عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ٤ كانون الثاني ٢٠١١

في الثقافات والمثقَّفين...!!

متابعات

في الثقافات والمثقَّفين...!!

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

    الثقافات في هذا الكون كثيرة .. يصعب على الإنسان أن يلمّ بها مهما أوتي من القدرة على القراءة، والمتابعة ، والاطلاع، والرحلة، والتنقّل.. ومهما أوتي من سعة الأفق، وحب العلم والمعرفة.. ذلك أن الثقافات متعددة تعدّد الأمم، والشعوب، والقبائل، والمجموعات ، والأزمنة، والأمكنة.. مختلفة باختلاف القيم، والمفاهيم، والأفكار، والعادات، والتقاليد، والأعراف، والألوان، والأديان ، واللغات، والبيئات، والمعتقدات، والأساطير الموروثة، والمستحدثة، والمعدّلة... الثقافات كثيرة تصعب الإحاطة بها، وليس هذا هو المطلوب في هذا المقام، وإنما المطلوب هنا تعريف سريع بالثقافات والمثقفين، وحديث عام في أبرز هذه الثقافات، وتناولها بدراسة نقدية موجزة وصولاً إلى الاستنتاجات والقناعات التي من شأنها أن توقد شمعة تُضاف إلى جملة الشموع التي تأخذ على عاتقها أمر تبديد الظلام في هذا الكون، وهذه – لعمري – واحدة من أخطر المهمات التي ينبغي أن يضطّلع بها كل طلاب العدل والعدالة والحق، وكل الحريصين على نشر ثقافة الفضيلة والهدى والخلق القويم والإخاء في هذا العالم.

    ينبغي أولاً أن نعلم أن الثقافة تعني التمكن من العلوم والفنون والآداب .. وأن من معانيها الحذق والخفة وفهم الكلام بسرعة.. وأن المثقَّف هو الإنسان الذي يتمتع بنصيب من الثقافة ( كما جاء في المنجد )، كما ينبغي ثانيًا أن نعلم أن الثقافات ليست كلها خيرًا خالصًا ( إذ لو كان الأمر كذلك لالتقت جميع الثقافات عند أهداف محدَّدة فيها من التشابه ما يجعل منها في نهاية الأمر ثقافة واحدة، ولاجتمعت الأمم – بالتالي- في أمة واحدة ، ولانتهت الإشكالات، وتوقفت الصراعات، ولاستراحت البشرية من كثير من الهموم والكوارث التي تغشاها، وتُفسد عليها عيشَها، ولقُضيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان!)، كما أنها ليست شرًّا خالصًا ( إذ لو كان الأمر كذلك لما عرف الإنسان حياة الاستقرار، ولما بنى الحضارات، وأقام الدول، ولاستحالت حياة التمدّن والتقدم والنهوض، وسادت شريعة الغاب هذا الكون)، كما ينبغي ثالثًا أن نعلم أن الثقافات في هذا العالم في تفاعل مستمر، وحركة لا تعرف التوقف أو السكون.. وفي أثناء هذا التفاعل يحدث التأثّر والتأثير؛ فتأخذ هذه من تلك، وتُعرض تلك عن هذه متقوقعةً على نفسها.. وتنتصر ثقافةٌ ما في جولةٍ أو جولات، وتُهزم في السياق ذاته ثقافةٌ أو ثقافات.. وليس من المعقول دوام هذه الحال؛ فدوام الحال من المحال.. غالبُ الأمس هو مغلوب اليوم، وقد يَغلِب هذا المغلوب غدًا أو بعد غد، وقد لا يغلب.. وفي أثناء هذا التفاعل أيضًا تتحول هذه الثقافة من الصلابة إلى السيولة ، وتلك إلى الغازيّة، وثالثة إلى الصلابة.. وبمرور الأيام، ودوران عجلة التاريخ تنتج ثقافات جديدة معدَّلة لها ملامح من هذه، وشيء من صفات تلك ومواصفاتها؛ فالمادة لا تفنى، وقد تتكرر النعجة "دولي" في تفاعلات الثقافات التي تتأثر كثيرًا أو قليلاً بما يجري في دنيا الحيوانات من حنينٍ إلى الغابة على حد زعم بعض الروايات التي لم يَقم أي دليل حتى اليوم على صحتها.. ولا أعتقد أنه سيقوم شيء كهذا في يوم من الأيام.

    وينبغي كذلك أن نعلم أن الثقافة الحية تحافظ على حيويتها وقوتها بمرونتها، واستجابتها للأحداث ، وتفاعلها معها، وبقدرتها الخارقة على امتصاص الضربات ، ومواجهة الصدمات، وتحويلها آليًّا إلى ملاعب الخصوم بلياقة عالية، ولباقة مستقاة من طبيعة هذه الثقافة، وقدرتها الفائقة على التكيّف، وأخذ زمام المبادرة ، كلاعب الكرة الماهر الذي يوظّف كل ضربة في ملعبه في استثمارٍ رابحٍ على نصف الملعب الآخر، يتجلى هدافًا فذًّا يهتزّ له الجمهور طربًا.. يصنعُ نصرًا في دوري كأس العالم.. كما ينبغي أيضًا أن نعلم  أن اللغة أو اللغات هي وسيلة انتشار الثقافة أو الثقافات، وهي كذلك وسيلتها في التأثر والتأثير، والتنوّر والتنوير.. ووسيلتها كذلك في اختزال الأبعاد، واختصار المسافات، وصولاً إلى الأهداف والغايات في التقريب بين وجهات النظر، والخلافات، وإعمال الفكر والرأي ، والاجتهادات في شتى الموضوعات، ومختلف المذاهب والاتجاهات، وسائر التحديات التي تشكّل قواعد التوتّرات ، وبؤر الصراعات، ومحاور المواجهات الساخنة، والحروب المدمّرة، ومنصّاتها المتقدمة في هذا العالم...

    اللغة أداة الثقافة ووسيلتها في البقاء، والأخذ والعطاء، والتمكّن والانتشار.. وإلى جانبها تأتي الرسومات، والصور، والموسيقى، وألوان الفنون الأُخرى التي تعزّز دور اللغة، وتشد أزرها في كافة ميادين العمل الثقافي الذي يرفد الأمة بدم جديد متجدد يتدفق في شرايينها؛ فيمنحها الخصب والخصوبة والنماء، ويغدق عليها من أسباب القوة والمنَعة ، وأوجه الخير والبهاء والرواء والعطاء... وإذا كانت اللغة وسيلة الثقافة في ازدهارها وانتشارها حتى قال بعضهم إن الصراع بين هذه الأمة وتلك هو صراع ثقافي وسيلته اللغة؛ فهو صراع لغوي في أبسط أشكاله وصوره، وفي أكثرها تركيبًا، وأشدها تعقيدًا أيضًا.. بمعنى أن اللغة وسيلة حسم في الصراع، وأنها الأكثر استهدافًا من غيرها في دوائر الخصوم والأعداء.. إن من يريد أن يعبث بأمة العرب مثلاً، وأن يغير من جوهرها، ويصرفها عن معتقداتها، ويبعدها بالتالي عن غاياتها وأهدافها يفكر أولاً وقبل كل شيء في أن يعبث بلغتها، وأن يصرفها عن هذه اللغة إلى غيرها من اللغات كي يسهل عليه صرفها عن معتقداتها، وأسباب قوتها ومنعتها ، وكي يسهل عليه تفكيكها وتفتيتها، وكي تسهل عليه تجزئتها: فهذه فئة ميّالة إلى الفرنسيين وثقافتهم ولغتهم وآدابهم.. وتلك مُحبَّةٌ للثقافة الإنجليزية ، وتلك للأمريكية... ولما كان هناك كثير من التفاوت بين ثقافات تلك الأمم، والشعوب، والمجتمعات، والتجمعات، والمدارس الفكرية،  والأدبية، فإن هذا التفاوت سينعكس بالضرورة والحتميّة على الأتباع؛ فإذا هم شراذم غريبة لا وزن لها، ولا طعم، ولا رائحة.. وكل ما في الأمر أن هذه الشراذم لا تُجمع على شيء إجماعها على التنكر لثقافتها الأصلية، ومناصبتها العداء سرًّا وعلانية إذا اقتضى الأمر، وصدرت التوجيهات بذلك!! من هنا كان الاهتمام باللغة على رأس سلّم الأولويات، وفي مقدمة الإجراءات التي يتخذها الحريصون على ثقافتهم، وسلامة لغتهم، واستقلال شخصيتهم بين الأمم.

    شيء آخر لا بد أن يكون حاضرًا في أذهاننا، هو أنه لا ثقافة بدون مثقفين، بمعنى أن الثقافة تصبغ أتباعها بصبغتها، وتلوّنهم بألوانها، وتضفي عليهم من ظلالها بنسب ودرجات تحددها استعداداتهم الفطرية، وقدراتهم على الفهم، والتحصيل، والاستيعاب.. واهتمامهم بما يجري ويدور في هذا الكون من حولهم، وبما رُكِّب في نفوسهم من طبائع، ومواهب، وميول يتربع معها بعضهم على قمة جبل العبقرية حيث الإبداع، والاختراع، وصنع النماذج، والهياكل ، والشخوص التي تتأثر بالحياة الإنسانية في هذا الكون، وتؤثر فيها...

    المثقف هو ابن ثقافته، وثقافته هي ثقافة قومه، وأحيانًا تكون مزيجًا من ثقافات مختلفة قد تغلب عليها الثقافة القومية، وقد لا تغلب، بل ربما غلبت عليها ثقافة أخرى غير ثقافة القوم، وفي هذه الحال قد تكون الثقافة الغالبة ثقافة معادية، وقد تكون ثقافة أممية تحاول الإمساك بالعصا من وسطها، مبديةً قدْرًا كبيرًا من الاحترام لثقافات الأمم والشعوب المنضوية تحت لوائها، في محاولة للخروج بثقافة موحدة لسائر الأمم والشعوب، أو على الأقل لعدد كبير منها.

    كل ثقافة في الكون لها أتباعها وأنصارها المتعاطفون معها، الداعون إليها، المروّجون لمفاهيمها وأفكارها... لكل ثقافة مثقفوها، ومن هؤلاء المثقفين من يتمسك بثقافة قومه، ومنهم من يُعجَب بثقافات الخصوم التي تناصب ثقافته العداء محاولاً التوفيق بينها؛ فإذا جاءت ساعة الحسم، وكان لا بد من الاختيار اختار أشد الثقافات عداوةً لثقافة قومه، بدعوى أن هؤلاء الخصوم حضاريون، وأنهم مثقَّفون مهذّبون يريدون العيش بسلام، وشتان ما بين ثقافة السلام، والبناء، والإعمار، والحريات المفتوحة.. وثقافة الموت، والقتل، والانغلاق، وضيق الأفق، وانعدام الآفاق!!

    كما أن شيئًا آخر لا بد أن يكون حاضرًا فينا الآن، هو أنه ليس هنالك مثقفون بدون ثقافة، إلا إذا كان هؤلاء من المنتسبين لبعض الأفكار الهامشية، والتفرعات والجزئيات التي تنشأ عنها أنماط من السلوك الذي يبيح كل شيء، ويستبيح كل شيء.. الأمر الذي يذكّر بالغاب، وشريعة الغاب، وما يرى الرائي في الغاب من أهوال وفظائع يأكل معها القوي الضعيف، ويسفك دمه، ويدق عنقه دون أن يتحرك حيوان واحد لحمايته، ودون أن يحتج حيوان واحد على هذا العدوان الذي تُسفك معه الدماء، وتُدقّ الأعناق، وتقطَّع الأوصال، وتتناثر الأشلاء والدماء دون توقف على أرض الغاب... أما عصائب الطير التي اتخذت من أعالي الأشجار وكنات لها بعيدًا عن فتك الحيوانات الكاسرة التي لا تعيش إلا على القتل وسفك الدماء؛ فإنها لا تسلم هي الأخرى من الموت والقتل والتمزّق في الفضاء شرَّ ممزَّق بين مخالب الصقور ومناقيرها الحادّة... وإذا جاز لنا أن نعتبر القتل والعدوان وسفك الدماء في الغاب ثقافةً جاز لنا في المقابل أن نعتبر من يبيح مثل هذا العدوان على الناس في المجتمعات البشرية مثقَّفًا إلا أن يكون من مثقفي الشرور والآثام والعدوان الذين نشأوا على ثقافة الشر والإثم والاعتداء على الناس في أنفسهم، وأموالهم، وأعراضهم، وحرياتهم، ومستقبل أجيالهم... ولعل هذا أيضًا ما يميّز ثقافة عن ثقافة، ومثقّفًا عن مثقف... ولعل هذا أيضًا ما يثير فينا أسئلة، وتساؤلات كثيرة حول هذا الخلل الذي أصاب تلك الثقافات ، وحول هذا الحوَل الذي أصاب بالتالي مثقَّفيها ، ودعاتِها، ورموزَها، وإعلامييها المروّجين لها... إلى متى سيستمر هذا الخلل؟ وإلى متى سيستمر هذا الحوَل؟ وكيف السبيل إلى الخلاص؟ وكيف السبيل إلى وضع حد لثقافة العدوان، وكفّ أيدي هؤلاء المعتدين على الناس في هذا العالم؟

    للإجابة عن هذه الأسئلة، وكثير غيرها ينبغي أن ندرك أن هنالك تحالفات معينة تقوم بين بعض الثقافات، كتلك التحالفات السياسية، أو الاقتصادية، أو العسكرية التي تنشأ بين دولتين، أو مجموعة من الدول، وهنالك أيضًا تحالفات وأحلاف ثقافية تقيمها دولة متنفّذة مع مجتمعات وشعوب بدائية ، أو مهزومة، أو تابعة لنشر ثقافة تلك الدولة في تلك المجتمعات برضاها وموافقتها، وصمت شعوبها بالتالي على ممارسات تلك الدولة في تلك المجتمعات، وسيطرتها على المرافق الحيوية لتلك الشعوب مقابل ما تقدمه تلك الدولة من معونات ومساعدات غذائية وغير غذائية لتلك الشعوب ولحكوماتها، "ولأصدقاء" تلك الدولة من أبناء تلك المجتمعات والشعوب المرتبطين بها ثقافيًّا .. واقتصاديًّا.. ثم سياسيًّا، ومصيريًّا بهدف إخضاع تلك المجتمعات والشعوب لإرادة تلك الدولة التي ربما كانت واقعة تحت تأثير قوى الضغط الكثيرة التابعة لجهة طامعة في السيطرة على تلك الدولة من خلال مصادرة قرارها عن طريق القوى الضاغطة تلك، والسيطرة بالتالي على تلك المجتمعات والشعوب بالتنسيق مع تلك الدولة تارةً، وبدون التنسيق معها، وبالخروج على التنسيق تارة أخرى!! هذه الجهة الطامعة ، أو هذه الدولة الطامعة، أو هذه الثقافة القديمة الحديثة الطامعة في السيطرة ترى من حقها أن تسيطر على سائر المجتمعات التي تسير في فلك تلك الدولة المتنفذة ثقافيًّا واقتصاديًّا، وبالتالي سياسيًّا، وذلك لسببين: أما الأول فهو لأن هذا هو التفسير التاريخي لقيام الدول، والقوى الفاعلة، ونشوء الحضارات.. فأمريكا اليوم، وقبلها كانت بريطانيا وفرنسا وغيرهما في غرب الدنيا وشرقها... وأمريكا لا تريد نهاية دراماتيكية تضع نهاية حزينة لوجودها، ونهاية أشد حزنًا لنفوذها المطلق، أو شبه المطلق في كل ديار العروبة والإسلام، وفي غيرها من الديار أيضًا، ولا سيما في إفريقيا وآسيا.. ولأن أمريكا لا تريد مثل هذه النهاية فإنها تقرر الاعتماد على هذه الجهة الطامعة .. الاعتماد على هذه الثقافة القديمة الحديثة الحالمة في السيطرة حتى على تلك الدولة نفسها... هذه الجهة الطامعة صاحبة هذه الثقافة القديمة الحديثة إذن هي – بالتنسيق والاتفاق والتراضي- وريثة تلك الدولة المتنفذة دون أن تنهار، ووريثتها في ممتلكاتها الواسعة في هذا الكون دون أن تغادرها ذليلةً صاغرة، كما كان أمر من سبقها من دول الاستعمار الثقافي الاقتصادي السياسي في تاريخ الغرب الحديث.. وأما السبب الثاني فهو لأن هذه الجهة أو الدولة أو الثقافة القديمة الحديثة ترى في نفسها خير خلف لخير سلف أو أسلاف.. فهذه الثقافة من أقدم ثقافات الكون، عاشت في الشرق، ولها من روحانيته ما جعل كثيرًا من أتباعها ينتشرون في الغرب، وغير الغرب من أقطار هذا العالم، ولها من العلاقات الوثيقة مع كثير من الدول والشعوب ما جعل منها دولة تخطب ودّها الشعوب، وتتسابق من أجل الحصول على رضاها الدول... حتى أصحاب الأرض التي أقام عليها هؤلاء كيانهم أصبح كثير منهم من أشد الناس حبًّا لهم، وإعجابًا بهم.

    قد يؤدي تداخل الثقافات، وتمازجها، وتزاوجها إلى اختراق كبير يؤدي بدوره إلى نشر هذه الثقافة المهجّنة التي ولّدتها هذه القوى والتيارات الفكرية بعد جهود مضنية، وعقود من العمل الشاق في تلك المجتمعات تمهيدًا لاحتوائها، وإخضاعها للسيطرة والمخططات بعد هذا الاختراق الثقافي الذي أدى (فيما أدى إليه من نتائج ) إلى وقوع تلك المجتمعات الضعيفة المفككة في قبضة هذه القوة التي أذهلت بعض خصوم الأمس بسحر ثقافتها حتى تمكنت من التسلل بخفة ولباقة إلى نفوسهم وعقولهم، ليتم لها من خلالهم هذا النصر على أمة وقفت في وجه أطماعهم شامخة عملاقة منذ فجر الثقافات ، وظهور الرسالات والديانات.

    ليس غريبًا أن تُهزم ثقافة، وأن تنتصر ثقافة، وأن تنشأ تحالفات بين بعض الثقافات، وأن تقوم حروب بين بعضها الآخر.. فهذا أمر معروف منذ أزمان بعيدة.. وليس غريبًا كذلك أن تُستهدف أمة عريقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ كل هذا الاستهداف.. ولكن الغريب أن ينحدر بعض أبناء الأمة المستهدَفة كل هذا الانحدار الذي جعلهم يقفون على رأس المعسكر المعادي لأمتهم وشعوبهم ومجتمعاتهم.. وغريب أيضًا أن يغلّف هؤلاء تبعيّتهم وانقيادهم بأسباب مضحكة مبكية منها مصلحة الأمة، ودورات التاريخ في تشابهها من عصر إلى عصر... في الوقت الذي يعلم فيه الناس علم اليقين أن أحدًا من القادة التاريخيين الذين يحتج بهم المحتجون اليوم لم يتحرك لحظةً من منطلق التبعيّة والانبهار المحزن بثقافة الآخر، والإعجاب الشديد بنمط معيشته، وتحلله، وانحلاله، وانقياده للشهوات.

    وليس غريبًا أيضًا أن نجد كثيرًا من أبناء هذه الشعوب والمجتمعات يرفضون الهزيمة، وفقه الخضوع ، والانقياد لمشاريع المنتصرين ، ويرفضون التسليم بكل نتائج الانبهار والإعجاب بثقافات الأقوياء ومشاريعهم... كثير من أبناء الشعوب التي يصفونها بالمهزومة يتمردون على الهزيمة، وينتصرون .. ينتصرون على جند تلك الدولة المتنفّذة.. العراقيون الذين لم يستسلموا للغزاة يقاومون، وينتصرون ، ويُقتلون، ويَقتلون... ثقافة العدوان قد تكون اليوم في طريقها إلى الهزيمة لأسباب منها صحوة هذه الثقافة العربية الإسلامية، وصحوة كثير من بناء أمة العروبة والإسلام في سائر أقطارهم وأمصارهم، وإصرارهم على التصدي، وقبول التحدي.. إنه تحول واضح في مسيرة هذه الأمة التي عادت إلى ينابيع ثقافتها الأولى التي جعلت منها خير أمة.. هذه العودة دليل تحوّل حقيقي يحمل في طياته بشائر الفجر الجديد التي تلوح في الآفاق من حولنا.

    هنالك في الغرب اليوم مثقفون، ومفكرون، وعلماء، وسياسيون يبدون إعجابهم الشديد بثقافة الإسلام، بعد أن أدركوا من خلال تجاربهم، وانحلال مجتمعاتهم أن ثقافتهم هذه التي يفخر الغريبون بها ويفاخرون، ويحاولون نشرها، وتعميمها في هذا الكون ما هي إلا ثقافة مدمرة، دمرت الغربيين أنفسهم بما نشرته بينهم من جرائم، ورذائل، وأمراض، واضطرابات خلقية، ومسلكية.. ودمرت غير الغربيين بحروبها، وغزوها، واحتلالاتها المتعاقبة لبلادهم على مر التاريخ... الغربيون أفسدتهم ثقافتهم، وغير الغربيين دمرت بلادَهم هذه الثقافة في وقائع وشواهد محفوظة في كتب التاريخ، وذاكرة الأجيال.. ولا تزال قائمة ماثلة للعيان في كثير من بلاد العرب.. وما يزال أتباع تلك الثقافة يهددون ويتوعدون باجتياح بلدان أخرى في هذه المنطقة التي أسموها في الماضي الشرق الأوسط، ويسمونها اليوم الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، ونسميها نحن العالم الإسلامي ، أو ديار العروبة والإسلام.

    وهنالك في الغرب أيضًا مواطنون عاديون يدفعهم الإعجاب بثقافة الإسلام، وعدله، وعدالته، وتسامحه إلى اعتناق هذا الدين، حتى أصبح من أسلموا من أهل تلك البلاد قوة لا يُستهان بها في بعض تلك الأقطار... ولعلّ هذه البشائر ، والظواهر، والتحولات التي نشاهدها في الغرب، وفي ديار العروبة والإسلام، مضافًا إليها هذا الوعي، وهذه اليقظة التي بات معها كثير من العرب، وكثير من المسلمين يفتحون أعينهم على حقيقة ثقافتهم ، وسموّها، وتميّزها.. فيزداد تمسكهم بها، وإقبالهم عليها، والتزامهم بهديها، وتقيّدهم بمفاهيمها.. ويضاف إلى هذا وذاك كل ما في هذا الكون من أحرار وحرائر ممن يؤمنون بالقيم السامية، والمثل العليا، وممن يؤمنون بمبادئ الحق، والخير، والجمال، وحق الشعوب في التحرر، وتقرير المصير.. لعلّ كل هذا وكثيرًا غيره هو السبيل لإصلاح الخلل الذي أصاب كثيرًا من الثقافات .. وإصلاح الحوَل الذي أصاب كثيرًا من المثقفين في هذا الزمان.. ولعله السبيل إلى الخلاص، والسبيل إلى وضع حد لثقافة العدوان، وكفّ أيدي هؤلاء المعتدين على الناس في هذا الكون.. ولعلّه الرد على هذا التحالف الذي يستهدف كل ديار العرب، وكل بلاد المسلمين وصولاً إلى ثقافة موزونة متوازنة قوية فاعلة في التاريخ، تُحق الحق، وتُزهق الباطل، وتُخرج البشرية من الظلمات إلى النور، تمتلك أسباب القوة، وتُعيد أمجاد هذه الأمة من جديد.

4/1/2011

 


ليست هناك تعليقات: