عزيزتي .. عزيزي


ما أجمل أن نلتقيَ على كلمة طيبةٍ في كلَّ يوم ! ما أجملَ أن نلتقيَ لِنحقَّ حقا ، ونزهقَ باطلا ونحيي ثقافة ، وننصفَ مظلومًا ، وننقدَ واقعًا أليمًا ، ونوقدَ شمعة تمزق من حولنا الظلام .
أعزائي .. يا أنصارَ الحق ، وطلابَ الحقيقة ، ومحبي الخير والجمال أفرادًا ، وجماعاتٍ ، ومجموعاتٍ ، ومؤسساتٍ ، نساءً ، ورجالا ، فتية ، وفتيات .. يا كلَّ المؤمنين بحق شعبنا العربي الفِلسطيني في العيش باحترام ، وأمن ، وأمان فوق ثرى وطنه الغالي فلسطين .. ويا كلّ عشاق هذه اللغة العربية من أبنائها وبناتها ، ومعلميها ومُتعلميها .. يا كلّ شعبنا.. يا كلّ العرب .. يا كلّ المؤمنين بحق الشعوب في الخلاص من التبعية ، والاستعباد ، والاستبداد ، وبحقها في التحرر، والبناء ، والإعمار ، والسيادة على ترابها الوطني ... هذا موقعكم .. ستجدون فيه ما يسركم من فكر ، ورأي ، ومقال سياسي ، واجتماعي ، واقتصادي ، وثقافي ، ونقدي ، وأدبي .. ستجدون فيه نثرًا وشعرًا ، وقصة ، وحكاية ، وستجدون فيه كتبًا ، ومتابعاتٍ ، ومقابلاتٍ ، ومواجهاتٍ ، ومراسلاتٍ ، ومساجلاتٍ ..ستجدون فيه كثيرًا مما كتبتُ على امتداد العقود الماضية ، وبخاصة في " القدس " المقدسية ، والبيادر السياسي ، وغيرهما من مطبوعات هذه الديار وصحفها .. وسأوافيكم من خلاله بكل ما سأكتب ... مكتفيـًا في هذه المرحلة بالكتابة إليكم ، حتى إذا ما فرغتُ من إحياء ما لديّ من قديم( مخطوطٍ ومطبوعٍ) ووضعتـُه بين أيديكم في موقعكم هذا ، وتفرغتُ بشكل كامل للكتابة في قضايا الساعة فتحتُ المجالَ أمامكم للمشاركة ، والمساهمةِ ، والنقاش والحوار ، والأخذ والرد على غرار ما تفعله كثير من المواقع الرائدة التي نكنّ لها كل الاحترام ، وندين لها بالولاء والعرفان ، ونتقدم منها بالتحية والتقديروالامتنان .
أرحب بكم في موقعكم هذا .. موقع الأسرى ، والعمال ، والفلاحين ، والطلبة ، والمثقفين ، والكتـّاب ، والأدباء ، والشعراء .. موقع المؤسسات ، وكافة أحرار هذا الوطن وحرائره ..مثمنـًا وقوفكم إلى جانبي .. آملا أن يكون لي شرف الإسهام في خدمة الوطن والمواطن في بلادنا العزيزة فِلـَسطين .. وفي كل ديار العروبة والإسلام.
عدنان السمان
15/6/2008


الثلاثاء، ١٥ أيلول ٢٠٠٩

رمضــــانيات   يكتبها عدنان السمان

 

    

منذ أن كان القرآن الكريم، ومنذ أن كان الإسلام العظيم، ومنذ أن أخذ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، ومنذ أن كانت دولة الإسلام وثقافته وحضارته الزاهرة.. بدأت الدنيا تستفيق على هذا السيل العرم من الأعلام المسلمين في كافة أوجه الحياة، وزواياها المختلفة.. ولا زال هذا السيل الهادر يتدفق بأمر ربه.. فيه نورٌ، وفيه هدًى، وهو رحمةٌ للعالمين.

    وإسهامًا من " القدس" في تكريم أعلام هذه الأمة، وفي محاولة منها لربط حاضر هذه الأمة بماضيها، وصولاً إلى مستقبل مشرق في ظل نهضة شاملة –جريًا على مألوف عادتها- فقد رأت إدارتها أن تقدم في هذه الزاوية واحدًا من أعلام هذه الأمة في كل يوم من أيام هذا الشهر الفضيل. والسلام عليكم.

من أعلام الإسلام...........(1)

 

 

 

 

    ما إن أسلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الروح، ملبّيًا نداء ربه، حتى ارتدّ كثير من العرب عن الإسلام، ولقد أفزع هذا الأمر كثيرًا من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المدينة المنورة.. حتى عمر بن الخطاب الذي عُرف بقوته، وصدق إيمانه..ولكنّ خليفة رسول الله (عليه الصلاة والسلام) لم يضعف، ولم يستسلم للردة والمرتدين.. بل إنه خالف كل من حوله من قادة المهاجرين والأنصار حين قرر تسيير الجيوش لقتال هؤلاء المرتدين، مؤكدًا إصراره على ذلك بقوله: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم حتى يؤدوه.. لقد كان هذا الرجل مقلِّدًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) متَّبعًا لسنّته، رافضًا الخروج عن هذه السنّة الشريفة قيد أنملة.

    كان على صلة وثيقة بمحمد الأمين في الجاهلية، وكان أول من صدّقه، وآمن به، ودخل الإسلام عندما دعاه (صلى الله عليه وسلم) إليه.. ففي رواية للسيدة عائشة أنه خرج يريد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبعد أن لقيه، دعاه الرسول الكريم إلى الإسلام، فأسلم.. ثم إنه جاء عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، ودعاهم إلى الإسلام، فأسلموا.. ثم جاء عثمان بن مظعون، وأبا عبيدة عامر بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبا سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وانطلقوا جميعًا بصحبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حيث أعلنوا إسلامهم.

    وكان (رضي الله عليه عنه) أزهد الناس، وأشدهم تواضعًا في مأكله ومشربه وملبسه.. وكان مطبوعًا على الخير مع الحدّة التي كانت فيه، مفطورًا على الفضيلة، صارفًا همته عن متع الدنيا وشهواتها، وكان عاقلاً حليمًا متّزنًا سخيًّا، يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكَلّ، ويُقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان في دقة تكوينه، ولطف خلقه، شجاعًا غير هيّاب ولا وجل.. وكان وقورًا حليمًا موسومًا بالفضل بصيرًا بأدق الأمور، أريبًا فطنًا راجح العقل حاضر البديهة، وكان(رضوان الله عليه) مثالاً يُحتذى في العدل والإنصاف، ولم يكن مكثارًا في القول ولا مهذارًا.. يصوم النهار، ويقوم الليل.. وكان أشد ما يكون سخاءً في رمضان.. تقول عائشة (رضي الله عنها) إنه بعد موته لم يترك دينارًا ولا درهمًا، وكان قد أخذ قبل ذلك ماله، فألقاه في بيت مال المسلمين.

    مما قاله ليزيد بن أبي سفيان عندما وجّهه إلى الشام: إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثّل، ولا تقتل هرِمًا، ولا امرأة، ولا وليدًا، ولا تعقرنّ شاةً، ولا بعيرًا، إلا ما أكلتم، ولا تحرقَنّ  نخلاً، ولا تخزيَنَّ عامرًا، ولا تَغلُلْ، ولا تبخَسْ.

    ومما قاله لخالد بن الوليد حين وجّهه لقتال أهل الردة: سر على بركة الله، فإذا دخلت أرض العدو؛ فكن بعيدًا عن الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة، واستظهر بالزاد، وسر بالأدلاّء، ولا تقاتل بمجروح، فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات، فإن في العرب غرّةً، وأقلل من الكلام، فإنما لك ما وعي عنك، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.

    ومما قاله عندما ولي الخلافة: أما بعد أيها الناس! قد وُلّيت عليكم، ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن، وسنّ النبي السّنن؛ فعلّمنا أن أكيس الكَيَس التقى، وأن أحمِقَ الحمْق الفجور.. ألا إن أقواكم عندي الضعيف، حتى آخذ له بحقه.. وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق... أيها الناس! إنما أنا متَّبع، ولستُ بمبتدع، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني.. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم..أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    وبعد

    فهذا هو أبو بكر الصدّيق.. خليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأول من آمن به، وصدّق دعوته، إنه عبد الله بن أبي قحافة، عثمان بن عامر بن كعب التَّيميّ القرشيّ أبو بكر ثاني اثنين إذ هما في الغار، ولقبه عتيق، لبشارة النبي (صلى الله عليه وسلم) إياه بأنه عتيق من النار، ولد في العام الحادي والخمسين قبل الهجرة، وتوفي في العام الثالث عشر للهجرة.. رضي الله عنه وأرضاه.

 

من أعلام الإسلام............(2)

 

 

   

 

 

    يرى كثير من المؤرخين أنه المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية.. جمع بين اللين والعنف، والقوة، والضعف، وأظهر كل واحدة من هذه الصفات في وقتها، وفي مناسبتها دون إفراط أو تفريط.. إلى جانب إيمانه الراسخ

-كإيمان العجائز- كان (رضي الله عنه) من أشد المؤمنين بالعقل والفكر والرأي لا يمنعه مانع من إعمال عقله، والمجاهرة بفكره، وإبداء رأيه في كل ما يرى ويسمع، وفي كل ما يُعرض من شؤون الرعية وشجونها.. آمن بالعدل المطلق وسيلة لبناء المجتمع السليم المعافى، الخالي من الشوائب والأدران.. يسهر الليل متفقّدًا أحوال الناس، باحثًا عن أوجاعهم، وأسباب معاناتهم، عاملاً على حل مشكلاتهم، وتوفير الأمن والأمان لكل فرد من أفراد رعيته.. حاسب الولاة والعمال وسائر فئات المجتمع حسابًا غير يسير، ولم تأخذه في الحق لومة لائم.. كان شجاعًا، وفيًّا، ملهَمًا، يقظًا، كفيًّا، عادلاً، زاهدًا، ذكيًّا، خشنًا، واضحًا، قويًّا، محبًّا لرعيته، حريصًا عليها.

    أعز الله به الإسلام، وأعلى به شأن المسلمين المستضعفين، وسخّره لخدمة دولة الإسلام، وأمة الإسلام عشر سنين سنّ خلالها القوانين، وأنشأ الدواوين، وبنى جيش المسلمين، ونظّم علاقتهم بغيرهم من الأمم داخل الدولة وخارجها، وفرض لكل مولود نصيبه من بيت مال المسلمين.

    قال يومًا لأصحابه: دُلّوني على رجل أستعمله. قالوا: وما شرطك فيه؟ قال: إذا كان في القوم، وليس أميرَهم، كان كأنه أميرُهم.. وإذا كان أميرَهم كان كأنه رجلٌ منهم!! وسأل يومًا مَن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير مَن أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنتُ قضيتُ ما عليّ؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله، أَعمل بما أمرته أم لا.

    بعد أن عاد أبو سفيان من زيارة لولده معاوية والي الشام سأله أمير المؤمنين عمّا حمل معه، فأنكر أبو سفيان أن يكون قد أحضر معه شيئًا. فمدّ أمير المؤمنين يده إلى إصبع أبي سفيان، وتناول خاتمه، وأعطاه لرسوله، وقال له: اذهب إلى هند زوج أبي سفيان، وأعطها هذا الخاتم، وقل لها إن أبا سفيان بعثني يريد ما أحضره من الشام. وصدّقت هند، وسلّمته خرجين فيهما عشرة آلاف درهم، فطرحهما أمير المؤمنين في بيت المال.

    كان حريصًا على نزاهة القضاء كل الحرص.. ومن أبرز الأدلة على ذلك رسالته إلى أبي موسى الأشعري إذ يقول: لا يمنعنّكَ قضاء قضيتَه اليوم، فرجعتَ فيه لعقلك، وهديتَ فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

    وهو الذي يقول: من كتم سرّه كان الخيار في يده. أعقل الناس أعذرهم للنّاس. من لم يعرف الشر كان أجدر أن يقع فيه. أشكو إلى الله ضعف الأمين، وخيانة القوي. لا يكن حبُّك كلفًا، ولا بغضك تلفًا. تفقّهوا قبل أن تُسوَّدوا . ارووا الأشعار فإنها تدل على الأخلاق. لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء، فقسمتُها على الفقراء. يا معشر الفقراء ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح السبيل، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالاً على المسلمين.

    لقد كان هذا الخليفة العادل يحصي ثروات الولاة قبل أن يوليهم، ثم يحاسبهم في كل عام، وكان يطلب منهم أن يحضروا إلى المدينة نهارًا، وكان يسأل عنهم أهل أقطارهم في مواسم الحج، ويرسل إليهم من يتعرف أعمالهم. لقد حرق باب البيت الذي بناه سعد بن أبي وقاص والي الكوفة، وقال: إن بيت الوالي لا باب له!! وقد حاسب خالدًا، كما حاسب عمرو بن العاص، وأبا هريرة، وزار معاوية بن أبي سفيان في الشام، وكان على صلة دائمة بالولاة في مصر والشام والعراق وفارس وشبه الجزيرة العربية يعرف أخبارهم، ويحاسبهم، ويأمر بالإحسان إلى الرعية، وإشاعة العدل بين صفوفها.. وكان يعتزم زيارة كل هذه الأقطار، والوقوف على أحوال الناس والولاة عن كثب إلا أن المنية عاجلته قبل أن يحقق هذا الهدف.. ومع ذلك فإن ما فعله هذا الخليفة خلال فترة حكمه يقف شاهدًا على عبقرية قلّ أن يجود الزمان بمثلها، وإخلاص وصدق في العمل، وتحمل للمسئولية لم يشهد التاريخ مثيلاً له إلا في سجلّ العظماء الخالدين.

 إنه عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، الخليفة العادل، الفاروق، الرجل الذي أعز الله به الإسلام.. رضي الله عنه وأرضاه.

 

من أعلام الإسلام...........(3)

 

 

 

 

 

 

     أحبه من أبناء زمانه كثير من المسلمين حبًّا نابعًا من حبهم للرسول الأعظم صلوات الله عليه، كيف لا؟ وهو ابن عم الرسول الأكرم، وأول من آمن به من الفتيان، وثالث المؤمنين بعد أبي بكر وخديجة، وهو زوج ابنته فاطمة الزهراء، والدة الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    مقاتل شرس، خاض معارك الإسلام الأولى في بدر، وأُحد، وخيبر، والخندق، وحُنين، وأبلى فيها البلاء الحسن، وقد رأى فريق من المسلمين أن يبايعوه بالخلافة بعد موت الرسول الكريم، لقوة إيمانه، وشدة فصاحته وبلاغته، وقربه من الرسول الأكرم عليه السلام، ونشأته في بيت النبوة المطهرة، إلا أن بيعته قد تمت بعد مقتل الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان.

    خاض معركة الجمل، منهيًا بذلك عصيان البصرة، وكاد أن ينهي عصيان معركة صفين، إلا أن القدر لم يمهله، إذ اغتاله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي.

    كنيته أبو تراب. وهو صاحب أول مدرسة بلاغيَّة بيانيّة خطابيّة في الإسلام تحولت فيما بعد إلى حركة ثقافية فكرية واسعة أثْرت، الفكر العربي الإسلامي، وأثّرت في سائر مناحي الحياة العربية الإسلامية في كل مجتمعاتها وتجمعاتها.. ولا تزال.

    توفي رضي الله عنه في العام الأربعين للهجرة (661م) وكان قد بويع بالخلافة في العام الخامس والثلاثين للهجرة (656م).

    لم يكن راغبًا في الخلافة بسبب الفتن والحروب التي شهدها ذلك العصر، وصبغَتْه بصبغتها، ولكنه رضي بها، وتحمّل مسئوليتها نزولاً عند رغبة المسلمين، واستجابةً لنداء ضميره عندما رأى أن الأمر متعلق بمصير هذه الأمة، وهذا الدين. وقد لخص هذا حين قال: "لقد أتيتموني فقلتم لي بايعنا. فقلت لكم لا أفعل. وقبضتُ يدي فبسطتموها. ونازعتكم كفّي فجذبتموها. وقلتم لا نرضى بذلك، ولا نجتمع إلا عليك. فبايعتموني، وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذنا للعمرة، فسارا إلى البصرة؛ فقتلا بها المسلمين، وفعلا بأهلها الأفاعيل".

    كان (رضي الله عنه) قاضيًا فقيهًا، وكان يُقال: "قضية ولا أبا الحسن لها"، وكان يقول: سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أم نهار، في سهل أو في جبل.. وكان يقول: ألا أنبئكم بالفقيه حق الفقه: من لم يُقنط الناس من رحمة الله، ولم يُرخص لهم من معاصي الله، ولم يُؤمنهم من مكر الله.

    أما ابنه البكر الحسن(3-50هـ/ 624-670 م) فقد بويع له بالخلافة بعد مقتل أبيه، ولكنه آثر عدم القتال، وترك الخلافة، ومات في المدينة المنورة. وأما ابنه الثاني الحسين المتوفَّى في العام الحادي والستين للهجرة (680م) فقد أقام في المدينة حتى خلافة يزيد، رافضًا مبايعته، داعيًا إلى الخلاص من الحكم الاستبدادي الفردي. وقد استدعاه الكوفيون لمبايعته بالخلافة. كان في قلة من أصحابه لا يبلغون المائة عندما اصطدم بالجيش الأموي في كربلاء. أبى الاستسلام فقُتل في العاشر من محرم في السنة الحادية والستين للهجرة (10 من تشرين الأول 680م) ودفن في كربلاء.

    بانتهاء ولاية هذا الخليفة الرابع كانت نهاية مرحلة، وبداية مرحلة أخرى في تاريخ الإسلام.. نهاية عهد الخلفاء الراشدين بصورته النبوية العمرية الدقيقة..

    إنه أمير المؤمنين، الخليفة الراشدي الرابع، علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، زوج فاطمة، والد الحسن والحسين سبطي رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وسلم) سيف الله المسلول، علم من أعلام الإسلام الخالدين.

 

 

من أعلام الإسلام...........(4)

 

 

 

 

 

 

 

    قال فيه عمر بن الخطاب إنه فتًى من قريش يضحك في الغضب، ولا يُنال ما عنده إلاّ على الرضي، ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه.

    وقد عُرف عنه أنه كان جميل الصورة، حلو الحديث، هادئ السمة أنيقًا. لا يغضب مهما حاول محدثه إغضابه، ولا يضع سيفه حيث يكفيه سوطه، ولا يضع سوطه حيث يكفيه لسانه. وقد اتخذ كل وسيلة إلى توطيد مُلكه وسلطانه، وكانت شربة العسل التي يقدمها قضاءً على خصمه، حتى عُرف عنه قوله: إن لله جنودًا منها العسل.

    كان حليمًا حكيمًا رحب الصدر واسع الحيلة.. تحدث عن نفسه فقال: كأنما بيني وبين الناس شعرة، إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.. كان أحيانًا يتظاهر بتصديق محدثيه كسبًا لقلوبهم. جاءه رجل من الكوفة قائلاً إن داره التي أحرقها واليه عبد الرحمن بن الحكم بمائة ألف درهم، وشهد له بذلك رجل آخر فأمر له بها.. ولما خرجا أقبل معاوية على جلسائه، وقال لهم: أي الرجلين أكذب؟ والله إني لأعرف داره، وما هي إلا خصائص قصب، ولكنهم يقولون فنسمع، ويخادعوننا فننخدع!!

    استمال إليه أحد دهاة العرب المعروفين عمرو بن العاص، وكان لهما بالحيلة والحلم ما أرادا.. لقد عمل واليًا على الشام عشرين عامًا قبل أن يصبح خليفةً للمسلمين، وأميرًا للمؤمنين.. وعندما توجه الخليفة العادل إلى بيت المقدس ليتسلمه من صفرونيوس بناءً على رغبة الأخير خرج هذا الوالي للقاء الخليفة في موكب عظيم، فلما دنا منه قال له: أأنت صاحب هذا الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نحن بأرضٍ جواسيس العدوِّ بها كثير؛ فيجب أن نُظهر من عز السلطان ما نرهبهم به. فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال له عمر: إنه لرأيٌ أريب، وإن لم يكن فهو خدعة أديب! قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك، ولا أنهاك!!

    واصل هذا الخليفة ( الذي أسس لدولة أموية عربية إسلامية عاشت في الشرق مئة عام، وفي الغرب مئات الأعوام) بعوث الجهاد والفتوح، فبعث عبد الله  بن سوار إلى بلاد السند فيما يلي خراسان. ووصل المهلب بن أبي صفرة إلى لاهور، وغزا الدولة الرومانية برًّا وبحرًا، وبلغ عدد قطع أسطوله ألفًا وستمائة سفينة فتح بها رودوس، وبعض الجزر اليونانية، وأرسل الشواتي والصوائف لحصار القسطنطينية، وكان على رأس واحدة منها، وأرسل عقبة بن نافع لفتح إفريقية.. جدد شباب دولة الإسلام، وأعانته حكمته وذكاؤه وتجاربه وقراءاته على أن يدبر الملك، ويرضي الناس، ويحسن التصرف،  ويحفر بقوةٍ بصماته على جدار الزمن.

    وبعد

    فهذا هو الفتى الذي كان يسير يومًا إلى جانب أمه في الطريق، فرآه أحدهم، وقد هاله ما في عينيه من معاني الذكاء، وملامح النجابة والفصاحة، فقال لأمه هند: هذا الفتى سيسود قومه!! قالت بشيء من الكِبْر: ثكلتُه إن لم يسد إلا  قومه!! فتى الأمس هذا هو خليفةُ اليوم، وعلمٌ من أعلام الإسلام، ومؤسسٌ لدولةٍ، هي الأولى من نوعها في التاريخ.. إنه معاوية بن أبي سفيان المتوفَّى في العام الستين للهجرة (680م) غفر الله له، ورضي عنه وأرضاه.

 

 

من أعلام الإسلام...........(5)

 

 

 

 

 

 

    من أبرز فرسان هذه الأمة، ومن أشهر أعلام الإسلام، وأعظمهم شأنًا، وأبعدهم ذكرًا.. قدّم للإسلام والمسلمين خدمات لا تعدّ ولا تُحصى من خلال انتصاراته المؤزرة التي أحرزها في ميادين القتال.. خاض أكثر من مئة معركة لم يُهزم في واحدة منها.. كُتب في عبقريته العسكرية، وفي شخصيته القيادية الفذة كثير من الكتب والمؤلفات، كان أحدها للأديب العربي المصري عباس محمود العقاد في سلسلة عبقرياته التي أتحف بها المكتبة العربية.. لم تكن عبقريته العسكرية، وتكتيكاته المبتكرة متمثلة في الهجوم فقط، ولكن عبقريته هذه تجلت أيضًا في المقدرة الخارقة على الانسحاب المنظَّم، وإنقاذ الجيش من هزيمة ساحقة تأتي على الغالبية العظمى من أفراده، كما حدث في مؤتة بعد أن استشهد قادة الجيش الثلاثة، وأصبح الجيش قاب قوسين أو أدنى من هزيمة ماحقة محققة، لقد تمكن هذا القائد الفذ من الانسحاب بالجيش دون خسائر تُذكر، حتى عاد به سالمًا إلى مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) ولقد ذكر التاريخ يومها أن أهل المدينة المنورة قد رَمَوا الجيش بالحجارة والحصى، وهم يوجهون التهم للمقاتلين، ويصفونهم بالفُرّار.. ويتدخل الرسول الكريم صلوات الله عليه قائلاً: "بل هم الكُرّار إن شاء الله" وهكذا كان.

    ولئن كان أَحد جنرالات أمتنا قد ألغى بعض المساقات الدراسية المتعلقة بالانسحاب من الكلية العسكرية بدعوى أنه لا وجود للانسحاب في قاموس الجيش الذي يتولى قيادته، ولئن مني هذا الجنرال بعد ذلك بهزيمة شنعاء رهيبة، فإن هذا القائد الملهم موضوع حديثنا في هذه الحلقة الخامسة من أعلام الإسلام، في هذا الشهر الفضيل كان قد وضع خطة محكمة، ومساقًا في تكتيك الانسحاب قبل خمسة عشر قرنًا من الزمان، وإن جنرالات الغرب والشرق، والكليات العسكرية فيهما دون استثناء تدرّس مساقات في الانسحاب، إلى جانب مساقات الهجوم سواء بسواء.

    وما قاله هذا القائد الخالد وهو على فراش الموت في حمص:" لقد شهدتُ مائة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف، أو رمية من رمح.. ولقد طلبتُ القتل في مظانّه، فلم يقدَّر لي إلا أن أموت على فراشي كما يموت البعير، ما من عمل أرجى عندي وأَحبَّ بعد أن لا إله إلا الله من ليلةٍ شديدة الجليد في سريّة من المهاجرين.. وما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محبٌّ، أو أُبشَّر فيها بغلام أَحبَّ إليّ من ليلة شديدة الجليد في سرية المهاجرين".

    كانت لهذا القائد الفذ عمامة تزينها قلنسوة من شَعر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذلك أن الرسول الكريم حلق رأسه في إحدى عمراته، فسبق هذا القائد غيره من المسلمين، وأخذ ناصيته عليه السلام، واتخذ منها هذه القلنسوة.. ومن الجدير بالذكر أن هذه العمامة المزّينة بهذه القلنسوة التي تبرّك بها، قد صحبته –رضوان الله عليه- في معاركه.. ومن الجدير بالذكر أنه قد كُسرت في يده سبعة أسياف في معركة مؤتة المشار إليها آنفًا، ولم تثبت في يده إلا صحيفة يمانية، وفي هذا ردٌّ قاطع على بعض من قالوا إنه قد آثر الانسحاب دون قتال.

    لقد حارب في العراق، ومعه المثنى بن حارثة الشيباني، وأحرز انتصارات مؤزرة على الفرس في الحيرة والأنبار وغيرهما، قبل أن يطلب إليه أبو بكر أن يتوجه إلى الشام بنصف جيش العراق لينضم إلى الجيوش الأربعة التي وجهها (رضي الله عنه) لفتح الشام، لقد كانت الخطة التي اتبعها هذا القائد في قطع الصحراء دليلاً آخر على عبقرية عسكرية غير مسبوقة في تاريخ المعارك والحروب، فقد تجنب الطريق المألوفة السهلة لوجود قبائل موالية للروم فيها، وآثر السير في طريق صعبة لا ماء فيها بعد أن أعدّ للأمر عدته، فأحضر الإبل وعطّشها، ثم أوردها الماء عَلَلاً بعد نَهْل، فلما امتلأت صرّ آذانها، وشدَّ مشافرها حتى لا تجترّ، ثم انطلق بالجيش فقطعوا المسافة في سرعة قياسية، لقد قطعها في خمسة أيام! كان الجيش خلالها يستريح في كل يوم، فيأكل الجنود، ويشربون مما معهم من ماء، ثم يشقّون بطون بعض الإبل للحصول على ما في جوفها من ماء!! ولما كان اليوم الخامس وصلوا أرض الشام، وكان أول ما فعله هذا القائد أن وحّد الجيوش الأربعة في جيش واحد ضمّ إليه من معه من جند، وطلب من القادة أن يتولى القيادة في كل يوم واحدٌ منهم، كما طلب أن يكون هو القائد في اليوم الأول، فوافقوه على ذلك.. وكانت معركة اليرموك الحاسمة.. وكان النصر المؤزر، وكان قول أبي بكر:" والله لأنسيَنَّ الروم به وساوس الشيطان!!".

    وعندما عزله عمر بن الخطاب عن القيادة بعد وفاة أبي بكر قال: أنا لا أحارب من أجل عمر، وإنما أحارب في سبيل الله، وظل هذا القائد جنديًّا تحت إمرة أبي عبيدة الذي كلفه عمر بقيادة الجيش حتى تم فتح بلاد الشام كلها.

    لقد عاد هذا القائد الخالد بعد ذلك إلى حمص، وبقي فيها حتى لقي وجه ربه عن خمسة وخمسين عامًا.. ولم يجدوا في بيته عند وفاته سوى فرسه وسلاحه الذي وقفه للجهاد في سبيل الله .

    إنه خالد بن الوليد المتوفّى في السنة الحادية والعشرين للهجرة (642م) وكان إسلامه في السنة السادسة للهجرة (629م) علم من أعلام الإسلام الخالد.. سيف الله المسلول الذي قال فيه عمر: رحم الله أبا سليمان، لقد كان على غير ما ظنناه به.. رحم الله أبا بكر، فقد كان أعلم مني بالرجال.

     رحم الله أبا سليمان خالد بن الوليد، ورضي الله عنه وأرضاه، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(6)

 

 

 

 

 

  

 هو الخليفة الأموي الثامن، وهو خامس الخلفاء الراشدين.. كان في أيام صباه أنيقًا يُرخي شعره، ويُسبل إزاره، ويتبختر في مشيته، وكان غنيًّا مترفًا منعَّمًا.. عاش في مصر في دار الإمارة بين عَظَمة المُلك وجلال السلطان.. يلبس الرقيق من الثياب، ويمشي مشية جده الفاروق عمر بن الخطاب.

    أوصى له سليمان بالخلافة، فلما مات سليمان ودُفن، توجه إلى المسجد بعد أن نحّى عنه حامل الحربة، وطلب من الناس أن يختاروا لأنفسهم لأنه يرفض الخلافة التي أوصى بها سليمان دون مشورة..عندها صاح الناس في المسجد قائلين:" قد اخترناك يا أمير المؤمنين" فجمع إليه صحابته والعلماء وقال: من أراد أن يصحبني فليصحبني بخمس: يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي إليه، ويكون على الخير عونًا، ويبلّغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ولا يغتاب عندي أحدًا، ويؤدي الأمانة التي أحملها مني ومن الناس.

    وفي أول عهده بالخلافة خرج عليه شّوْذَب الخارجي فكتب إليه يقول:"بلغني أنك خرجتَ غضبًا لله ولرسوله، ولستَ أولى بذلك مني، فهلمَّ إليَّ أُناظرْكَ، وإن كان الحق بأيدينا دخلتَ فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا" فكتب شَوْذَب إليه يقول:" قد أنصفتَ، وقد بعثتُ إليكَ رجلين يدارساٍنك ويناظرانك" وأرسل إليه مولًى لبني شيبان حبشيًّا اسمه عاصم، ورجلاً من بني يشكر، وناقشهما الخليفةُ، وسمع إليهما، واستمعا له. وبعد ذلك قال له عاصم:" أشهد أنك على حق".ٍ بهذه البراعة واللباقة واجه هذا الخليفة خصومه السياسيين، لقد جادلهم بالتي هي أحسن، واتّبع أسلوب الحُجة بالحُجة، والبرهان بالبرهان.. والرأيُ السديد هو سيد الموقف، وهو الحَكم والفيصل..فأحبه الناس، ونعموا خلال مدة خلافته التي دامت سنتين وخمسة أشهر بالأمن والأمان والعدل والعدالة والاطمئنان.

    إلا أن العداء قد جاءه من "البيت الأموي" نفسه بسبب مواقفه الإصلاحية: المالية والإدارية التي انتهجها، فقد أبطل هذا الخليفة كثيرًا مما استحدث بعض خلفاء الأمويين، ومنها الأعطيات والهبات التي فرضوها لأمراء بني أمية.. ومن ذلك أنه ألغى أعطية عشرين ألف دينار كان سليمان قد أمر بها لعتبة بن العاص؛ فلما جادله عتبة قال له الخليفة: عشرون ألف دينار تُغني أربعة آلاف بيت من بيوت المسلمين، وأدفعها إلى رجل واحد؟ والله، والله ما إلى ذلك من سبيل!! ومن ذلك أيضًا أنه قطع الإعانة التي كانت تحصل عليها عمته، فلما راجعته في ذلك قال لها: يا عمة، إنهم كانوا يعطونك من مال المسلمين، وليس ذلك المال لي، ولكنني أعطيك من مالي إن شئتِ.. لقد ردّ هذا الخليفة العادل مظالم بني أمية كلها، وما جاءه رجل في مظلمة اغتُصبت إلا ردّها إليه ببيّنةٍ يسيرة.. ومن هذا أن الوليد كان قد أقطع حوانيت معروفة بحمص لروح بن زنباع، فطلب الخليفة منه أن يعيدها، وعندما رفض ابن زنباع أرسل إليه من يأتيه برأسه إذا لم يسلّمها!!

    إن الأمثلة على عدل هذا الخليفة واستقامته لا تكاد تُحصى عددًا على الرغم من قِصَر مدة خلافته، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على أمرين: حرص هذا الخليفة على إشاعة العدل، وإغلاق ملفّ المظالم.. وأما الأمر الثاني فهو كثرة هذه المظالم والمخالفات بسبب حياة الترف والبذخ التي عاشتها فئة من الناس في عهد بني أمية، ولا سيما من متنفذي "البيت الأموي" وأنصارهم والمقربين منهم.. وقد تمكن هذا الخليفة من العودة بالناس إلى أيام جده الفاروق رضي الله عنه.

    إنه الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بن مروان.. الخليفة الأموي الثامن.. خامس الخلفاء الراشدين.. الرجل الذي أصبح بعد الخلافة زاهدًا في كل أمور الدنيا، توّاقًا إلى الآخرة.. العابد الذي وصفه أنس خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بقوله:"ما صليتُ خلف إمام بعد رسول الله أشبه بصلاة رسول الله من إمامكم هذا"..

    ولد رضوان الله عليه في العام الحادي الستين، وتوفي في العام الواحد بعد المائة للهجرة (681-720م) رضي الله عنه وأرضاه.

 

 

من أعلام الإسلام...........(7)

 

 

 

 

 

 

 

    أول الأئمة المجتهدين الأربعة الذين يسميهم الناس أصحاب المذاهب.. لقّبته الأمة "الإمام الأعظم"، ولقّبه بعضهم بلقب "فقيه العراق" وقال آخرون إنه "إمام أهل الرأي"... وُلد في الكوفة في العام الثمانين للهجرة، أما وفاته فكانت سنة وخمسين ومائة للهجرة.. وهذا معناه أن الإمام الأعظم قد عاش حياته بين عهدين هما: عهد الدولة الأموية، حيث ولد في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان.. وعهد الدولة العباسية، حيث حضرته الوفاة في زمن الخليفة العباسي الأول أبي جعفر المنصور.. شهد له الإمام الشافعي بالريادة في الفقه، والنبوغ فيه، حتى قال إن الناس في الفقه عيالٌ عليه، كما شهد له بالفصاحة والبيان فقال:"كان أفصح الناس، وكان إذا تكلم خُيّل إلى سامعه أن القرآن الكريم نزل بلغته".

    وإذا كانت مصادر التشريع الإسلامي هي القرآن الكريم، والسنّة النبوية، والإجماع، والقياس، ومن وراء ذلك كله الاجتهاد.. وهو استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها؛ فإن هذا الفقيه لم يبتعد كثيرًا أو قليلاً عن هذه القاعدة.. فكان يقول:" آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإن لم أجد أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم" وربما كان هذا الفقيه (المتمكن من فهم القرآن الكريم، والسنّة النبوية المطهّرة من قول وفعل وتقرير، والمتمكن أيضًا من لغته) على حق في عدم أخذه بقول بعض أصحابه (عليه السلام) مفضّلاً إعمال الرأي القائم على فهم القرآن الكريم، والإحاطة التامة، بمناسبات نزول آياته، والقائم أيضًا على فهم الأحاديث النبوية الشريفة فهمًا تامًّا.. ولعمري فإن هذا هو الاجتهاد الذي لا يغلق بابه أبدًا، لأن إغلاقه يعني ببساطة وقف العمل بالأحكام الشرعية الضرورية لمواجهة متطلبات الحياة في مختلف العصور.

    وكذلك، فإن هذا الإمام الذي جمع بين التجارة، والفقه، وعلوم العربية، وعلم الكلام، والأدب، والمقدرة الخارقة على الفهم واستنباط الأحكام الشرعية من مصادرها.. لم يكن متعصبًا لرأيه مطلقًا، ولا يحمل الناس عليه.. بل كان يقول بكل تواضع:" قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسنَ منه، فهو أولى بالصواب منا"..

    ولما نصح ابنه"حمّاد" أن يبتعد عن الجدل والمناظرة في علم الكلام والعقائد قال حمّاد: رأيناك تناظر فيه، وتنهانا عنه.. فأجاب الإمام:" كنّا نناظر، وكأن على رؤوسنا الطير، مخافة أن يزلَّ صاحبنا (أي مناظرنا) وأنتم تناظرون، وتريدون أن يزلَّ صاحبكم!! ومن أراد أن يزلّ صاحبه، فقد أراد أن يكفر صاحبه، ومن أراد أن يكفر صاحبه، فقد كفر!!" .

    ومن وصاياه وحِكَمه الخالدة قوله: أنزِلْ كلّ رجلٍ منزلته.. وأكرم كلَّ أهل الشرف.. وعَظّمْ أهل العلم، ووقّر الشيوخ، ولاطف الأحداث، وتقرَّبْ من العامة، ودارِ الفجّار، واصطحب الأخيار، ولا تتهاون بسلطان.. ولا تحقرّن أحدًا.. ولا تُقَصّرَنَّ في مروءة، ولا تُخرجَنَّ سرَّك إلى أحد.. ولا تثق بصحبة أحدٍ حتى تمتحنه.. ولا تُخادنْ خسيسًا ولا وضيعًا.. ولا تألف ما ينكر عليك في ظاهره.. وإياك والانبساط إلى السفهاء، وعليك بالمداراة، والصبر والاحتمال، وحسن الخلق، وسعة الصدر، واستجدَّ ثيابَ كسوتِك، واستفرِهْ دابَّتَك، وأكثِر استعمالَ الطِيب.. وابذلْ طعامَك، فإنه ما ساد بخيل قط.. ولتكن لك بطانةٌ يعرّفونك أحوال الناس وأخبارهم.. واعمل في زيارة من يزورُك، ومن لا يزورك، والإحسان إلى من يحسن إليك أو يسيء..."

    هو علم من أعلام الإسلام قلّ أن يجود الزمان بمثله.. إنه الإمام الأعظم النعمان بن ثابت بن النعمان بن المرزبان (والمرزبان في لغة فارس حاكم الولاية، أو صاحب الأرض)  المعروف بأبي حنيفة النعمان، رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه، وجزاه عنا خير الجزاء.

من أعلام الإسلام...........(8)

 

  

 

 

 

 

    ثاني الأئمة الأربعة المجتهدين، ولد بعد ميلاد الإمام الأول أبي حنيفة النعمان بثلاث عشرة سنة، وسمي بإمام دار الهجرة، وإمام أهل الحجاز، وأحد تابعي التابعين، وإليه انتهى فقه المدينة وفقهائها السبعة، وهو صاحب (الموطَّأ) الذي تواطأ على صحته سبعون عالمًا من علماء المدينة والأنصار، وكان جده الأول "مالك بن أبي عامر" من كبار التابعين، وكانت كنيته "أبو أنس".. أخذ العلم من تسعمائة شيخ منهم "نافع" مولى عبد الله بن عمر.. حفظ القرآن الكريم واستظهره، وحفظ الحديث النبوي الشريف، وقد روي عنه أنه قال:" كتبتُ بيدي مئة ألف حديث" وروي عنه أيضًا قوله:" إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم.. لقد أدركتُ سبعين ممن يقولون: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عند هذه الأساطين- وأشار إلى أعمدة المسجد- فما أخذتُ عنهم شيئًا، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان أمينًا، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن"!!

    عجيب أمر هذا الإمام الفقيه.. عجيب أمر إمام دار الهجرة، إمامِ أهل الحجاز الذي كان يأخذ بفتوى الصحابة، وكان يأخذ بالإجماع، وبعمل أهل المدينة، وكان يأخذ بالقياس، وكان يأخذ بالاستحسان والعُرف، وسد الذرائع، وبالمصالح المرسَلة بشرط أن لا تتنافى مع أصول الدين، ولا تتعارض مع دليل قطعيّ الثبوت من أدلته، ومشترطًا أيضًا أن تكون المصلحة مقبولةً عند ذوي العقول، وأرباب الفهم، وأن يرتفع بها الحَرجُ، لقوله تعالى:" وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَج" .. أقول عجيبٌ أمر هذا الإمام الفقيه الذي كان يبدو – في الظاهر- على هذا القدْر من التساهل في  استنباطه واجتهاده.. في الوقت الذي رفض أن يأخذ فيه شيئًا من سبعين ممن يروون الأحاديث، بعد أن كتب بيده مئة ألف حديث!!

    ولكن هذا العجب سرعان ما يتلاشى ويزول إن نحن أدركنا سبب تشدده مع أولئك، وسبب تساهله مع هؤلاء.. لقد تشدد الإمام مع أولئك الرواة –رغم أمانتهم واستقامتهم-  لأنهم – كما قال- لم يكونوا من أهل هذا الشأن!! أي أن رواية الحديث الشريف ليست من اختصاصهم، وليسوا مؤهلين لها، ولا تتوافر فيهم الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الراوي، وعليه فقد قرر عدم الأخذ منهم.. ولقد تساهل مع هؤلاء لأنهم صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولأنهم من أهل الفقه والعلم، ولأنهم أهل المدينة الذين لازموه (صلوات الله عليه) وفهموا الرسالة حق فهمها.. لقد تساهل هذا الإمام الفقيه مع هؤلاء، وتشدَّد مع أولئك، وكان على حق في هذا كله..فقد قرر علماء السنَّة أنه كان ثقةً ضابطًا عَدْلاً مدقِّقًا في اختيار من يروي عنهم، وهو الذي عُرف عنه إلى جانب ذلك عنايته الفائقة التي لا توصف بحديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقرروا أيضًا أن "سنده" (رضوان الله عليه) يحظى بأعلى درجات الصحة عندهم.

    قال للخليفة المهدي عندما طلب منه أن يوصيه:" أوصيك بتقوى الله وحده، والعطف على بلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجيرانه، فإنه بلغنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:" المدينة مَهاجري، وبها قبري، وبها مبعثي، وأهلها جيراني، وحقيقٌ على أمتي حفظي في جيراني، فمن حفظهم كنتُ له شفيعًا وشهيدًا يوم القيامة".

    وعندما أبدى الخليفة الرشيد رغبته في اطّلاع ولديه على "الموطَّأ" قال له إن العلم يؤتى، ولا يأتي.. وذهبا إلى المسجد ليسمعا درس هذا الفقيه مع الناس، بشرط أن لا يتخطَّيا رقاب الناس!! بل إن الرشيد نفسه عندما حج في أحد الأعوام طلب منه أن يحمل إليه كتاب "الموطَّأ" حتى يسمعه منه، فرفض.. وأمر الرشيد أن يسعى هو إلى العلم، فوافق الرشيد على السماع في بيت هذا الفقيه!!

    إنه مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن غيمان بن حُثيل بن عمرو بن الحارث.. علم من أعلام الإسلام.. ثاني الأئمة الأربعة المجتهدين.. إمام دار الهجرة.. إمام أهل الحجاز.. المولود في العام الثالث والتسعين من الهجرة، والمتوفَّى سنة تسع وسبعين ومئة.. رضي الله عنه وأرضاه.

من أعلام الإسلام...........(9)

 

 

 

 

ثالث الأئمة الأربعة المجتهدين، ولد في غزة بفلسطين في الليلة التي مات فيها أبو حنيفة، وحملته أمه من غزة إلى عسقلان، ومنها إلى مكة، ومن ثم توجه إلى المدينة، وقرأ موطَّأ مالك بن أنس، وأقام نحو عشر سنوات يستمع إلى شروح أستاذه الذي قال فيه: ما أتاني قرشيٌّ أفهم من هذا الفتى.. وبهذا أضاف علم أساتذته الستة بالمدينة إلى علم أساتذته الخمسة الذين روى عنهم بمكة.. ومع كل المؤهلات التي اجتمعت فيه، إلا أنه لم يجلس للإفتاء في المدينة، أو في مكة بعد إذ مات مالك بن أنس، ولكنه راح يجمع إلى علم الحجاز علم اليمن، وعلم الشام، وعلم مصر عن طريق اثنين من الأربعة الذين روى عنهم من اليمن، ويقرر أن يضع يده بعد هذا كله على فقه العراق، فيكون له ذلك!!

    ولئن شرط العلماء في المفسِّر شروطًا كثيرة منها العلم باللغة، والنحو، والصرف، والاشتقاق، والمعاني؛ والبديع، والقراءات، والأصول، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والحديث، والفقه.. فإن هذا الإمام قد درس ذلك كله، كما درس كل علم وجده، ووقعت عليه يداه، أو سَمْعُه، أو بَصَرُه شيعيًّا كان كمقاتل بن سليمان، أو معتزليًّا كإبراهيم بن أبي يحيى، أو حنفيًّا كمحمد بن الحسن... لقد اجتمعت كل هذه الثقافات، والتقت كل هذه العبقريات في هذا الإمام الذي كان يقول:" من أراد الحديث الصحيح فعليه بمالك، ومن أراد الجدل فعليه بأبي حنيفة، ومن أراد التفسير فعليه بمقاتل بن سليمان".

    لقد تمكن هذا الإمام من فقه الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، بعد أن تمكن من فقه الإمام مالك بن أنس في الحجاز، الأمر الذي لم يتح لأحد من قبل، وما إن بلغ الرابعة والثلاثين حتى كان في يده كل علم العراق، وهو شأو لم يبلغه أستاذه مالك، كما لم يكن عند مدرسة العراق وأساتذتها سنن الحجاز كلها، ولا سيما مكة والمدينة، وقد تجاوز في هذا أبا حنيفة النعمان.. وهكذا بلغ هذا الفقيه أعظم مبلغ من الدراسة لنفسه قبل أن يتصدى للتدريس.. بل إنه قد طاوَلَهما وساجَلَهما فسبقهما في حلبة اللغة. والسبق فيها ضرورةٌ للاجتهاد. والسبق فيها أيضًا ذروةٌ تسمو به إلى معارج أعلى لإدراك القرآن الكريم، والسنّة النبوية. وهكذا وضع هذا الإمام حجارة الأساس لاستنباط الفقه الإسلامي من القرآن الكريم والسنّة على منهاجه الذي دوّنه في مكة، وأذاعه في العراق، واتخذ مصر قاعدة لنشره في العالم.

    ومما هو جدير بالذكر في سيرة هذا الإمام الفقيه، وفي مسيرته أن الإمام أحمد بن حنبل كان يجلّه كل التجلة، ويحضر حلقات درسه، ويعجبه في نقاشه احتجاجه بأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينما يحتج غيره أحيانًا بأقوال الفقهاء، وكان يجادل بنصوص الكتاب، وبنصوص الأحاديث والسنن.. وكان اسحق بن راهويه يجلّه، بعد أن أخطأ بحقه، ويقول:" لولاه لما عرفنا فقه الحديث.. وكان يقول أيضًا: كانت أقضيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا هذا الإمام، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وسنة رسول الله.

    ومن مأثورات هذا الفقيه: العلم أفضل من صلاة النافلة. من طلب علمًا فليدقق. فقر العلماء فقر اختيار، وفقر الجهّال فقر اضطرار. ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. أصحاب المروءات في جهد. من ولي القضاء ولم يفتقر فهو لصٌّ خارب.

    إنه الإمام الشافعي أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن السائب بن عبيد ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وفي هذا الجد يلتقي مع الرسول الأعظم "صلوات الله عليه".. علمٌ من أعلام الإسلام الخالد.. أديب لغوي فقيه شاعر.. ناصر الحديث والسنّة.. المولود في غزة بفلسطين سنة خمسين ومئة (150هـ)، والمتوفّى في مصر المحروسة بأمر الله في ليلة الخميس بعد المغرب في آخر ليلة من شهر رجب سنة أربع ومئتين من الهجرة (204هـ)، ودفن في اليوم التالي لوفاته أي يوم الجمعة، ودفنه بنو عبد الحكم في مقابرهم. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أهل السنّة، وأصحاب الحديث خير الجزاء.

من أعلام الإسلام...........(10)

 

   

 

 

 

هو رابع الأئمة المجتهدين الذي أناروا الطريق لهذه الأمة، وخلّفوا لها ثروة فقهية هائلة تجنبها الزلل، وتهديها سواء السبيل.. وقد وُلد هذا الإمام في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين ومئة ببغداد بعد أن خرجت به أمه جنينًا من مدينة أبيه مرو، وتوفي ضحى يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومئتين للهجرة.

    عاش هذا الإمام حياة الفاقة منذ صغره، وكان يعمل في صناعة الثياب، ويلتقط السنابل والحبوب من الحقول بعد الحصاد، وكان يكتب بالأجرة أحيانًا.. غير أنه في كل ذلك كان يتحرى الحلال، ويرفض أي عون من أحد.. لقد حجّ هذا الإمام ماشيًا ثلاث مرات، وحجّ مرتين راكبًا.

    وكغيره من فقهاء هذه الأمة، فقد حفظ القرآن الكريم، واستظهره، ودرس اللغة العربية، وتعلم الكتابة، والتحرير في الديوان وهو في الرابعة عشرة من عمره.. كما طلب العلم في كثير من البلدان، ومنها مكة، والمدينة، واليمن، والكوفة، والبصرة، وبلاد الشام، منصرفًا إلى علم الحديث، وأهل المأثور.. مبتعدًا عن مذهب أهل الرأي، وإعمال العقل، ومحبي الجدل والمناظرة... وقد صنّف هذا الإمام "مسنده" ذائع الصيت، مخاطبًا ابنه عبد الله بقوله:" احفظ هذا المسند، فإنه سيكون للناس إمامًا" وفي هذا المسند جمع أربعين ألف حديث من أصل سبعمائة ألف حديث، وكان شعاره رضوان الله عليه:" مع المحبرة إلى المقبرة"!!

    ولما بلغ سن الأربعين، وكان على هذه الحال من المعرفة بعلم الحديث وبالرجال، تصدّر حلقة الدرس في المسجد الجامع ببغداد، متلمسًا خطى أهل الحديث والمأثور.. ولم يختلف هذا الإمام عن غيره ممن اعتبروا القرآن الكريم المصدر الأول من مصادر الفقه والتشريع، تتلوه السنّة النبوية الشريفة، وأقوال الصحابة، وأفعالهم، وفتاواهم بعد ذلك، ثم اللجوء إلى القياس، والإجماع، والمصالح المرسلة، والذرائع.. أما معظم أحكامه وفتاواه فجاءت موافقة لمقتضيات الأحوال.. غير أنه كان متشدِّدًا في بعض المواقف كوجوب المضمضة والاستنشاق في الوضوء، ووجوب الوضوء من لحوم الإبل.

    على أن المِحنة التي تعرض لها هذا الفقيه هي القول بخلْق القرآن، عندما طلب أحمد بن أبي داود وزير المأمون ذلك سنة ثماني عشرة ومئتين للهجرة.. ولقد تعرض هذا الإمام للعذاب والإهانة لأنه رفض هذا القول متمسكًا بفتواه القائلة بأن "القرآن الكريم هو كلام الله غير المخلوق بصوت وحرف، وأن من قال غير ذلك فقد كفر" لأن كلام الله وهو القرآن الكريم صفة من صفاته سبحانه، والله قديم لا أول له، وبالتالي فإن صفاتِه أيضًا قديمة لا أول لها، وهذا معناه أن القرآن الكريم، وهو صفة من صفاته، قديمٌ، ولا يمكن أن يكون مخلوقًا.

    إنه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن فاسط بن مازن بن شيبان المروزيّ البغدادي المعروف بأحمد بن حنبل الذي يلتقي بنسبه مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في نزار بن معدّ بن عدنان..

    علم من أعلام الإسلام الخالد.. إمام أهل السنّة.. الفقيه المجتهد الذي لم يمالئ سلطانًا، ولم يتقرّب من أهل النفوذ.. بل قضى حياته بين عمله في الفقه والحديث والاجتهاد.. والتردد على المسجد، وزيارة المرضى، وتشييع الموتى، رحم الله الإمام ابن حنبل، ورضي عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام وأهل السنّة خير الجزاء.

 

 

من أعلام الإسلام...........(11)

 

 

 

   

لا بد من التوقف عند هذا القائد الذي كان لإيمانه وشجاعته وإخلاصه وثقته بنفسه أكبر الأثر في فتح العراق وفارس، ونشر الإسلام في تلك الديار.. ولا بد أولاً من التوقف عند دخوله في الإسلام؛ حيث قدم هذا الفارس على النبي الكريم في وفد من قومه في السنة العاشرة للهجرة، وأشهر إسلامه.. ثم كانت وفاته صلوات الله عليه.. وكانت حروب الردة في عهد أبي بكر.. وكان هذا الفارس قد اندفع يعبّر عن استيائه من الردة والمرتدين، وما أثاروه في شبه الجزيرة العربية من حروب ما كان لها أن تُثار لولا خروجهم عن جادّة الحق والصواب.. اندفع هذا الفارس في مجموعات من قومه بني شيبان يغير على أطراف دولة الفرس، وعلى أتباعها من العرب، موقعًا بهم الخسائر، ومحقِّقًا الانتصارات التي بلغت أخبارُها المدينة المنورة؛ الأمر الذي حدا بعمر بن الخطاب أن يسال عن هذا الفارس الذي "تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه" فيجيبه قيس بن عاصم: أما إنه غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا قليل العدد، ولا ذليل الغارة.

    بعد أن حسم أبو بكر الموقف، وأعاد المرتدين إلى حظيرة الإسلام، قرر أن يلبي دعوة ذلك القائد الذي بعث يطلب مددًا، فأرسل إليه خالدًا بعشرة آلاف مقاتل، وكان معه ثمانية آلاف، فخاضا معًا معركة ذات السلاسل، وتم فتح الحيرة.. ثم كانت رغبة الخليفة في أن يتوجه خالد إلى الشام بنصف جيش العراق لمؤازرة الجيوش الأربعة هناك.. وبقي هذا القائد "الشيباني" في العراق بتسعة آلاف مقاتل، حيث اتخذ من الحيرة مقرًّا لقيادته، وهزم الفرس في بابل، ولا حقهم بجيشه إلى المدائن.

    في معركة "البويب" أرسل له "مهران" قائد الفرس (وهو على الضفة الأخرى من الفرات) يقول: إما أن تعبر إلينا، وإما أن نعبر إليك.. فقال: اعبروا.. وقد كان من نتيجة تلك المعركة التي وقعت في رمضان أن قُتل مهران على يد غلام نصراني استولى على فرسه بعد أن قتله، وتمكن "الشيباني" من إحراز النصر، ولكنه أصيب بجراح مميتة.. ولقد توفي قبل وصول سعد بن أبي وقاص، تاركًا له وصية مفصَّلة، وخطة كاملة كان لها أكبر الأثر في النصر المؤزر الذي كان حليف المسلمين في القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص.

    لقد كان هذا القائد شجاعًا مقدامًا متأثرًا بأسلوب خالد بن الوليد في الحرب هذا الأسلوب القائم على توجيه ضربة سريعة خاطفة للعدو، ضربة تُفقده توازنه واتزانه، وتلحق به خسائر كبيرة من الصعب أن تقوم له قائمة بعدها.. لقد كانت معركة "البويب" التي خاضها هذا القائد الفارس، مع ما سبقها من معارك وانتصارات أحرزها في ساحة الوغى ضد الفرس مقدمة للنصر المبين الذي كان في معركة القادسية... ولئن كانت معركة اليرموك الفاصلة هي المعركة التي أدت إلى فتح بلاد الشام؛ فإن معركة القادسية هي المعركة التي أدت إلى فتح العراق.. وفي المعركتين كلتيهما نرى بصمات خالد بن الوليد، وأسلوبه في الحرب.. هذا الأسلوب الذي أتقنه هذا القائد الفارس الشجاع.. المثنى بن حارثة الشيباني.. تلميذ خالد بن الوليد.. علم من أعلام الإسلام الخالد.. المتوفَّى في أوائل السنة الرابعة عشرة للهجرة.. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(12)

 

 

   

 في العام الثالث والتسعين للهجرة، وفي زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، تم فتح الأندلس على يدي القائدين الكبيرين طارق بن زياد، وموسى بن نصير.. أما موسى فكان قد حلّ بإفريقيا واليًا سنة ثمان وسبعين للهجرة، وأما طارق فكان أحب فتيان قبيلة "نفرة" البربرية إلى قلب موسى لخصال ميزت هذا الفتى، وكان على رأسها البطولة والفروسية والحماسة.. لقد عيّنه موسى حاكمًا على طنجة، (بعد أن سيطر عليها، واختطّ مدينة القيروان) ثم عهد إليه بحرب القوط، وتدمير مملكتهم.. وقد اتجه موسى صوب مدن شاطئ البحر يريد "سبتة" التي كانت بداية فتح الأندلس.. إذ أرسل إليه "يوليان" معاهدًا على السمع والطاعة (لخلاف بينه وبين "لذريق" حاكم الأندلس، بسبب اغتصابه "فلوريدا" ابنة الكونت يوليان حاكم سبتة.. "يوليان" إذن يدعو موسى إلى فتح الأندلس انتقامًا من لذريق.. وموسى يبدأ العمل، فيرسل "طريفًا" للإغارة على هذه الجزيرة، ثم يرسل "طارقًا" في سبعة آلاف مقاتل غالبيتهم من قومه البربر، ثم يضيف إليهم خمسة آلاف مقاتل عندما علم بأن الملك قاد بنفسه مائة ألف لقتال طارق الذي لحق به موسى، وأغار على الجزيرة من ناحية أخرى لتخفيف الضغط عن طارق.. وهكذا كان.. وتمكن هذان القائدان من السيطرة على الأندلس خلال فترة وجيزة، وبدون عناء يُذكر.. وهكذا أصبحت الأندلس بلادًا إسلامية في عهد الوليد، وتحديدًا منذ العام الثالث والتسعين للهجرة.. أما من لجأ إلى الأندلس من أمراء الأمويين في دمشق بعد هزيمتهم على أيدي الجيوش العباسية الخراسانية في معركة الزاب الأعلى سنة اثنتين وثلاثين ومئة للهجرة، حيث هُزم مروان الثاني آخر خلفائهم في دمشق..أقول إن من لجأ إلى الأندلس من أمراء الأمويين بعد هذه الهزيمة فإنهم لم يفتحوا الأندلس، ولم يضيفوا جديدًا سوى أنهم استولوا على تلك البلاد، وأصبحوا حكامها، وجددوا الحكم الأموي فيها بعد سقوطه في المشرق، بانتصار بني العباس.. لا كما يتوهم كثير من الناس بأن أولئك الأمراء هم الذين فتحوا تلك البلاد!!

    بعد هذه المقدمة التي كان لا بد منها، وبعد هزيمة الأمويين المشار إليها، أرى لزامًا عليّ أن أشير هنا إلى ما قاله احد أمراء الأمويين الشباب يصف هجرته من هذه الديار، إلى إفريقية، ومن ثم إلى الأندلس، حيث أسس هناك دولة أموية عاشت مئات السنين، وتعاقب عليها عشرات الأمراء والحكام من بني أمية، ثم عشرات الأمراء والحكام من غير بني أمية.. وأسس كذلك لحضارة عربية إسلامية عظيمة ضاهت الحضارة العربية الإسلامية في المشرق إبان حكم العباسيين.. يقول هذا الأمير في وصف هجرته تلك:"لما أُعطينا الأمان.. ثم نُكث بنا على نهر أبي فطري.. وأُبيحتْ دماؤنا.. أتانا الخبر.. وكنتُ منتبذًا من الناس.. رجعتُ.. إلى منزلي آيسًا.. ونظرتُ فيما يُصلحني وأهلي.. وخرجتُ خائفًا حتى صرتُ على قرية من الفرات ذات شجر وغياض.. فبينما أنا ذات يوم بها، وولدي سليمان يلعب بين يديّ، وهو يومئذ أربع سنين، فخرج عني، ثم دخل الصبي من باب البيت باكيًا فزعًا، وجعلتُ أدفعه، وهو يتعلق بي، فخرجت لأنظر، وإذا بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطةٌ عليها.. وأخ لي حديث السن يقول: النجاةَ النجاةَ.. فأخذتُ دنانير معي، ونجوتُ وأخي. وأعلمتُ أخواتي بمتوجَّهي، وأمرتهنّ أن يلحقنني مع مولاي "بدر"، وأحاطت الخيل بالقرية، فلم يجدوا لي أثرًا، وأتيتُ رجلاً من معارفي فأمرته، فاشترى لي دوابَّ وما يصلحني، فدلَّ عليَّ "عبد الله العامل" فأقبل في خيل له يطلبني.. فخرجنا على أرجلنا هرابًا، والخيل تبصرنا، فدخلنا في بساتين على الفرات، فسبقتنا الخيل على الفرات، فسبحنا. أما أنا فنجوتُ، والخيل ينادوننا بالأمان، ولا أرجع. أما أخي فقد عجز عن السباحة في نصف الفرات، فرجع إليهم بالأمان، وأخذوه وقتلوه، وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملتُ فيه ثكلاً، ومضيتُ لوجهي، فتواريتُ في غيضةٍ حتى انقطع الطلب عني، وخرجتُ، فقصدتُ المغرب، حتى بلغتُ إفريقية".

    لقد كان هذا الأمير عندما مر بهذه التجربة في التاسعة عشرة من عمره عندما وصل إلى شاطئ الفرات، وعندما عبر البحر حتى وصل إلى الشاطئ الآخر هربًا من تلك الرايات.. فلما وصل اليابسة ظل يضرب في الأرض حتى وصل إلى إفريقية، وعبر فلسطين، ومصر، حتى نزل بلاط عبد الرحمن بن مصعب الفهري أمير المغرب، ومنها عبر الأندلس، فدعا إلى الأمويين، واستجاب له الناس. والتفّوا حوله مؤيدين مبايعين، فأسس ذلك المُلك، وأسس لتلك الحضارة... ولقد وصفته كتب التاريخ بأنه كان مديد القامة، نحيف القوام، له خالٌ في وجهه. يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد، ويخطب على المنابر، ويعود المرضى، ويكثر مخالطة الناس، والمشي بينهم.. كان قاسيًا في مقاومة الدسائس، ذا قدرة على مواجهة الدماء المسفوكة، وقد حكم الأندلس ثلاثة وثلاثين عامًا. واتخذ من قرطبة عاصمة لإمارته.. وكان شاعرًا وناثرًا وعالمًا بالشريعة.. وكان البطل الذي وحّد الكلمة، وجمع الشمل، وجدّد الأندلس، وبنى الدولة الأموية بعد سقوطها في المشرق، وكان المنصور ألد أعدائه، ولكنه أنصفه من نفسه حين وصفه بصقر قريش قائلاً:" الحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر".

    إنه صقر قريش.. عبد الرحمن بن معاوية بن هشام.. المعروف بعبد الرحمن الداخل المتوفّى عام اثنين وسبعين ومئة للهجرة (172هـ) علم من أعلام الإسلام.. ومثلٌ أعلى في علوّ الهمة، وقوة الإرادة، والمقدرة الخارقة على مواجهة الشدائد، وعدم الاستسلام لليأس.

 

 

من أعلام الإسلام...........(13)

 

 

 

 

   

    كان في الحادية والعشرين من عمره عندما ولي الحكم، وقد كان لشجاعته، وسداد رأيه، وغيرته على البلاد والعباد أعظم الأثر في التصدي للفتن التي كادت أن تقوّض أركان الدولة الأموية في القارة الأوروبيّة.. كما كان لفصاحته وقوة بيانه وفروسيته أكبر الأثر في التفاف الجيش حوله، فسار به لإخضاع قرطبة وإشبيلية، وإعادة سلطة الدولة إليهما، وتمكن بقوة شخصيته من توحيد القبائل، وجمعها على كلمة سواء، وتمكن من النفاذ إلى مرسيه، ومهاجمة طليطلة، واستعادة ما أضاعه أسلافه.. يواصل الغزو والغارة، ويلاحق عدوه حتى لا يحرز أي نصر، وحتى لا يحصل على أدنى غنيمة من ديار المسلمين هناك.. كل ذلك في إطار من الرفق والحلم والتسامح.. بعيدًا عن القسوة والعنف.. فقد كان يقبل من العصاة توبتهم، ومن الخارجين على القانون طاعتهم، وقد قال المؤرخون الغربيون إنه أبدى تسامحًا وكرمًا نحو النصارى الذين أخلصوا للدولة.. ويذكر التاريخ أيضًا أنه تصدى للمجاعة التي عصفت بالبلاد عام خمسة عشر وتسعمائة للميلاد، فوزع الصدقات، وقدّم المؤن والمعونات، وأحسن إلى الناس كل الإحسان حتى خرجوا من تلك المجاعة بسلام وأمان.. وما إن تم له ذلك حتى راح يلاحق المتمردين في غرب الأندلس إلى أن تم له سحق ذلك التمرد، وفرض سلطان الدولة على تلك الربوع التي كان أول خليفة أموي عليها.. لقد تمكّن هذا الخليفة من توثيق الصلات بين العرب، والبربر، والإسبان، والمسلمين، ومدعي الإسلام أيضًا.. لقد جمع كل هذه الفئات وغيرها من فئات ذلك المجتمع وشرائحه في وحدة واحدة عصيّة على الطامعين والمتربصين من أعداء الدولة الخارجيين والداخليين.. لقد تقرّب إليه كثير من ملوك الفرنجة، وملوك الروم بالهدايا، ومنهم قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينية.

    لقد بنى هذا الأمير مدينة الزهراء التي كانت غايةً في الجمال، وفاقت صفاتها ومواصفاتها كل خيال.. لقد بناها، وأطلق عليها اسم الزهراء وهو اسم زوجته التي طلبت منه أن يبني مدينة باسمها.. ومما جاء في وصف هذه المدينة أن لها خمسة عشر ألف باب ملبّس بالحديد والنحاس المموّه! وأن سقف بهو الخليفة وحيطانه من الذهب! وبنافورته تمثال عجيب أهداه إليه ملك الروم، وأن في وسط البهو حوضًا مُلئ بالزئبق الرجراج، وإلى كل جانب منه ثمانية أبواب من العاج والأبنوس قد رُصِّعت بالجواهر! فإذا دخلت أشعة الشمس من هذه الأبواب، ولاقت اهتزاز الزئبق ملأت البهو ببريق يشبه لمعان البرق، حتى أن الحاضرين يحجبون أعينهم بأيديهم اتقاء شدة لمعانه!

    ولقد جلب لها الأمير الرخام الأبيض والأخضر والوردي من قرطاجنة وتونس والشام والقسطنطينية.. ولقد عمل في بنائها خمسة آلاف رجل بتكلفة بلغت ثلثمائة ألف دينار في كل عام، وقد استغرق بناؤها خمسة وعشرين عامًا.. أما المسجد فقد تم بناؤه في ثمانية وأربعين يومًا.. ولقد عمل فيه ألفٌ من العمال والصناع في كل يوم.. أما قرطبة في عهد هذا الخليفة فقد بلغ عدد سكانها أكثر من خمسمائة ألف، وبلغ عدد مساجدها ثلاثة آلاف مسجد! وحمّاماتها ثلثمائة! وضواحيها ثمان وعشرين ضاحية.. أما الجباية في عهده فقد بلغت خمسة آلاف ألف

(خمسة ملايين) وأربعمائة وثمانية آلاف دينار في كل عام..

    ولقد خلّف هذا الأمير عند وفاته ما قيمته خمسة آلاف مليون دينار!! أما ثلث الجباية فكان للجيش، وللبناء والمنشآت العامة الثلث، وللطوارئ الثلث الأخير.. أما كل هذا الغنى فكان من أهم أسبابه استتباب الأمن والهدوء الذي حرص هذا الأمير على توفيره لرعيته.. ولقد قال فيه البغدادي إنه كان أغنى ملوك عصره!! وقد ترك أحد عشر ولدًا.. وعندما سئل عن شدة اهتمامه وعنايته بالبنيان قال: أريد به مواجهة الفرنجة بمظاهر أشد قوة، ليكون ملكُ المسلمين أشدَّ هيبةً ومكانةً.. أما أيام السرور في حياته فقد بلغت ( كما أحصاها ابن خلدون) أربعة عشر يومًا على امتداد واحد وسبعين عامًا عاشها مقاتلاً وبانيًا!!ٍ أما فترة خلافته فقد بلغت نيِّفًا وخمسين عامًا، وهي أطول فترة أمضاها خليفة مسلم في الحكم!! ولقد كان هذا الأمير نَحْويًّا شاعرًا مؤرخًا فارسًا أديبًا، وكان له شاعره الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد..

    إنه عبد الرحمن الناصر المولود في قرطبة، والمتوفّى فيها (277-350هـ) (890- 961م) علم من أعلام الإسلام الخالد، وعبقري شهد له كل من عرفه بالفضل والقوة والتميّز.. رحمه الله، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(14)

 

 

 

 

 

   

    لا أريد في هذه العجالة أن ألخص تاريخ هذا الخليفة، لأن تاريخه لا يلخَّص، ولا يكثَّف، بل إن كل حادثة، وكل محطة من أحداث هذا التاريخ وحوادثه، ومحطاته الكثيرة بحاجة إلى كثير من الشرح والتحليل والتطبيق، بحيث يغدو هذا الرجل كتابًا لا ككلّ الكتب، وسفرًا ليس مثل كل الأسفار.. لكنني أريد في هذه السطور أن أتوقف قليلاً عند هذه المحاولات اليائسة التي أراد أصحابها أن ينالوا من عظمة هذا الخليفة، وغيره من خلفاء الإسلام لغايات في نفوسهم، وأهداف في قلوبهم وعقولهم تنبَّه لأبعادها ومخاطرها أبناء هذه الأمة الماجدة.. كما أريد أن أتوقف قليلاً عند أبرز المحطات في تاريخ هذا الخليفة الذي ملأ الدنيا، وشغل الناس، ورَئِس أكبر دولة في التاريخ.. وهو الذي قال مخاطبًا السحابة:" أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك".

    حاول بعض معاصريه، وكثير من أهل هذا الزمان ومؤرخيه أن يشوّهوا صورته بما نسبوه إليه من أخبار ملفقة، وممارسات أقل ما يُمكن أن يُقال فيها إنها من نسج  الخيال، وإنها أبعد ما يمكن أن تكون عن رجل عُرف عنه أنه كان يحج عامًا، ويغزو عامًا!! وأبعد ما يمكن أن تكون عن رجل قصد المدينة المنورة من بغداد عاصمة العباسيين للحج، وسماع كتاب "الموطَّأ" لمالك بن أنس الذي رفض أن يذهب إلى هذا الخليفة ليُسمعه الكتاب في مكان إقامته.. لأن العلم يُؤتى ولا يأتي.. ولأن مكانة العلماء في الإسلام تأتي قبل مكانة الخلفاء والسياسيين وقادة الجيوش الفاتحين المنتصرين حتى لو كانوا هم أيضًا من الفقهاء الملمّين بقواعد هذه الشريعة، وأصول هذا الدين.. فيذهب هذا الخليفة إلى بيت هذا العالم الفقيه المجتهد ليسمع ما جاء في "الموطَّأ" دون أدنى شعور بالامتعاض أو الغضب، بل على العكس من ذلك تمامًا، فقد كان الخليفة سعيدًا بذلك كل السعادة!! وكيف يمكن أن تُصدَّق مثل هذه الخزعبلات والافتراءات التي صاغها دَعِيٌّ هنا، ومُدَّعٍ هناك بحقّ خليفةٍ يطلب من هذا الفقيه أن يحضر إليه لتدريس ولديه كتابه هذا ذائع الصيت "الموطَّأ" فيرفض أيضًا، ويقول إن بإمكانهما أن يحضرا إلى المسجد للسماع والاستماع كغيرهما من الناس، على أن لا يتخطَّيا الرقاب، بل أن يجلسا حيث ينتهي بهما المجلس.. ويكون ذلك للفقيه!!

    بل، كيف يمكن أن تُصدَّق مثل هذه الادعاءات بحق خليفة أَجْمَعَ أهل زمانه على أنه كان يصلي مائة ركعة في اليوم، وأنه كان يتصدق بمائة ألف درهم!! وأنه كان رجل حرب وقتال أتقن قيادة الجيوش، كما أتقن تأديب الخصوم والأعداء.. وليس أدل على ذلك من خطابه لنكفور بأن الجواب هو ما يراه لا ما يسمعه!! وأرسل إليه جيشًا أوله عنده، وآخره في منابت الزيتون كما جاء في كتابه إليه!! وكيف يمكن أن يصدَّق شيء من هذا الذي قيل بحق خليفة كرّم العلم والعلماء إلى الحد الذي جعله يصب الماء على يدي أبي معاوية الضرير بعد أن تناول طعامه معه.. لقد سأله الخليفة بعد ذلك قائلاً: أتدري يا أبا معاوية من صبَّ الماء على يديك؟  ولما أجاب أبو معاوية بالنفي قال الخليفة: أنا يا أبا معاوية!! وكيف يمكن أن يُصدَّق ما قاله أولئك المرجفون في خليفة نظّم الصوائف والشواتي، وحرص على إرسالها للحرب، وكان ما كان من خروجه على رأس الجيش عندما نقض الروم عهدهم، وحاولوا الامتناع عن دفع الجزية!! وبالطبع فإن ما قيل في هذا الخليفة العظيم، يقال أيضًا في كل من تناولتهم تلك الألسنة بكلام السوء ممن هم حوله، وعلى رأسهم أمه الخيزران، وزوجه زبيدة أم الأمين التي عهد إليها بإنشاء القصور، وتعمير المساجد، وحفر العيون والآبار، وهي التي قالت عند البدء بمشروع عين زمزم: احفروا، ولو كل ضربةِ فأسٍ بدينار!!

    لقد كان هذا الخليفة محبًّا للشعر، والأدب، والفن، والغناء.. كما كان محبًّا للفقه، وعلوم العربية والقرآن.. وهو الذي التف حوله أبرز رجال العلم ومنهم الأخمصي، وأبو عبيدة، والكسائي، والواقدي، وأبو يوسف تلميذ أبي حنيفة النعمان، ومروان بن أبي حفصة، وأبو العتاهية.. ولمَ لا يستمع الخليفة إلى الغناء والموسيقى والشعر؟ ولم لا يكون شاعرًا أديبًا فقيهًا لُغويًّا؟ ولم لا يكون ناقدًا أيضًا؟ ألم يكن وراء إسلام عمر بن الخطاب آيات بيّنات من سورة طه؟ ألم يدخل كثير من الناس في دين الله بسبب إعجابهم ببلاغة القرآن الكريم؟ ألم يكن الرسول الكريم ناقدًا عندما مدحه كعب بن زهير بقوله:

إن الرسول لَنورٌ يُستضاء به//مهندٌ من سيوف الهند مسلولُ

     فيقول له الرسول الكريم: قل من سيوف الله، لا من سيوف الهند!! ألم يكن عمر بن الخطاب ناقدًا؟ ألم تكن سكينة بنت الحسين ناقدة؟ ألم يكن عمر بن الخطاب من محبي الاستماع إلى الأغاني؟ ألم نقرأ أنه بينما كان متجهًا إلى مكة في جوف الليل سمع صوتًا يغني فما زال يدفع راحلته حتى دخل بين القوم يسمع إلى مطلع الفجر. ثم قال للقوم: إيه قد طلع الفجر، اذكروا الله!!

    وبعد

    فقد سعدنا هذا اليوم بصحبة هذا الخليفة العظيم هرون الرشيد الخليفة العباسي الخامس (170-193هـ/ 786-809م) ابن المهدي والخيزران.. المولود بالري، والمتوفى بسناباذ بإيران عام ثلاثة وتسعين ومائة للهجرة وهو في الخامسة والأربعين من عمره.. هذا العلم الشامخ من أعلام الإسلام الخالد، الذي حافظ على دولة الإسلام، ومنع المتربصين بها من وضع يدهم عليها، وسرقتها من أيدي أصحابها وأبنائها، رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

 

من أعلام الإسلام...........(15)

 

 

 

 

 

   

    قبل ميلاده بخمسة أعوام سقطت بغداد في أيدي التتار عام ستة وخمسين وستمائة للهجرة، وأصبح المشرق العربي الإسلامي مسرحًا لغزوهم واجتياحاتهم.. أما مصر والشام آنذاك فقد انتهى فيهما حكم الأيوبيين، وقام فيهما حكم المماليك.. من بغداد تقدم هولاكو إلى الشام فاستولى عليها، وتقدم نحو مصر مرورًا بفلسطين التي كان "قطز" سلطان المماليك ينتظره في شمالها هناك عند عين جالوت حيث دارت معركة فاصلة بين الفريقين في يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام ثمانية وخمسين وستمائة وألف للهجرة (1260م) هُزم فيها التتار هزيمة نكراء... وعليه فإن مولد هذا الإمام كان عام إحدى وستين وستمائة للهجرة أي بعد سقوط بغداد في أيدي التتار، وبعد ثلاث سنوات من هزيمتهم النكراء في عين جالوت بشمال فلسطين، وفي أوائل حكم بيبرس.. ولقد عاش في عهد دولة المماليك البحرية التي حكمت الشام واليمن والحجاز وأجزاء من العراق، ولقد عاصر هذا الإمام السلطان الأشرف خليل الذي حارب الصليبيين، وقضى على إمارتهم في الشام عام واحد وتسعين وستمائة للهجرة.

    ولد هذا الإمام هذا الإمام المجاهد في حرّان، وانتقل به والده إلى دمشق ونشأ في بيت علم وفقه وعفّة وزهد.. يقول الذهبي في والده:" كان إمامًا محقّقًا كثير الفنون، وكانت دمشق تضجّ بمجالس العلم، وحلقات العلماء، وكان للحنابلة فيها شأن كبير، ومن أجلّ علمائها آنذاك موفق الدين بن قدامة الذي يقول فيه تلميذه (الإمام موضوع حديثنا في هذا اليوم) لم تر الشام بعد الأوزاعي مثل "موفق الدين" الذي تولى منصب قاضي القضاة في دمشق مدة ثلاثين عامًا (646- 676هـ) ودرس هذا الإمام وتخرج في المدرسة العسكرية بدمشق، وهي المدرسة التي درس فيها وتخرج والده من قبل.. حفظ إمامنا القرآن، واشتغل بالحديث، ونبغ في التفسير، وقرأ كتب الطبقات، وأحب العربية، ونبغ فيها، وقرأ كتاب سيبويه، وحفظ العلوم، واستوعب السنن والآثار، وصار إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، وإن ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه وذو روايته، وإن حاضَرَ بالملل والنِّحَل لم تر أوسع من علمه، ولا أرفع من رايته، برز في كل فن، وكل علم، ولم تر عين مثله، آية في نقد الرجال، عمدة في الجرح والتعديل، وعالم بالتفريع والتأصيل، وإمام في القراءات، وفقيه بمختلف المذاهب والآراء والنظريات.. قام بين الخلق بنشر السنّة، ومذاهب السَّلَف.. شجاعته وجهاده وإقدامه أمر تجاوز الوصف، وفاق النعت، اشترك في حرب التتار، وجاهد في الله بلسانه وسنانه، وشهد له علماء عصره بالتبريز، حتى قال فيه معاصره الشيخ إبراهيم الرقي: الشيخ تقيّ الدين يؤخذ عنه، ويقلَّد في العلوم، فإن قال ملأ الأرض علمًا، فهو على حق.. ولا بد من أن يعاديه الناس، لأنه وارث علم النبوة. وقال فيه العمري: هو نادرة العصر، وهو البحر من أي النواحي أتيته. هو البدر من أي الضواحي رأيته. قطع الليل والنهار دائبين، واتخذ العلم والعمل صاحبين، إلى أن أسر السَّلَف بهداه، ونادى الخلف عن بلوغ مداه.. جاء في عصر مأهول بالعلماء، مشحون بنجوم السماء، إلا أن شمسه طمست تلك النجوم، وبحره غرّق تلك العلوم، ترد إليه الفتاوى فلا يردها، وتغدو عليه من كل وجه فيجيب عنها.. قال فيه الذهبي، والحافظ الزملكاني وغيرهما أكثر من كل هذا وذاك.. إنه الفقيه الذي أجمع على تميّزه وعلى تفرّده في الفقه والجهاد باللسان والسِّنان كل علماء عصره.

    لقد بلغ هذا الإمام رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين، ومع أنه كان حنبليًّا، فقد كان له اجتهاد في مذهب أحمد، ويُنكر التعصب له، ولغيره، وكان يقول: من تعصّب لواحد من الأئمة بعينه فقد أشبه أهل الأهواء، سواء تعصب لمالك أو لأبي حنيفة أو لأحمد أو غيرهم.. وكان يقول إن هذا التعصب كان من أسباب فرقة المسلمين.. ولقد ألّف إمامنا في كل علم، حتى بلغت مؤلفاته الثلاثمائة، مع ما ابتلي به من المحن والحبس الطويل في قلعة دمشق، وفي سجون القاهرة والاسكندرية، فقد سُجن في القاهرة في البرج، وفي الجبّ هو وأخواه زين الدين وشرف الدين، وأخرجه حسام الدين مهنّا بن عيسى شيخ عربان الشام.. لقد صبر فقيهنا هذا على أذى الأمراء، وأذى العامة، وعلى محن الحبس، وكان ينتقّل من سجن على سجن تنقّل النجم من برج إلى برج، حتى أسلم الروح عام ثمانية وعشرين وسبعمائة للهجرة بعد حياة حافلة بالجهاد، ومواقف التحدي، والدعوة لحماية ديار الإسلام من العدوان.

    إنه (تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله الحرّاني) علمٌ من أعلام الفكر الإسلامي الحر، وعلم من أعلام الجهاد والتحدي، وعلم من أعلام الصبر على مقارعة الطغيان، وتحمّل الأذى في سبيل قول كلمة الحق والدين.. إنه الفقيه المجتهد الذي لا تتسع حلقة من حلقات هذا البرنامج للإلمام بفضله وعلمه ومواقفه.. إنه ابن تيمية رحمه الله، ورضي الله عنه وأرضاه، وسلام عليه في الخالدين.

 

من أعلام الإسلام...........(16)

 

 

 

 

 

 

    من أكابر الصحابة الأجلاّء، قيل إنه كان رابع من دخلوا في دين الله، وقيل بل خامسهم، وكان أول من حيّا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بتحية الإسلام.. ارتحل بعد وفاة الرسول الكريم إلى بادية الشام، وبقي فيها إلى أن توفي الراشدان أبو بكر وعمر.. ولما تولى الخلافة عثمان استقر في دمشق، ومن هناك باشر حملته على الأغنياء كي ينفقوا على الفقراء من أموالهم، فقد كان رضي الله عنه مؤمنًا بحق كل إنسان في الحياة الكريمة بعيدًا عن الفقر والحاجة والحرمان، مؤمنًا بالمساواة بين الناس.. كما كان سمحًا شهمًا جوادًا، لم يجدوا في بيته بعد وفاته سنة اثنتين وثلاثين للهجرة ما يكفنونه به!!

    جاء هذا الصحابي الجليل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأعلن إسلامه.. وكان بعد ذلك ما كان من أذى المشركين واعتداءاتهم عليه، ولقد صعب على العباس عم الرسول الكريم أن يراه على هذه الحال، فجاء إلى المشركين قائلاً: تعلمون أن هذا الرجل من "غفار" وأهلها معروفون من هم، وطلب منهم أن يكفّوا عنه حتى لا تنتصر له قبيلته.. وفي الوقت نفسه ذهب إلى هذا الصحابي الكبير طالبًا منه أن يدعو قبيلته إلى الإسلام لكي يتخلص من أذى المشركين، واقتنع هذا الصحابي بالفكرة، وكان بعد ذلك أن شدّت قبيلته أزره بدخولها في الإسلام بعد أن توجهت معه إلى حضرة الرسول الكريم معلنةً إسلامها أمامه، فيقول عليه السلام:" غَفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله" فقد تحررت هاتان القبيلتان من سلطان الوثنية وضلالها، ودخلتا في دين الله وهديه.

    لقد كان هذا الصحابي جريئًا في قول كلمة الحق، لا يحابي، ولا يداهن، ولا يرائي.. ولقد كان سيفًا مصلتًا على رقاب المستكبرين من الأغنياء قساة القلوب، فكان دائمًا يردد قوله تعالى:

" والذين يَكْنزونَ الذهبَ والفضةَ ولا يُنفقونَها في سبيلِ اللهِ فبشِّرهمْ بعذابٍ اليم. يومَ يُحمى عليها في نار جهنَّمَ فَتُكوى بها جباهُهُمْ وجنوبُهم وظُهورهم هذا ما كنزتُمْ لأنفسِكُمْ فذوقوا ما كنتم تَكْنِزون" الآية (35) من سورة التوبة.

    ارتحل هذ الصحابي إلى دمشق ليتابع هناك حملته على الأغنياء المترفين في الوقت الذي يبيت فيه كثير من الناس جياعًا لا يجدون ما يسدّون به رمقهم! فكان يقول بأعلى صوته: عجبتُ لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفَه!! وكان يردّد قوله: إن أمير القوم أول من يجوع إذا جاعوا، وآخر مَن يشبع إذا شبعوا... ولما كانت مواقف هذا الصحابي وكلماته بعيدة الأثر في قلوب الناس وعقولهم، ولما كانت لهذا الصحابي أيضًا مكانته في صفوف المسلمين، فقد كتب فيه معاوية إلى الخليفة عثمان يخبره بما يتفوه به، ويبدر عنه، فاستدعاه عثمان، وحاول أن يتخذ معه موقفًا وسطًا، وتحدث إليه برقَّةٍ وهو يقول له:" ابق معي هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح" فيقول هذا الصحابي:" لا حاجة لي في دنياكم"!! وطلب من عثمان أن يسمح له بالخروج إلى "الربذة" ناحية الكوفة، فأذن له.. وهناك في صحراء الربذة فاضت روح هذا الصحابي الجليل الذي سبق غيره من مفكري شرق الدنيا وغربها ممن حرصوا على إرساء دعائم العدل والعدالة في مجتمعاتهم..نعم، لقد سبق هذا الصحابي إلى تحديد العلاقة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، وسبق إلى تحديد علاقة الدولة بهؤلاء الفقراء، مبيّنًا أن على رأس أولويات الدولة أن توفر لهم أساسيات الحياة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، أو توفر لهم من الأعمال ما يمكّنهم من الحصول على هذه الاحتياجات، وتوفير هذه الأساسيات.

    صحيح أن كثيرًا من فقهاء الإسلام وخلفائه قد عملوا بهذه الفلسفة الإسلامية المستمدة من تعاليم الإسلام ومبادئه الخالدة. ولكنْ صحيح أيضًا أن هذا الصحابي قد بلور هذه الأفكار، وحددّها، وجاهر بها أمام كثير من مترفي زمانه حتى اتهمه كثير منهم بالتشدّد والتحريض ضدهم.. ولكنه مضى لشأنه غير عابئ بهم.

    إنه "جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد، من بني غفار، من كنانة بن خُزيمة، أبو ذرٍّ.. المعروف بأبي ذر الغفاري" الذي روى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مائتين وواحدًا وثمانين حديثًا، وفيه قال الرسول الكريم:" ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء بعد النبيين امرءًا أصدق لهجةً من أبي ذرّ" وفيه قال الرسول الكريم:" يرحم الله أبا ذر.. يمشي وحده.. ويموت وحده.. ويُبعث وحده". رحم الله أبا ذر، ورضي عنه وأرضاه، وجزاه عن فقراء هذه الأمة ومقموعيها خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(17)

 

 

 

    نشأ في دمشق، وتعلم في حلقاتها العلمية، ودرس على كبار علمائها وفقهائها، وكان من أساتذة فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الأسد وغيرهما.. عاش في عصر الدولة الأيوبية، وأول عصر المماليك في مصر.. ومن تلامذته ابن دقيق العيد الذي لقّبه بسلطان العلماء.. ولقد كان إمام عصره في العلم والفتيا والقضاء والورع والتقوى، إلى جانب الشجاعة والجرأة في الحق.. ومن مؤلفاته: شرح أسماء الله الحسنى، شجرة المعارف، تفسير مختصر القرآن الكريم، مختصر النهاية..

    كان عصر هذا الإمام المجاهد في الله حق جهاده عصرًا حافلاً بالحوادث والأحداث.. إنه عصر الحروب الصليبية التي استهدفت فلسطين، وبلاد الشام، ومصر، وعصر غزو التتار للعالم الإسلامي.. وكأن هذين العدوَّين كانا على ميعاد، وكأن تنسيقًا محكمًا كان بينهما، وكأن خطة مرسومة قد سيّرتهما للسيطرة على ديار الإسلام، وتدمير الحضارة العربية الإسلامية الزاهرة، وكأن الشرق والغرب قد اتفقا منذ القدم على محاربة المسلمين والعرب، ووضع اليد- كلما كان ذلك ممكنًا- على ديار العروبة والإسلام.. نعم كان هذا العصر هو عصر فقيهنا موضوع هذه الحلقة في زاويتنا هذه، في شهرنا هذا، في بلدنا هذا.. وكان فقيهنا نجمًا من نجوم ذلك العصر حارب فيه بلسانه وقلبه وعقله وعلمه وبيانه، وحارب فيه أيضًا بسلاحه، وخاض أعنف المعارك وأقساها ضد الصليبيين في المنصورة على أرض مصر الحرة عام ثمانية وأربعين وستمائة للهجرة، تلك المعركة التي حقق فيها المسلمون نصرًا مؤزرًا، وتمكنوا من أسر لويس التاسع ملك فرنسا، حيث تم احتجازه في دار ابن لقمان بالمنصورة قاهرة الصليبيين.

    من أبرز المحطات في حياة هذا الشيخ المجاهد أن سلطان بلده في الشام (الصالح إسماعيل) قد استعان بالصليبيين ضد سلطان مصر نجم الدين أيوب، فغضب هذا الشيخ المجاهد الفقيه، وأسقط اسم السلطان من الخطبة، وحرّض الناس عليه، وهاجمه بسبب خيانته واستعانته بالصليبيين أعداء الأمة، فجّرده هذا السلطان من مناصبه، ولكنه خشي عاقبة عمله، فأرسل إليه من يعرض عليه عودة مناصبه إليه يضاف إليها مناصب جديدة، وصلاحيات واسعة إن هو أعلن تأييده للسلطان إسماعيل، وإن هو قام بتقبيل يده!! فقال شيخنا للرسول:يا مسكين.. أنا لا أقبلُ أن يقبّل سلطانُكم يدي.. إنكم في واد، وأنا في واد آخر.. ثم إنّ شيخنا المجاهد هذا قد خرج من الشام قاصدًا أرض مصر فوصلها عام تسعة وثلاثين وستمائة للهجرة، فأقبل عليه السلطان نجم الدين أيوب مرحّبًا بقدومه، واستقبله أحسن استقبال، وأسند إليه أمر القضاء، وأمر الخطابة في مصر المجاهدة.

    ومن أبرز المحطات في حياة هذا الشيخ المجاهد أن السلطان "قطز" بطل عين جالوت أراد أن يفرض على الناس ضرائب جديدة لمواجهة تكاليف الحرب، ولكن شيخنا هذا رفض ذلك، وقال للسلطان:"لا يجوز أن يؤخذ من الرعية شيء إلا إذا لم يبق شيء في بيت المال، وبعتم مالكم، واقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتساوى الأمراء في ذلك مع الشعب.. أما أخْذ أموال الناس، مع بقاء ما في أيدي غيرهم من الأموال والآلات الفاخرة فلا" .

    ومما يروى أن هذا الإمام صعد يومًا إلى القلعة لتهنئة السلطان بالعيد، فشاهد السلطان وقد أبطرته النعمة، والأمراء يقبِّلون الأرض بين يديه! فصاح بالسلطان: يا أيوب!! ما حجتك عند الله إذا قال لك ألم أبوئ لك ملك مصر؟ وهذه المعاصي تُرتكب علنًا بجوار قصرك، وأنت تتقلب في هذه النعمة!! فخجل السلطان وعاد إليه صوابه.

    كان شيخنا جريئًا في مواجهة ألوان الفساد والانحراف، لا يجامل، ولا يمالئ، ولا ينافق، ولا يرائي، ولا يختلق الأعذار والأسباب لسلاطين زمانه إن هم انحرفوا عن جادّة الصواب، بل كان سيفًا مصلتًا على رقابهم، وسوطًا مشرعًا يؤدب به المنحرفين منهم، ويقوّم به اعوجاجهم، وكان شعاره في كل المواقف: الحق أحق أن يُتَّبع.. وكان يلقي دروسه في الأزهر الشريف، والناس يستمعون في إعجاب لما يقوله هذا الشيخ المجاهد. لقد كتب الله النصر لمصر عندما هبّ شعبها يدافع عن حرية أرضها، بعد أن قاده علماؤه وقادته إلى سبل الرشاد والجهاد واليقين.. فأصبحوا على عدّوهم ظاهرين.

    وبعد

    فهذا هو شيخ هذه الحلقة الإمام أبو محمد، عز الدين، بن عبد العزيز، بن عبد السلام (المعروف بعز الدين بن عبد السلام) شيخ الإسلام، وسلطان العلماء، وعلم من أعلام الإسلام الخالد (577-660هـ) العالم المجاهد في الله حق جهاده، الذي خرج السلطان الظاهر بيبرس والأمراء والناس يشيعون جنازته، بعد وفاته في التاسع من جمادى الأولى من عام ستين وستمائة وألف للهجرة، بل إن السلطان كان يحمل نعش هذا الشيخ المجاهد على كتفه في ذلك اليوم! رحم الله شيخنا المجاهد العزّ بن عبد السلام، وجزاه عن شعب مصر والشام وكافة شعوب الإسلام خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(18)

 

 

 

 

 

 

    لئن اندفع عقبة بن نافع في قلب إفريقية السمراء، ولئن واصل السير حتى بلغ المحيط، ودفع فرسه في الماء قائلاً:" والله لو أعلم أن خلف هذا البحر بلادًا لخضته مقاتلاً في سبيل الله!!" ولئن كان طارق قد عبر البحر، وأحرق المراكب.. فإن هذا القائد الفاتح موضوع حديثنا في هذا اليوم قد وصل إلى بلاد الصين.. هذا العربي المسلم الفاتح الذي اندفع من منابت الزيتون في بلاد الشام مقاتلاً في سبيل الله، وصل الصين، فوطئ أرضَها، وقهر ملوكها، وحمل منها الجزية إلى دار الخلافة في دمشق.

    كان الحجاج بن يوسف الثقفي قد ولاّه خراسان في العام السادس والثمانين للهجرة، ولكنه آثر خوض المعارك والحروب على العمل الإداري والسياسي، وكان أن خرج إلى "بلخ" فاستقبله كبراؤها ودهاقنتها أحسن استقبال، ثم عبر النهر فقابله ملك الصفانيان، وسلّمه البلاد بعد أن قدّم إليه كثيرًا من الهدايا والأموال.. ثم تقدم نحو "بيكند" بين بخارى وجيجون، وأغار على الصفد، وقاتلهم حتى رفعوا راية الاستسلام، وطلبوا الصلح، ولما تبيّن له أنهم مخادعون عاد إليهم ودخل مدينتهم فاتحًا.. وواصل هذا القائد فتوحه في بلاد كرمينية- بين سمرقند وبخارى- ثم سار إلى "بخارى" ففتحها، وإلى "خوارزم" فاستسلمت، ثم غزا "سمرقند" ففتحها بعد قتال شديد، وعاد إلى "فرغانة" حتى بلغ "خجندة" على نهر سيحون، فانتصر، وتوجه إلى "كاشان" فاستسلمت!! ومن طريف ما يُروى في سيرة هذا القائد المجاهد أنه وجد كثيرًا من الأصنام في سمرقند عندما دخلها، فحطمها وأحرقها، وكان أصحابها يعتقدون أن من يعتدي عليها، أو يمسّها بسوء يموت في الحال.. وقد اعتنق كثير من عبدتها الإسلام بعد ذلك.

    في العام السادس والتسعين للهجرة قرر هذا القائد أن يتوجه إلى حدود الصين في جيش كبير، وكان له ذلك، وعندما علم بوفاة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك الذي كان قد شجعه على ذلك قائلاً:" أتمم مغازيك وانتظر ثواب الله" يقول التاريخ إنه عندما علم بوفاة الوليد لم يتراجع، ولم يخف، بل تقدم واثقًا من النصر، وعندما وصل أرسل إلى ملك الصين وفدًا على رأسه (هبيرة بن المشمرج الكلابي) وبعد مراسلات ومفاوضات وكلام كثير قال الملك:" انصرفوا إلى صاحبكم، وقولوا له أن ينصرف، فإني أعرف حرصه، وقلة أصحابه. وإلا فإنني سأرسل إليكم من يهلككم ويهلكه"!! فقال هبيرة:" كيف يكون قليل الأصحاب مَن أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصًا مَن خلّف الدنيا وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنّ لنا آجالاً إذا حَضَرَتْ فأكرمُها القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه" قال الملك:" فما الذي يريده صاحبك؟" قال هبيرة:" لقد اقسم ألاّ ينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم، ويأخذ الجزية" فقال الملك:" فإنا نخرجه من قَسَمه: نبعث إليه بتراب من تراب أرضنا، فيطؤه. ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم. ونبعث إليه بجزية يرضاها".. وهكذا كان، والقصة معروفة موثقة في كتب التاريخ.. وبعد ذلك عاد هذا القائد إلى "مرو".

    إنه القائد المجاهد قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين الباهلي، علم من أعلام الإسلام.. سيف من أسياف الجهاد.. فاتح الهند والسند.. صاحب الحكاية المشهورة مع ملك الصين.. المتوفى عام ستة وتسعين للهجرة.. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين والجهاد والمجاهدين في سبيل الله خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(19)

 

 

 

 

 

    كان على رأس أولوياته أن يقضي على الأمراء المتنازعين، وأن يوحد الجبهة الداخلية، ويتصدى للمؤامرات، وأن يحشد الطاقات والإمكانات لتحرير فلسطين وبيت المقدس والساحل السوري من الاحتلال الصليبي.. تنقّل في بلاد الشام، وزار الرّها وبرقة ونصيبين.. داعيًا إلى الوحدة، مؤمنًا أن الشام أصل بلاد الإسلام، وأن وحدة مصر وسوريا شرط لانتزاع النصر، وتحرير الأوطان من براثن الغزاة والطامعين.. حاول الغزاة الصليبيون أن يقفوا في وجه هذا القائد، وأن يحولوا بينه وبين أهدافه، ولكنهم لم يُفلحوا.. فلقد تمكن من بناء دولة امتدت من برقة إلى اليمن، وديار بكر، والجزيرة، وإرمينية.. كما تمكن من استنهاض الهمم، ورفع الروح المعنوية للأمة، وتعبئتها للمواجهة، والتصدي، والتحرير، وتخليص ما احُتلَّ من ديار العرب والمسلمين.. مهّد له نور الدين محمود طريق المجد والعزة والنصر بعد وفاته عام أربعة وسبعين ومئة وألف للميلاد.

    لقد نقل مصر الفاطمية إلى السنّة.. فدعا للخليفة العباسي، وأحدث بذلك انقلابًا كبيرًا دون إراقة نقطة دم واحدة؛ فكلّف الإمام في المسجد الجامع الكبير أن يخطب الجمعة على أن يهمل من الخطبة الثانية ذكر العاضد الفاطمي، وأبطل من الأذان ما أضافه الفاطميون إليه (حيَّ على خير العمل) لهذه الأسباب، ولأسباب أخرى تتعلق بأهداف هذا القائد في الوحدة والتحرير فقد تجمعت عناصر الفساد والإفساد لاغتياله، واستدعاء الفرنجة من صقلية والساحل، والاستعانة بالقرامطة الإسماعيلية.. ولكن هذه المؤامرة التي قادها عمارة اليمني قد أُحبطت إذ تمكن رجال هذا القائد من اختراق صفوف المتآمرين بزرع عدد من أعوانهم بين أولئك المتآمرين، الأمر الذي أدى إلى فشل تلك المؤامرة.. ولعل مؤامرة مؤتمن  الخلافة العبد الخصيّ بعد ذلك دليل آخر على كثافة المؤامرات التي تعرض لها هذا القائد، ودليل على مدى التنسيق بين أعداء الداخل والخارج؛ فقد وقعت المراسلات والمكاتبات التي دارت بين هذا العبد والفرنجة في يد هذا القائد، فأُحبطت المؤامرة، كما أُحبطت سابقتها.. لقد حفظت العناية الإلهية هذا القائد العظيم الذي أخذ على عاتقه أمر إنقاذ القدس، وتحرير فلسطين والساحل السوري من رجس الغزاة الصليبيين.

    لقد كان للخطط الحربية المُحكمة التي وضعها أكبر الأثر في تحقيق الانتصارات المؤزرة التي أحرزها في ساحات المعارك.. لقد أمسك بزمام المبادأة، وعنصر المباغتة والمفاجأة، وكان يختار دائمًا زمان المعركة ومكانها، ومن ذلك أنه هاجم (طبريّة) لا ليحررها، وإنما ليُخرج الصليبيين من مواقعهم الحصينة، ومن قلاعهم، ومن ثم لينتشروا في منطقة مكشوفة لا ماء فيها ولا شجر.. وكان من نتيجة ذلك أن تخلّف مُشاتهم عن فرسانهم بسبب الإعياء الذي أصابهم؛ بينما كانت قواته المنتشرة في تلك المنطقة تمطرهم بوابل من سهامها.. لقد كان من نتيجة ذلك أن هجم المقاتلون على خيمة الملك "لوزنيان" وتمكنوا من أسره، كما أُسر "أرناط" وكثير من قادة الفرنجة في تلك المعركة.. أما "أرناط" فقد قتله هذا القائد بيده نظرًا لجرائمه التي كان قد ارتكبها.. وأما فرسانهم فقد قضى عليهم جنود المسلمين.. وبعد معركة "طبريّة" أصبح من السهل أن يتابع هذا القائد الكبير انتصاراته على الغزاة، فاستولى على "عكا" عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة، كما استولى على نابلس وقيسارية وصفورية وبيروت والرملة وعسقلان.. لقد أتيح لهذا القائد الفذّ أن يحرر مساحة واسعة من الساحل، كما أتيح له أن يحرر جزءًا من شمال فلسطين ووسطها، لتصبح الطريق مفتوحة بعد ذلك لمتابعة السير من نابلس إلى بيت المقدس، وهذا ما حصل بالفعل، فقد حاصرت قوات المسلمين بيت المقدس في شهر رجب من عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة للهجرة (أيلول 1187م) وبعد حصار دام أسبوعين دخلتها قوات المسلمين في رمضان.. وتم الاحتفال بتحرير بيت المقدس بعد مئة عام من وقوعها في أيدي الصليبيين.. ويذكر التاريخ أن هذا القائد الذي كان أسدًا كاسرًا في ساحات الوغى كان حملاً وديعًا بعد إحراز النصر، وكان مثالاً في الرحمة والشفقة والتسامح مع خصومه.. لقد سمح للفرنجة أن يغادروا المدينة ومعهم أموالهم وما يستطيعون حمله من ممتلكاتهم.. لقد كان بإمكانه أن يُعمل السيف في رقابهم كما فعلوا بأهل القدس عندما دخلوها، ولكنه لم يفعل.

    إن كثيرًا من المؤرخين المسلمين وغير المسلمين قد أخذوا على هذا القائد الكبير هذا القدْر من التسامح الذي انعكس سلبًا على القضية التي نَذَرَ هذا القائد حياته لها، وقضى من أجلها، وفي سبيلها.. ومن ذلك أنه أطلق سراح (جاي دي لوزبينان) ملك القدس بعد تعهده بمغادرة بلاد الشام، ولكنه بدلاً من ذلك توجه إلى صور، وبالتنسيق مع (كونراد) قائد حاميتها توجه إلى طرابلس حيث حشد الحشود، ثم ذهب إلى عكا المحررة فضرب حولها حصارًا رهيبًا دام سنتين يعاونه فيليب وريتشارد ملكا فرنسا وإنجلترا، وقد قُتل في هذا الحصار ستون ألفًا من المسلمين، كما أدى سقوطها في أيدي الصليبيين عام 1261م إلى نتيجة مؤلمة هي امتداد الحروب الصليبية مئة عام أخرى.. ومع ذلك فإن سيرة هذا القائد العظيم الذي حرر القدس، وأجزاء واسعة من أرض فلسطين، ومن الساحل السوري أيضًا تبقى على كل لسان، تروي بأنصع عبارة، وأروع بيان قصة انتصار الإرادة والإيمان، على فلول الإفك والعدوان والطغيان.. إنه صلاح الدين الأيوبي (يوسف بن أيوب) المولود في تكريت بالعراق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة للهجرة (1138م) والمتوفَّى في دمشق سنة تسع وثمانين وخمسمائة للهجرة (1193م) بطل معركة حطين، محرر القدس وأجزاء واسعة من فلسطين.. السلطان الذي كان أديبًا مرهف الحسّ محبًّا للشعر، وصديقًا للقاضي الفاضل .. والإمام الذي حرص على تطهير العقيدة من الأوهام والبدع.. والقاضي الذي كان يجلس للعدل بين الناس يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع في مجلس يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء.. والزاهد الذي لم يخلّف دارًا ولا عقارًا، ولم يجدوا في خزائنه إلا سبعة وأربعين درهمًا، رضي الله عنه وجزاه عن القدس وفلسطين وأمة الإسلام خير الجزاء.  

 

من أعلام الإسلام...........(20)

 

 

 

 

 

 

    وصفه الرسول الكريم بأنه أمين هذه الأمة.. وقال له عمر عندما زار الشام: اذهب بنا إلى منزلك. قال: أتريد أن تعصر عينَك عَلَيّ؟ قيل: فدخل منزله، فلم ير شيئًا. قال له عمر: أين متاعك؟ فأنا لا أرى إلا لبدةً وصحفةً وشِنًّا، وأنتَ أمير! أعندك طعام؟ فقام إلى جونةٍ فأخذ منها كُسيراتٍ، فبكى عمر!! فقال له هذا الأمير القائد: لقد قلتُ لكَ إنك ستعصرُ عينَكَ بكفيك يا أمير المؤمنين!! ومن الثابت تاريخيًّا أن عمر عندما ولي الخلافة عزل خالدًا، وولاّه قيادة الجيش، وبعث له بذلك.. فكتم هذا القائد الأمير (موضوع هذه الحلقة) هذا الخبر عن خالد عشرين ليلة، وخالد إذ ذاك يقود معركة دمشق الفاصلة، ولقد رأى هذا القائد أن يكتم الخبر حتى يتم النصر، ويتحقق الفتح، ولكن خالدًا علم بالأمر، فتوجه إليه معاتبًا مفاتحًا وقال: يغفر الله لك. جاءك كتاب أمير المؤمنين فلم تُعلمني. وأنتَ تصلي خلفي، والسلطان سلطانك، فقال هذا الأمير القائد الزاهد: ما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإنّ ما ترى سيصير إلى زوال!! وعندما بعثه الرسول الكريم مع عمر بن الخطاب في غزوة السلاسل نحّاه عمر عن الصلاة وهو الأمير، فقال له: إن رسول الله أوصى أن نتطاوع، فوالله لئن عصيتني لأطيعنَّك!!

    كان هذا الأمير القائد أحد القادة الأربعة الذين عهد إليهم أبو بكر الصدّيق بتحرير الشام، واسترجاعها من أيدي الغزاة الغاصبين.. ولقد كان هذا الأمير الزاهد في عمواس (في منطقة القدس) عندما انتشر فيها الطاعون.. وعندما علم عمر بالأمر أراد أن يستقدمه، فأرسل إليه يقول: إنه قد عَرَضَتْ لي إليك حاجةٌ أريد أن أشافهَكَ فيها، فعزمتُ عليك إذا نظرتَ في هذا الكتاب ألاّ تضعه من يدك حتى تُقبلَ إليّ.. ونظر القائد الزاهد الأمير في الكتاب مبتسمًا وقال: إن أمير المؤمنين يريد أن يستبقي ما ليس بباق!! ثم كتب إليه يقول: يا أمير المؤمنين، إني قد عرفتُ حاجتك إليّ، وإني في جندٍ من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنهم، ولا أريد فراقَهم حتى يقضيَ الله فيّ وفيهم أمره.. فحللني من عزمتك يا أمير الؤمنين، ودعني في جندي!! وهكذا كان، وحُمَّ القضاء في هذا الأمير القائد في عمواس بالقدس على أرض فلسطين المضمّخة تربتها بدماء هؤلاء الشهداء الخالدين.

    وكان هذا القائد المجاهد الزاهد موضع ثقة الرسول الأكرم (صلوات الله عليه) وكان من المهاجرين إلى الحبشة، وممن اشتركوا في معركتي بدر وأحد، وكان حامل راية الرسول الأعظم يوم فتح مكة، وكان ثالث ثلاثة في السقيفة، وهو الذي قَتل أباه يوم بدر عندما تصدى ذلك الأب المشرك لابنه عدة مرات يريد قتله!! وفيه نزلت الآية الكريمة :" لا تجدُ قومًا يؤمنون باللهِ واليوم الآخر يوادّونَ مَن حادَّ اللهَ ورسولَه. ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم. أولئكَ كَتَبَ في قلوبهم الإيمانَ وأيّدَهُمْ بروحٍ منه".. وهو الذي ثبت حول الرسول الكريم في أُحد، فقاتل عن يمينه وعن شماله.. وفي يوم السقيفة (بعد وفاة الرسول الأكرم) قدّمه عمر بن الخطاب قائلاً له: امددْ يدَكَ أُبايعْكَ، فأنتَ على رسول الله أمين هذه الأمة.. فقال له هذا الأمير الزاهد المجاهد: أتبايعني وفيكم ثاني اثنين؟ أتبايعني وفيكم الصدّيق؟ ولمّا تكلم ومدح الأنصار، وذكر فضلهم لانت نفوسهم، وكان ذلك عاملاً من عوامل كسب الموقف، وتأليف القلوب، والخروج من أزمة سياسية ونفسية، وكان ذلك أيضًا من أسباب اختيار أبي بكر رضوان الله عليه ليكون خليفة رسول الله الأعظم صلوات الله وسلامه عليه.

    وبعد

    فهذا هو (عامر بن عبد الله) أبو عبيدة عامر بن الجراح الذي قال فيه الرسول الكريم إنه أمين هذه الأمة.. وهو القائد الذي كتب إليه أبو بكر بعد أن عين خالدًا قائدًا عامًّا لجيوش المسلمين في اليرموك: قد ولّيتُ خالدًا قتال العدو في الشام، فلا تخالفه، واسمع له، وأطع، فإني ولّيتُه عليك وأنا أعلم أنك خير منه، ولكني ظننتُ أن له فطنةً في الحرب ليست لك!! وهو الأمير الذي حاول عمر أن ينقذه من طاعون عمواس باستقدامه إلى المدينة المنورة فيرفض، ويبقى بين جنده، ويقضي نحبه هنا في عمواس بالقدس رحمه الله وجزاه عن شرفاء الإسلام والمسلمين وعن المجاهدين في سبيل الله خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(21)

 

 

 

 

 

 

    كان هذا الإمام الموسوعي متعدد المواهب عزيز النفس لا يقبل هدية من أحد، ولعل خير ترجمة له ما قاله عن نفسه:" وكان مولدي بعد المغرب ليلة الأحد، مستهل رجب سنة تسع وأربعين وثمانمائة، وحُملتُ في حياة أبي إلى فضيلة الشيخ محمد المجذوب، رجل من كبار الأولياء، بجوار المشهد النفيسي (مشهد السيدة نفيسة المعروف بالقاهرة) فبارك عليّ... ونشأت يتيمًا، فحفظت القرآن، ولي دون ثماني سنين، ثم حفظتُ العمدة، ومنهاج الفقه، والأصول، وألفية ابن مالك، وشرعت في الاشتغال بالعلم من مستهل سنة أربع وستين، فأخذت الفقه والنحو عن جماعة من علماء الدين".

    أخذ الفرائض عن العلاّمة شهاب الدين الشارمساحي (نسبة إلى قرية شارمساح من أعمال مديرية دمياط) الذي كان يقال إنه جاوز المئة بكثير، وأجيز بتدريس العربية في مستهل سنة ست وستين وثمانمائة.. ولقد قال:" رزقتُ التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع على طريقة العرب البلغاء، لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة، ودون هذه السبعة في المعرفة:" أصول الفقه، والجدل، والتصريف، ودونها الإنشاء والترسّل والفرائض، ودونها القراءات، ولم آخذها عن عالم، ودونها الطبّ".

 ذكر له (بروكلمان) في كتابه "تاريخ الأدب العربي" أربعمائة وخمسة عشر مصنَّفًا بين مخطوط ومطبوع، وذكر (فلوجل) أن مصنفاته قد بلغت ستين وخمسمائة مصنّف، أما السخاوي فقال إن كتب هذا الإمام الموسوعي قد بلغت نحوًا من ستة وسبعين وخمسمائة مصنف.

    ولقد اشتغل هذا الإمام بالتدريس والفتيا، ثم ألّف كتابه "النفيس في الاعتذار عن الفتيا والتدريس" يعتذر فيه عن عدم الإفتاء والتدريس، حتى يتفرغ للعلم تأليفًا وبحثًا وتحقيقًا، وحتى لا تكون ممارسة العمل من تدريس أو إفتاء عائقًا عن الرسالة التي كرس لها حياته، وهي التأليف والتصنيف.

    أما أهم كتبه الطبية فهو كتاب "غاية الإحسان في خَلْق الإنسان" وهو كتاب قيّم أشار إليه صاحب كشف الظنون (1188) وصاحب هدية العارفين البغدادي (1/540) وبروكلمان في الأصل الألماني (2/155) ويعتبر هذا الكتاب مرجعًا فريدًا في التشريح، وتسمية بعض أجزاء جسم الإنسان بأسمائها اللُّغوية العربية الفصيحة، وقد تألقتْ في هذا الكتاب عبقريته، وعمق درايته بعلم التشريح، وهو بهذا الكتاب قد أسدل الستار على هذا العلم، ولم يترك زيادة لمستزيد.. وتوجد من هذا الكتاب ثلاث نسخ خطية الأولى مصوَّرة بدار الكتب المصرية تحت رقم (689) لغة، والثانية مصورة بدار الكتب المصرية تحت رقم( 960) لغة عن مخطوطة ليون، والثالثة المخطوطة الأزهرية ضمن مجموعة تحت رقم (187) لغة.

    وأما وفاته فقد كانت في سَحَر ليلة الجمعة التاسع عشر من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة وتسعمائة للهجرة، وكان مرضه لسبعة أيام بورم شديد في ذراعه اليسرى، وقد مات عن إحدى وستين سنة، وعشرة أشهر، وثمانية عشر يومًا، ودفن بحوش قوصون خارج باب القرافة، وقبره ظاهر، وعليه قبة.

    لقد مات هذا الإمام بعد أن أغنى البحث العلمي، وعلوم العربية، والفرائض، وعلوم التشريع الإسلامي، والطب أيضًا بمؤلفات قلّ أن يجود الزمان بمثلها لمؤلف أفنى عمره كله في التدريس والإفتاء والتأليف دون أن يقبل هدية أو عطاءً لعزة نفسه، وشدة اعتداده بها، رغم حاجته في كثير من الأحيان!!

    ولئن فُقدت كتبٌ كثيرة وضعها مؤلفوها في علوم شتى بفعل عبث العابثين، وجهل الجاهلين، وعدوان المعتدين الذين ألْقَوْا كثيرًا من كتب مكتبة بغداد في نهر دجلة، فقد جمع هذا الإمام من ذاكرته أشتات هذه العلوم المفقودة، وأعاد رصفها وسبكها، وأشار إليها وذكرها في كثير من كتبه.

    ولئن حظي تاريخ الإسلام بكثير من الفاتحين، والمقاتلين، والقادة، والخلفاء، والقضاة، والمجتهدين الذين نشروا هذا الدين، وأرسَوْا دعائم هذه الدولة، وبَنوْا هذه الحضارة، وأقاموا العدل ونشروه في الأرض؛ فإن تاريخ الإسلام أيضًا قد حظي بأسماء لا تحصى ولا تعد من الباحثين والمفكرين، والمؤلفين، والكتّاب، والأدباء، والأئمة، والفقهاء الذين بَنوْا بسواعدهم، وأسلات أقلامهم، وذَوْب فكرهم، وسعة أفقهم، وحُسن تبصّرهم ثقافة الإسلام، وحضارته الزاهرة، ولعل منهم إمامنا الفذ موضوع هذه الحلقة الإمام العلاّمة عبد الرحمن بن أبي بكر بن سابق الدين الخضيري، السيوطيّ جلال الدين (الإمام السيوطي) هذا الإمام المؤرخ المفسر الحافظ الأديب الفقيه اللغوي النَّحْويّ.. إنه علم من أعلام الإسلام الخالد رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام وثقافة الإسلام وحضارته خير الجزاء.

 

 

 

من أعلام الإسلام...........(22)

 

 

 

 

 

 

 

    بدأ حياته طالبًا في جامعة قرطبة، وقد نشأ في بيت علم وفقه وأدب، وكان منذ حداثته قارئًا جيدًا، وذا موهبة، وكان حسن الأسلوب جيد الكتابة إن هو كتب.. يقول المقَّريُّ عنه في نفح الطِّيب:" قالوا إنه كان يجلس في دكان عند باب القصر ليكتب للخدم والمترافعين للسلطان، إلى أن طلبتْ "صُبح" من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس الجلوس إليه من فتيان العصر، فاستحسنتْ كتابتَه، وعيَّنته أمينًا لبعض شؤونها" وقد ساعده كذلك، ودفع به خطواتٍ إلى الأمام أنه وثَّق (عن طريق كتابته الرسائل لخدم القصر) علاقته بكبير الحجّاب الذي اقتنع ببراعته ومقدرته على الكتابة الجيدة... ومما لا شك فيه أن وراء صعود نجم هذا الرجل الذي كان ثالث ثلاثة في الأندلس إعجاب "صُبح" أم المؤيد، زوج الخليفة هشام، ووقوفها إلى جانبه، ومساعدته في تخطّي الصعاب والحواجز التي كانت تعترض سبيله.. لقد مهّد له عطفها عليه، وإعجابها به الطريق لحكم الأندلس حكمًا قلَّ أن يكون له نظير من قبل، ولم يكن له نظير من بعد...

    كان عصاميًّا مثابرًا على العلم والبحث والتمرس بالكتابة وتجويد الأسلوب.. كان يقضي الليل ساهرًا يكتب كل ما يخطر له من أفكار وخواطر وآراء، حتى إذا أقبل الفجر نام بعض الوقت، ثم قام للصلاة.. وعندما قال له "شُعلة": لقد أفرط مولانا في السهر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، وهو يعلم أن السهر يحرك عليه العصب. فردّ عليه بقوله: إن حارس الدنيا لا ينام إذا نامت الرعية، وإنه لو استوفى نومه لما كان في دُور هذا البلد عين نائمة!! هكذا كان هذا الرجل ساهرًا يقظًا شديد الاهتمام بالرعية، شديد العناية بأمنها وأمانها، وسلمها وسلامها، فكان يسهر لينام الناس.. أما حياته العملية، والوظيفة الرسمية الأولى التي شغلها في جهاز الدولة فكانت الإشراف على إدارة أملاك عبد الرحمن بن الحكم براتب قدره خمسة عشر دينارًا في الشهر، ثم أُسند إليه أمر النظر في الخزانة العامة، ثم النظر في خطة المواريث، ثم أُسند إليه أمر قضاء كورة إشبيلية، فكان قاضيًا نزيهًا فطنًا حريصًا على إقامة العدل في مجلس القضاء.

    ولا بد، ونحن نستعرض سيرة رجل دولة من الطراز الأول، من الإشارة السريعة إلى دور"صُبح" الحاسم في حياة هذا الرجل، وفي الوصول إلى قمة الهرم في تلك الحقبة من تاريخ الإسلام.. فقد استطاع بذكائه، وحسن تبصّره أن ينال ثقة الحكَم، فلما مات كان هو الذي يقف وراء "صبح" وقد أتيحت له الفرصة ليجمع السلطات في يده. ذلك أن عبد الرحمن بن الحكم كان حدثًا في الثانية عشرة من عمره، وكان ابن عامر هو الذي نظّم البيعة له في حياة والده بعد أن خاف أن يتولى الملك المغيرة أخو الحكَم، فلما مات الحكَم، وخيف انقضاض الصقالبة الذين كانوا يؤيدون المغيرة أرسل هذا الرجل إلى الحكَم من خلصّه منه. وقد كانت"صبح" ترى فيه حامي عرض ابنها، فرفعته إلى مرتبة الوزارة، وبدأ التجافي بينه وبين الحاجب جعفر، ثم ازداد اضطرامًا، وزاد الصراع، وانتهى بأن حمل على الصقالبة، ثم اعتقل جعفرًا.. وأخذ يحجب الأمير هشامًا ( الذي كان ميلاً إلى اللهو) عن أعين الناس، حتى لا يراه أحد، وربما أركبه، وجعل عليه برنسًا فلا يُعرف، وإذا سافر وكّل من يفعل به ذلك.. ومما قاله ابن خلدون في ذلك:" ثم تجرد هذا الرجل لرؤساء الدولة من عانده وزاحمه فمال عليهم، وحطّهم عن مراتبهم، وضرب بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام، وخطه، وتوقيعه حتى استأصل شأفتهم، ومزّق جموعهم".

    لقد أنشأ مدينة جديدة في منطقة قرطبة على ضفة الوادي الكبير أسماها "الزاهرة" ونقل غليها خزائن الأموال والأسلحة، ونفّذ الأوامر باسمه، وغزا خمسين غزوة عاد فيها منتصرًا. وقد بلغ من حزمه أنه كان إذا عاد من حرب لا يحل نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها، وصاحب الأبنية ليعلم ما وهى من أسواره وقصوره ودوره.

    كان جسمه خاضعًا لعقله.. عاش حياته يعمل ويرسم خطط الحرب، وكان قمة المجد في الأندلس على مدى عشرين عامًا أمضاها في الحكم.. وعندما اختلفت معه "صبح" في آخر أيامها لأن هذا الرجل قد سلب ابنها كل سلطة!! لم تستطع فعل شيء.

    إنه محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري (المنصور محمد بن أبي عامر) المتوفَّى سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة للهجرة/ اثنتين وألف للميلاد (392هـ-1002م) أمير الأندلس الذي خَدَمَ الحكم الثاني، ونال رضى "صبح"، ثم أصبح حاجب هشام الثاني، فاستقل بأمور الدولة وخلفه ابنه عبد الملك. إنه الأمير الذي بنى للإسلام والمسلمين مجدًا أثيلاً في الأندلس، وكان ثالث ثلاثة في تاريخها الإسلامي هم الداخل والناصر والمنصور إنه علم شامخ من أعلام الإسلام الخالد. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

من أعلام الإسلام...........(23)

 

 

    كان قبل إسلامه سفير قريش إلى النجاشي مع عبد الرحمن بن أبي ربيعة يطلبان إليه أن يسلّم المسلمين المهاجرين، وقد نصحه النجاشي أن يدخل في الإسلام لأنه الدين الحق، ( وهكذا كان في الأول من صفر سنة ثمان للهجرة) كما اشترك في عدد من المعارك ضد المسلمين.

    بعد دخوله في الإسلام قلّده الرسول الكريم اللواء في غزوة ذات السلاسل، وجعله على ثلثمائة من سراة المهاجرين والأنصار من بينهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة. وقد قام بعمليات حربية ليلية إمعانًا في التستر، وكان يكمن في النهار، ويسير في الليل.. وفي حروب الردة أخضع قبيلة قضاعة، كما عُقد له اللواء على الجيش الذي سار لفتح فلسطين، فانتصر على الروم في كل معاركه معهم، وأظهر بسالة خارقة يوم اليرموك، وفي معركة أجنادين.. أما مسيره إلى فلسطين فكان في الثاني من محرم من العام الثالث عشر للهجرة، التاسع من آذار سنة أربع وثلاثين وستمائة للميلاد.

    وهو الذي أقنع الخليفة عمر بن الخطاب بضرورة فتح مصر، فوافق الخليفة بعد تردد، وأخبره بأنه قد يرسل إليه كتابًا يطلب فيه الرجوع إذا وصله الكتاب قبل أن يدخلها.. وعلى رأس قوة قوامها أربعة آلاف جندي من أهل اليمن توجه إلى مصر، وقد وصله كتاب الخليفة قبل دخولها، ولكنه أجّل تسلمه حتى دخل"الفرما" ولم يتسلمه إلا بعد أن أوغل في أرض الكنانة، وقد وصل" العريش" في السنة الثامنة عشرة للهجرة فاستسلمت له، وغادرها إلى "القنطرة"، و"الصالحية" ودخل "بلبيس" ووجد فيها ابنة "المقوقس" فردّها إلى أبيها معّززة مكرّمة، وحاصر حصن بابليون وقت فيضان النيل، فطلب المدد من الخليفة، فأمده بأربعة آلاف جندي على رأسهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد.. بعد فتح حصن بابليون سار إلى الإسكندرية، وبعد أن تم له فتح مصر أراد أن يؤمّن الحدود الغربية، فتوجّه إلى برقة على الطريق المحاذي للساحل، في الثامن عشر من ربيع الثاني سنة اثنتين وعشرين للهجرة (آذار 642م) فصالحه الأهالي على الجزية التي حددها المؤرخ ابن عذاري المراكشي بثلاثة آلاف دينار، وكانت القبيلة البربرية الرئيسة في برقة هي قبيلة لواتة، وكان يُطلق على تلك المنطقة قديمًا اسم" أنطابلس" ومعناها في اليونانية "المدن الخمس" وقد كان لسهولة فتحها أثر إيجابي على التوغل غربًا إلى طرابلس.. وقد امتد نفوذه إلى بلاد النوبة، ووقع اختياره على مدينة الفسطاط، وأعاد حفر الخليج الذي كان يصل النيل بالبحر الأحمر.

    وقد أحبه الناس في مصر، ولا سيما الأقباط الذين ساعدوه كثيرًا في إنجاز هذه المهمة التاريخية، ولم ينس لهم مواقفهم، فأحسن إليهم، وبنى في مصر مجتمعًا واحدًا موحَّدًا متسامحًا يجمع المسلمين والأقباط في مجتمع متين عَصِيٍّ على الفتنة والاضطراب على مدى الدهر.

    من أقواله:" إياكم وخلالاً أربعًا؛ فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السَّعة، وإلى الذلة بعد العزة: إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَكٍ ولا نوال. ثم لا بد من فراغٍ يزول إليه المرء في توديع جسمه".

    ومن أقواله في وصف مصر:"لقد تدلّت الجوزاء، وزلّت الشّعرى، وأقلعت السماء، وارتفع الوباء، وقلّ الندى، وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت الشمائل.. وعلى الراعي بحسن رعيته"، وقوله:" وأربعوا خيلكم وأسمنوها، وصونوها، وأكرموها، فإنها جُنَّتكم من عدوّكم، وبها مغانمكم وأنفالكم".

    اعتزل الولاية للمرة الأولى عام سبعة وعشرين للهجرة، بعد أن عزله الخليفة عثمان بن عفان، وولّى عبد الله بن أبي السرح، ولما آل الأمر إلى معاوية أعطاه مصر طُعمةً (أي أن يكون له خراجها) بعد أن فتحها معاوية مرةً ثانيةً، وضمها إلى حكومة دمشق عام ثمانية وثلاثين للهجرة.

    إنه القائد العسكري الفذّ الذي حطّم سواعًا الصنم في الثلاثين من رمضان سنة ثمان للهجرة، ولعب دورًا بارزًا في حروب الردة، كما لعب دورًا حاسمًا بعد ذلك في فتح فلسطين، ومصر، وجزءٍ واسع من ليبيا.. وهو القائد السياسي،  والداهية الذي يُشار إليه بالبنان.. عَلَمٌ من أعلام الإسلام الخالد، وقائد من قادته الأفذاذ عمرو بن العاص المتوفَّى في الأول من شوّال سنة ثلاث وأربعين للهجرة، السادس من كانون الثاني عام أربعة وستين وستمائة للميلاد رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.

 

 

 

 

من أعلام الإسلام...........(24)

 

 

 

 

 

 

حَدَثَ في شهر الصيام (فتح مكه)

   

    على مدار التاريخ الإسلامي يجد القارئ المتبصّر أن كثيرًا من أحداثه وحوادثه قد وقعت في شهر الصيام، وأن كثيرًا من معاركه الفاصلة أيضًا قد حدثت في مثل هذا اليوم أو ذاك من هذا الشهر.. صحيحٌ أن المعارك والانتصارات لم تكن منذ فجر الإسلام حكرًا على رمضان، وصحيحٌ أن كثيرًا منها قد حدث في غير رمضان.. ولكن صحيحٌ أيضًا أن كثيرًا من وقائع هذا التاريخ الإسلامي وأحداثه قد حصلت في هذا الشهر.. وما دمنا فيه، فلا أقل من الإشارة إلى شيء من هذا التاريخ الذي يقف شاهدًا على عظمة هذا الإسلام، وعزة هذه الأمة.. على أن يكون لباقي الشهور نصيبها من ذلك أيضًا في مناسبات قادمة إن شاء الله.. فمما لا شك فيه أن في قراءة التاريخ عبرةً للمعتبر، وفائدةً للأجيال، وقوةً لمن ألقى السمع، وأمعن النظر بحثًا عن وسيلة يحقق عن طريقها هدفًا ساميًا، وغرضًا نبيلاً فيه عزة أمة، ووحدة شعب، وحياة كريمة لأجيال قادمة من حقها أن تنعم بالعيش الكريم على أرضها.

    ففي هذا الشهر فتح المسلمون مدينة ماردة بالأندلس، وفيه كانت معركة شريش أو وادي لكه، وفيه كان نزول القرآن الكريم، وفتح مدينة بلغراد، ومعركة عين جالوت، وتحطيم العزّى، وفتح مكة، وسريّة علي بن أبي طالب إلى اليمن، ومعركة بدر الكبرى، وفي هذا الشهر أيضًا كان فتح عمورية، ووفاة أم المؤمنين عائشة في المدينة المنورة، وميلاد الحسن بن علي، وفيه  قدم رسل ملوك حِمْيَر إلى الرسول الكريم، وفيه استرد بيبرس قلعة بغراس في منطقة حلب، وفيه قدم وفد أهل الطائف إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفيه كانت معركة "البويب" الفاصلة في العراق، وانتصار نور الدين زنكي على الصليبيين في معركة حارم، وفيه خرج الرسول الكريم لملاقاة عير قريش، وفيه اكتمل بناء الجامع الأزهر، وأقيمت أول صلاة جمعة فيه، وفي شهر الصيام كان انتصار المسلمين على الكاهنة زعيمة البربر، وفتح المغرب الأوسط في أعقاب هذا الانتصار، وفي هذا الشهر استعاد بيبرس أنطاكية من الصليبيين، وفيه أيضًا كانت معركة بلاط الشهداء، ومعركة شُقْحب أو مرج الصُّفَّر، وفيه فتح المسلمون جزيرة قبرص.

    ولئن كنا اليوم- وقد دخلنا الثلث الأخير من هذا الشهر الكريم- نغذّ الخطى سراعًا نحو نهايته، فإنه لمن الضروري أن نعرض لمناسباتٍ حصلتْ في مثل هذه الأيام المتبقيّة من هذا الشهر (رغم جواز استعراض ما حدث في أيامه التي مضت وانقضت) ولعل عودة الرسول الكريم إلى مسقط رأسه "مكة" فاتحًا منتصرًا من المحطات التي ينبغي التوقف عندها اليوم، رغم هذا التأخر، نظرًا لما ينطوي عليه هذا الفتح المبين من معانٍ ودلالات، ونظرًا للنتائج العظيمة التي بُنيت على هذا الفتح الذي كان له ما بعده في تاريخ الإسلام .. فقد نقضت قريش صلح الحديبية، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة مستنصرًا المسلمين، فيجيبه الرسول الكريم: نُصِرْتَ يا عمرو بن سالم!! ويأتي أبو سفيان، وقد أفزعه ما يحدث، ويدخل بيت ابنته أم حبيبة زوج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولما جلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طوته، فقال أبو سفيان:"يا بنيّة ما أدري، أرغبت بي عن هذا الفِراش، أم رغبتِ به عني؟!! "قالت: بل هو فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال:"يا بنية لقد أصابك بعدي شر" ثم خرج يريد الرسول الكريم، فلم يكلمه، ثم طلب التدخل من أبي بكر، فرفض.. وكذلك عمر.. أما علي فنصحه أن يجري بين الناس، وأن يلحق بأرضه، ففعل...

    وما هي إلا أن خرج الرسول الكريم في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهما من قبائل العرب.. وفي الطريق شاهدوا العباس بن عبد المطلب مهاجرًا، وكان أبو سفيان، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام قد خرجوا لتحسّس الأخبار، فوقعوا في أسر المسلمين، ونصح العباس أبا سفيان أن يعلن إسلامه، ففعل.. ثم طلب منه الرسول الكريم أن يعود إلى مكة ليبلغ أهلها أن "من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهوآمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن"!! ودخل الرسول الكريم مكة دون قتال باستثناء الجهة التي دخلها خالد بن الوليد، وقد غضب الرسول الكريم لما حدث في تلك الجهة.. وحطم الرسول الكريم الأصنام وهو يقول:"جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا"، ولقد حصل هذا في العشرين من رمضان، في السنة الثامنة للهجرة.. لقد عاد الرسول إلى مسقط رأسه، وعاد المهاجرون إلى بلدهم بعد غياب دام سبعة أعوام ونصف العام، وعاد الإسلام ظافرًا إلى مكة، كما عاد إليها المسلمون ظافرين غانمين فرحين مستبشرين بهذا الفتح المبين.

 

 

من أعلام الإسلام...........(25)

 

 

 

 

 

 

حَدَثَ في شهر الصيام

وفي الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة للهجرة، الحادي والعشرين من شهر آب سنة ست وعشرين وثلاثمائة وألف للميلاد تولّى أورخان العثماني السلطنة (بعد وفاة والده الأمير عثمان الأول ابن آرطغرل زعيم أتراك وادي قره صو في الأناضول مؤسس السلالة العثمانية، والدولة العثمانية قرب "قونية" (1299م) وقد أنشأ جيشًا قويًّا، وأكمل فتح آسيا الصغرى، وقوّى سلطته فيها، وهزم البيزنطيين عند بروسا (1326م) ثم اجتاز البوسفور فاتحًا مكدونيا وتراقيا.. وهو إلى ذلك مؤسس الجيش الإنكشاري، أي الجديد، وقد أدخل في هذا الجيش الأطفال من أهل البلاد المفتوحة ممن فقدوا آباءهم، ولم يبق لهم أقارب.. ولكنه قبل ذلك وضعهم تحت إشراف عدد من المشايخ الذين قاموا بتعليمهم، وإعدادهم لتحمّل المسئولية، والإخلاص للدولة ومبادئها، وخدمة أهدافها، وكان على رأس هؤلاء المشايخ الحاج بكتاش شيخ الطريقة البكتاشية بأماسية (وهي مدينة تركية تقع شمال أنقرة) وقد قويت شوكة هذا الجيش، وأصبح مجرد ذكر اسمه يلقي الرعب في قلوب أعداء الإسلام والمسلمين.. ويقول التاريخ إن هذا السلطان العثماني (أورخان) كان حريصًا على إشاعة الأمن والهدوء في دولته، وقد سنّ من الأنظمة والقوانين ما يكفل ذلك، إلى جانب بناء المساجد والمدارس والتكايا، وإشاعة العدل ين الناس، وقد صكّ العملة الإسلامية، وتوجّه لبسط سلطانه ونفوذه في أوروبا، وكان من أكثر سلاطين بني عثمان استقامةً وورعًا،  وقد اعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي للدولة العثمانية، وهو والد مراد الأول الذي خلفه في الحكم، واتخذ من "أدرنة" عاصمة له، وأخضع الإمبراطور البيزنطي يوحنا الخامس، واستُشهد في معركة "كوسوفو" بعد انتصاره على الصرب.

    ولعل من الضروري أن يُشار هنا إلى أن السلطان أورخان، ووالده الأمير عثمان الأول، وابنه السلطان مراد الأول هم المؤسسون لهذه الدولة العثمانية التي حكمت معظم أرجاء العالم القديم، وكانت حريصة على نشر الإسلام، وإشاعة العدل، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، كما كانت حريصة على انتهاج سياسة التسامح بين مواطني الدولة من أتباع كافة الديانات.

    أما ما يأخذه عليها خصومها، وفيهم كثير من العرب، فإنه في جملته، وفي كثير من تفصيلاته أيضًا بعيد عن الصحة، وهو صادر في مجمله عن نظرة ضيقة محدودة، وضيق أفق، وعن تحامل على هذه الدولة العليّة التي حكمت هذه الديار أربعة قرون كاملة، وحكمت غير هذه الديار مددًا أطول من ذلك أو أقل دون أن تفرّط في حقٍّ عامٍّ أو خاص، ودون أن تتهاون في أمر من أمور هذه الشريعة، أو في أمر من أمور هذه الأوطان التي اؤتمنت عليها، فكانت نعمَ المؤتمن!.

    وفي هذا اليوم الحادي والعشرين من رمضان، وفي كل يوم من أيامه السابقة، وفي كل يوم من أيامه اللاحقة، وفي كل يوم من أيام رمضان، وغير رمضان لا يسع الإنسان المنصف إلا أن يعترف بالفضل لذوي الفضل، وبالإحسان لأهل الإحسان، ولأصحاب الذمم والضمائر لمواقفهم المشرّفة، وواجباتهم التي أدّوها، وقاموا بها غير هيابين أو وجلين، على الرغم من الأخطاء التي لا بد منها في حياة من يعملون من الناس.. وعلى الرغم أيضًا من كل التحالفات التي حاولت النَّيل منهم قديمًا وحديثًا، والضغوط التي استهدفتهم... فذهبوا أُباةً دون أدنى تنازلٍ أو تفريط.. ذهبوا ليعودوا.. وها هم يعودون إلى الساحة من جديد!!

 


ليست هناك تعليقات: