عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الاثنين، ٥ تشرين الأول ٢٠٠٩

في الذكرى المئوية الأولى لميلاد الشاعر عبد الكريم الكرمي

متابعات

في الذكرى المئوية الأولى لميلاد الشاعر عبد الكريم الكرمي

               أ.عدنان السمان

www.samman.co.nr

      ولد عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) في بلدة طولكرم التابعة لمدينة نابلس (والتي أصبحت مركز قضاء بني صعب في أواخر القرن التاسع عشر) في مثل هذه الأيام من سنة (1909)، كما يستفاد من الأوراق الخاصة التي عثرت عليها (غادة أحمد بيلتو) مؤلفة كتاب: عبد الكريم الكرمي- أبو سلمى- هذا الكتاب الذي أمدّني بكثير من المعلومات المتعلقة بحياة هذا الشاعر العربي الفلسطيني، وبكثير من وجهات نظر المؤلفة في شعر الكرمي ونثره، مما لم يرد في غيره من المراجع التي اعتمدتُ عليها، واستندتُ إليها عند كتابة هذا المقال في الذكرى المئوية الأولى لميلاد هذا الشاعر الكبير، إضافة إلى ما كان قد استقر في الذاكرة من سيرة هذا الشاعر، ومن أشعاره وأخباره، وعلاقاته، وأسفاره، ونشاطاته في سائر مراحل حياته الغنية الحافلة بالعطاء والإبداع على امتداد تاريخه الأدبي النضالي الطويل.

     ولئن كان عبد الكريم شاعرًا وناثرًا وثائرًا لا يُشق له غبار، فلقد كان مدينًا بكثير من هذه المواهب والمزايا والخصال لنشأته في أسرة علم وأدب.. فجدّه لأبيه الشيخ (علي المنصور) عالم كبير تتلمذ على خيرة شيوخ دمشق، وعاد إلى فلسطين ليكون حُجة في الفقه والإفتاء والقضاء، وعلمًا من أعلام الإسلام فيها.

    وهو ابن الشيخ سعيد الكرمي (1852م) الذي تلقى علومه في الأزهر الشريف، وحضر دروس جمال الدين الأفغاني، وكانت له صلات بالشيخ الإمام محمد عبده.. وبعد تخرجه، وحصوله على الشهادة العالمية الأزهرية عاد إلى فلسطين ليكون علمًا من أعلامها، ومفتشًا ومُفتيًا في القضاء الوليد، وليكون أيضًا من مؤسسي المجمع العلمي العربي بدمشق، ورائدًا من رواد الثقافة العربية، والفكر والصحافة فيها قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى (1935م) ويدفن في مسقط رأسه طولكرم.

    أما أخوه (أحمد شاكر) الكرمي الكاتب الناقد المولود في طولكرم (1892م) فقد درس في الأزهر الشريف، و في الجامعة المصرية، وساهم في تحرير "الكواكب" المصرية، وفي دمشق – بعد عودته إليها من مصر بعد الحرب العالمية الأولى- أنشأ مجلة أسبوعية أدبية أسماها "الميزان"، كما حرر أيضًا جريدة "الفيحاء" واشتهر بتوقيع (قدامة) تحت عنوان "مفكرة المحرر".

    ومن إخوته أيضًا الأديب الذائع الصيت "حسن الكرمي" صاحب برنامج "قول على قول" الذي كان يذاع من هيئة الإذاعة البريطانية في لندن، وهو الذي كتب كثيرًا من المقالات في كثير من الصحف والمجلات الإنجليزية والعربية، ومن إخوته كذلك "محمود الكرمي" المدرّس والمحاضر والمناضل الذي اغتاله خصومه السياسيون في صبيحة الخامس والعشرين من كانون الأول سنة ثمان وثلاثين وتسعمائة وألف. لقد تزوج الشيخ سعيد الكرمي أربع نساء، وأنجب منهنّ ستةً وعشرين ولدًا، وثلاث بنات هن أخوات عبد الكريم وإخوته الذين كانوا في غالبيتهم العظمى أعلامًا من أعلام فلسطين، ورجالاً من خيرة رجالها.

    في الأوراق التي عثرت عليها مؤلفة كتاب "عبد الكريم- أبو سلمى" جاء قوله : "ما أزال وأنا طفل، أذكر كيف كنت واقفًا مع بعض الأطفال أمام دارنا في طولكرم، عندما جاء جنود أتراك، ومعهم ضابط، ودخلوا إلى الديوان، ثم خرجوا، وذهب الوالد معهم، ولم يعد، وكلما سألت عنه كانوا يقولون إنه ذهب إلى الشام.. وكثيرًا ما كنت أذهب مع لداتي إلى محطة طولكرم، ويقف كل واحد منا إلى جانب عمود من أعمدة الهاتف التي نُصبت حديثًا، ويدق عليه بالحجر، ثم يخاطب من يريد، ويضع أذنه على العمود حتى يسمع الجواب، ولا أزال أذكر تمامًا عند ضرب عمود الهاتف قولي: أين أبي؟؟ وكأني كنت أفسر الجواب من الصدى: هو في الشام.

    في فترة غياب الشيخ سعيد عن بيته التي استمرت سنتين وسبعة أشهر في سجن الوالي بتهمة المطالبة بالاستقلال يقول عبد الكريم: " أكلنا كراديش الذرة، والجراد في الحرب العظمى الأولى في أثناء سجن والدي بدمشق"، ويذكر العذاب الذي لقيته أمه، فيقول: " مرة، رأيت تينًا كثيرًا عندنا، بيع منه قسم وأكلنا قسمًا، وفهمت بعد ذلك أن والدتي كانت تذهب مع بعض النسوة، ولا تُخبر أحدًا، إلى قرية الطيرة، وتشتري تينًا، وتحمله على رأسها، وتعود ماشيةً إلى طولكرم، وتذهب في الصباح الباكر لبيعه" لقد بقيت والدته على هذه الحال إلى أن عاد الشيخ سعيد من دمشق بعد الإفراج عنه.

    وعندما انتقل الشيخ سعيد إلى دمشق بعد قيام الدولة العربية المستقلة برئاسة الملك فيصل اصطحب معه ابنه عبد الكريم ووالدته، حيث تابع دراسته الابتدائية في المدرسة الظاهرية هناك، ثم عاد إلى طولكرم مع أمه المريضة، حيث فارقت الحياة فيها تاركةً وحيدها في رعاية جدته.. ويعود أخوه (أحمد شاكر) من مصر ليسافر الأخوان إلى دمشق من جديد، وليواصل عبد الكريم دراسته الابتدائية في المدرسة الظاهرية، وفي مكتب عنبر بدمشق، حيث درس مع إخوته حسن وحسين وعبد الغني فيه، وكانوا ينامون في القسم الداخلي في هذا المكتب، ويذكر الكرمي (أبو سلمى) من أساتذته في هذا المكتب (الذي كان مركزًا للإضرابات والثورات الطلابية في دمشق) جودة الهاشمي، وسليم الجندي، والشيخ محمد الداودي الذي أطلق عليه لقب أبي سلمى، ومسلم عناية، وحسن يحيى الصبّان، وعبد القادر المبارك، وأستاذ اللغة الفرنسية التونسي صالح جميلو ومحمد البزم، وأبو الخير القواص.. أما من رفاقه فيذكر زكي المحاسني، وجميل سلطان، وأنور العطار، وكانوا يقولون الشعر كأبي سلمى.. وقد بقي أبو سلمى في هذا المكتب حتى سنة سبع وعشرين وتسعمائة وألف حيث تقدم لامتحان البكالوريا، ولم يواصل دراسته الجامعية في دمشق، بل عاد إلى القدس ليواصل دراسته في معهد الحقوق..

    على أنه لا بد من الإشارة إلى أن المجمع العلمي بدمشق قد أقام حفلاً تكريميًّا لشعراء الشباب: أبي سلمى، وزكي المحاسني، وجميل سلطان، وأنور العطار.. ومن الطريف أن جريدة "القبس" لصاحبها المرحوم "نجيب الريّس" قد أفردت صدر صفحتها الأولى في كل يوم لواحد من هؤلاء الشعراء الأربعة، تنشر قصيدته مع صورة له، وقد كانت قصيدة الكرمي تحت عنوان "تلة رضوان"، وكانت أول قصيدة تُنشر له في دمشق.

    ولا بد من الإشارة أيضًا إلى أن أستاذه الشيخ محمد الداودي هو الذي أطلق عليه الكنية التي عُرف بها طوال حياته "أبو سلمى" وفي هذا يقول الكرمي: "كنت في الصف الثامن، وكان أستاذنا في اللغة العربية الشيخ محمد الداودي من رجال الخلق والأدب والدين، أعطانا مرة قصيدة في مدح السيف، لحفظها، ولما طلب مني في الدرس التالي تسميع القصيدة، قلت له إنني لم أحفظها، وقد حفظت بدلاً منها قصيدة أخرى، فقال: أسمعنا إياها، فأنشدتها، وكانت قصيدة ابن عبد ربه التي مطلعها:

            ودّعــــتني بزفرةٍ واعتناقِ     ثم قالـــت: متى يكون التلاقي؟

   فضحك، رحمه الله، وقال: اتفقنا، القصيدة التي لا تعجبك تحفظ بدلاً منها قصيدة تعجبك، وهكذا بقيت الحال بيننا، ومرة من المرات، طلب منا موضوعًا إنشائيًّا، فأتيت، وقد نظمت قصيدة غزلية، فطلب مني أن أنشدها أمام الطلاب، فوقفت وألقيتها، وهي تغزل بفتاة اسمها "سلمى" ومطلعها:

          سلمى! انظري نحوي فقلبي يخفقُ    لما يشيرُ إلـــيّ طَرْفُك أُطرقُ!

    وأخذ – رحمه الله- يبدي ملاحظاته، ويسأل الطلاب رأيهم أيضًا، وفي الفرصة بين الدرسين أخذ رفاقي الطلاب ينادونني: يا حبيب سلمى، يا أبا سلمى، فكنت أغضب، وألاحقهم، وفي الدرس اللاحق قال أستاذي الشيخ محمد الداودي: يا أبا سلمى، تعال أسمعنا ماذا نظمت.. فهدأت ثائرتي، وتقبّلتُ هذه الكنية، واللقب الشعري، ومن بعدها أخذت أنشر في صحف دمشق، وفي مجلة الزهراء في القاهرة قصائد لي بتوقيع " أبو سلمى" ولازمني هذا التوقيع حتى الآن، وبه عُرفتُ أكثر من اسمي الحقيقي.

      لقد استوقفتني أدق التفصيلات في حياة أبي سلمى، وفي سيرته ومسيرته، فوقفت عند كثير منها، وربما أطلتُ الوقوف لعلمي وقناعتي أن التفصيلات هي مفاتيح الشخصية، وهي مكوناتها التي لا تقل أثرًا عما يرثه الإنسان من أبويه وأجداده، وعما ينتقل إليه من إرث اجتماعي وبيئي عام.. وبدونها يصعب على الدارس والناقد والمحلل والمعلم والمتعلم أن يجد طريقه إلى فهم هذه الشخصية أو تلك، وأن يجد الطريق إلى فهم أعمالها، وإلى تفسير هذه الأعمال بردّها إلى منطلقاتها، ومكوناتها الأولى الضاربة في أعماق هذه الشخصية ( بخلاف ما يقوله بعض دارسي الأدب ومدرّسيه ونقّاده من أن النص هو وسيلتنا لفهم صاحبه، وهو وسيلتنا للحكم العادل عليه) ولعلمي وقناعتي أيضًا أنه من الصعب أن نفهم نصًّا أدبيًّا بدون معرفة مناسبته، وبدون الرجوع إلى هذه المناسبة، وبدون معرفة الحالة الشعورية والنفسية التي كان عليها الشاعر أو الناثر عند كتابة النص.. إن المقدمات هي التي تفضي إلى النتائج، والنتائج تفضي بدورها إلى الأحكام الصائبة فيما يتعلق بالواقع المعاش الذي تظل فيه هذه الشخصية أو تلك فاعلة مؤثرة قائمة ماثلة بين الناس على الرغم من بعد المسافة، وتعاقب العصور والأجيال. وكما أن فهم أسباب النزول شرط مسبق في فهم آيات القرآن الكريم، فإنّ الوقوف على مكونات شخصية المفكر والأديب ناثرًا كان أو شاعرًا، وإنّ فهم الظروف والأحوال المحيطة بالأديب عند كتابة هذا النص الأدبي أو ذاك هي عوامل مساعدة على فهم هذه النصوص الأدبية من جهة، وهي عوامل مساعدة على فهم هذا الأديب أو ذاك من جهة ثانية.

    ولسوف أقف هنا على دقائق وتفصيلات أرى أن لها صلة في تكوين هذا الشاعر الكبير، وفي إثراء شاعريته، ورسم معالم مسيرتها وتوجهاتها وإبداعاتها، وانعكاس ذلك كله على دائرته المحلية والإقليمية والقومية، وأثر هذا كله على الدائرة الدولية، وعلى البعد الإنساني في إنتاجه الأدبي.

    وإذا كانت ثقافة الإنسان، وتجاربه، وبيئته الخاصة، وبيئته العامة، وعلاقته بغيره في محيطه الصغير، وفي محيطه الكبير، وأحواله المادية، والنفسية، وخصائصه الجسدية، وقدراته العقلية والذهنية والفكرية، وفكرته عن نفسه.. إذا كانت كل هذه العوامل وكثير غيرها، مما نعرف، ومما لا نعرف، تفعل فعلها في الإنسان – أي إنسان- فإنها في الأديب ناثرًا أو شاعرًا، أو ناقدًا، أو قاصًّا، أو روائيًّا، أو كل ذلك، أو بعضًا مما ذُكر، أو واحدًا منه تكاد تكون هي المكوّنات، وهي اللبنات الأولى التي تشكل عالمه الأدبي، وتلوّنه بألوانها القاتمة، أو الزاهية، أو الرمادية، وتلقي عليه من ظلالها، وتطبعه بطابعها، وتضفي عليه من جمالها وبهائها وروائها وتألّقها وحياتها.. أو قبحها وظلامها وعبوسها وسوادها وموتها.. إنها حاضره ومستقبله، وحضوره بين الناس، وقربه منهم، أو ابتعاده عنهم خلال حياته، وبعد مماته.

    وإذا كانت حادثة صغيرة مما لا يثير انتباه الناس تفعل فعلها في نفس الأديب الذي يرى ما لا يرى غيره، فإن من الطبيعي أن يفعل الألم بكل صوره وأشكاله فعله في هذه النفس المرهفة المحبة دائمًا للحق والخير والجمال.. ومن الطبيعي أن تترك الكلمة في نفسه آثارًا لا تُمحى، وكذلك النظرة العابرة، والمؤامرة مهما صغرت، وكذلك الاستخفاف به، أو الاستعلاء عليه، أو الإساءة إليه.. ويفعل فعله في النفس المرهفة الفقر، والجوع، واليتم، والعري، والظلم، واللون، وزوجة الأب، وزوج الأم.. وكذلك الزملاء، والمعلمون، والآباء، والأمهات، والجدات، والعمات، والخالات، والأخوال، والأعمام.. ومن العوامل التي تترك آثارًا من الصعب أن تمحى في النفس المرهفة الجهل، والتخلف، والمرض، والقبح، والموت، والغضب، والحرمان، والاضطهاد، والاستبداد، والاستعباد..إلى أقصى اليمين قد تندفع هذه النفس لسلبيات في كل ما ذُكر، أو في بعضه، أو إلى أقصى اليسار.. وقد تضطرب هذه الشخصية، وقد تنحرف عن مسارها الذي سلكته قبل أن تلم بها النوازل، وتحل بساحتها الآلام.. وقد لا تضطرب.. وقد تقوى على مواجهة ذلك كله بفعل أب حكيم، أو معلم عظيم، أو صديق طيب، أو كتاب يحصّنها بالوعي، ويسلّحها بالحب، ويغذيها بالفضيلة، ويفتح عينيها على الجمال، ويكسبها شعورًا عامًّا بالرضى، ويمكِّنها من شق طريقها في الحياة بقوة وثبات، وعزم وعزيمة وإصرار.

    ماذا كان بوسع هذا الطفل أن يفعل وقد سُجن والده، بعد أن اقتيد من مضافته أمام ناظريه، لو لم يكن له مَن شدّ أزره، وهدَّأ روعه؟ ماذا كان بوسعه أن يفعل لولا هذه الأسرة المتماسكة التي ملأت فراغ أبيه طوال فترة غيابه؟ لقد ظل هذا الطفل الذي لم يدخل المدرسة بعد يبحث عن أبيه، ويسأل أعمدة الهاتف عنه (تمامًا كما كنّا نفعل بعد ذلك إذ كنّا صغارًا!!) حتى عاد.. ولو لم تكن هذه الأسرة المتماسكة، وهذا الأب المثقف الواعي لما انتصر هذا الطفل على أحزانه بعد موت أمه، ولما عاد مع شقيقه (أحمد شاكر) إلى دمشق حيث يقيم فيها والده منذ مدة.. ولما استأنف فيها دراسته حتى حصل على (البكالوريا) الثانوية العامة.. ولولا شرف الانتماء، ووضوح الرؤية لما عاد عبد الكريم إلى فلسطين المشتعلة بالثورة ضد الانتداب البريطاني، ولآثر البقاء في دمشق مثل كثير من الناس.. ولكنه آثر العودة إلى فلسطين، وإلى القدس تحديدًا ليدرس الحقوق في معهدها، وليقوم بالتدريس في المدرسة العمرية داخل أسوارها قريبًا من كنيسة القيامة، ثم لينتقل بعد سنة واحدة للتدريس في المدرسة البكرية في المصرارة.. يقول الكرمي عن هذه الفترة من حياته: "كنت أدرس مع بعض رفاقي، في غرفتي القائمة في المصرارة آنذاك دروس الحقوق، ومنهم الشيخ عبد الله غوشة من القدس، والمحامي مصطفى رشيد من جنين، وعباس الفاهوم من الناصرة.. وكان مدير الحقوق "مستر غودبي" المختص بالقانون الدولي، ومن الأساتذة العرب علي جاد الله، وعادل زعيتر، وكان على الطلاب الذين يريدون الدخول إلى مدرسة الحقوق التقدم للفحص باللغة الانجليزية، وكان الممتحن هو المستر "بندويش" النائب اليهودي العام في حكومة فلسطين، ونجح الطلاب اليهود جميعًا، فاتفقنا نحن أن نؤدي الامتحان أمام الأستاذ موسى العلمي الذي كان أكبر محام في النيابة العامة، ويحمل لقب "محامي التاج"، وهكذا كان التدريس باللغات الثلاث: العربية، والإنجليزية، والعبرية، وهي اللغات الرسمية، ولكن أوراق الفحوص كانت تذهب إلى لندن لتوقيعها".

    وفي هذه الفترة من حياته كان يكتب بعض مقالاته في جريدة " مرآة الشرق" لصاحبها بولس شحادة، وكانت تصدر في القدس، وتعبّر عن رأي حزب الدفاع الذي كان يرئسه "راغب باشا النشاشيبي" رئيس بلدية القدس آنذاك، وكان يُعرف باسم حزب المعارضين مقابل حزب المفتي (الحاج أمين الحسيني) الذي كان يسمى حزب المجلسيين.. وقد ربطته صلة قوية بإبراهيم طوقان، وقد كانا يعدّان صفحة أسبوعية في إحدى الصحف التي كانت تصدر في يافا، كما قاما بتشكيل جمعية "عصبة القلم" في القدس، وكان من أعضائها: رئيف خوري، وخليل البديري، وإبراهيم طوقان، وعارف العزوني، وأبو سلمى، ورجا حوراني.. وكانت له صلات قوية بكثير من المفكرين والأدباء العرب منهم: عمر الفاخوري، وأمين نخلة، ووالده الشيخ رشيد نخلة، والأخطل الصغير، وتوفيق يوسف عواد، والشاعر الشعبي عمر الزعبي، وخير الدين الزركلي، وشفيق جبري، وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، ومعروف الرصافي، ومحمد مهدي الجواهري، الذين زاروا فلسطين، وعمل بعضهم فيها، وأقاموا فيها الندوات، وألقوا المحاضرات، وكذلك فإن للكرمي صلات وثيقة بالكاتب عبد القادر المازني، وأحمد أمين، وزكي مبارك.. ومما قاله الكرمي عن نشاطه في النادي الأرثوذكسي العربي: " كان لي نشاط في القدس أولاً، ثم في حيفا، في النادي الأرثوذكسي، العربي. وكان لوجود الصديق حنا نقارة المحامي رئيس هذا النادي أثر كبير في ازدهاره، وأقيمت فيه ندوات سياسية وثقافية واجتماعية... وأذكر أننا قرأنا ونحن في حيفا عن موعد إقامة حفل تأبين لعمر الفاخوري، فأسرعنا إلى بيروت، في أول حفلة تأبينية، وألقيت قصيدة في الحفل، وقد سررت حين علمت أن حنا نقارة يكتب عن ذكرياته في النادي الأرثوذكسي العربي"

    وفي المعرض الفلسطيني الأول الذي أقيم في القدس سنة 1935، ولقائه هناك "رقية حقي" التي أصبحت زوجته فيما بعد، وأم وحيده "سعيد" يقول الكرمي: " في ذلك اليوم، وفي أثناء المعرض، أقمنا حفلة تمثيلية لرواية " أميرة الأندلس" تأليف أحمد شوقي، وفي أثناء الحفلة ألقى إبراهيم طوقان قصيدة (غيد إشبيلية) وكانت أمسيات المعرض الأولى في القدس أجمل أمسياته، وفي ذات مساء رأيت فتاتين، وقد سرتُ خلف إحداهما، وعلمت أنها رئيسة الاتحاد النسائي في عكا، وابنة توفيق حقي العبد الله رئيس بلدية عكا، وأحد رجالات فلسطين المرموقين. فقلت فيها قصيدة نشرتها في جريدة "فلسطين" التي كانت تصدر في يافا وكانت القصيدة تحت عنوان "حمامة الشاطئ الغربي" ومنها:

         

             حمامةَ الشاطئ الغــربيِّ سال دمي          ردّي الجناح على جـرحِ الهوى الدّامي

            ياربةَ الخالِ يحــمي الثغرَ معترضًا          فِدًى لخالكِ أخـــــوالي وأعمامي

             يا ليتني في ظلال الـــدارِ زنبقةٌ           تهدي إليكِ شذى حــــبي وتهيامي

            أو ليتني في حــــماها طائرٌ غرِدٌ         حيــــــرانُ ما بين إقدامٍ وإحجام

             ياربةَ الخــالِ إن الخالَ بلبـلني             نامي فإنك أيــــقظت الهوى نامي

    وقد  كتب فيها كثيرًا من القصائد في الصحف الفلسطينية واللبنانية بعناوين "ذات الخال" أو "فتاة الشمال" وأحيانًا بتوقيع "ذو الخال".. وكان يسافر إلى عكا، ويسهر معظم الليل على الشاطئ، وينام في فندق متواضع اسمه "فندق عوض" في البلدة القديمة.. وكان في الصيف يذهب إلى لبنان حيث كانت تصطاف في "عاليه" وكان ينشر قصائده في الصحف الفلسطينية واللبنانية والسورية، وكانت عناوين القصائد (ما لبنان لولاها؟) أو (نحن في لبنان) وقد نشرت صحيفة المعرض لصاحبها (ميشال زكور) ثلاث قصائد له، ولإبراهيم طوقان، ولجلال زريق... وفي 17/1/1936 تم عقد قران الكرمي على الآنسة رقية حقي في عكا.. كما يقول أبو سلمى في مذكراته، وفي 29/10/1937 أنجبت وحيدهما سعيد. ومن الجدير بالذكر أن رقية زوجته، وأم وحيده سعيد كانت تكبره بعشر سنوات، ومما قاله الكرمي في مواقفها إلى جانبه، وفي فضلها عليه في أيام أزمته بعد فصله من التعليم بسبب قصيدته "جبل المكبر" ما يلي:" كنتُ أغضب إذا لقيتُ إجحافًا من أحد، أو نكرانًا للجميل من صديق، أو افتئاتًا على الحق..فكانت لا يهدأ لها بال حتى تزيل الغضب، وكانت تقول: يجب أن تعمل المعروف دون مقابل.. كان قلبها الكبير يسع الدنيا.. لقد سرنا معًا في هذا الدرب الطويل الدامي، في فلسطين، فكانت الجناح الوارف يقي من كل حر، والبلسم الشافي يداوي كل جرح"

    بقي أبو سلمى في حيفا، حيث كان يعمل محاميًا، وأرسل زوجته إلى منزل أسرتها في عكا، ولكنه اضطر بعد أيام لمغادرة حيفا إلى عكا في زورق بخاري، وتسقط حيفا بتاريخ 22/نيسان/1948 فيغادر أبو سلمى وأسرته عكا إلى دمشق عن طريق ترشيحا والجبل، ومعه مفاتيح البيت والمكتب على أمل العودة بعد أسبوعين.. وتسقط عكا في 16/أيار/1948، وفي هذا يقول الكرمي:" كنتُ في حيفا عندما سقطتْ عام ثمانية وأربعين، أما عائلتي فكانت في عكا، ولم أستطع الالتحاق بها برًّا، فركبت البحر حاملاً بعض أوراقي ومفتاح البيت، ومن عكا خرجت في الثامن والعشرين من نيسان عام ثمانية وأربعين، وأتيت إلى دمشق، وحين تحسستُ المفتاح في جيبي، تذكرتُ الأندلس، نعم تذكرتُ الطلاب المغاربة الذين كانوا يدرسون في مدارس مدينة نابلس، تذكّرتهم عندما كانوا يتحدثون إليّ، ويقولون بأن مفاتيح بيوتهم في الأندلس ما تزال معهم، لقد ظلّت كلماتهم محفورة في عقلي وقلبي".

     استقر الكرمي في دمشق، و عمل فيها محاميًا تمامًا كما كان في حيفا، وقد ظل جنديًّا في خدمة قضيته على كل المستويات إلى أن أسلم الروح خلال عملية جراحية في يوم السبت الحادي عشر من تشرين الأول سنة ثمانين وتسعمائة وألف... ولئن كنتُ أكتب هذه السطور في الذكرى المئوية الأولى لميلاد هذا الشاعر الكبير؛ فإنني أيضًا أستطيع القول إنني أكتب ما أكتب في الذكرى التاسعة والعشرين لوفاته رحمه الله.

    هذه سطور سريعة من سيرة هذا الشاعر، ومن مسيرته أضعها بين يدي القاريء الكريم وفاءً لذكرى الشاعر الكبير.. على أنه لا ينبغي أن أنهي هذه السطور  قبل أن أعد بدراسة نقدية لشعره، و بدون أن أضع بين يدي القارئ الآن شيئًا من شعر الكرمي.. يقول أبو سلمى:

        

        

         يا أخي أنتَ معي في كل درب//فاحمل الجرحَ وسر جنبًا لجـنبِ

         قد مشيناها خطًى دامـــيةً//أنبتتْ فوق الثرى أنضــرَ عشبِ

         فهنا الأيتامُ في أدمــــعهمْ// وهنا تهوي العذارى مثل شُهبِ

         وشيوخٌ حملوا أعوامَــــهمْ//مثقلاتٍ بشظــايا  كلِّ خَطْـبِ

         هم ضحايا الظلمِ هل تعرفُهم//إنهم أهلي على الدربِ وصحبـي!!

 

ومن قصيدته "الخالدان الشعب والموطنُ" قوله:

         دمي روى فلتصـــمت الألسنُ//أروعُ شعر القلب لا يُعـــلَنُ

         ما أروعَ الصمـــتَ إذا ما رَوى// مأساةَ شعبي قلبيَ المثْــخنُ

         يعبقُ شعري بشـذى موطـــني//لولاه لا يزكـــو ولا يَحسُنُ

         شعريَ جسرٌ يلــــــتقي فوقه// أهلي بما يحلو وما يُشـجنُ

         وكلّ شعرٍ لم يصـــــغه الهوى//وتربتي السـمراءُ مستَهْجَنُ

         وكلُّ حرفٍ لم يكـــــــن نورُه// مقَتَبَسًا من نارنا يُلــعَنُ

         نقصفُ كالأرمـــــاحِ لا ننثني//في الروع أو نخضعُ أو نذعنُ

         ولا نُبالي في ســـــبيل اللقاء//نُقتلُ أو نُصــلبُ أو نُسجنُ

         يا وطنــــــي حتّامَ لا نلتقي؟//وأنت في قلـــوبنا تسكنُ

4/10/2009

 


ليست هناك تعليقات: