية التي تزيّنـــــها كتبهم الجامعية التي يعتزون بهـــا ويفخرون... كما أتيح لي – بالطبع – أن أتحدث إلى عدد آخر من طلبة تــلك الفئة التي اكتفت باستعارة الكتب من زملاء الدراسة.. ورأيت الانكسار باديًا بجلاء على وجوههم..لقد سمعت قصصًا وروايات وحكايات أغرب من الخيال – كما يقولون – وبين هذه الفئة المعدمة وتلك الفئة المنعمة تقف تلك الفئة بغالبيتها الساحقة التي استفادت جيـِّــدًا  من عملية التبديل، ودفع المبلغ الزهيد ثمنًا للاستفادة مـــن الكتاب، واستعماله فصلاً دراسيًّا كاملاً.

    واليوم يتحدث الطلبة عن إقدام الجامعة على بيع الكتب للطلبة، وإصرارها على ذلك، واعتبار الموضوع من مستلزمات التسجيل... وقد التقيت كثيرًا من الطلبة الذين أعربوا عن عدم ارتياحهم لهذا الإجراء بدعوى الفقر والبطالة وسوء الأحوال المعيشية، وبدعوى توافر الكتب عند كثير منهم بعد أن حصلوا عليها من أصدقائهم أو أقاربهم أو حتى إخوانهم وأخواتهم، وبدعوى أن المكتبات الموجودة في محيط المناطق التعليمية كانت تساعدهم كثيرًا في تصوير كثير من الموادّ والمساقات لقاء مبالغ زهيدة حينًا، ودون مقابل حينـًا آخر... قال عدد منهم إن ثمن الكتب هو مشكلة جديدة أضيفت إلى مشكلة الأقساط الجامعية التي نستدينها من هذا الجار أو ذاك... وقال بعضهم إن التعليم الجامعي مجّانيّ في كثير من الأقطار في هذا العالم.. وفي كثير من الأقطار العربية بــالذات.. فلماذا لا يكون التعليم الجامعي مجانيًّا في جامعاتنا المحلية؟ لماذا لا يكون التعليم الجامعي وغير الجامعي كالهواء الذي يتنفسه الإنسان؟ أليس من حق الفقراء أن يتعلموا؟ أليس من حقهم أن يعيشوا بكرامة في وطنهم؟ أليس من حقهم أن يعترضوا، وأن يقولوا "لا" عندما تتعرض مصالحهم وسائر حقوقهم للعبث والضَّياع؟؟

    وقد تحدثتُ إلى بعض أصحاب المكتبات الذين كانت صدمتهم كبيرة لهذا الإجراء الذي أقدمت عليه هذه الجامعة.. قال أحدهم: لقد أنشأنا هذه المكتبة منذ بضع سنين، وقدّمنا أفضل الخدمات للطلبة، وكسرنا احتكار تصوير الوثائق والمستندات وأوراق البحث والكتب.. واكتفينا بأقل القليل... واليوم يؤلمنا أن نقول إننا سنضاف إلى قوائم الفقراء والمعوزين العاطلين عن العمل من أبناء هذا الوطن ... وكأن هذا الشعب بحاجة إلى نكبات جديدة في كل يوم... إنهم يبحثون عن مصائب جديدة هي فوائد عند أولئك الذين لا يحسنون إلا البحث عن مصالحهم الشخصية، ولو كان ذلك على حساب لقمة عيش الآخرين، ولقمة عيش أطفالهم..

    وقال آخر: إننا نتحدث اليوم عن قرابة مليون كتاب في العام معظمها ليس من وضع أساتذة الجامعة.. إنه مستورد من هنا ومن هناك.. وهنالك عطاءات، ومطابع، وشركاء، ومستفيدون... وبالطبع هناك ضحايا، ونحن أصحاب هذه المكتبات في كل من جنين، وبيت لحم، وقلقيلية، وسلفيت، ونابلس، وطوباس، وطولكرم، ورام الله، والخليل، وفي مدن قطاع غزة .. نحن أصحاب هذه المكتبات التي ستغلق أبوابها في نهاية الأمر من ضحايا هذا الإجراء... وكذلك فإن أبناءنا الطلبة وأولياء أمورهم هم أكبر ضحايا هذا الإجراء الذي نرجو أن يتنبه أولو الأمر، ومن يعنيهم أمر المواطن والوطن إلى خطورته لوقفه وإلغائه  بكل الوسائل الممكنة.

 

(تيه3)

من كتاب زمن التيه

تأليف:عدنان السمان

يطلب من الناشر : مكتبة النصر التجارية

هاتف: 1700112112(أبو حسام)

نابلس

 


ليست هناك تعليقات: