عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الأربعاء، ٥ أيار ٢٠١٠

علي خليل حمد... وقراءةٌ سريعة في مسيرته الشِّعرية.

أ. عدنان السمان

www.samman.co.nr

 

 

     علي خليل حمد هذا الشاعر الناثر. والمثقف العربي الفلسطيني، والمفكر الذي عُرف بسعة أفقه، وميله إلى الصمت والهدوء والتأمل، والتعلق بالمطالعة، وحب العلم والمعرفة، وسعة الاطلاع، وإتقان كثير من اللغات.. رجلٌ عرفته المدرسة الرشيدية في القدس، والمدرسة الصلاحية في نابلس معلِّمًا متميزًا لمادة الرياضيات منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي، ثم عرفه مكتب التربية والتعليم في نابلس منذ عام (1981) موجِّهًا للرياضيات في مدارس المحافظة، وبقي كذلك إلى أن أحيل إلى التقاعد في آخر سنيّ القرن الماضي.

    لم أكن لأكتب عن علي خليل بهذا الشكل التقليدي لولا ما تقتضيه ضرورات التوثيق، وحقوق التقديم إلى هذه الأجيال المتعاقبة على هذا الوطن العربي الكبير بمواطنيه، الكبير بمثقفيه الذين تزداد أعدادهم في كل يوم.. ولولا ما تقتضيه حقوق علي خليل عليَّ صديقًا، ورفيق درب، وعَلمًا من أعلام هذه الديار البارزين.

    وُلد علي في بلدة عاقر إلى الجنوب الغربي من مدينة الرملة بفلسطين في العام التاسع والثلاثين من القرن الماضي، حيث كان والده يعمل أحيانًا في الزراعة هناك، وعاش طفولته في قرية والديه" كَفر نعمة" الواقعة إلى الغرب من رام الله، وفي مدرستها الابتدائية أنهى الصف السادس، ثم تابع دراسته في مدرسة صفا المجاورة، ومنها انتقل إلى المدرسة الهاشمية بالبيرة، وفيها تخرج عام سبعة وخمسين وتسعمائة وألف، وتقدم لامتحان شهادة الدراسة الثانوية الأردنية ( المترك) في العام نفسه، وكان ترتيبه الثاني بين المتقدمين من الضفتين في ذلك الامتحان.

    من أبرز ما يذكره علي خليل من طفولته تلك، ذلك البؤس المادي، والفقر الشديد، وتلك الأحوال الصحية بالغة السوء التي ألمت به في السنتين الأخيرتين من المرحلة الثانوية.. إنه لا يعرف يقينًا سرَّ تفوقه في

( المترك) رغم كل الظروف السيئة التي أحاطت به في تلك المرحلة من حياته، وإن كان يجد بعض التفسير لذلك في الرصيد المعرفي الذي كان قد اختزنه في مرحلة سابقة، أو في الخطة الدراسية التي اتّبعها في سنة التخرج والعطلة الصيفية السابقة لها، أو في استخدامه الشعر لتسهيل حفظ بعض التعاريف، وخصائص الأشياء، وما إليهما مما يتوقع أن يكون موضع سؤال في ذلك الامتحان.

    درس علي بعد حصوله على (المترك) التوجيهي المصري في كلية النجاح بنابلس، عندما حصل على بعثة من وزارة التربية والتعليم الأردنية، لدراسة الفيزياء في جامعة القاهرة، فكان لا بد من الحصول على التوجيهي المصري، وهكذا كان.

    في القاهرة تبيّن لعلي أن علاقته بالمجردات أقوى من علاقته بالمحسوسات، فكان تحوله السريع في كلية العلوم بجامعة القاهرة من قسم الفيزياء إلى قسم الرياضيات، وفي القاهرة تردد عليٌّ على أمهر الأطباء المتخصصين للعلاج، ولكن التحسن كان بطيئًا، ولم يَزُل المرض إلا بعد سنوات طوال من تخرجه في الجامعة.. وفي القاهرة أيضًا كان وضعه المالي صعبًا، فقد كانت بعض نفقات البعثة الشهرية تذهب للإنفاق على عائلته في فلسطين، وما كان يتبقّى منها لم يكن يصل إليه بانتظام.. وفي القاهرة كذلك لم يكن علي خليل سعيدًا بتلك التقلبات السياسية، والصراعات الحزبية الدموية التي تهز الوطن العربي، وكان يرى أن تلك الصراعات لا تفيد إلا أعداء العرب.

    بعد تخرجه، وحصوله على درجة البكالوريوس في الرياضيات بامتياز عُيّن معلمًا للرياضيات في المدرسة الرشيدية بالقدس عام (1963) ومنها نقل إلى المدرسة الصلاحية في نابلس، حيث بقي مدرّسًا للرياضيات فيها حتى عام (1980) عندما عُين موجهًا للرياضيات في مديرية التربية والتعليم بنابلس. وفي عام (1964) نشر مجموعته الشعرية الأولى "عالمان في الديوان" كما، كان ينشر بعض قصائده في تلك الفترة في صحيفتي "الدفاع" و"الجهاد".

    لقد تركت نكسة حزيران جرحًا بليغًا في نفس علي، لعله لم يتعافَ منه حتى الآن، ولم يعد ذلك إلى أنه فوجئ بالهزيمة نفسها، بل لردة الفعل السلبية الغريبة للمهزومين... وفي مقابل البؤس الجماعي الذي لفّ كل شيء بالسواد، فقد شهدت حياة علي خليل الخاصة تغيرات إيجابية أبدلته بعد عسرٍ يسرًا، ومكّنته من بناء أسرة سعيدة اختفى مع مقدمها المرض الذي كان يؤرقه منذ زمن بعيد.

    لقد احترف علي خليل الترجمة في أواخر السبعينيات مع صدور جريدة "الفجر" منذ عددها الأول، حيث كان يترجم فيها مقالات سياسية وثقافية من الإنجليزية والفرنسية، وفي إطار عملية الترجمة هذه قام بترجمة عدد من الكتب نُشرت في هيئة مسلسلات في جريدة الفجر. وهي : الجذور، والموساد الإسرائيلي، واقتصاد الضفة والقطاع: مكاسب وأعباء.

    بعد تعيينه مشرفًا للرياضيات في مديرية التربية والتعليم بنابلس، كان أكثر ما شغله في هذه الوظيفة إدخال الحاسوب في المدارس، وقد قام أولاً بحوسبة قسم الإشراف التربوي في مديرية التربية، وكذلك بحوسبة جزئية في بعض مدارس المدينة (مدرسة ابن الهيثم) وبعد إنشاء مختبرات للحاسوب في بعض مدن الضفة قام بدور رئيس في تفعيل هذه المختبرات، وبخاصة عندما ألّف كتابًا مقررًا للصف العاشر الأساسي بعنوان "مقدمة في الحاسوب" بالتعاون مع الزميلين الدكتور الشهيد خالد صلاح، والدكتور عبد الرزاق طوقان من جامعة النجاح؛وهو الكتاب الذي أصبح مقررًا اختياريًّا لطلبة الصف العاشر في مدارس الضفة في عام (1993) كما قام بإعداد برامج مختلفة منها: حوسبة العروض العربي، وبرمجة الإحصاء التحليلي التي استفاد منها طلبة الماجستير في جامعات الضفة، وبرامج أخرى متنوعة.

    كما تمكن علي من تحقيق هدف كان قد أجّل محاولة بلوغه سنوات طوالاً، وهو الترجمة الكاملة لسونيتات شكسبير، وعددها (154) سونيتة؛ وهو وإن كان قد ترجم بعضها في صباه، إلا أنه في العام (1994) أعاد ترجمتها وفقًا للمنظور الجديد الذي اقتنع بصحته حول مناسبة تأليف شكسبير لها، وخلاصته أنه لم يكن يتحدث فيها-أو في معظمها- عن جمال المرأة وجاذبيتها، بل عن جمال صديقه وحبيبه الأمير الذي أراد من كتابة تلك السونيتات حثّه على الزواج لاستدامة جماله وجاذبيته في عقبه من بعده.

    وكما حوّل علي في كلية العلوم بجامعة القاهرة من قسم الفيزياء إلى قسم الرياضيات، فقد حوّل من الترجمة ( رغم حبه الشديد لها، ورغبته القوية في أن يكون مترجمًا، ورغم ممارسات كثيرة ناجحة في هذا المجال) إلى التأليف، ومنذ البدء اختار علي خليل أن يكون هذا التأليف بالاشتراك؛ فصدر الكتاب الأول منه بالاشتراك مع الأستاذ المرحوم بشير خنفر، وهو:" دراسات في علم الفلك المعاصر" في عام 1980، كما صدر له بالاشتراك مع الدكتور محمد سليم اشتيّة عدد من المؤلفات في علم البيئة وعلم الإحصاء(6) : حماية البيئة الفلسطينية، ومبادئ علم الإحصاء، وشجرة التين. ومع الدكتور محمد جواد النوري عدة كتب في اللغويات(6) : دراسات في المكتبة العربية، وفصول في علم الأصوات، ودراسة في المعاجم العربية. ومع الدكتورة إلهام أبو غزالة وروبرت ديبوغراند وولفغانغ دريسلر في اللغويات كتاب " مدخل إلى علم لغة النص". ومع الدكتور الشهيد خالد صلاح والدكتور عبد الرزاق طوقان عدة كتب في الحاسوب والبرمجة(6) : مقدمة في الحاسوب، والبرمجة بلغة باسكال. ومع الأستاذ محمد عالية كتابان بعنوان "أتعلم الرياضيات". ومع الأستاذ عبد العزيز جودة كتابان بعنوان "I Learn English". ومع الدكتور عبد عسّاف كتاب " حكايات شعبية فلسطينية للأطفال". كما ألف في هذه الفترة كتبًا تعليمية لرياض الأطفال(5) منها كتابان بعنوان " أتعلم العربية".

    كان علي قد انضم إلى فريق إعداد المناهج الفلسطينية ( قبل تقاعده في عام 1999) واشترك مع الدكتور عزيز دويك، والدكتور وائل قعدان، والأستاذ توفيق الطاهر في تأليف الكتاب الذي كان باكورة عمل مركز المناهج وهو " التربية السكانية في فلسطين: الكتاب المرجعي "عام 2000". وبين عامي 2000 و2006 اشترك في تأليف مقررات الرياضيات للصفوف (1-5) الأساسية، وللتوجيهي العلمي، وأدلة المعلم في الرياضيات للصفين (6،4)، ومقررات اللغة العربية للصفين (9،7) ومقرر تعليم الكبار، وهو كتاب " مع الحياة" .

    عمل علي خليل في عام (2003) في " مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان" وألّف ( بالاشتراك) عددًا من الكتب في مجال حقوق الإنسان ومنها:" حقوق الإنسان في مناهج التعليم الديني العالي في فلسطين" ( محررًا مع الدكتور إياد البرغوثي) " في التعليم الديني العالي وحقوق الإنسان" ( بالاشتراك مع الدكتور ناصر الشاعر والأستاذ إياد دويكات). ألف -منفردًا- في عام (2007) كتاب" التسامح في فكر إدوارد سعيد" وهو من إصدار مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، وفي عام (2008) ألف- بالاشتراك- كتاب " الدليل المرجعي في التربية البيئية" وهو من تحرير الأستاذ جورج كرزم، وإصدار المركز التنموي للبيئة" معًا". وهو الآن عضو في هيئة تحرير مجلة " تسامح" الفصلية التي يصدرها "مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان"، ويكتب فيها موضوعات ثقافية وتربوية ذات صلة بحقوق الإنسان، كما أنه يهتم بكتابة مقالات تربوية في نشرة" تعليم حر" التي يصدرها المركز أيضًا. ولعلي خليل كتابات فكرية متنوعة في المجلات المحلية مثل:" رؤى تربوية" التي يصدرها مركز القطان، وآفاق البيئة والتنمية ( مجلة إلكترونية) التي يصدرها "معًا"، والطريق، وغيرها .

    وأحدث ما كتب من الأشعار المجموعة التي عنوانها:" الشعراء يغنون لحقوق الإنسان" (2004)، والمجموعة الشعرية التي عنوانها:"أرجاز في حقوق الإنسان" (2003) وسأعرض لهما عند الحديث عن المسيرة الشعرية عند علي خليل.

    هذا تعريف سريع بعلي خليل حمد، وإشارة عجلى إلى شيء من سيرته الذاتية، وإنجازاته على صعيد الترجمة والتأليف والفكر الإبداعي الخلاق، هذا هو علي خليل حمد كما عرفته، وكما عرفه غيري من أهل هذه الديار، وغيرها من ديار العروبة.. هذا هو علي خليل كما عرف نفسه، وكما عرّف بها، فكان نعمَ المعرِّف. وكان أقدر العارفين بها، وقديمًا قال سقراط: " اعرف نفسك".

    وكما استعرضتُ بعض جوانب هذه الشخصية الثرّية المتفرّدة المبدعة على عجل، فإنه ينبغي من باب الوفاء لهذا المفكر العربي الفلسطيني، والشاعر الأصيل الملهم، ومن باب الوفاء لهذه الأجيال المتعاقبة على أرض هذا الوطن، وفي كل أوطان العروبة من المحيط إلى الخليج ومن باب الوفاء لثقافتنا العربية الفلسطينية في هذه الديار أن أستعرض – على عجل- أيضًا هذه المسيرة الشعرية عند علي خليل الشاعر.

 

     قال علي خليل الشعر مذ كان تلميذًا في المرحلة الابتدائية، ولا عجب في ذلك، فالشعراء الموهوبون دائمًا كذلك، ولأنه في تلك المرحلة المبكرة من حياته كان تلميذًا متميزًا لفت انتباه أقرانه ومعلميه على السواء، فقد قدم له أحد معلميه في المدرسة كتابًا في العَروض، فقرأه علي، واستوعبه، وساعده ذلك ( إلى جانب الكتب الكثيرة ودواوين الشعر القديم التي قرأها في تلك المرحلة من حياته ) في كتابة شعر جيد فيه كثير من جزالة الشعر القديم وقوته، وهو بعد طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، بل إنه كان آنذاك يرتجل البيت والبيتين من الشعر الموزون المقفّى مجاريًا في ذلك كبار الشعراء، ومن ذلك قوله في الثورة على القديم، والتمرد عليه:

      يحبون القديم على جــديدٍ      وبعضهمو يقولُ: هو الجديدُ

     أعِلمٌ في الأوائل ليس يدري       به في عصرنا رجلٌ رشيدُ؟!

     أم الآباءُ والأجـــدادُ هذا       وجدناهم عليه فما نحـــيدُ؟

     عقولٌ في الجهالة راسخاتٌ       تميدُ الراسياتُ ولا تمــيدُ!!

    على أن المرض الذي أدمى فؤاد عليٍّ وهزّ كيانه في نهاية هذه الفترة من حياته قد انعكس في كثير من شعر هذه المرحلة، ومنه قوله:

                    إذا أيقنتْ نفسي بإطفاء نورها/ ورفَّتْ رفيفَ الأقحوان حياتي

                    وأقبل عُوّادي معًا وتهامسوا/ بضعْفِ حصاتي أو بلين قناتي

                    وغُيّبتِ الدنيا فلم أرَ موضعًا/ وغُيِّبتُ عن نفسي فلم أرَ ذاتي

                     ومرِّت ملايينُ السنين فما أنا/إذن غيرُ ليلٍ زادَ في الظلماتِ

                   سأطلب حقي في الوجود ورائدي/فؤادٌ بعيدُ القصدِ والرَغباتِ

                   ولن تقفَ الآلام دون مسالكي/وإن بَقيتْ فالويلُ للعَقـــباتِ

                    فقلْ للزمان المرِّ يا صاح إننا/ أبَينا سوى أن نقحمَ الغمراتِ

                  سينتصرُ العِلمُ الرفيعُ وينقضي/ من الجهل ما ذقناه من حَسَراتِ

                  وتخفقُ أعلامُ الأماني على الدنى/ويهفو الوجودُ الحرُّ بالنفحاتِ!

    أي طفلٍ هذا الذي يتخيل الموت وقد جاء يسلبه الروح؟وأي طفلٍ هذا الذي يرى"عوّاده"وقد أيقنوا أنه لا محالة موّدعٌ بين عشية وضحاها؟ وأي طفل هذا الذي يتحدث عن الموت والقبر وملايين السنين من الظلمات المتراكم بعضها فوق بعض ؟بل أي طفل هذا الذي ينتصب بعد هذه المقدمة المغرقة في التشاؤم شامخًا عملاقًا يطالبُ بحقه في الوجود والحياة متحديًا الآلام والعقبات والزمان، مؤكدًا على حتمية انتصار الحياة والحب والأماني العذبة؟.. بل أي طفلٍ هذا الذي يتشبه بكبار شعراء العربية المعاصرين، ويباريهم في أساليبهم ومفرداتهم وتشبيهاتهم؟ ليس هذا فحسب، بل إن هذا الطفل الذي أقسم أن ينتصر العلم، وأن يُهزم الجهلُ والبؤس والألم هو علي خليل حمد الذي ساهمت أشعاره ومؤلفاته وأفكاره بعد عقود من صرخات ذلك الطفل وتحدياته في تحقيق الحلم على الصعيد الشخصي، وعلى الصعيد الجماعي لكثير من أبناء هذا الوطن الذين ناضلوا، ولا زالوا يناضلون من أجل وضع هذه الأهداف السامية موضع التنفيذ.. لقد انتصر ذلك الطفل، وكان له ما أراد بفعل العزيمة والتحدي والإصرار.

    أما أوراق تلك المرحلة من حياته، فقد وضع نهايتها والده الذي سارع إلى إخفائها في مكان بعيد عندما داهمت المخابرات بعض المنازل في القرية... ولكنّ تلك الأوراق والدفاتر – كما يقول علي- بقيت في مخبئها إلى الأبد!!

   ويقول علي إنه لم يحزن كثيرًا لما حدث، فقد كان يحفظ معظم ما فيها من أشعار، أما الآن فلم يبق منها إلا أقل القليل مما يمكن أن يُسمى" حطام التماثيل".

    في جامعة القاهرة لم يكتب علي من الشعر سوى بعض قصائد التسلية في الرياضيات، وبعض القصائد الاجتماعية والوجدانية، وذلك بسبب ابتعاده عن الحياة العامة هناك.. أما في الإجازات والعطل الصيفية التي كان يقضيها في "كَفر نعمة" فقد كان يكتب ما يريد بعيدًا عن أدنى شعور بالحرج.

    من قصيدة كتبها في الرياضيات ( على غرار ألفية ابن مالك في النحو):

                 أوّل ما نبدأ بالتفاضــلِ/ ثم يليه جدول التــــكاملِ

                 مشتقّة الجيب جتا وتعكسُ/سالبةً والجاز لا يلـــتبسُ

                 وزعموا مربّع الـقا والقتا/ سالبةً في الأصل ظلاًّ وظتا.

    ومن القصائد الاجتماعية القصيدة التي مطلعها:

              هاتي سجائركِ البلمونت واسقيني / وهل تروقُ حياةٌ دون تدخينِ؟

    ولقد أعاد الشاعر كتابة هذه القصيدة فيما بعد ضمن مجموعة معارضاته، لتصبح قصيدة وطنية هادفة، ومطلعها:

             شُربُ السجايرِ من حينٍ إلى حينِ/ فيه العزاءُ لأقوامٍ مســـــاكينِ

    وفيها يقول:

             العلــمُ في أرضنا بؤسٌ وبهـدلةٌ/ هل ينفع العلمُ في دنيا المـجانينِ؟

             الشيخ(جربوعُ) لم يسمع بــه أبدًا/ ولا أصاخَ إلى هــذي الدواوينِ

             فأيّ عيش قــــضاه غير بحبحةٍ/ وعيشةٍ دونـــها ليلاتُ هرونِ

             ما أحسن الجهلَ إن كانت ترافــقه/ من الجنيهاتِ بضعٌ من مــلايينِ

            كي نقطعَ العيشَ في نومٍ وفي دَعَــةٍ/ مع الحسانِ كصوفيا بنت لورينِ

            هذي المعيشةُ لا أستاذ مدرسةٍ/ يدوّخ الصفّ في صادٍ وفي سينِ!!

    وعلى غرار قصيدة إبراهيم طوقان في معارضته قصيدة شوقي:"قم للمعلم" كتب علي خليل في ذم الرياضيات:

             قم للطبيعة وفّها التبجـــــيلا/ وارمِ الرياضة إن عدلتَ النـــيلا

             أرأيت أبأس أو أجنَّ من الــذي/ يقضي الحياةَ مسائلاً وحلـــولا؟

             الناسُ صاروا في النجوم ولم نَزَلْ/ نهذي بهندسة القرون الأولـــى

             أصل الرياضة ذلــــّة ومهانةٌ/ تعمي العيون وتورثُ التســطيلا

             نسجت على نول الخيال فأصبحت/ دون الحقائق حـاجزًا مســدولا

             كلية الهــــــمّ التي عشنا بها/ زنزانة للنابهـــين عقـــولا

             فإذا انتهيت من الدراسة يا أخــي/ وخرجـــت منها لاأشك عليلا

             فالعن أباها كل يومٍ مـــــــرةً/ واصفع قـفاها بكرةً وأصـيلا.

 

 

   

 

 

     إن قصائد هذه الفترة التي شغل علي خليل نفسه بها في  أثناء دراسته في القاهرة قد تحولت بعد التخرج

( والعمل معلمًا في المدرسة الرشيدية في القدس، ثم في المدرسة الصلاحية في نابلس) إلى نهج رضي عنه الشاعر كل الرضى، أعني بذلك شعر المعارضات الذي سأعود للحديث عنه بعد توقف عند ديوان الشاعر "عالمان في الديوان" الذي أصدره في العام الرابع والستين من القرن الماضي... على أنه لا بد من الإشارة السريعة قبل ذلك إلى أن شاعرنا قد أتم في هذه الفترة أيضًا ترجمة خرافات إيسوب عن الإنجيلزية، وهي حكايات على ألسنة الحيوانات عددها(110) حكايات، على غرار الحكايات التي نظمها شوقي على ألسنة الحيوان، ومنها على سبيل المثال حكاية (القمر وأمه):

                مضى القمرُ الوضّاحُ يومًا لأمه/ وقــال اصنعي ثوبًا يلائمني قَدْرا

                فقالت له:أنّى، وفي كل ليــلةٍ/ أرى لك شكلاً ليس كالليلة الأُخرى

                هلالاً بإحداها، وبدرًا بغــيرها/وتبدو بأخــرى لا هلالاً ولا بدرا

                ومن رام أن يرضي امرءًا متقلِّبًا/ فقد كلّـف النفسَ المشقةَ والعسرا

    لقد أصدر علي خليل ديوانه"عالمان في الديوان" عام 1964، ولقد ضم هذا الديوان مجموعتين من القصائد: قصائد وطنية في مجملها نشر الشاعر بعضها في صحيفتي الدفاع والجهاد وغيرهما، والأخرى مترجمة عن الشعر الإنجليزي، وقد علّق مقدم الديوان الشاعر عبد الرحيم عمر على هاتين المجموعتين بقوله:" ونقف مع شاعرنا، يتصدى لشكسبير، ووليام وورد سورث، وبقية من تصدى لهم في ترجماته لنلمس أمرين: أولهما استيعاب جيد لمضامين هؤلاء الشعراء. وثانيهما: محاولة إخضاع هذه المضامين للقالب الفني العربي في الشعر. ورأيي أن الشاعر قد أرهق نفسه، وأرهق ترجماته بما فرض على نفسه، وعلى ترجماته من قيود العروض التي أخذ الشعر العربي نفسه يتخفف منها، وكان أيسر وأجدى لو أنه تخفف من كل قيد يمكن أن يعوقه في سبيل أن يقدم ترجمات أقرب ما تكون إلى الأصل، يتناسق فيها الشكل والمضمون، وإن أمكن فالنغم كذلك، ويقيني أن الشاعر لو فعل ذلك لكان أقرب إلى الهدف الذي رمى إليه. أما في عالم الشاعر الآخر أقصد عالم قصائده، فصليب النكبة مرسوم على صدر الشاعر، يطلّ في أكثر من موقف في قصائده، والأمس المرّ خطٌّ ينتظم المجموعة، حتى ليكاد يصبح عمودها الفقري؛ ويكاد يلوّن كل رؤى الشاعر بلون الحزن الذي يتراوح بين اليأس الهادئ الحزين حينًا، والثورة المكابرة حينًا آخر، وبين الأسف المجروح حينًا ثالثًا.

    ومن أمثلة المجموعة الأولى قصيدة "البلبل" ومنها هذه الأبيات:

                    يا ليتني مثلك يا بلبــلُ/في كل سفح طاب لي أنزلُ

                    تحتضن الوديان قيثارتي/ فيمهس الصفصفان والجدولُ

    وكذلك قصيدة "رام الله الجميلة" ومنها قوله:

ظَمئ الفؤادُ إلى نميرِ لماكِ / وهفا النسيمُ إلى عبيــــر رُباكِ

وجلستِ في عرش الهضابِ منيفةً/ يصبو الوجودُ إلى نعيم ذراكِ

    وهي قصيدة جميلة يتحدث الشاعر فيها عن مكانة رام الله وموقعها المتميز على خارطة فلسطين، وعن مكانتها وموقعها في فؤاده، ومن أمثلة المجموعة الثانية ( المترجمة) قصيدة " مرثية كُتبت في مقبرة ريفية" للشاعر " توماس غراي" وهي قصيدة طويلة تنتهي بالأبيات التالية:

                    كم طوى اليمُّ دُرّةً تسحر الأبصار غشّى سناها الماءُ

                   كم طوى  القفرُ وردةً لم تمتّعْ/ بشذاها وعرفها الأحياءُ

                أزهرتْ في الرمالِ لم ترها عينٌ ولفّت عبيرها الصحراءُ

    وكما كانت هذه القصيدة لتوماس غراي موضع إعجاب شاعرنا علي خليل، فقد كانت أيضًا موضع إعجاب الشاعرة الراحلة نازك الملائكة حيث ترجمتها إلى العربية أيضًا ترجمةً فيها كثير من السحر والإبداع.

    لجأ علي خليل إلى "المعارضات" يجدد من خلالها كثيرًا من قصائده القديمة، ويطرح موضوعات في غاية الجديّة بأسلوب تهكمي ساخر، يخفي كثيرًا من النقد السياسي الاجتماعي اللاذع في أغلب الأحيان... يقول علي:" قد يمكن تصنيف المعارضات بحسب الموضوع: المرأة، الوطن، الاجتماعيات...، وقد يمكن تصنيفها أيضًا بحسب المرحلة أي ما قبل 67 وما بعدها، حيث تمثّل المجموعة الأولى الهمّ المجتمعي بدرجة كبيرة، في حين تمثّل الأخيرة الهمّ الفردي للشاعر، وتوجهات شكلية هزلية في بعض الأحيان، وهذا التصنيف الأخير- بحسب المرحلة- أبسط من سابقه، وأسهل إلا أن هذا لا يعني انتفاء التقاطع للتوجهات بين كلتا المجموعتين فيه".

    تمثّل قصيدة"خنفوس" التي يعارض فيها قصيدة " يا ليلُ الصبُّ متى غده" معارضات المجموعة الأولى ومطلعها:

                    عجبٌ في الغنج تفرُّدُهُ/ حتى "الأرتيست" تقلِّدهُ

                     مخضوبُ الثغرِ مبودَرُهُ/ مصقولُ الخدّ مورّده

وتمثل قصيدة " ابن الفارض في المطعم" التي يعارض فيها" سائق الأظعان يطوي البيد طيّ" معارضات المجموعة الثانية، ومطلعها:

                        حامل الأسياخ يشوي اللحم شيّ/ ابعث الجرسون في الحال إليّ

                        قل له يأتِ سريعاً فأنا        /         جائع يوشَكُ أن يُغمى عليّ

                

     وهي قصيدة طويلةً تنتهي بمعركة صاخبة في هذا المطعم يتعرض فيها " ابن الفارض" للضرب الشديد بسبب فقره، وعدم تمكنه من دفع ثمن هذه الوجبة من اللحم المشوي.

    في الحادي والعشرين من تموز من عام تسعة وستين وتسعمائة وألف وضع " آرمسترونج" قدميه واحدة بعد الأخرى على وجه القمر، وكان هذا الحدث نقطةِ تحول فاصلة في تاريخ الفضاء.. وكما هزّ هذا الحدث الجبّار هذا الكون من أقصاه إلى أقصاه، فقد هزّ أيضًا شاعرنا الذي قال فيه واحدة من أجمل أشعاره بدأها منذ اللحظة التي وطئت فيها قدما ذلك الرائد وجه القمر.. ومما قاله علي في تلك القصيدة، وهي بعنوان " أبولو 11":

               كرّمي يا عرائس الآناءِ/ آنةَ العلمِ والنهى والذكاءِ

           آنةً ألهمت عزيمة كولمبسَ أن تستهين بالأنواءِ

          فطوتْ بالشراعِ أسطورة اليَمِّ لدنيا جديدةٍ عذراءِ

         آنةً ألهمت نيوتن حتّى/ في يديه علائق الأشياءِ

        وأضاءت لجابرٍ فتجلَّتْ/ في هُداها طلاسم الكيمياءِ

      آنةً أنزلتْ إلى قدم الإنسا/نِ ما كان شامخًا في السماءِ

        آنةً غرَّدتْ "جيا" بهواها/ وهي نشوى بخمرة الكبرياءِ

      فتراءت مثل السويديةِ الشقر/ اء بين الغلائلِ الخضراءِ

  

 

 

    بعد ذلك، وخلال سبعينيات القرن الماضي راح علي خليل يكتب مطولاته الشعرية التي بلغت أربع مطولات في موضوعات الحب، والحرية، والحياة، والألم تذّكر قارئها بشعر علي محمود طه من حيث ألفاظها، وأخيلتها، وتعبيراتها الشفافة المجنّحة، ومبناها الشعري، كما تذّكر القارئ بكل شعراء الحكمة في الشعر العربي على مرّ العصور، وتتابع الدهور.. لقد حاكى شاعرنا بقصائده هذه كل عصور القوة التي شهدها الشعر العربي مذ كان، وحتى عصرنا هذا.. يضاف إلى هذه القصائد العمودية كثير من قصائد التفعيلة التي كتبها الشاعر في سبعينيات القرن الماضي، يُضاف إليها أيضًا عدد من القصائد الوجدانية المغلفة بالحب الصامت، أو المكابرة في الحب قبل أن يصرفه الاشتغال بالترجمة والتأليف والإشراف التربوي بعد ذلك عن كتابة الشعر .. لقد كتب علي خليل قصيدته اليتيمة عن الانتفاضة الأولى" باقون" خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي.. ولم يعد لكتابة  الشعر بعد ذلك إلا في العام الثالث من هذه الألفية الثالثة عندما كتب مجموعته الشعرية" أرجاز في حقوق الأنسان" ومجموعته الشعرية التي عنوانها:" الشعراء يغنّون لحقوق الإنسان" التي كتبها في العام التالي (2004).

     أما مطوّلاته الأربع التي سبقت الإشارة إليها فهي :

1- الحب والألم ومطلعهاٍ:

    كذبتُ متى قلت حبي الوحيدْ / فلي كلَّ يومٍ غرامٌ جديدْ

    وحبّكَ لا شكّ في خاطري / ولكنْ أريد المزيد المزيد

2- الحصى الأخضر، ومطلعها:

    الحصى الأخضر والماء الشفيفْ / دون عينيكَ فحدِّقْ بهما

    نحِّ من حولهما الظلَّ الوريفْ/ وانتظرْ عمرَكَ ما بينهما

3- الأرض والشاعر، ومطلعها:

    نحتُّ كأسي من رخام الخيالْ/ ولم ازلْ أسكبُ فيها الفنونْ

    حتى توهمتُ وجودَ الزّلالْ/ بها وأغرتْ شفتيَّ الظنونْ

4- صُبَّ لي كأسي، ومطلعها:

    صُبَّ لي كأسي وأترعْ قَدَحي/ نشوةَ الروحِ وخمرَ الفرحِ

    صُبَّها من وجنةٍ غنّى بها/ بارئُ الوردِ وربُّ المرحِ

    وأما قصائد" التفعيلة" فقد جاءت متزامنةً مع المطولات الأربع، أو تاليةً لها في بعض الأحيان؛ وهي وإن لم تكن أول ما كتب الشاعر من هذا النوع من القصائد، فقد كتب بعضًا من هذا النوع في البدايات الأولى لمسيرته الشعرية، إلا أنها امتازت بغزارتها، وتعدد موضوعاتها وتوجّهاتها في هذه الفترة... وأما محور هذه القصائد فهو قوة الإرادة، والحرية الفردية، والإنسانية؛ والتفعيلة الأكثر تكرارًا فيها هي تفعيلة البحر المتدارك- الخبب- "فعلن" وتشكّلاتها.. لقد غلب على بعضها الحزن، وعلى بعضها الآخر الحزن والتحدي، بينما تملَّك بعضها" باخوسيّةٌ" أو نيتشوّيةٌ" بالغة الوضوح كما يقول علي خليل الذي كان مسكونًا بنيتشة معظم أيام حياته.

    ولأنه لا بد من التمثيل، ولو بالحد الأدنى، فإنني أكتفي- لضيق المجال- بأقل القليل من النماذج.

    من أمثلة النوع الثاني مقطع من قصيدة بعنوان " الشعر والزمان"وهي مهداة إلى صديقه ( عدنان السمان) يقول:

    كان الحرف مع المتنبي

   ينقلبُ إلى دينارْ

   وبيوتٌ من نظم الأعمى

   تفعلُ وتفكُّ حصارْ

    وديالكتيكُ أبي تمامَ يغلُّ جواري كالأقمارْ

    لكنّ الحرفَ اليومْ

    لا يؤكلْ

   لا يشربْ

    لا يُنسجُ منه ثوبْ

    لا تُبنى منه دارْ

    فلماذا إهدار الساعاتِ بمحرابِ الأشعارْ؟

    ومن النوع الثالث المقطع الآتي من قصيدة " الإنسان الزورباوي":

    إنسانٌ يولدُ أنى شاءْ

    وهو الإنسانُ الزورباويُّ الرائع والجبارْ

    فإذا راقته الفكرةْ أطبقَ نابيه عليها كالثمرةْ

    إذْ هي نَضِرةْ

    ومتى زايلها نسغُ الإعجابْ

    سقطتْ من فمه منسيةْ

    منطلقًا يبحثُ عن أخرى

    زوربا!!

 

    يؤكد علي خليل على أن قصائد " التفعيلة" التي كتبها لم تكن خاليةً تمامًا من القصائد الجمعية أو الوطنية؛ ولكنها جاءت رمزية كما ينبغي لها أن تكون بصفتها شعرًا حديثًا؛ ومن هذا النوع  من القصائد:" الطير لن تموت" ومنها:

    الطيرُ لا تموتُ

    عندما يُنزعُ منها الريشْ

    يموتُ منها واحدٌ، إثنان، أو ثلاثةْ

    وإنما

    تنقّرُ الثمارَ والجذورَ والترابْ

    لكنها تموتُ

    عندما تريدُ أن تموتْ!

          ***

    الطيرُ لا تموت يا حبيبتي

    متى تهاجرْ

    لكنها تموتُ إن ضلّتْ عن الطريقْ

         ***

    الطيرُ لا تموتُ عندما تسقطُ من أعشاشها خضيبةْ

    لكنها تموتُ يوم ترتدي

    ملابسها الفئرانْ

    ولا تعودُ تذكرُ الغصون!

         ***

    الطيرُ لا تموتْ

    جميعًها بل الذي

    يريدُ أن يموتَ

    وحدَهُ يموتْ!

ومن أمثلة القصائد الوجدانية المغلفة بالحب الصامت قصيدة"أنتِ" ومنها:

    أنتِ عندي حزينةٌ مثلُ شعري/ مثلُ أهلي غبَّ النوى والفراقِ

    تتلقّين كل شيءٍ بصمـــتٍ/ هاديءٍ هاديءٍ مريـرِ المذاقِ

    كنزوحِ الأصيلِ لا همسَ فيهِ/ أو جراحِ الورودِ في الأعماقِ

    لكِ روحٌ تصبو إلى النورِ لكنْ/ ألزموهـا الثواءَ في الأنفاقِ

وقصيدة " ما إلى سالف الهوى من رجوعِ" ومنها:

    ما إلى سالف الهوى من رجوعِ/ حلمًا كان وانقضى في هجوعي

    فاتركيني يا  من خبرتُ وشأني/ لم أعـــد بالمضلَّل المخدوعِ

    أوَ ما حطّمتْ يمينكِ كأسي/ بعدما قد ملأتِهــا من دموعــي؟

    فاذهبي للجحيم أنتِ وكأسي/ وشظايا الأسى التي في ضلوعـي

وقبل أن أنهي الحديث في شعر سبعينيات القرن الماضي يجدر بي أن أشير إلى قصيدة:" دموع على تل الزعتر" ومطلعها:

    كيف يرجو لحبّنا أن يهونا/ بلدٌ كان وردَنا والعيونا

 والتي تنتهي بالبيتين:

    وإذا ما مررتَ بالتلِّ يومًا/ وتنشَّقتَ عطره الياسمينا

    فانسَ عينيكَ تذرفان قليلاً / إن فيه بقيــةً من ذوينا

    لقد سبقت الإشارة إلى أن الشاعر كان في العام (1994) قد حقق هدفًا قديمًا هو الترجمة الكاملة لسونيتات شكسبير، وعددها (154) سونيتة، وهذا يقتضي أن نورد هنا مثالاً على تلك السونيتات:

    إذا أبعدتْ صمتي الجميلَ ووحدتي/ طيوفُ أسًى من جانب الأمس تطلعُ

    بكيتُ لآمالٍ فُقدنَ، وللأســــى/ يعود جديدًا، والزمان يُضَيَّــــعُ

                                         ****

    أرقرقُ دمعًا كان بالأمس غاليًا/ على إخوةٍ في ظُلمة الموتِ أُودعوا

    وترجع أحزاني التي قد طويتُها/ على منظرٍ أحببتُه ليس يرجـــعُ

                                 ****

    فيالَكَ من قلبٍ تداعتْ همومُه/ كأنّيَ من همٍّ لآخــــرَ أُدفَـــعُ

    ويالَكَ من جفنٍ تداعتْ دموعُه/ كأنْ لم يكن حق الأحبة يُدفَــــعُ

                                 ****

    فإن لاحَ لي وجهُ الصديق أعاد لي/ منايَ، فما للهمِّ عنديَ موضــعُ

    وبعيدًا عن التعصب للعربية وشعرائها الكبار أسأل: أيوجد في اللغة الانجليزية جمالٌ كجمال هذه الأبيات؟ أيجد القارئ في الأصل مثل هذا السحر الذي يجده في هذه الترجمة؟

   أما قصيدته " باقون" فجميلةٌ هي الأخرى جميلة، ومنها:

                 بقينا كما تبقى النجومُ الطوالعُ/ وإن غاب منّا واقعٌ ثـم واقعُ

                وما بليت منا النفوسُ لأننـا/ نحاولُ ملكًا، والبقاءُ التنــازعُ

                بقينا كما شاءت أميةُ عصبـةٌ/ نضاليةٌ لم تجلُ عنها الـوقائـعُ

                بقيةُ قومٍ للرصاصِ جسومُهـم/ وللقدسِ ما ضُمَّتْ عليه الأضالعُ

    وليعذرني القارئ الكريم إذا أنا لم أورد شيئًا من مجموعتي الشاعر الأخيرتين :" أرجاز في حقوق الإنسان"(2003) " الشعراء يغنون لحقوق الإنسان" (2004) وهما أحدث أعمال شاعرنا، وذلك لضيق الوقت، وضيق المقام، ولحرصي الشديد على الاختصار، وعدم الإطالة، واعدًا القارئ الكريم بإفراد مقال خاص لهاتين المجموعتين الشعريتين إن شاء الله.

    وبعد

    فهذا هو علي خليل حمد صديقًا ومربِّيًا ومترجمًا ومؤلفًا ومفكرًا وشاعرًا، وهذا موجزٌ لمسيرته الشعرية على امتداد أكثر من نصف قرن، وهذا أقلُّ ما يمكن أن يُكتب في مسيرة شاعر كعلي خليل.. فإذا ما توسَّعَ القارئ في هذا الموجز ما شاء الله له أن يفعل فسوف يجد نفسه أمام كتابٍ جامع ضم العبقرية والإبداع والتميّز والتفرّد..كتاب خطّ صفحاته بثقة واقتدار علي خليل حمد، واقتبستُ منه هذا الموجز الذي أضعه بين أيدي القراء من شُداة الأدب الرفيع، وهواة الفن والإبداع الأصيل، ليكون زادًا لهم على طول درب الحياة الطويل.

 (3/3/2009)

  

 

 

 

   


ليست هناك تعليقات: