في اليوم العالمي لإلغاء الاعتقال الإداري
أ.عدنان السمان
الشرائع والقوانين والأنظمة والتشريعات واللوائح والدساتير جميعها في هذا الكون تنصُّ صراحةً على حق الإنسان في العيش، وعلى حقه في الحرية، والعمل، والتفكير، والتعبير، والمعتقد، والمذهب السياسي، والديني والاجتماعي، وعلى حقه المقدس في التنقل، والحركة، وممارسة كافة أشكال حياته اليومية، دون أن يكون لأحد الحق في منعه من ممارسة أي من هذه الحقوق، أو الانتقاص منها، أو تقييدها.. ودون أن يكون لأحد أدنى حق في التعرض لهذا الإنسان بهدف الحد من أي حق من حقوقه التي نصت عليها كل هذه الشرائع والتشريعات والقوانين والأنظمة واللوائح والأعراف.. ودون أن يكون لأحد كائنًا من كان أدنى حق في اعتقاله، أو تعذيبه، أو التضييق عليه، أو مساومته، أو تحذيره وإغرائه، وترهيبه وترغيبه، بهدف ثنيه عن ممارسة أي حق من هذه الحقوق، وعلى رأسها جميعًا حقه في التفكير والتعبير واعتناق المذهب السياسي الذي يؤمن به فكرًا وممارسة.
لقد تسابقت هذه الشرائع والتشريعات في تمجيد الإنسان، والتأكيد على احترام كافة حقوقه.. ولقد تنافست فيما بينها على إبراز قيمة الإنسان، والتغني بها.. مسبغةً عليه من نعوتها وصفاتها وخيالها وأخيلتها وصورها وتشبيهاتها واستعاراتها وكناياتها في أدبياتها ما يرتقي به إلى مستوى الأسطورة، ويقترب به إلى أعالي القمم والمرتفعات ليلامس حدود الخرافة، وألق المبادئ والمعتقدات.. وتألّق التاريخ، وحرارة الحروب، وتوهّج الفتوحات والانتصارات!!
وما أكثرَ غرائب هذا الكون! وما اشدَّ تناقضاتِه أيضًا! فهذا هو الإنسان في حال الرضى.. هذا هو الإنسان ملاكًا طاهرًا، وأسدًا كاسرًا، وسيفًا من سيوف الله هو الغالب دائمًا.. وهو نفسه الشيطان الرجيم، والعدو اللدود المبين عندما نكره، وعندما يَنقلب الشيء إلى ضده؛ فَمَن قال فيك من الخير ما ليس فيك إذا رضي قال فيك من الشر ما ليس فيك إذا غضب!! ليس هذا فحسب، بل إن الأمور تنقلب بين عشية وضحاها إلى أضدادها؛ فما كان على رؤوس الأشهاد، وفوق الأكتاف والأعناق أصبح موطئًا للأقدام.. وما كان قمة القمم، وغاية الجود والكرم أصبح على النقيض من ذلك.. ولله في خلقه شؤون!!
وإذا كان الإنسان في مجتمعه، وبين أهله وصحبه وعشيرته عرضةً لكل هذه التغيّرات.. وإذا كان هذا الإنسان محفوفًا بكل هذه المفاجآت والمتغيرات.. محاصَرًا بكل هذه التناقضات والمتناقضات في الأسرة الواحدة، أو الحي، أو القرية، أو المدينة في الأحوال العادية، أو شبه العادية؛ فإنه في الأحوال الاستثنائية الطارئة، وغير العادية سيواجه أحوالاً تختلف، وسيخضع لحسابات واعتبارات وأمزجة من نوع آخر مختلف.
وإذا كان الغموض في الأحوال العادية مدعاة للتساهل أو التسامح في بعض الأحيان، ومدعاة للتجاهل والإهمال والعقاب السلبي في بعضها الآخر؛ فإن هذا الغموض قد يؤدي بصاحبه إلى سلسلة من العقوبات والعقبات التي قد تجر عليه ألوانًا من العنَت، وألوانًا من العقاب، وألوانًا من الحروب ما أنزل الله بها من سلطان!!
في الأحوال الاستثنائية الطارئة غير العادية، وفي مواجهة القوم الآخرين ليس من حق الإنسان أن يكون غامضًا، وليس من حقه أن يكتم أحلامه، وأن يجعل من صدره مقبرة لأمنياته وأسراره وآلامه وآماله!! فهؤلاء الآخرون يريدون أن يعرفوا كل شيء!! فتُبدأ التحريات والاستفسارات والاستجوابات.. وتكون التحذيرات والإنذارات والتهديدات والإملاءات.. ويكون التحييد.. أو الاحتواء.. وقد يكون الصِّدام فيكون العقاب بواحدة من العقوبتين، أو بكليهما!!
بعد ذلك تكون المتابعات والمداهمات، وتكون الملاحقات والتوجُّسات؛ فهؤلاء الآخرون يختلفون عن غيرهم في كثير من المزايا والخصال والصفات والمواصفات والخصائص، وعلى رأس هذه الخصائص والمزايا انعدام الهامش تمامًا إلى حد التلاشي الكامل في كل المسائل الأمنيّة، وفي كل ما يمتّ بأدنى صلة للأمن؛ فمزاجهم العام، والمزاج الخاص لكل منهم لا يطيق صبرًا على أدنى شك أمنيّ.. وعليه فإن الاستمرار في الغموض، والتمادي في التكتم والتقوقع والصدود سبب كاف عند هؤلاء للتحفظ على هذا الإنسان، والاحتفاظ به لديهم دون اتهام، وهذا ما يسمى بالاعتقال الإداري!!
لسان حالهم يقول: لا أدلة لدينا لمحاكمتك.. ولا نستطيع إخلاء سبيلك، فنحن متخوّفون منك، ونشك في نواياك تجاهنا!! فلنحتفظ بك رهينةً في أيدينا لنأمن جانبك.. ولسان حاله يقول: لم أفعل شيئًا، وليس عندي ما أقوله!! صحيحٌ أنني لا أحب رؤيتكم، ولكنني لم أفعل شيئًا ضدكم.. والإنسان بريء حتى تثبت "إدانته".. فلماذا تعاقبونني وأنا بريء؟؟ ولماذا تطبّقون علي قوانين الطوارئ الانتدابية الصادرة في فلسطين قبل أربعة وستين عامًا، وأنا طفل سأبلغ الثامنة عشرة بعد ثلاثة أعوام؟؟ لماذا تحاكمونني بموجب قانون أصدره البريطانيون في بلادي قبل أن يولد جدي؟؟
لماذا تحتجزونني لديكم بدون سبب، وأنتم تدّعون العدل والعدالة وسيادة القانون، وأنا طفل لم أحرّك ساكنًا ضدكم؟ إن كنتم لا ترغبون في رؤيتي هنا على أرضي، فأنا لا أرغب في رؤيتكم على هذه الأرض؛ فارحلوا عنها.. إن المجتمع الدولي، ومعه كثير من مفكريكم وقادتكم السياسيين أيضًا يطالبونكم بإخلاء كل هذه الأراضي العربية المحتلة، ويطالبونكم بإخلاء سبيل كل هؤلاء المعتقلين والمحكومين، ويطالبونكم بتنفيذ القرار (194) القاضي بعودة اللاجئين والمهجَّرين الفلسطينيين إلى ديارهم، ويطالبونكم أيضًا بتنفيذ القرار (181) الذي أقيمت بموجبه دولتكم هذه التي احتلت الجزء المخصص للدولة العربية بموجب هذا القرار!!
لماذا تحتجزون كل هذه الآلاف بموجب أوامر إدارية لا سند لها من قانون؟ ولماذا تعتقلون كل أسرى الحرية هؤلاء لا لشيء إلا لأنهم يريدون الحرية لشعبهم ولأرضهم المحتلة؟؟ إن كنتم تؤمنون بالسلام العادل الدائم الشريف المتكافئ المقنع الذي لا غالب فيه ولا مغلوب، ولا يؤسس إلا لسلام شامل، وازدهار، ورفاء، وتقدم، واستقرار في هذه المنطقة من العالم فعليكم أن تضعوا حدًّا لأوهامكم وأحلامكم.. عليكم أن تخرجوا في الحال من كافة الأراضي العربية التي احتلها جيشكم بقوة السلاح في صبيحة الخامس من حزيران من عام سبعة وستين .. وعليكم أن تخرجوا من الأرض العربية التي احتلها مقاتلوكم في العام ثمانية وأربعين وهي التي كانت مخصصة للدولة العربية في فلسطين بموجب القرار (181) والبالغة مساحتها أكثر من 14% من مساحة فلسطين التاريخية، وبهذا وضعتم أيديكم على ما مساحته (78%) قبل ان تضعوها على ما تبقى من أرض فلسطين عام سبعة وستين.. وعليكم أيضًا أن توافقوا على وضع القرار (194) موضع التنفيذ.. عندئذ لن تكون هنالك مشكلات أو عقبات، ولن تكون هنالك حروب وعداوات.. ولن يكون هنالك خصام ومشاحنات.. وعندئذ لن يكون هنالك سوى العدل والعدالة والمحبة والتسامح والإخاء والبناء والإعمار والتقدم والازدهار... وثقوا أن كل هذا ممكن، وممكن جدًّا.. وثقوا أيضًا أن تحويل هذه الديار إلى جنة من جنان الله على الأرض أكثر من ممكن بين عشية وضحاها!!
في اليوم العالميّ لإلغاء الاعتقال الإداريّ نقول: إنه الخطوة الأولى لتحقيق الأمن والأمان لهذا الشعب.. وهو الخطوة الأولى لإلغاء الاعتقال السياسيّ أيضًا.. وهو الخطوة الأولى لبناء مجتمع المحبة والتسامح والوئام بعيدًا عن المعتقلات، ومراكز التوقيف والتحقيق.. وهو المقدمة الأولى لإرساء دعائم دولة القانون والعدل والعدالة والمؤسسات في هذه الديار.
وفي هذا اليوم الخميس الثالث والعشرين من شهر كانون الأول نهيب بالمجتمع الدولي، وبكل القوى التقدمية، وبكل الهيئات والجمعيات والتجمعات المحبة للعدل والحرية، وبكل الشخصيات المؤمنة بالسلام العادل أن تعمل من أجل إلغاء الاعتقال الإداري وصمة العار التي لطّخت جبين البشرية في هذا العصر الحديث!!
(23/12/2010)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق