عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ١٩ كانون الثاني ٢٠١٠

شاعرة العراق نازك الملائكة تقضي نحبها في القاهرة ..

إعادة

 

شاعرة العراق نازك الملائكة تقضي نحبها في القاهرة ..

 

 وتدفن فيها

 

أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

    

نعت أخبار القاهرة يوم أمس الأربعاء 20/06/2007 الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة التي تقيم في القاهرة منذ سنوات... مشيرة إلى أن الراحلة الكبيرة ستدفن في هذا اليوم الخميس 21/06/2007 في مقبرة للعائلة غربي القاهرة.

      والراحلة الكبيرة هي الشاعرة العراقية الكبيرة نازك صادق الملائكة ، كان أبوها أديباً باحثاً شاعراً، وكانت أمها سلمى عبد الرزاق الملائكة أم نزار شاعرة، أما جدها الحاج جعفر الجلبي اللخمي المنذري فكان محباً للشعر، ويحفظ كثيراً منه، وأما جدتها لأمها هداية محمد حسن كبة، فكانت تنظم الشعر، كما كان الشيخ حسن كبة، (أبو جدتها) عالماً وشاعراً، أما خالها د. جميل الملائكة فمثقف ومحاضر، ويكبرها بسنة واحدة كما يقول.

ولدت " نازك الملائكة " في بغداد سنة ثلاث وعشرين وتسعمئة وألف (1923) للميلاد.. التحقت بعد حصولها على الثانوية العامة بدار المعلمين في بغداد، وتخرجت فيها سنة أربع وأربعين وتسعمئة وألف (1944) ثم سافرت إلى الولايات المتحدة سنة خمسين وتسعمئة وألف (1950) لاستكمال دراستها هناك ... عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة.

يقول خالها د. جميل الملائكة إنها قرأت ـ في مكتبة أبيها ـ بديعيات صفي الدين الحلّي، وعز الدين الموصلي، وابن حجة الحموي، وعائشة الباعونية، وعبد الغني النابلسي في كتابي نفحات الأزهار، وخزانة الأدب، وقرأت كشكول العاملي، ومستطرف الأبشيهي، والكامل للمبرّد، وأمالي القالي... وقرأت العروض أول ما قرأته في ميزان الذهب، وفي العقد الفريد... وكانت تعجب بالمعلقات، وشعر المتنبي، وابن الفارض، والبهاء زهير، وشوقي، ومحمود حسن اسماعيل، وعلي محمود طه، وإيليا أبي ماضي، ومن عاصرهم... وكانت تطرب لقراءة الجداول، والخمائل، ومجنون ليلى، وكليوباترا... وقرأت النظرات، والعبرات للمنفلوطي، وماجدولين، وروفائيل.. كما كانت تقرأ مسلسل قصص طرزان، وغيرها من القصص والروايات... وكانت تهتم لقراءة مجلتي الرسالة، والرواية، كما قرأت مجلات الإثنين، والصباح، واللطائف المصورة، وحتى الأدب العامي كان لها منه حظ كبير، فقرأت شعر الملاّ عبّود الكرخي، وحفظت كثيراً منه، وحفظت كثيراً من الأبيات الغنائية العامية التي تدعى "غزل البنات" .

هذه هي ثقافة نازك الملائكة عندما كانت في سني الدراسة المتوسطة، وهذه هي الكتب التي قرأتها، كما قرأت كثيراً غيرها قبل أن تنهي دراستها الثانوية، فلا عجب إن كان لهذه الفتاة الجادة بعد ذلك كل هذا الحضور الفاعل في دنيا الشعر والأدب والنقد، ولا عجب أيضاً إن أصبحت هذه الشاعرة علماً من أعلام الحداثة، ورمزاً من رموز التجديد في الشعر العربي الحديث.

أما شقيقتها الصغرى "إحسان" ( التي قدمت لديوانها "عاشقة الليل" وهي طالبة في المرحلة الثانوية ) فتقول فيها:

 لم أعرف قط من يشبهها، كانت، (وما تزال) نسيج وحدها، جمعت في شخصها بالإضافة إلى طبيعتها الجادة الرصينة، وخلقها المتماسك الرفيع، ذهناً وقاداً، وذاكرة خارقة، وخيالاً عميقاً، ولساناً فصيحاً. أما نفسها الكبيرة المترفعة عن الصغائر، فقد جلبت لها - وبخاصة في مطلع شبابها- ضروباً من الآلام عكستها بجلاء ووضوح قصائدها المبكرة في ديواني: " عاشقة الليل" و "شظايا ورماد" :

أيّ معنى لطموحي ورجائي                 شهد الموت بضعفي البشريِّ

مثلي العليا وحلمي وسمائي                 كلّها أوهام قلب شاعري

هكذا قالوا فما معنى بقائي                  رحمةَ الأقدار بالقلب الشقي

لا أريد العيش في وادي العبيدِ              بين أموات وإن لم يُدفنوا

جثث ترسِف في أسر القيودِ                 وتماثيل احتوتها الأعينُ

أبداً أُسمعهم عذب نشيدي                وهمُ نومٌ عميقٌ محزنُ

قلبيَ الحر الذي لم يفهموه                 سوف يلقى في أغانيه العزاءَ

لا يظنوا أنهم قد سحقوهُ                    فهو ما زال جمالاً ونقاءَ

سوف تمضي في التسابيح سنوهُ           وهمُ في الشر فجراً ومساءَ

ربما لا يكون الثناء على شخص ما مستحباً إذا أتى من أقرب أقربائه، ومع هذا فإن كل من يعرف "نازك" معرفة حسنة، لن يجد في تلك الأوصاف غلوّاً، ولن يعدها من شطحات القلم، لا سيما أن هذه الخلال الجميلة لم تجلب لصاحبتها الهناء المتوقع، ولا سلام النفس المرجوّ، بل الأولى أن يُقال إنها كانت منبع  معاناة دائمة لها. فمنذ ظهور الفن على وجه الأرض حمل الفنان على عاتقه وظيفة نقل مواجد النفس، وبثِّها عن وعي حيناً، وعن غير قصد أحياناً أخرى، هي الطبيعة التي صاغت الفنان هكذا، أي أن الأمر يعود إلى تركيبة دماغه ذاتها؛ فأمر نفسه في هذا الميدان ليس بيده، إنه مضطر أن يُظهر بواطن نفسه، ودواخل أحاسيسه، وبنات أفكاره إلى الخارج.

والشاعر حين تتوارد الألفاظ المتشابكة بانفعالاته على ذهنه، يحتاج أن يسكبها على الورق، أو يتلوها على مسامع أي إنسان قريب، والموسيقيُّ حين تمور الأنغام في أذنه الداخلية لا بد له أن يعزفها على آلته، أو يسجلها في دفتر ملاحظاته، والرسام إذ تتراقص الألوان والكتل والخطوط أمام عينيه بحاجة شديدة إلى أن يحولها إلى رسوم وصور على القماش... فما هو موقع الشاعر العربي من هذه الحال؟ هل يُسمح له بالنطق عند لزوم الصمت؟ هل يتحمل أن يصمُت عند ضرورة الكلام؟ في هذا المقام يحال من شاء سماع الإجابة عن هذه الأسئلة إلى مصنّفات أدبنا التراثي لنبيّن له علوّ مكانة الشاعر لدى السلف، وانحدارها لدى الخلف، فهل تُلام نازك حين تنوح قائلة:

قد وصفتُ الشقاء في شعريَ البا            كي وصوّرتُ أنفس الأشقياءِ

وشدوتُ الحياة لحناً كئيباً                   ليس في ليله شعاع ضياءِ

فأثارت كآبتي عجب النّا                    س وحاروا في سرها المجهول ِ

ما دَرَوا أنني أنوح على مأ                 ساتهم في ظلامها المسدولِ

أنا أبكي لكل قلب حزينٍ                    بعثرتْ أغنياتِه الأقدارُ

وأروّي بأدمعي كل غصنٍ                  ظامئ جفّ زهره المِعطارُ

ومع كل القيود والسدود المضروبة حول المرأة العربية جسداً وروحاً، ومع أنها لا تكاد تملك من حرية الحركة غير حرية تحريك اللسان، فإن "نازك" الشاعرة هي غير تلك المرأة المكبلة بالقيود، لقد أصرت على أن تدخل عالم الفن من أوسع أبوابه رافضة الدور الأبله الذي أراده لها الآخرون، كما أبت أن تكتفي بوظيفة النائحة البكّاءة التي جسّدتها أشعار الخنساء ( لو كان ما تبقّى من آثار هذه الشاعرة يمثّل حقاً كل ما قالته من شعر ) وانحازت بعواطفها نحو آثار عظماء فناني العالم وأدبائه من الشرق والغرب دون تمييز، تبهرها أشعار امرئ القيس ، والمتنبي تماماً مثلما تحرك قلبها قصائد كيتس وشيللي، وتُشغف بمؤلفات النحو العربي القديم تماماً كما تتعشّق الموسيقى الكلاسيكية الغربية. لطالما كنت أراها تمضي الساعات الطوال غارقة في مؤلفات ابن هشام، والسيوطي، وابن جني وغيرهم تقرأ، وتلخص، وتشرح، وتعلّق، وفي ساعات أخرى أجدها تصغي بخشوع شديد إلى موسيقى تشايكوفسكي، وسيبيليوس، وبيتهوفن.

    وكم كانت أحاديث الشعر والموسيقى والرسم والغناء والفكر تأخذ من أيام والديها، وأشقائها نزار وعصام وسها، وإحسان بفضل حماستها هي لكل ميادين الثقافة والمعرفة والفن .

    كان أولئك العظام من ممثلي الثقافة والأدب والفن مناراً يزيح دياجي الظلمة المحدقة بالإنسان العربي المعاصر، وبوساطته حافظت نازك على شعلة النار ملتهبة في روحها دون أن يخمدها جليد الحياة الهامدة البليدة التي تحياها الإناث بشكل خاص في عالمنا العربي:

أنا لا أحبك واعظاً                             بل شاعراً قلق النشيدْ

تشدو ولو عطشانَ دا                 مي الحلق محترقَ الوريدْ

إني أحبك صرخة الـ                إعصار في الأفق المديدْ

وفماً تصبّاه اللهيـ                              بُ فبات يحتقر الجليدْ

    أين التحرقُ والحنينْ

    أنا لا أطيق الراكدين

مما جاء في مقدمة ديوانها " شظايا ورماد " الصادر عام تسعة وأربعين وتسعمئة وألف: " والذي أعتقده أن الشعر العربي يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقي من الأساليب القديمة شيئاً، وأن هذا الانقلاب الشامل سيصيب الأساليب والأوزان والقوافي والألفاظ، وسيتجه إلى داخل النفس الإنسانية بعد أن كانت التجارب الشعرية في الماضي تحوم حولها من بعيد"

    لقد دعت الشاعرة الناقدة ( التي جمعت في نقدها بين نقد النقاد، ونقد الممارسين ) إلى رفض القوالب الجامدة لأن " اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية" كما يقول برناردشو..

    هذا التطور جاء نتيجة طبيعية لاطلاعنا على الآداب الغربية، وتأثرنا بثقافة الغرب، وفنونه، وفلسفته العامة في الحياة.. كما جاء استجابة لأحداث الحياة ، فكان لا بد من التجديد .. وكان لا بد من ميلاد الشعر الحر تحديداً.. لقد دعت الشاعرة إلى الثورة على الأوزان والقافية الموحدة، منادية بقصيدة الشعر الحر التي تعتمد على نظام التفعيلة، والبيت ذي الشطر الواحد، أو السطر الواحد – على الأصح – تقول نازك: " ما زلنا نلهث في قصائدنا، ونجرّ عواطفنا المقيّدة بسلاسل الأوزان القديمة" وتقول في أوزان الفراهيدي وبحوره: " ألم تصدأ لطول ما لامستها الأقلام والشفاه منذ سنين وسنين؟ ألم تألفها أسماعنا، وترددْها شفاهنا، وتعلُكْها أقلامنا حتى مجّتها"؟

    على أن هذا الرفض لعروض الخليل لا يعني أبداً أن الشاعرة كانت ترفض موسيقى الشعر؛ فالموسيقى عنصر هام في بناء القصيدة.. على أننا لم نجد لدى الشاعرة تصوراً وفهماً لموسيقى الشعر بوصفها كلا عضوياً متكاملاً ، وظلت مفاهيمها تنحصر في وظيفة الوزن والقافية والألفاظ، ليس إلا كما يقول فاضل ثامر الذي عاد ليقول: إن قراءة منصفة لجهود الشاعرة نازك الملائكة ستجعلنا ندرك بوضوح أن جوهر مشروعها الشعري والتنظيري كان ينصبّ على تقديم نموذج شعري عربي حداثي يتخذ من قصيدة الشعر الحر إطاراً له، ويطمح إلى تأسيس شعرية عربية حداثية بديلة بعد أن استنفدت الشعرية العربية الكلاسيكية أهدافها في عصرنا الحديث، ولا شك في أن نازك الملائكة بالذات، وبفضل قدرتها التنظيرية لعبت بين زملائها الرواد، دوراً متميزاً وبارزاً، جعلها بحق محط اهتمام جميع المبدعين والباحثين والنقاد العرب وتقديرهم... إنني لا أشك لحظة في صدق هذا القول، وفي صحته على أن لا يغيب عن بالنا لحظة ذلك التطور الهائل الذي شهده الشعر العربي على امتداد مسيرته الطويلة، وذاك التجديد المستمر المتواصل سواء كان ذلك في الشكل ، أو في المضمون ، أو فيهما كليهما، كما نرى في الموشحات وغير الموشحات في مغرب العالم العربي، وفي مشرقه أيضاً.. وعلى أن لا يغيب عن بالنا أيضاً أن ما جاءت به شاعرتنا الكبيرة وغيرها من الشعراء الرواد في العراق، وفي مصر، وفي بلاد الشام، وفي سائر أقطار العروبة، وفي المهجر كان امتداداً طبيعياً لحركة التجديد المستمرة في الشعر العربي.. كما كان تعبيراً عن التغيرات، وامتزاج الثقافات ، وصراع الحضارات، وكبار الحوادث والأحداث في الحياة العربية.

    تقول نازك الملائكة في مقدمة " شظايا ورماد" : نحن بين اثنين: إما أن نتعلم أحدث النظريات في الفلسفة والفن، وعلم النفس، ونتأثر بها ونطبقها، أو لا نتعلمها إطلاقاً".

    إن هذه الشاعرة التي أجادت الانجليزية، والفرنسية ، والألمانية، واللاتينية، وربما الفارسية بالإضافة إلى العربية كانت أكثر رواد الحداثة الشعرية من العراقيين اطلاعاً على الثقافة العربية قديمها  وحديثها، وعلى الثقافات العالمية بعامة، والغربية منها بخاصة... ولكن موقفها من تلك الثقافات كان نابعاً من " الموقف العربي من هذه الثقافة الأجنبية التي وفدت إلينا، وجرفت حياتنا كلها".

    وإذا كان الشاعر الإنجليزي الكساندر بوب (1688-1744) يحدد تاريخ قوله الشعر بقوله :

في المهد كنتُ          وقبل أن أتكلما

شعراً لثِغتُ             وكان غيري أبكما

فإن " نازك" لم تلثِغ شعراً وهي في مهدها، بل كانت تستمع إلى (هدهدات) أمها الشاعرة أم نزار، و(تنويماتها) التي كانت أكثر عدداً، وربما أحلى نغماً من أغنية نازك الوحيدة لبرّاق الحلو اللثغة: " أغنية لطفلي" التي كتبتها الشاعرة عام ثلاثة وستين، وهي إحدى قصائد ديوانها " شجرة القمر" الصادر عام ثمانية وستين وتسعمئة وألف.

    أما رسالتها إلى الشاعر العربي الناشئ، ووصاياها ونصائحها إليه كما يقول الأستاذ الدكتور سلمان الواسطي فإنها في حقيقة الأمر ما كانت الشاعرة قد ألزمت نفسها به، ومنها دراسة العروض، واللغة العربية، والشعر، والأدب....

    لقد تميزت هذه الشاعرة الرومانسية الكبيرة باطلاعها الواسع على الآداب العالمية بعامة، وعلى أدب طاغور ، وعمر الخيام، وإيليا أبي ماضي، وميخائيل نعيمة، وجبران خليل جبران، ومحمود حسن اسماعيل، وعلي محمود طه، وأحمد فتحي، وتوماس غراي، وبايرون، وكيتس، وإدجار ألن بو بخاصة.. وإذا أردنا تحديداً أدق – كما يقول الدكتور الواسطي – فإن أصداء صوتي المهجري إيليا أبي ماضي، والإنجليزي توماس غراي هي أبرز الأصداء التي تتردد في " مأساة الحياة" وديوان "عاشقة الليل". ومن المعروف أن في طلاسم أبي ماضي أصداء كثيرة من شعر عمر الخيّام، ومن فلسفة : " اقبض على اليوم" أو " اغتنم فرصة اليوم" التي أشاعها الشاعر اللاتيني "هوراس" خلال القرن الأول قبل الميلاد... وعليه فالخيام ، وإيليا أبو ماضي، وتوماس غراي كانوا وراء " مأساة الحياة"، ووراء كثير من قصائد " عاشقة الليل".

    قصيدة " الغروب" من ديوان " عاشقة الليل" مثلاً تتردد فيها أصوات: "غراي" في مرثيته، وعلي محمود طه في " سارية الفجر" ، وأحمد فتحي في "الكرنك":

هبط الليل وما زال مكاني                       عند شط النهر في الصمت العميقِ

شردت روحي وغابت عن عياني                صور الحاضر والماضي السحيقِ

وامّحى في خاطري ذكر الزمانِ         وأنا في ظلمة الليل الصديقِ

مطلع " سارية الفجر" لعلي محمود طه، والحديث عن امرأة:

        عبرت بي في صباحٍ باكرِ              فتنةُ العين وشغل الخاطرِ

    وهذا مطلع " الكرنك" لأحمد فتحي ، والحديث فيه عن حلم:

        حُلُمٌ لاح لعين الساهرِ           وتهادى في خيالٍ عابرِ

        وهفا بين سكون الخاطرِ         يصل الماضي بيمن الحاضرِ

    وهذا مطلع " الغروب " لنازك، والحديث فيه عن طير:

        وبعيداً في الفضاءِ المدلهمِّ                        خفقة من جنح طيرٍ عابرِ

        فاجأته ظلمة الليل المـلـمِّ              وجبال من سحاب ماطـرِ

        فسرى بين دياجير وغيـمِ              كخيالٍ في فؤاد الشاعـرِ

لحظةٌ ثم توارى في الخضمِّ             بين أمواج الظلام الغامرِ

    ومن اللافت للنظر أن القصائد الثلاث من بحر واحد هو الرمل.. ورويٍّ واحد هو حرف الراء... ويضيف الواسطي أن " نازك الملائكة" ظلت متمسكة بالوزن الشعري، وقوانين العروض في كل قصائدها سواء كانت من قصائد الشطرين التقليدية، أو قصائد التفعيلة التي كانت هي أول من أحسن إعطاءها الحياة.

    لقد كانت قصيدة " الكوليرا" أولى قصائد الشعر العربي الجديد الذي اصطلح على تسميته بشعر التفعيلة... ولقد كتبت" نازك" هذه القصيدة ضحى يوم الثلاثاء 27/10/1947، ونشرت في مجلة العروبة البيروتية في 1/12/1947، وعلقت عليها المجلة في العدد نفسه، متعاطفة مع الشعب المصري الذي  فتكت به الكوليرا آنذاك:

سكن الليل

أصغ إلى وقع صدى الأناتْ

في عنق الظلمة، تحت الصمت، على الأمواتْ

صرخاتٌ تعلو ، تضطربُ

حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ

يتعثر فيه صدى الآهاتْ

في كل فؤادٍ غليانُ

في الكوخ الساكنِ أحزانُ

في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظلماتْ

في كل مكانٍ ييكي صوتْ

هذا ما قد مزّقه الموتْ

يا حزنَ النيل الصارخ مما فعل الموتْ

طلع الفجرْ

أصغ إلى وقع خطى الماشين

في صمتِ الفجرْ، أَصِخْ، انظرْ ركبَ الباكينْ

عشرةُ أمواتٍ، عشرونا

لا تُحصِ أصخْ للباكينا

اسمعْ صوت الطفل المسكينْ

موتى، موتى، ضاع العددُ

موتى، موتى، لم يبقَ غدُ

في كل مكان جسدٌ يندبه محزون

لا لحظة إخلادٍ لا صمتْ

هذا ما فعلتْ كف الموتْ

الموتُ الموتُ الموتْ

تشكو البشرية مما يرتكب الموتْ.

    هذه القصيدة إذن لنازك هي أولى قصائد الشعر الحر، أو شعر التفعيلة كما تقول الشاعرة، وكما تقرر في كتابها النقدي "قضايا الشعر المعاصر" على أن الشاعرة قد تراجعت لاحقاً عن هذا السبق عندما قالت إنها فوجئت بعدد من القصائد الحرة منشورة في بعض المجلات والكتب العربية منذ عام اثنين وثلاثين وتسعمئة وألف.

    وإذا كانت " نازك" قد كتبت قصيدتها " الكوليرا" في 27/10/1947 ونشرتها في 1/12/47 فإن الشاعر العراقي بدر شاكر السياب قد أصدر ديوانه " أزهار ذابلة" في بغداد في النصف الثاني من شهر كانون الأول، وفي هذا الديوان قصيدة " هل كان حبَّا" ومنها:

هل يكون الحبُّ أنّي

بتُّ عبداً للتمني

أم هو الحبُّ اطّراحُ الأمنياتْ

والتقاءُ الثغر بالثغر ونسيان الحياةْ

واختفاءُ العين في العين انتشاءْ

كانثيال عاد يَفنى في هديرْ

أو كظلٍّ في غديرْ

    ومن هنا نتبين أن " نازك" والسيّاب كليهما يُعتبران من رواد التجديد في الشعر العربي الحديث، وأنهما من فرسان شعر التفعيلة ، وإن كانت المرحومة  "نازك" أسبق ولو بفترة زمنية لا تكاد تذكر من المرحوم بدر شاكر السياب في هذا المضمار.

   وإذا كان ديوان " عاشقة الليل" لنازك قد صدر عام 1947 فإن ديوانها الثاني " شظايا ورماد" قد صدر في صيف عام 1949، وفي آذار عام 1650 صدر في بيروت ديوان " ملائكة وشياطين " لشاعر عراقي جديد هو عبد الوهاب البياتي وفيه قصائد حرة الوزن، وفي صيف 1950 صدر لشاذل طاقة " المساء الأخير"، وفي أيلول 1950 صدر ديوان " أساطير" للسياب.. وتتالت بعد ذلك الدواوين ، وراحت دعوة الشعر الحر تتخذ مظهراً أقوى حتى راح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين ليستعملوا الأسلوب الجديد. ولعل من الضروري هنا أن نشير إلى أن "نازك" قد تراجعت عن أفكارها التجديدية في الشكل، ودعت إلى العودة إلى أوزان الخليل الفراهيدي.

    لقد كثر الشعراء " المجددون " وظهر منهم في مصر صلاح عبد الصبور ، وأحمد عبد المعطي حجازي، وفي سوريا ولبنان نزار قباني وأدونيس وخليل حاوي، وفي السودان محي الدين فارس ومحمد الفيتوري.. وفدوى طوقان في فلسطين بالإضافة إلى محمود درويش وسميح القاسم وكثير غيرهما.

    هذه هي الشاعرة العراقية الكبيرة الراحلة  نازك الملائكة، هذه هي الشاعرة التي تعددت فيها الأقوال والآراء، وثارت حولها ضجة أدبية استمرت عشرات السنين ، ولا تزال هذه الضجة مستمرة.. هذه هي الشاعرة الناقدة المجددة صاحبة ديوان "عاشقة الليل" الذي طبع في العام سبعة وأربعين وتسعمئة وألف، وقدمت له شقيقتها الصغرى إحسان، وكانت آنذاك طالبة في المرحلة الثانوية.. وديوان " شظايا ورماد" الذي صدر عام تسعة وأربعين من القرن الماضي، وقدمت له الشاعرة نفسها .. " وقرارة الموجة " الذي صدر عام سبعة وخمسين .. و " شجرة القمر " الصادر عام ثمانية وستين.. ومأساة الحياة وأغنية للإنسان عام سبعين .. و" يغيّر ألوانه البحر" عام سبعة وسبعين.. و" للصلاة والثورة" عام ثمانية وسبعين ، و"الأعمال الكاملة" مجلدان / طبع عدة طبعات.

    يضاف إلى هذه الدواوين كتاب " قضايا الشعر المعاصر" الذي صدر عام اثنين وستين، وقدم له زوجها الدكتور عبد الهادي محبوبة .. وهو تنظير نقدي لحركة الشعر الحر. وكتاب التجزيئية في المجتمع العربي الصادر عام أربعة وسبعين.. وكتاب "الصومعة والشرفة الحمراء" الذي صدر عام خمسة وستين ، وهو دراسة نقدية في شعر علي محمود طه.. وكتاب " سايكولوجية الشعر" الذي صدر عام ثلاثة وتسعين ( أي بعد أن أمضت الشاعرة الناقدة نازك الملائكة من عمرها سبعين عاماً) وهو مجموعة مقالات. رحم الله شاعرتنا الكبيرة..وعوض أدبنا العربي بفقدها اليوم خير العوض.

 

(الخميس 21/06/2007)


ليست هناك تعليقات: